|
فكّة فلوس
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 4307 - 2013 / 12 / 16 - 20:18
المحور:
الادب والفن
فضّل سائقُ سيارة الأجرة، الصغيرة والعتيقة، أن يفوّت زبوناً لوّح له تواً. ولو عرف صاحبُ التاكسي، الحريصُ نوعاً، أنّ شكلَ ذلك الزبون كان هو المُشْكِل، لما غفرَ بسهولة للسائق. هذا الأخير ( ولنقل أنّ اسمه " خليل " وعمره قد قارب الواحد والثلاثين )، كان لديه بغضٌ تجاه أولئك الأشخاص المُلتحين، ممن يكتسون عادةً باللباس الأفغانيّ؛ وهوَ اللباس الذي أضحى، على ما يبدو، آخر صرعة موضة في البلد. بالأمس، عكّر أحد هؤلاء مزاجَ " خليل "، ما أن صعد إلى السيارة ليجلس بجانبه مع رائحة عَرَقه وعطره المقدس. فإنّ هذا الملتحي، ذا الجرم الضخم، تصنّع حركة تمثيل واضحة لما أخرج جهاز الخليوي من جيب سرواله الأفغانيّ، لكي يطلب من ثمّ اسكاتَ أغنية لبنانية كانت تصدحُ خِلَلَ أثير راديو السيارة. " ليذهب إلى الشيطان، هوَ وأمثاله "، فكّر السائق فيما كان يقود سيارته باتجاه " الملّاح ". الطقس، وكان على حدّ الشتاء، ألهمَ الزبون الفتيّة، المتوحّدة في المقعد الخلفيّ، أن تطلبَ من السائق رفعَ بلور نافذة المقعد الأمامي. فعل ذلك بطيبة خاطر، فيما كانت عيناه تتقلبان يمنة ويسرة بانتباه وحذر. إنّ راكبي الدراجات النارية، ومعظمهم من الفتية، هم وراء معظم الحوادث في " المْدِينة "ـ كما هوَ معروف لمن يقيم بمراكش. أما لو كان المرءُ أجنبياً ( كَاوري مثلاً )، فإنه يُدرك بنظرة موضوعية أنّ دروبَ المدينة القديمة، التي بقيت على حالها منذ قرون، قد وُجِدَت لكي يدرج عليها الخيولُ والحمير والبغال لا السيارات والدراجات النارية والعادية. " سيرْ، الله يعاونك "، قالت له الفتاة بعدما نقدته الأجرة وهمّت بالنزول من العربة. ثمّ بدأت التاكسي عملية دوران شاقة، محفوفة ببعض المخاطر، كي تؤوب ثانيةً إلى جهة المدينة. فالدرب كانت ضيقة للغاية، علاوة على أنّ أحداً لا يريد أن يؤثر أخيه على نفسه. فما أن يخلو الطريق من السيارات القادمة من الجهتين، حتى يبرز فجأة موتورسيكل أو رجل على عربة يشدها حيوان أو عابر سبيل. " اللعنة.. "، ردّدَ أكثر من مرة، قبل أن ينجح في اكمال دوران المركبة. وفيما كان يبدّل السرعة، انتبه لتلويح أحدهم له. كانت امرأة عجوز، محنية الظهر قليلاً، تقف على زاوية الرصيف بالقرب من باعة يبسطون بضائعهم. مدّ يده، وفتح لها باب السيارة. وعلى الرغم من أن مسيرَ العجوز قد طال أكثر من المعتاد، إلا أنه شعر نحوها بالشفقة حَسْب. إنّ النساء المسنّات، وتحديداً المغلوب على أمرهن، ليذكرنّه بوالدته الراحلة. خلال الطريق، لم يسمع " خليل " من السيّدة سوى جملة وحيدة حَسْب؛ وهي التي كانت قد أفصحت فيها عن وجهتها المقصودة. مفردات الجملة تلك، كانت ثقيلة قليلاً على أذن السائق، فأحال ذلك إلى كون فم صاحبتها بلا أسنان: " ولا بدّ أنها تعاني الوحدة والملالة، وربما الفاقة أيضاً "، فكّر مُستطرداً. إذاك، لم يكن قد أدركَ بعدُ أنّ العجوز يهودية وأنها كانت تنام على كنز. على حين غرّة، إذا بالعجوز تهتف وقد ارتسم الرعبُ على غضون وجهها الصغير " قف، قف بالله عليك ". قبل ذلك ببرهة قصيرة، لاحظ أنها كانت تبحث في ثنايا قفطانها عن غرض ما. أوقف السيارة على جانب الطريق، وقبل أن يبادر بسؤال زبونته عما دهى، فإنها واصلت القول بذات النبرَة المهتاجة " صرّة الفلوس.. لقد أضعتها ". بعدما تمّ تفتيش الكرسيّ الأماميّ، والأرضية المكسوة بالكرتون، تأكّد رأيُ " خليل " بأن محفظة نقود العجوز، البدائية، قد سقطت منها خلال انتظارها عند ذلك الرصيف الأول. بدون كبير كدر ( ولا حاجة مجدداً للتنويه بذكرى والدته )، عادَ السائق بالعربة نحوَ جهة " الملّاح ". فما أن صار الرصيف المقصود على مرأى من عينيه، حتى أوقف السيارة ثمّ نادى في جمع الرجال الواقفين عند بضائعهم " عافاكم، هل صادفتم صرّة قماش صغيرة، تخصّ هذه السيدة؟ ". وقبل أن يتمّ " خليل " جملته، تقدّم منه شابّ وهوَ يلوّح بيده ما ظهرَ أنه الغرض المطلوب. العجوز، التي كانت قد شرعت في المناحة مذ بعض الوقت، تلقفت الصرّة بفرحة غامرة، فراحت على الأثر تلهجُ بالشكر. ولكن، كيف كان من الممكن أن ترتكب هذه المرأة نفسَ الهفوة، ولا تلبث أن تنسى أمرَ صرتها مجدداً. فما أن نزلت من السيارة بعدما نقدت سائقها أجره، فذابت من ثمّ في زحمة الشارع الكبير المفضي إلى " الكتبية "، حتى همّ هوَ بتسوية رقعة الجلد المغطية المقعدَ الأماميّ. عند ذلك، اصطدمت يده بالصرّة. " اللعنة.. "، هتفَ باستياء قبل أن يندفع بمركبته في الطريق إلى موقف الحافلات الرئيس. لأنه كان قد قدّرَ، بأن العجوز لا بدّ واتجهت نحو ذلك الموقف. عبثاً كانت مناورة السيارة ثمّة، فإن سائقها لم يعثر على صاحبة الصرّة: " لقد أضعتُ الوقتَ من أجل فكّة "، قال في نفسه بعدما تأكّد من جسّه للصرّة بأنها لا تحتوي سوى على دراهم معدنية. فما أن حلّ المساء، حتى سلّم السائقُ السيارةَ إلى ابن صاحبها ( كي يعاود تسييرها حتى صباح اليوم التالي )، ثمّ واصل طريقه إلى البيت. هناك، تناول " خليل " العشاء مع امرأته وأطفاله الثلاثة، بيْدَ أنه قبل أن ينهض نحوَ فراشه، دبّ فيه الفضول فجأة. فكّ عقدة الصرّة تلك، تاركاً القطع المعدنية تتساقط على طاولة الصالة. تافهاً، ولا غرو، كان مجموع المبلغ: واحد وثلاثين درهماً بالتمام. في تلك اللحظة، لفت انتباهه العقدة الأخرى للصرّة، غير المألوفة. فما أن قام بحلّها، حتى أذهله ما كان يكمن طيّ قماشها. صباحاً، لم يهتمّ " خليل " لا بالزبائن ولا بالوقت. اتجه بالسيارة إلى ساحة " جامع الفنا "، فأوقفها بالقرب من المدخل الرئيس، المنفتح على الأسواق. ثمّ قفلَ عائداً مشياً إلى مركز الساحة، لينعطف منه باتجاه شارع " البرنس "، المزدحم عادةً حتى ساعة متأخرة من الليل. ثمّة، في منتصف الشارع، كان يقع سوق الصاغة الصغير، الذي يملك فيه أحد معارفه محلاً. ما أن اختلى بالرجل، حتى أظهر له ذلك الحجر الأسود، المصقول والبرّاق كأنه جوهرة. بعدما تفحص الرجلُ الحجرَ بوساطة عدسة، قام بوَزنه: " إنه على الأرجح " عين براهما "؛ وهيَ من أكبر وأندر أنواع الماس الأسود، الحر "، قال الصائغُ أخيراً بصوتٍ خافت. ثمّ أردفَ إثر وهلة وهوَ يرفع عينيه عن الماسة " عُدْ بها إليّ غداً، في مثل هذا الوقت. وحتى ذلك الحين، يمكن أن أتدبّر من لديه خبرة بأمر قيمتها وإمكانية بيعها ". ثلاثة أعوام، على الأثر، وكان " خليل " يقف بطوله الفارع على رصيف شارع " محمد الخامس " من جهة " الكتبية "، ينتظرُ بصبر نافد حضورَ سيارته. وقدّر متسامحاً أن سائقه الشخصيّ ( الذي كان معتاداً على مخاطبته باسم " الشريف خليل "، احتراماً أو ربما تزلّفاً )، كان في مثل هذا الوقت من العصر يصارعُ زحمةَ العربات. عندئذٍ، ارتأى أن يمضي إلى المنزل بسيارة أجرة. بعد دقائق أخرى، بدا لعينيّ " الشريف " عن قرب جدارَ الفيلا. هذا الجدار، كان محجوباً قليلاً بأشجار البرتقال، المغروسة على الطوار، والتي كانت تبدو بأغصانها الخضراء كأنها نساءٌ منفوشة الشعر. ثمّة إذاً، طلب من السائق التوقف فيما كان يقلّبُ في محفظة نقوده. عندما مدّ يده بورقة مالية من ذات المائتين، فإنّ الآخرَ لم يتناولها، بل اعتذر بأنه لا يملك الصرفَ. فقال " الشريف خليل " وهوَ يفتحُ بابَ السيارة: " هيَ من نصيبك، إذاً " " أشكرك، لكنه مبلغ كبير وليس مجرّد فكّة؟ " " أحياناً حتى المبالغ الكبيرة، المكنوزة في البنوك، فإنها تكون بالأصل متولّدة عن فكّة "، أجابَ بنبرَة غامضة وفكهة في آن، فيما كان ينزل من السيارة.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القضيّة
-
الطوفان
-
مسك الليل
-
خفير الخلاء
-
البرج
-
طنجة؛ مدينة محمد شكري 3
-
طنجة؛ مدينة محمد شكري 2
-
طنجة؛ مدينة محمد شكري
-
سيرَة حارَة 7
-
في عام 9 للميلاد
-
سيرَة حارَة 6
-
سيرَة حارَة 5
-
سيرَة حارَة 4
-
في عام 10 للميلاد
-
سيرَة حارَة 3
-
في عام 11 للميلاد
-
سيرَة حارَة 2
-
في عام 12 للميلاد
-
سيرَة حارَة
-
جريمة تحت ظلال النخيل
المزيد.....
-
نقابة الفنانين السوريين تسحب الثقة من نقيبها مازن الناطور وس
...
-
مصر.. مقترح برلماني بتقليص الإجازات بعد ضجة أثارها فنان معرو
...
-
رُمي بالرصاص خلال بث مباشر.. مقتل نجل فنان ريغي شهير في جاما
...
-
أهم تصريحات بوتين في فيلم وثائقي يبث تزامنا مع احتفالات الذك
...
-
السينما بعد طوفان الأقصى.. موجة أفلام ترصد المأساة الفلسطيني
...
-
-ذخيرة الأدب في دوحة العرب-.. رحلة أدبية تربط التراث بالحداث
...
-
قناديل: أرِحْ ركابك من وعثاء الترجمة
-
مصر.. إحالة فنانة شهيرة للمحاكمة بسبب طليقها
-
محمد الشوبي.. صوت المسرح في الدراما العربية
-
إيرادات فيلم سيكو سيكو اليومية تتخطى حاجز 2 مليون جنية مصري!
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|