أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسين محمود التلاوي - العقل إذ يستقيل... ثم يحيل















المزيد.....

العقل إذ يستقيل... ثم يحيل


حسين محمود التلاوي
(Hussein Mahmoud Talawy)


الحوار المتمدن-العدد: 4383 - 2014 / 3 / 4 - 22:28
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


عندما يقدم المرء استقالته من الوظيفة التي يشغلها، فهذا اعتراف ضمني بمشروعية هذه المؤسسة ومسئوليتها عنه وعن وظيفته. كثير منا استقال من وظيفته وذهب إلى وظيفة أخرى، ولا مشكلة في ذلك؛ فالإنسان دومًا يبحث عن الجديد، ويطور من مساره المهني سواءً كان ذلك في إطار وظيفته الحالية، أو بالتوجه نحو وظيفة أخرى في المجال نفسه أو في مجال غيره.
قلنا إنه لا مشكلة في الاستقالة الوظيفة، ولكنها تصبح مشكلة حقيقية، عندما تتم ممارسة فعل الاستقالة عقليًّا. "وهل يستقيل العقل؟!" ربما يتساءل البعض، وهم محقون في ذلك التساؤل، لكنَّ الإجابة للأسف الشديد تأتي بـ"نعم". بالفعل من الممكن أن يستقيل العقل. لا ريب أن السؤال التالي سيكون: "وممَ يستقيل؟!"؛ فتأتي الإجابة: "من وظيفته الأساسية، وهي التفكير"؛ مما يخلق لدينا ما يمكن تسميته بـ"العقل المستقيل"!!
المشكلة الأكبر من ذلك عندما يستقيل العقل من وظيفته الأساسية وهي التفكير، ولا يكتفي بذلك بل يجعل طرفًا آخر يتولى عنه مهمة التفكير! فيمارس بذلك فعل "الإحالة"؛ أي يحيل وظيفة التفكير لعقل آخر ولكيان آخر بدلًا منه؛ فتصبح عندها الجريمة مزدوجة. فمن أين جاء العقل المستقيل؟! ولماذا يحيل؟!

الجابري... مكتشف "العقل المستقيل"
في كتاب "تكوين العقل العربي" للمفكر الراحل دكتور محمد عابد الجابري، يأتي مصطلح "العقل المستقيل". يشير المؤلف في كتابه هذا — الذي يمثل الكتاب الأول من 4 كتب تكون مشروعه الفكري المسمى "نقد العقل العربي" — إلى أن هذا العقل ترجع أصوله إلى التراث الإسلامي ممثلةً في تلقي المعلومات عن المؤرخين ورواة الآثار دون فحص وتدقيق، على الرغم من قيام بعض المؤرخين التالين بنقد بعض هذه الحقائق بتقديم حقائق أكثر موثوقية. يقول الجابري إن هذا يشيع ثقافة النقل بدلًا من ثقافة العقل. إذن، يقول الجابري إن العقل الذي يكتفي بالنقل هو عقل استقال من وظيفة البحث والتدقيق، وراح يكتفي بالنقل فقط.
لكننا سوف نذهب بالمصطلح إلى مدى أبعد قليلًا مما ذهب إليه الجابري، أو مما نرى أنه ذهب به. في مقال سابق في هذا الموقع، أشرنا إلى تصنيفات العقل، ومن بينها جاء تصنيف "العقل المستقيل"، وجاء في تعريفه الذي ورد في المقال إنه العقل "الذي يستقيل من وظيفته الأساسية في التفكير، وينيب آخرين للتفكير بدلا منه، ممارسًا بذلك فعل الإحالة على الآخرين، وهو الفعل الذي يمثل تكملةً لفعل الاستقالة. هذا العقل يستقيل من وظيفة التفكير، وهو يدرك أن العقل وظيفته التفكير".
استقال العقل، بذلك، من التفكير، ولم يكتف بالتقاعد؛ حيث إنه يفهم أن وظيفته الأساسية هي التفكير، لكنه وجد نفسه غير قادر على ممارسة فعل التفكير؛ فاختار الحل الوسط بين التفكير وبين عدم التفكير، وهو إحالة وظيفة التفكير على آخرين، وهم الآخرون الذين من الممكن أن يكونوا الأقرباء أو القادة السياسيين أو الفكريين أو أهل الثقة أيًّا كان موقعهم في حياة صاحب العقل المستقيل.
وهكذا يمكننا أن نقول إن الاستقالة فعل إرادي، وكذلك الإحالة؛ فلم يجبر أحدٌ مستقيلّ العقل على أن يقدم استقالته، ولكنه مارس هذا الفعل بمحض إرادته، وأكمل فعل الاستقالة بفعل الإحالة داعيًا الآخرين ليتولوا عنه وظيفة التفكير. ولهذا المفهوم الكثير من التجليات في الحياة السياسية والاجتماعية في مصر؛ فلا ريب أننا مررنا بإنسان يُطْلِقُ عليه المحيطون به "عديم الشخصية"؛ أي بلا ملامح حقيقية للشخصية، ويترك الآخرين يقومون بما يجب أن يقوم به. ولكن... ماذا عن الواقع السياسي؟! لنلقِ نظرةً سويًّا!

استقالة جماعية!
تمثل أفكار مثل "الزعيم الملهَم" و"القائد الضرورة" نماذج حقيقية على فكرة استقالة العقل من التفكير. كيف؟! ولكن قبل الإجابة على سؤال "كيف؟!" يتعين علينا أن نؤكد أننا لن نقول كلامًا مطلقًا، ولكننا سوف نأخذ من كلام الآخر لندينه بفعل الاستقالة.
إذا تناولنا الحقبة الناصرية في مصر على سبيل المثال، لوجدنا أن المصريين مارسوا ما يمكن تسميته بـ"الاستقالة الجماعية" من وظيفة التفكير؛ حيث سلموا زمام أمورهم للرئيس الراحل جمال عبد الناصر مانحين إياه تفويضًا غير مكتوب بإدارة شئون البلاد. حقًا، لا يمكن التقليل من الدور الذي لعبه ناصر في بناء مصر المعاصرة، وفي تنمية الحس القومي والوطني في الشعب المصري، إلى جانب دوره في دعم حركات التحرر في العالم العربي والعالم الثالث، ولكنّ هذا لا ينبغي أن يعمينا عن المهازل التي ارتكبت في حقه، والتي أدت في النهاية إلى كوارث ليس أكبرها كارثة النكسة عام 1967.
ما الدليل؟! يكفي أن نلقي نظرة على الأغاني الوطنية التي كُتِبَتْ في عهده، ومن بينها أغنية "ناصر" وكذلك أغنية "يا أهلًا بالمعارك" التي يقول أحد مقاطعها "قول يا ناصر... قول ما بدا لك"؛ مما يمثل تفويضًا حقيقيًّا بأن يقول "الزعيم الملهَم" ما يتراءى له دون أية مراجعة، في إغفال كامل للدور الذي ينبغي أن يلعبه الشعب في تقويم أداء رئيسه، إذا ما حاد عن الطريق.
ولكنه العقل المستقيل!!
لم يفق المصريون من هذا الوهم للآن، ولم يقتصر هذا الوهم كذلك على التيار الناصري. فبنظرة سريعة على أدبيات جماعة الإخوان المسلمين، يمكننا أن نرى مثل هذه الاستقالة كذلك؛ فمن الأشعار التي تمجد في الجماعة ومؤسسها الراحل حسن البنا بيتان يقولان:
إن للإخوان صرحًا كل ما فيه حسن
لا تسلني من بناه إنه البنا حســــــن
قائل هذين البيتين يعبر بكل وضوح عن فعل الاستقالة العقلية؛ فهو لا يفكر في نقد هذا البناء، ولا في مراجعته، ولا حتى في إمكانية أن يكون فيه ما يمكن وصمه بـ"الاعوجاج". ولكن... هل يتعين أن يكون البناء الإخواني معوجًا؟! أليس في طرح هذه الاحتمالية تحامل على الإخوان؟! يمكن لمثل هذا الاعتراض أن يبرز، ولكن يمكن بكل سهولة الرد عليه من واقع النبع الفكري الذي تستند عليه دعوة الإخوان المسلمين، وهو الدين الإسلامي نفسه؛ فالمسلم الحق يؤمن بقدسية النص القرآني، ولكنه يؤمن كذلك بأن التأويل البشري للنص القرآني — بخلاف ما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام — ليس مقدسًا، وبالتالي فإن القول بـ"حسن" كل ما ورد عن حسن البنا في بنائه لدعائم الدعوة الإخوانية ينطوي على الكثير من المبالغة التي لا محل لها في الإسلام.
ولكنها الاستقالة العقلية، وكأن قائل البيتين السابقين يقول للبنا: "قل ما بدا لك؛ فكل ما يرد عنك حسن".

الإحالة للموروث المجتمعي
كذلك من الممكن أن تتمثل استقالة العقل من وظيفة التفكير في الانصياع للموروث المجتمعي، دون إخضاع هذا الموروث للنقاش، أو حتى مقارنته ببعض من القيم الأخرى التي يتبناها المرء نفسه الذي ينصاع للموروث الاجتماعي. ومن بين أبرز الأمثلة على ذلك انصياع الكثيرين لمبدأ استقدام راقصة لإحياء حفلات الزفاف، على الرغم من أنَّ مَن يستقدم الراقصة ربما يكون ممن يطالبون نساء بيتهم من زوجة وبنات وأخوات بالحجاب لأجل التقوى والفلاح في الدنيا، وطلبًا للمنازل العليا في الجنة الأخروية.
مثل هذا الرجل لم يقارن هذا الموروث الاجتماعي، الممثل في استقدام الراقصة، ببعض القيم التي يتبناها هو نفسه والممثلة في الدعوة للاحتشام وارتداء الحجاب وغير ذلك من القيم الأخرى. وهناك الكثير من الأمثلة غير ذلك، والتي يمكن فيها التعرف على ملامح "العقل المستقيل" لمصلحة الموروث المجتمعي؛ هذه الاستقالة التي تكرس السلبيات، وتجعلها أحد الأعمدة الرئيسية للممارسة الاجتماعية، على الرغم من تضاربها من الكثير من القيم التي يتبناها المجتمع نفسه؛ مما يخلق في النهاية مجتمعات مشوهة مهتزة الأركان غير قادرة على السير بثبات على طريق التقدم، لكونها تسير بأرجل قيمية غير متوازنة.

المثير في الأمر أن المجتمعات الإنسانية ربما لا تتعلم من ماضيها. كيف ذلك!؟ لنأخذ المجتمع المصري على سبيل المثال؛ فبعد أن قدَّم الشعب — أو الجزء الغالب منه — استقالته لصالح "الزعيم الملهم" ممثلًا في شخص عبد الناصر، نجد اليوم قطاعًا كبيرًا من المصريين يقدمون استقالتهم بـ"تفويض" المشير عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع لحكم مصر. نعم؛ إنهم يقدمون له التفويض لـ"حكم البلاد" لا لرئاستها بما يعني إلغاءً كاملًا لمبدأ "تداول السلطة"، وإلغاءً كاملًا لعقول المصريين وتفويض السيسي لـ"تولي السلطة" وكذلك لـ"التفكير".
إن ما يحدث في مصر الآن هو استقالة جماعية من وظيفة التفكير. وإذا كنا ننتقد الإنسان عندما يستقيل بعقله من وظيفة التفكير، فإننا يجب أن نتوقع الكارثة عندما نرى أمة تستقيل من وظيفة التفكير هذه، وتكلف فردًا بتوليها بدلًا منها. يكاد قلبي يتوقف هلعًا، عندما "أفكر" في تداعيات استقالة الأمم!!



#حسين_محمود_التلاوي (هاشتاغ)       Hussein_Mahmoud_Talawy#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عندما تتكلم شهرزاد... ليصمت أصحاب الشوارب!!
- عزازيل... الشيطان يكمن في هيبا
- العزلة سبيلًا للحرية... والحفاظ على الهوية!!
- يسقط حكم العسكر... ما حكم العسكر؟!
- المأزق الراهن... كيف صرنا إلى ما صرنا إليه؟!
- بين كنفاني وموريس... التوثيق الروائي والزيف الوثائقي!!
- جيل النكسة وإحباطات الشباب... الحل العكاشي!!
- التاريخ... بين ابن خلدون وسان سيمون
- بعد حبس الفتيات وإقرار مسودة الدستور... الشارع هو الحل!!
- وسط البلد من جديد... حكايات المصريين
- إلى مصر مع التحية... هل عاد المد الثوري؟!
- أبو بلال... التغربية أو ربما الشتات... هل من فارق؟!
- محاكمة مرسي... مرسي فقط؟!
- موشح أيها الساقي... عن التصوف والإبداع وأشياء أخرى!!
- إنهم يفقروننا... فما الخلاص؟!
- شبرا وعبد الباسط وبرج الكنيسة... ومصر...!
- ملاحظات على فكر سان سيمون (3)... المجتمع المثالي
- الوضع المصري... محاولة للفهم وربما الخلاص (4) كيف أخفق رجال ...
- الوضع المصري... محاولة للفهم وربما الخلاص (3) الطبقة الوسطى. ...
- الوضع المصري... محاولة للفهم وربما الخلاص (2) كيف حُشِدَ الش ...


المزيد.....




- -ضربه بالشاكوش حتى الموت في العراق-.. مقطع فيديو لجريمة مروع ...
- آلاف الأردنيين يواصلون احتجاجاتهم قرب سفارة إسرائيل في عمان ...
- نتانياهو يوافق على إرسال وفدين إلى مصر وقطر لإجراء محادثات ح ...
- الإسباني تشابي ألونسو يعلن استمراره في تدريب نادي ليفركوزن
- لأول مرة.. غضب كبير في مصر لعدم بث قرآن يوم الجمعة
- القيادة المركزية الأمريكية تعلن تدمير 4 مسيّرات للحوثيين فوق ...
- صاحب شركة روسية مصنعة لنظام التشغيل Astra Linux OS يدخل قائم ...
- رئيسا الموساد والشاباك يتوجهان إلى الدوحة والقاهرة لاستكمال ...
- مصر.. فتاة تنتحر بعد مقتل خطيبها بطريقة مروعة
- علاء مبارك يسخر من مجلس الأمن


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حسين محمود التلاوي - العقل إذ يستقيل... ثم يحيل