أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - القضيّة















المزيد.....

القضيّة


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 4305 - 2013 / 12 / 14 - 10:23
المحور: الادب والفن
    


لو أن قلبَ " للّا عائشة "، قلب الأم، قد دقّ أكثر من المعتاد وهيَ في طريقها إلى قسم شرطة المقاطعة، لربما كانت قد اعتبرت ذلك انذاراً، وفي التالي، لربما وفّرت على نفسها متاعبَ عديدة.
كانت إذاً في طريقها إلى المكان المألوف، الذي ينشد فيه الناس النجدة والمساعدة، وأيضاً العدالة. هذا القسم، يقتسم مع المستوصف الحكوميّ بناءً قديماً للغاية، ولكن تظلله أشجارٌ مثمرة، متجددة الأوراق والأزهار. ولم يكن المكان المهيبُ السمعة ليبعد كثيراً عن منزل تلك المرأة الأرملة، التي سعَتْ إليه بهدف تقديم شكوى على الابن الوحيد. هناك في غرفة ضيّقة ورطبة، رأت في مواجهتها رجلاً مسئولاً يرتدي الملابس الرسمية الكحلية اللون، وكان في نحو الثلاثين من عمره. من خلف هذا الضابط، أطلّ وجه رجل آخر، أكثر تجهّماً وايغالاً في السن، قد حُفِظَ ضمنَ إطارٍ خشبيّ عتيقٍ مع علم المملكة وشعارها.
" لقد ترك لي زوجي المرحوم ولدين؛ ابنة في العشرين وشقيقها الذي يصغرها بعام واحد "، استهلّت السيّدة شكواها قدّام ضابط الشرطة. ثمّ راحت تقصّ عليه ما كان من أمر ذلك الابن، الموصوف من لدُنها بالعقوق والحماقة " لقد بدّد سعيدُ ميراثَ والده على أصحاب السوء، ولن يتوانى الآن عن بيع مأوانا الوحيد ". سجّل الضابط جميع أقوالها، فيما كان متضايقاً بسبب حرارة أواخر الربيع، المرتفعة، والتي جعلت ملابسه الداخلية ترشح بالعَرَق. وها هوَ يسدّد نحو هذه المرأة الملولة نظرة ضجرة، ولكنها ثابتة، قبل أن يسأل: " وماذا تريدين منا أن نفعل مع ابنك؛ فإنه لم يأت بشيء يخالف مواد القانون، كي يتمّ توقيفه؟ ", فأجابت المرأة وقد تحوّلت نبرتها إلى شيء من الشفقة، بأنها ترغب أن يتم توقيفه ولو لليلة واحدة " لتخويفه وردعه ". وقد جرى توقيف الابن، لاحقاً، حسبما أرادت والدته: ولكن ليس لليلة واحدة حَسْب، بل لعشرة أعوام كاملة.
في البدء، استغربت " للّا عائشة " تأخّر اطلاق المخفر سراح ولدها. وقد راجعتهم لعدة أيام، دونما أن يصدر عنهم سوى غمغمة غير مفهومة عن اجراءات قضائية وملفات جنائية الخ. ثمّ ما لبثت أن فكّرت، محبطةً، بأنّ " سعيداً " قد يكون متورّطاً بسبب تعاطيه الكيف مع من يعاشرهم. فكم كانت دهشتها شديدة، لمّا حضر خطيب ابنتها ذات ظهيرة، كي يبلغها بالخبر المشئوم؛ وهوَ إحالة ابنها إلى المحكمة بتهمة التجارة بالمخدرات. بعد مضيّ أسبوع آخر، كانت الأمّ ما تفتأ على ذهولها وتبدو غير مصدّقة للخبر، مع أنها سمعته مجدداً على لسان ضابط الشرطة ذاك، الذي سبق والتقت معه في القسم لأول مرة. هذا الضابط نفسه، سيحضر إلى المحكمة في يوم تال، لكي يدلي بشهادته عن ملابسات توقيف الابن في قضية الاتجار بالمخدرات. وقد بدا الشاهد، هناك أيضاً، متبرّماً من الحرارة المرتفعة في قاعة العدل الكبيرة، الضئيلة الاضاءة والخالية من النوافذ. إلا أنّ سيل العرق، عليه كان أن ينهمر قطرات كبيرة من تحت قبعة الضابط حتى عنقه، حينما تلقى صرخة " للّا عائشة " القوية، التي هزت هدوء قاعة المحكمة: " إنه أنت، يا هذا، من كاد أن يرفض شكواي بحق ابني.. إنك أنت من أكّدت لي، بأنه لم يرتكب مخالفة توجب توقيفه ولو لليلة واحدة؟ ".
في الصف الرابع من القاعة، كان ثمّة من يراقب بانتباه ملامح المعنيين بالقضية. ولنقل منذ البدء، أنّ " عبد الله " هوَ اسمُ هذا الشاب ذي العينين المؤطرتين بنظارة سميكة البلور، وأنه مراسلٌ حرّ لصحيفة مراكشيّة ذات ميول يسارية. وكونه يكتب القصص أيضاً، فلن نستغرب من استقراء خياله لبواطن أولئك المتورّطين في هذه القاعة الكئيبة، التي تشكّل جزءاً صغيراً من عمارة ضخمة تمّ اشادتها في زمن الاحتلال الأجنبيّ: " هذا القاضي في ورطة، ولا ريب، كما تفصح عنه حركاته العصبية. ولا بدّ أنه ابن أحد المتعاملين مع المستعمر. لقد أرسل إلى باريس، أو ربما جنيف، ليدرس القانون في احدى الجامعات فيعود من بعدها فيحاكم أولاد أولئك الفقراء أنفسهم، الذين سبق وقاتلوا أرباب نعمته "، فكّر الشابّ المتحمّس. إلا أنّ أفكار المراسل قطِعَتْ من قبل المعنيّ ذاته، المبادر إلى اسكات المتهم. هذا الأخير، كان قد خرق نظام القاعة حينما عقّبَ على كلام والدته بأن هتف فيها " أنتِ سببَ بلائي؛ فلا أنت أمّي ولا أنا أعرفك منذ اللحظة.. ". وكان على صيحة الابن، كما لاحظ المراسل، أن تجعل الحضورَ يسلون ما سبقها من صرخة الأمّ الموجّهة للضابط الشاهد.
خلال الأسبوعين، اللذين أعقبا جلسة الحكم بتلك القضية، كان " عبد الله " قد تمكّن من جمع معلومات مهمّة عن كلا المتهمَيْن، البريء والحقيقيّ: الأخير، كان ابناً لضابط كبير في وزارة الداخلية، معروفاً جيّداً في ما يُعرف بـ " الوسط المنحط "؛ أي أولئك المرتبطين بمافيا المخدرات والرقيق الأبيض والتهريب. وعلى الرغم من أن الأبّ الضابط قد سبق له طرد ولده من المنزل، بل واعلان التبرؤ منه، غير أنّ خشيته من تأثر مركزه بالفضيحة أجبرته أن يحاول انقاذه من المحاكمة بأي ثمن. وكم كان الأّب سعيداً، حينما تمّ إخباره إثر انقضاء ساعات قليلة، بأن ثمّة شاباً في مثل سنّ ابنه، موقوفاً، يُمكن أن يُحَمَّل وزره. " عبد الله "، من جانبه، هُرع أخيراً إلى مقرّ صحيفته وهوَ يتأبّط حقيبة يد تحتوي على أوراق الفضيحة. أجل، لقد فجّر تحقيق هذا الصحافيّ الجسور فضيحة حقيقية، ما عتمت أن تفاعلت في أوساط المجتمع المختلفة. بيْدَ أنّ المتهم البريء، لحظه المبخوس، لم يخرج من السجن قبل حلول عهدٍ جديد.
إثرَ انقضاء عام واحدٍ على محاكمة " سعيد "، عُقدت أواصر صداقة وثيقة بين والدته وأمّ ذلك الصحفيّ. كلتا المرأتين، في آخر المطاف، كانت تفتقد ولدها. لقد علمنا إذاً بمصير ابن " للّا عائشة "، أما ما جرى مع " عبد الله " فإن الأمر ما كان مختلفاً كثيراً: وعلى الأرجح، أن بعض النافذين قد ضاق ذرعاً بالقضية تلك، ورأى أن اتهام عدد من الموظفين الحكوميين بالتواطؤ ( أو الفساد )، هوَ مسّ بهيبة الدولة قبل أيّ اعتبار آخر. هكذا استُدْرِجَ الصحافيّ إلى فخٍ، تمثل بانقياده لاستفزاز أحد ضباط الأمن ممن كلفوا بمهمّة ختم مقرّ الصحيفة اليسارية بالشمع الأحمر تنفيذاً لأمر قضائيّ. " عبد الله "، الذي كان قد أوقف مؤقتاً بتهمّة اهانة موظف يؤدي واجبه، ما لبثَ أن وجدَ نفسه مُحالاً إلى مختصّ نفسيّ تابع لأمن الولاية، ليساق من هناك رأساً إلى مستشفى الأمراض العقلية. في الأشهر الأولى من وجوده بالمشفى، كان " عبد الله " يستقبل والدته بلهفة مؤكّداً لها في كلّ مرة بأنه سيخرج سريعاً لكي يقاضي أولئك الفاسدين، أبناء عملاء الأجنبيّ. فما أن حلّ عامه الثاني ثمّة، بين المجانين المساكين، حتى أضحى يلتزم الصمّت المطوّل بحضور أمّه ولا يكاد يجيب عليها سوى بمفردتين يتيمتين؛ " نعم و لا ".



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الطوفان
- مسك الليل
- خفير الخلاء
- البرج
- طنجة؛ مدينة محمد شكري 3
- طنجة؛ مدينة محمد شكري 2
- طنجة؛ مدينة محمد شكري
- سيرَة حارَة 7
- في عام 9 للميلاد
- سيرَة حارَة 6
- سيرَة حارَة 5
- سيرَة حارَة 4
- في عام 10 للميلاد
- سيرَة حارَة 3
- في عام 11 للميلاد
- سيرَة حارَة 2
- في عام 12 للميلاد
- سيرَة حارَة
- جريمة تحت ظلال النخيل
- جريمة في فراش الزوجية


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - القضيّة