أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - صولجان -نادر عباسي- المستبد














المزيد.....

صولجان -نادر عباسي- المستبد


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 4384 - 2014 / 3 / 5 - 15:25
المحور: الادب والفن
    


رجل مخيف. ذلك النحيلُ في بدلته السوداء وعصاه الرفيعة. أثيره الخاص الذي يحيط بجسده، ليس من الهواء والهيولي مثلنا، بل من مادة الموسيقى الكونية الخافتة التي يتردد صداها بين المجرات والكواكب والنيازك الحارقة. فحاذرْ أن تقترب أكثر مما ينبغي كيلا يصعقك سهمٌ نيزكيّ يحمل نغمة "جواب" حادة، ينطلق من قميصه أو كرافته. إن اقتربت من عالمه، فخذْ حذرك. لأنك إن خدشتَ أثيره دون قصد لن تعود كما كنتَ، بل ستغدو كائنًا مختلفًا. فإن كنتَ من المسالمين الناشدين الأمن والسكون والرتابة، فلا تتبع أخباره ولا تقتحم دولته، وقرّ في بيتك جالسًا جوار المدفأة لتنصت إلى نشرات الأخبار التي تنقل لك حالة الطقس وعدد الذين قُتلوا هذا الصباح في كل ركن من أركان عالمنا الحزين، ثم اختتم جلستك بتصريحات الساسة الكذوب لتتأكد أن العالم يسير إلى الهاوية. أما إن كنت، مثلي، مخاطرًا تهوى الطيران بأجنحة لا تسكن، وتكره أن تطأ الأرضَ وتمسّ قدماك الأسفلت الأسود وتكافح لتتحرر من جاذبية هذا الكوكب المأزوم، إن كنت لا ترهب أن ترى نفسك إنسانًا آخر غير ذاك الذي تصافحه في المرآة منذ ثلاثين عامًا، فاحسمْ أمرك، وشدّ رحالك إلى عالمه حيث يكون، في دولة الأوبرا بالقاهرة، أو بالأسكندرية أو سويسرا أو حيثما ارتحل وحطَّ رحاله مع قافلته الموسيقية، بأسحلتها الخطيرة من هارْب وتشيللو وكونترباص وفيولين وساكس وقانون وماريمبا ودرامز وغيرها من نصال تشقُّ الصدر وتخترق الأنسجة والشرايين وتصوّب قذائفها في عمق القلب، ولا تتركه حتى ينصهر فيتبدّل المرءُ ويصير إنسانًا.
في دولته المخيفة تلك، يقف المايسترو مواجها حاشيته من فرسان العازفين، موليًا ظهره للرعية من جمهور يحبس الأنفاس استعدادًا لشلال النغم الذي سينهمر من المنصّة إلى القاعة. يحمل صولجانه، مثل أي ديكتاتور، لا يجرؤ أحدٌ أن ينطق أو يصمت إلا بإشارة من يده. يرفع عصاه؛ فتطفرُ النغمات من البيانو والكمنجات والنايات لتطير صوب آذاننا العطشى في تزامن محسوب بدقة، فلا يجوز لنغمة أن تُسرع أو تُبطئ عن قدرِها المقدور لها في نوتة أمام كل عازف. تبهط عصا الصولجان فتعرفُ نغماتُ "القرار" الجهور أن دورها قد حان، ترتفعُ العصا فتُلبّي نغماتُ "الجواب” الحادة. يلتفتُ المايسترو إلى يمينه، فتنقرُ أصابع عازفي الكونترباص أوتاره لينهمرَ صوتٌ يشبه قطرات الماء على لوح رخام، يلتفت يساره فتداعبُ عازفةُ الهارب أوتاره العملاقة، ثم يرمق الكمان بطرف عينه فينطلقُ صوت العصافير من أعشاش خيوطه. لكن ذلك المستبد، نادر عباسي، يمارس أحيانًا لمحات من ديمقراطية تبادل السلطة حين ينتخب من قافلته الأوركسترالية فارسًا ما، فيجعل منه ملكًا بكامل هيئته برهةً من الزمن، في وصلة صولو. في تلك الأثناء يُطرق المايسترو صامتًا، كأنما في لحظة صلاة، ويُنصت للعازف المنفرد. ثم ابتكر لونًا جديدًا من الديمقراطية حين كسر الحائط الرابع بينه وبين الجمهور فجعل منهم عازفي إيقاع مُرتجَل. لكن المايسترو عرف كيف ينظّم فوضى تصفيق الجمهور الارتجالي بيده لا بالعصا. فهو يدرك جيدًا أن للعصا قدسية لا توجّه إلا المحترفين. لكن اليد البشرية الحانية تناسب جمهور الهواه الذي اكتشف فجأة، على يد المايسترو، أن بوسعهم العزف بأكفّهم. فخرج التصفيقُ احترافيًّا منتظمًا كأنما الجمهور قد تدرّب على المقطوعة عشرات المرات. يبسطُ المايسترو يسراه برفق؛ فيصفق الجمهور برفق، يعلو بيده؛ فتعلو طبقة التصفيق، ثم يقبض راحته بغتةً؛ فيتوقف التصفيق تمامًا. شيء لم نره من قبل، أن يجعل المايسترو جمهورَه فريقًا هائلا من عازفي الإيقاع المحترفين، وأرى وجوب تسجيل هذه الحركة باسم "نادر عباسي".
أوركسترا القاهرة السيمفوني، أولئك الفريدون الذين يمنحوننا طاقة روحية هائلة ترتقي بنا إلى مصاف الملائكة حتى تكاد تنبت لنا أجنحةٌ فنطير. كيف نوفيهم حقَّهم من الامتنان والشكر! عبد الحميد الشويخ، عازف الفيولين المصري الذي له مكان ثابتٌ للعزف الصولو في كبريات أوركسترات العالم. عازفو الكمان: حسام شحاته، أحمد أشرف، أحمد عاطف، الذين يحتضن واحدُهم قيثارته ويريح رأسَه على صدرها بحنوٍّ فيخرج أنينُها شجوًا. عازفو الكونترباص: أحمد عثمان، كريم واصف، فاتن جمال، هاني يوسف، أماني غنيم، الذين يُروّضون آلاتهم الضخمة كأنما هم فرسان رومانيون يسوسون جيادهم الحرون. ناقر القانون: صابر عبد الستار، وعازف الدرامز: محمد عرفة اللذان جسدا لنا خطوات بنات الإسكندرية في "رقصة بنات بحري" وهن يتبخترن على الأرض فتغّرد الخلاخيلُ في أقدامهن. ثم منال محيي الدين، عازف الهارب الجميلة التي تحاور أوتاره كأنما ملكةٌ فرعونية تُملي شروطَها. كيف يجدل أولئك السحرةُ نغمات الشرق الدافئة بنغمات الغرب المطيرة فيصنعون لنا هذه العذوبة الفردوسية؟!
أعلم أن الكتابة عن الموسيقى خطيئةٌ وعبثٌ. فلا شيء يصف الجمالَ إلا أن تراه وتسمعه وتنهله. الكتابة عن الموسيقى تشبه أن تصف لكفيف شكلَ السماء واللوحات التشكيلية التي ترسمها الغيوم برقائق الجليد، والطيور التي تقطعُ اللوحة بأجنحتها، أو أن تصف بالكلمات الفقيرة شذى وردة لحظة تسقط عليها قطرةُ ندى. ما كان ينبغي أن أكتب عن الموسيقى لأن اللغة قاصرةٌ عاجزةٌ. كل ما هنالك أنني وددتُ أن أشكر أولئك على الموسيقى التي يغزلونها لنا بين الحين والحين في دولة الأوبرا العظيمة، فيجعلوننا نسترد إنسانيتنا التي تتسرّب من بين أصابعنا مع كل دمعة طفل يبكي جوعًا أو خوفًا، ومع كل زفرة أم ثكلى فقدت وليدها. شكرًا أيها الفن.
فاطمة ناعوت
Twitter: @FatimaNaoot



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الديكتاتور محمد صبحي
- المرأة بين عقيلة وفرحات
- حوار قديم مع فاطمة ناعوت 2006 | ناعوت: الشاعر راء لأنه لا يق ...
- الحبُّ قد أمر
- وجوه أجدادي
- هنا أجدادي الحزانَى
- المستشار النبيل، وامرأة الكفيف
- الغراب والفراشة على بوابة جهنم
- أيها النحيلُ، سلامٌ عليك!
- أول لص فى التاريخ
- مَن يخافُ فيلم-حين ميسرة- ؟
- الفرح يليق بك يا فينسنت
- زنقة الرجالة
- صانعُ الفرح، وصُنّاع الهلاك
- ليلةٌ تضيئُها النجوم - فان جوخ
- إخناتون والعياط
- رأس نفرتيتي، أسرقُها؟!
- العوار والعماء
- كنْ صوت من لا صوتَ له
- العياط وأمهات مصر


المزيد.....




- جعجع يتحدث عن اللاجئين السوريين و-مسرحية وحدة الساحات-
- “العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - صولجان -نادر عباسي- المستبد