|
مساراتٌ ثقافيةٌ صحفيةٌ
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 4353 - 2014 / 2 / 2 - 10:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في مجتمعٍ صغير يشتبك بحدة وبأشكال سريعة وينطفئ بسرعة كذلك ويهمد سنين عدة ثم يثور بحدته السابقة الذكر ويحترق بضع شهور ثم يهمد ثانية، وليس فيه اتساع لتجذر الظاهرات السياسية والثقافية والفكرية تجذراً عميقاً في الأرض. والأرضُ عادة هي الناس، والناس ليس فيهم شرائح واسعة لتعميق السياسة أو لحب الثقافة، تعتبر المناضلين مجرد محركين للعيش، وقوى قادرة على الغضب والصراخ في الشوارع أو على الورق، أما أن يكون لهم مؤلفات ونتاجات ليست على التصاق مباشر بلقمة العيش ونقد المؤسسات بقوة، فهذا الأمر لا يعنيها. التصقت السياسة والثقافة في البلد التصاقاً مباشراً، فليس للثقافة تاريخ عميق سابق، وحين كون البحارة والفلاحون المدينتين المحرق والمنامة، قاربوهما بأحياء زراعية وبحرية تنضم إلى أبنية تنمو بشكل عفوي، وكان ما هو سائد في وعيهِم من أشكالٍ تعبيرية: المواويل والبوذيات والشيلات الحسينية وغيرها من وسائلِ التعبير المباشرة في المجالس والشوارع، التي كانت واضحةً في معانيها، بسيطةً في نسيجها. وبهذه عبروا عن ضيقهم من الفقر والعسف، فكان المعبرون عنهم جزءًا منهم، وربما كانوا أميين مثلهم، وربما عاشوا البحر والأرض والحِرف، ومن هنا لم يكونوا قادرين على الاستقلال الثقافي، وتنمية أدواتهم، إلا النادر منهم، وغالباً ما يكون شيخ دين لديه مورد يجعله مستقلاً وقادراً على النمو في صناعة التعبير أو مثقفا ابن أغنياء. وبهذا كان الشاعر إبراهيم العريض ابن عائلة تتاجر في أهم سلعة وقتذاك وهي اللؤلؤ، وبهذا الظرف، وبسبب فترة إعداد ثقافية طويلة في مجتمع أكثر تطوراً هو الهند، أمكنه أن يرتفع عن مستوى الثقافة الأمية الشعبية السائدة في ذلك الوقت سواء بإيجابياتها أو بسلبياتها. كان هو من عالم آخر، وكان عالم الغوص ينهار، مما جعله يبحث عن مورد رزق مغاير، وغدا التعليم عملاً وفكراً؛ فالمجتمع بحاجة شديدة إلى التعلم، والمدرسة هي بؤرة المرحلة السياسية - الاجتماعية، والمعلم هو المناضل والأديب، وكان ثمة طريقان هنا، طريق العريض في خلق تعليم ثقافي (رفيع)غير مباشر سياسي، يتوجه للنصوص الأدبية الكلاسيكية، وطريق عبدالرحمن الباكر والمعاودة في خلق تعليم سياسي مباشر، وفيما قاد الطريقُ الأولُ إلى الأدبِ المنفصل عن المباشرة والآلية، قاد الطريقُ الثاني إلى المنشور والمقالة النارية السياسية والتحقيق الصحفي وصياغة الأخبار المؤدلجة الموجهة، وتغلبَ الطريقُ الثاني خاصةً مع ظهورِ الصحافة شبه الحرة في أوائل الخمسينيات، حيث تُكتب في حرارة البلد وتُطبع في لبنان. الطريقتان الكتابيتان متضادتان على نحو كبير، فأدبية العريض عازفة عن التلاصق الحميم مع حرارة الحياة، تنأى عن الموضوعات الشعبية، وتتوجه إلى التأمل البارد في العديد من الأحيان، وتصطنعُ موضوعات، وتغرف من عمق اللغة العربية والتراث، وتؤسسُ أدبيتَها في المجلاتِ العربية، وتهتمُ بقضايا تغدو مركزيةً في الحياة العربية المخضبة خاصة قضية فلسطين التي تغدو مهمةً ومشجباً كذلك. تعلق عليه عمليات التخفي والهروب والنقد المراوغ. رغم شحوب هذه الطريقة فإن لها اتصالاً بما هو عميق، بقوانين الأنواع الأدبية والفنية، ولكن فترة العريض الكلاسيكية كانت تضعها في قوالب في الشكل والوزن والمعاني. لهذا لم تتصل بالطريقة الكتابية الثانية، رغم أن شعراء استفادوا من العريض ووظفوا القالب نفسه في الهتاف السياسي والنقد الاجتماعي. كانت طريقةُ العريض ترفضُ توظيف الثقافة في الحياة الاجتماعية والسياسية، لكن المجتمع كان ساخناً ويدخل معركة الصراع ضد الاستعمار البريطاني وكانت أدوات الكتابة المختلفة مهمة، لكن كانت أدوات الكتابة هذه سطحية كذلك، فهي ليست انقلاباً جذرياً عن الموال، فهي تعتمد المباشرة، والنظرة الجزئية، ونقد اللحظة الراهنة، مما يعبر عن عاطفية شديدة وغياب النظرات الموضوعية العميقة، ولهذا بعد غياب الأحداث وهدوء العواطف السياسية الملتهبة، أخذت هذه الكتابات تدخل في نفق، فإمكانية تطوير المقالة قلت كثيراً، والقصةُ القصيرة غدت نادرة، وتوجهت الكتاباتُ إلى القضايا الجزئية ومعالجة المشكلات المحدودة كالطلاق وأوضاع اليتامى وضرورة الإحسان إلخ، وحين عادت الصحافة في أوائل الستينيات كانت أبرز الأقلام قد تغيرت، فملكية الصحف وما تعطيه من مداخيل قد خلقتْ لغةً صحفية مختلفة عن لغة المانشيتات الملتهبة السابقة، وعن التركيز على كشف الأخطاء وطرح الموضوعات السياسية الوطنية، وأخذت الصحافة ترتبط بالدوائر الحكومية وأخبارها ومصالحها، وابتعدت عن القضايا المثيرة، وعن الحفر الموضوعي الواسع العميق في القضايا والتحولات وتعميق أعمدة الرأي، وتخصصت وتنوعت أبوابها بأشكال تخصصية سطحية، وكان هذا يقود أيضاً إلى نمو بعض الكتابات وتجذرها في الأرض، وكانت هذه فرصة مهمة لنمو الأنواع الأدبية والفنية على أسس مختلفة عن فترة الخمسينيات.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تحرير تجارة الأغنام
-
تدهورُ الوعي العمالي
-
تدهورُ الثقافةِ الوطنية
-
ديمقراطيةٌ وسيطرةٌ
-
الثقافة والسلطة في إيران
-
أيّ معارضةٍ؟
-
الوطنيةُ البحرينيةُ والعلمانية
-
خرابُ آسيا
-
الفاشيةُ في المشرق
-
الفاشيةُ في إيران
-
الفاشية في التطور العالمي
-
الفاشيةُ بين الغربِ والشرقِ
-
الاتجاه نحو الجماهير
-
الجمهورُ ليس طيناً
-
أُذنُ فان جوخ
-
لا وحدةَ وطنيةَ بدون موسيقى!
-
جيلُ القحطِ
-
خندقان وأمّتان
-
المنامةُ تركضُ وراءَ بيروت
-
القبائلُ العربيةُ والتحلل
المزيد.....
-
احتمال الصراع الأهلي في سوريا يزداد
-
الجالية الروسية بعمّان تحتفل بيوم العمال
-
نائب وزير الخارجية التركي لبي بي سي: -حرب غير مسبوقة تُشنّ ض
...
-
إقالة أم استقالة؟ مستشار الأمن القومي يغادر منصبه على وقع تس
...
-
قاضٍ أمريكي يفرج عن الطالب الفلسطيني محسن مهداوي ويؤكد حقه ا
...
-
سوريا: أنباء عن اتفاق بتسليم السلاح الثقيل ودخول الأمن إلى ا
...
-
مركبة فضاء سوفيتية ضلت طريقها وتعود إلى الأرض بعد نصف قرن
-
السودان.. الدعم السريع تقصف العاصمة وسط تحذيرات أممية
-
مفوض أممي: الرعب في السودان لا حدود له
-
سلطات رومانيا ترحل مراسل RT إلى تركيا
المزيد.....
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
المزيد.....
|