أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى لغتيري - رقصة العنكبوت -رواية- الكتاب كاملا.















المزيد.....



رقصة العنكبوت -رواية- الكتاب كاملا.


مصطفى لغتيري

الحوار المتمدن-العدد: 4295 - 2013 / 12 / 4 - 14:35
المحور: الادب والفن
    


رقصة العنكبوت
رواية
مصطفى لغتيري
دار النايا سوريا 2011

وأنا أعبر الشارع المكتظ بحركة المرور الدائبة، كانت صور شتى تتزاحم في ذهني. مواقف من الماضي القريب، تنبثق فجأة تتداخل فيما بينها.. تتمدد برهة، ثم لا تلبث أن تتقلص، لتطوح بي إلى عالم من اللاجدوى .. الزمن عصي على الإمساك..كلما حاولت ترتيبه ضمن سياق منطقي ،ليسعفني على اتخاذ قرار ما، انفلت من تلابيب الذهن، فأهوي في قرار عميق من الخواء .. وحدها لفظة – المصير – تتهادى في خيلاء، تحتل الذهن والوجدان. تدريجيا تزيح ما سواها متربعة على عرائش القلب. لم ألتفت إلى الضوضاء من حولي.. مأخوذا كنت بما ينتظرني في هذا اللقاء المرتقب ..حين انتبهت إلى نفسي ، كنت أتعثر بخطواتي على الطوار.. شارع الزرقطوني نهر مزدوج الصبيب.. سيارات من أنواع مختلفة لا تكف عن الاندلاق. حانت مني التفاتة عجلى نحو معصمي.. عقارب الساعة بثت في نفسي بعض الحماس .. أسرعت الخطو .. من بعيد لاحت البناية التي أقصدها .. بدت لي من موقعي في الشارع عملاقة .. على زجاجها تنعكس أشعة الشمس .. تحاشيت النظر اليها ،وخفقة خفيفة تأرجحت في دواخلي. أفزعني بوق سيارة تمرق في الشارع بسرعة ملفتة ...سلطت عليها نظري لحظة، ثم لجمت البصر لأسبح في عالمي الداخلي.. دنوت من البناية، تطلعت إليها بكثير من الفضول.. غامضة بدت لي.. وموحشة .. كان الحارس يقتعد كرسيا في الجانب الأيسر للبوابة.. بين يديه يحمل شيئا لم أتبينه جيدا.. مرتبكا دنوت منه ..حييته ثم سألته عن الشخص الذي أقصده .. وكأنه تعود على هذا النوع من الأسئلة، لم يغادر كرسيه ، وإنما قال باقتضاب:
-خذ المصعد ، وتوقف في الطابق الثالث .
لا أدري لمَ لمْ أتوجه نحو المصعد، بل فضلت أن أصعد السلم .. ربما كنت في حاجة إلى مزيد من الوقت لأرتب أفكاري .. الصور في مخيلتي متضاربة لاتزال.. وخفقان قلبي لم يستقر على حال.. توقفت لحظة أمام مدخل الشقة .. استجمعت أنفاسي .. رتبت هندامي ، ثم ضغطت على الزر.. لم أنتظر طويلا ..بسرعة أنفتح الباب .. استقبلني وجه أنثوي، يحاول أن يكون بشوشا امرأة متوسطة العمر.. ملابسها تدل على أنها خادمة ..نظرت إلي نظرات متفحصة.. قاطعت حالة الانشغال التي بدت عليها ، متسائلا :
-هل السيد حسن هنا ؟
دون تباطؤ أجابت :
-تفضل لابد أنك الشاب الذي ينتظره .. ادخل .
شيء من الارتباك تملكني، وأنا أخطو داخل البيت، تتقدمني الفتاة.. حين ضمتنا غرفة الاستقبال ، أشارت إلى أريكة وطلبت مني الجلوس .
لم يمض سوى لحظات على حضوري، حتى لمحت الرجل مقبلا نحوى، مرتديا ملابس تدل على أنه لم يغادر البيت ، وليس في نيته مغادرته.. وقفت احتراما له.. مددت يدي لتحيته.. ضغط عليها بحرارة، ثم أشار علي بالجوس.
لحظة من الصمت الثقيل فصل بيننا.. بين لحظة وأخرى أسترق النظر نحوه، محاولا تكوين فكرة عما يجول بخاطره . لاحظت أنه يفعل نفس الشيء.. بعد فترة قليلة من الجلوس في رحابة الصمت، جاءت المرأة تحمل بين يديها صينية، تضم كأسين.. قدمت لي واحدة، وتناول الرجل أخرى .. أجلت البصر في المكان من حولي.. تحف بأشكال وألوان مختلفة تزين الجدران.. وعلى امتداد الأرضية تتمدد بسط باهظة الثمن.. في الأركان تنتصب منحوتات تزيد المكان رهبة وبذخاً.
دون سابق إنذار، حدجني الرجل بنظرة واثقة، ثم قال باقتضاب:
-ما رأيك ؟
لاحظت أن السؤال عام، وأي إجابة عنه يمكن أن تكون في غير صالحي. أبعدت بصري عنه، ثم أجبت :
-أحتاج إلى مزيد من التوضيح .. أنا من حيث المبدأ مواقف.
وضع الرجل الكأس على المنضدة .. قام بحركة تبدو مدروسة، ربما قصد منها تبليغي رسالة واضحة، مفادها أن لا وقت له لإضاعته، ثم قال:
-لقد أوضحت الأمر بما فيه الكفاية.. إما أن ترحب بالفكرة، ونبدأ العمل.. وإما أن ترفضها.. ستكون أنت الخاسر .
حاولت المحافظة على برودة أعصابي .. كنت أفكر بسرعة، أعرف أن حضوري إليه بإرادتى، يقوي وضعه في أية مفاوضات بيننا. فجأة سألته :
-وما حصتي من الأرباح؟
شقت الابتسامة طريقها إلى شفتي الرجل، ثم أجاب بابتهاج :
-هكذا يكون الكلام.. حصتك ستكون نسبة من الأرباح.
حينذاك تداعى إلى ذهني لقائي الأول بالسيد حسن ..في مكان كانت الصدفة وحدها حاسمة في تواجدي به.. كنت أبحث عن عنوان لصديق قديم .. لم أعثر له على أثر بعد مدة طويلة من التقصي.. حينذاك ، وبعد أن تملكني اليأس، دخلت مقهى بحثا عن بعض الهدوء ، الذي تتوق إليه نفسي، بعد أن اخترقها كثير من الهم والاضطراب .. كنت قد شيدت أمالا واسعة على هذا الصديق لإخراجي من ضيق ألم بحياتي.. استعلمت عنه كثيراً، فدلني أحدهم على عنوانه .. لكنني لم أعثر له على أثر.. اقتعدت كرسيا في أحد جنبات المقهى.. الموسيقى هادئة.. والفضاء نظيف، ومرتب بشكل يبهج النفس.. حضر النادل.. طلبت منه إحضار كوب من القهوة السوداء..لم يتباطأ في الاستجابة لطلبي .
أخرجت من محفظتي بعض المجلات الفنية.. أتصفحها بدون تركيز.. أثار انتباهي رجل لا يبتعد عني كثيراً.. بين الفينة والأخرى يسترق النظر إلي.. أحرجني ذلك، فانغلقت على ذاتي..أخرجت سيجارة أشعلتها، ثم وضعت المجلة جانبا.. لا أدري كيف تطورت الأمور بشكل سريع، فإذا الرجل ،يغير مقعده ويقترب من المنضدة التي أشغلها.. هكذا وجدت نفسي أحدثه، دون رغبة مني في أي حديث.. فبطبعي أنا إنسان أتحرز من الغرباء .. سألني الرجل عن نوع المجلة التي أتصفحها.. لم أتردد في إخباره بأنها مجلة فنية، تهتم بأخبار الفن التشكيلي، وتقدم بعض لوحاته مع التعليق عليها.. أظهر الرجل كثيراً من الاهتمام، دون أن يفوته التلميح إلى اهتمامه بجمع اللوحات الفنية.. وبما أن ثقافتي في الفن التشكيلي كانت كافية نسبيا، فإن الرجل سرعان ما افتتن بحديثي.. أخذ مقعده وانضم إلى منضدتي.. هكذا انقدفنا في حديث بلا ضفاف حول اللوحات، وأنواعها وأثمانها..أخبرت الرجل بأنني رسام هاو، أحب هذه الهواية إلى حد الشغف. إلا أنني لا أجني من ورائها أي ربح مادي .. وهذا ما يحرضني على التخلي عنها، لأبحث عن عمل أرتزق منه ..
بدت سيماء الاستنكار على ملامح الرجل.. وبلهجة واثقة استفسرنى:
- وإذا وجدت من يقتني لوحاتك، هل تعدل عن قرارك ؟
الدهشة ترتسم على وجهي.. لا أكاد أصدق ما تلتقطه أذناي من كلمات.. ترددت قليلا.. لجمني الصمت برهة.. ثم سألته بنوع من التشكيك :
- كيف ذلك ؟ الفن في بلادنا سوق كاسدة.. من ذا الذي يدفع ماله من أجل شيء غير مؤكد؟
- بكثير من الثقة في النفس أجاب الرجل :
- أنا .
اختلج إحساس غامض داخلي .. رمقت الرجل نظرة متفحصة .. حافظت على برودة أعصابي.. في أعماق تتبرعم أسئلة بلا حصر.. يصعب الإجابة عليها :
كيف يمكن لهذا الرجل شراء لوحاتي؟ ما الفائدة التي يجنيها من ذلك؟.. أليس في الأمر مكيدة ما ؟..
حين طال صمتي ، وأنا أضطرب في لجج من أسئلة بلا ضفاف.. تدخل الرجل قائلا:
- ربما تود معرفة السبب الذي يدفعني إلى شراء لوحاتك ؟.. إذا كنت راغبا في ذلك أخبرتك .
دون تردد أجبته :
- بالتأكيد، إذا لم يكن لديك مانع .
تململ الراجل في مكانه.. أخرج سيجارة من العلبة الممددة أمامه.. أوقدها بهدوء.. مص بعض دخانها ، ثم مج جزءاً منه في الهواء.. اتخذ هيئة صارمة وجادة ، ثم قال :
-بصراحة أنا تاجر.. أقوم برحلات مكوكية بين المغرب ودول شتى في أوربا، وهناك أبيع التحف بما فيها اللوحات.
تدريجيا تبدد بعض الشك من نفسي.. بدا لي الأمر واضحا نسبيا.. لقد سبق لي أن سمعت بشيء من هذا القبيل.. بالطبع لم أصدق كلامه بحذافيره، ولكنني لن أخسر شيئا إن جاريته في الحديث .. سألته :
- وهل الأوربيون سيقتنون لوحات فنان مغمور؟
على شفتيه رسم الرجل ابتسامة زئبقية.. التمع في بؤبؤي عينيه بريق غريب، جعلني أتوجس منه.. ثم ما لبث أن قال :
- إنك تقترب من الفهم .
حقيقة لم أفهم شيئا من كلامه.. بدا لي الرجل غامضا ويحب التعامل بالكلام الملغز، قدرت أنه يلمح إلى شيء ما.. لم أتردد كثيراً.. سرعان ما استفسرته قائلا:
- لم أفهم، هل يمكنك توضيح كلامك ؟
دون تباطؤ عقب علي قائلا :
- الأمر واضح.. إن الرسوم التي تباع لا علاقة لها بلوحاتك. بل ستكون تقليداً لبعض لوحات رسامين مشهورين.. وسأضع عليها تواقيعهم .
احتجاج صامت انتصب على سحنتي.. في دواخلي قلت إنه رجل نصاب ومزور.. فكرت في الانصراف.. لكنني تمالكت نفسي.. حاولت الحفاظ على هدوئي.. حينذاك أضاف الرجل وقد شجعه صمتي على ما يبدو:
- الأمر في غاية البساطة.. أنت ترسم وأنا أبيع.. إذا كنت قادراً على تنفيذ هذه المهمة، فيمكنك من الآن أن تأخذ مبلغاً من المال مقدماً.
أذناي عجزتا عن تصديق ما ينطق به هذا الرجل.. أإلى هذا الحد يمكن للصدف أن تلعب دورها في حل أزمتي المالية.. حدثت نفسي بنوع من الخبث "ماذا لو أخذت المال من الرجل واختفيت؟".
وكأنه يقرأ أفكاري، أردف قائلا :
- يا صديقي إذا عزمت على إنقاذ نفسك فالحل بيدي، من اللحظة يمكنك الذهاب إلى أقرب محل للنسخ... أحضر لي نسخة من بطاقتك الوطنية، ووقع لي على ورقة تضمن التزامك بالمبلغ، وليبدأ عملنا المشترك.
- " لعين" قلت في نفس.. إنه رجل محترف، يفكر في كل شيء.. حينذاك تنازعتني هواجس شتى.. ماذا لو تم القبض عليه يوما.. ألست شريكه في الجريمة؟.
قاطع الرجل حبل أفكاري قائلا :
- كن مطمئنا، فلست أول ولا آخر من يقوم بهذا العمل.. لدي دونك الكثيرون.. السوق يتسع يوما بعد يوم، ويتطلب المزيد، لذا أفكر في توسيع أعمالي.. أما إن رفضت القيام بهذه المهمة، فأنت حر.. لكن ثق بي، فلن تظفر بفرصة مماثلة.. أنا أعرف وضع البلد جيدا.. لحظتها وجدت نفسي أفكر في الأمر بجدية، مع نوع من الاحتراس.. طلبت من الرجل أن يمنحني فرصة للتفكير.. لم يجادل في رغبتي هذه.. وقبل أن أودعه، أخرج من جيبه ورقتين نقديتين محترمتين.. قدمهما لي بكثير من الاحتفاء.. رفضت تناولهما.. لكنه أصر على ذلك مخاطبا إياي بلهجة ودية، فيها الكثير من الصدق:
- لا تخف شيئا.. إنها مجرد هدية، لن تلزمك بشيء.. وحين نبدأ العمل وتتقاضى أجرك، يمكنك إرجاعها لي. حين أمسكتهما تبين لي أن معهما بطاقة صغيرة تتضمن اسمه وعنوانه.
غادرت المقهى وأنا أنوس بين عوالم متناقضة.. لأول مرة أجد نفسي في موقف دقيق، لا أحسد عليه.. استرجعت بكثير من الدقة الحوار الذي دار بيني وبين الرجل.. بكثير من الألم لاحظت أنني أبدا لم أفكر في المبادئ خلال محادثتي معه.. لم يتطرق ذهني مطلقا إلى أن ما سأقوم به مخالف لكل القيم التي أومن بها.. فقط كان كل همي منصبا على الخوف من الوقوع في يد الشرطة إذا ما وقع الرجل يوما في يد العدالة.. جحيم من الأحاسيس اخترقني وأنا أتعثر بخطواتي المتعبة على الرصيف.. السيارات تزحف بطيئة في هذا الشارع المكتظ.. أضواء المساء الخافتة ألقت بأشباحها الحزينة على المدينة.. في نقطة ملتقى الشارعين وقف شرطي بزيه الرمادي، ينظم حركات المرور.. أعداد غفيرة من الراجلين يذرعون الرصيف جيئة وذهابا.. كنت أحس بنفسي ضئيلا تافها، تتقاذفني أيدي القدر، الوجوه أمامي متشابهة، لا يكاد يميزها عن بعضها شيء.. في لحظة توهمت أن كل الناس يعرفون حكايتي مع الرجل.. يحدجونني بنظرات قاسية، تجلدني بلا رحمة.. اللقاء استبد بي.. تملك كياني.. شبح الرجل يتراقص بين عيني.. عباراته الواثقة يتردد صداها في مسمعي.. كان لا بد أن أتخذ قرارا.. أحسست حقا أنني إزاء محك حقيقي.
نظر إلي الرجل نظرة فاحصة مستكشفة.. التردد لا يزال يكبس على أنفاسي.. لا أملك إزاءه أمرا.. لكن لزاما علي أن اتخذ قرارا.. وكأنه يشجعني على حسم أمري قال لي مخاطبا:
- كل شيء معد في المرسم.. ما عليك سوى أن تحسم أمرك وتبدأ. فاجأني هذا الإصرار من الرجل.. لم أنا بالتحديد؟.. أوحى لي ذلك بشيء من عدم الثقة.. مرتبكا أخرجت بعض لوحاتي.. بسطتها أمامه.. ألقى نظرة سريعة على الرسوم، وهو يزين وجهه بابتسامة عريضة، أحسست في دواخلي بأنها غير صادقة. وبلهجة متفاخمة قال:
- عظيم.. عظيم.. سوف يكون تعاملنا جيدا.
جمعت لوحاتي بكثير من العناية والهدوء.. عقلي لا يستقر على حال.. التزمت الصمت، ثم ما لبث الرجل أن انتفض قائما.. لم يكن بد حينئذ من أن أحذو حذوه.. قمت، ووقفت بجانبه، منتظرا أن أقتفي خطواته.. دلف نحو باب لم أنتبه إليه من قبل.. فتحه، دخل.. ترددت قليلا.. التفت نحوي، ثم بكلمات مرحبة:
-تفضل.. ادخل.
دخلت، فإذا بي أجد نفسي في قاعة فسيحة، زينت جدرانها بأعداد كثيرة من اللوحات.. بعضها تعرفت عليه بسهولة.. أما البعض الآخر فكشف عن جهلي الكثير من أعمال الفنانين المشهورين.. بزهو عرض علي الرجل معرضه السري.. منبهرا تتبعت اللوحات.. جمالها سلب لبي.. ودون تردد سألته: -هل هي لوحات أصلية ؟
ابتسم الرجل ابتسامته المعهودة، وكأنه أحس أخيرا بالظفر الذي كان متأكدا من الحصول عليه.
-إنها لوحات مقلدة.. ما رأيك ؟
اقتربت من اللوحات أكثر.. الحقيقة أنني عجزت أن أميز ما إذا كانت اللوحات حقيقية أم مستنسخة.. درجة المحاكاة قوية، بحيث يمكنها أن تشوش على أي إنسان مهما كانت قدرته على التمييز.. الدهشة تتربع على محياي.. الرجل يرمقني بطرف عينيه.. بدا على ملامحه أنه يستمع بالبلبلة التي سببتها لي اللوحات.. لذت بالصمت، وأنا أحاول تتبع خيط ما يوصلني إلى الحقيقة.. كرر سؤاله:
- ما رأيك ؟
عجزت عن تكوين فكرة واضحة.. بدت على وجهي سيماء الاستسلام، أجبته:
- لا أحد يستطيع أن يتأكد أن هذه اللوحات مجرد نسخ مزورة.. قلت ذلك وأنا أنقل بصري بينه وبين اللوحات.. نظر إلي نظرة المنتصر، وبلهجة واثقة رد علي..
- لكنني أنا أستطيع ذلك.. لهذا أخبرتك من البداية أن الأمر محكم الترتيب.. زد على ذالك أن أكثر زبنائنا لا يفقهون شيئا في الفن.. هم فقط يقتنون اللوحات من أجل تزيين بعض محلاتهم التجارية، لتعطي إحساسا بالفخامة للزبون، فيمثل صاغرا لما يطلب منه.. هناك أصناف من الناس تدفع أكثر بسبب هذه المكيدة .. إذن لا خوف كما ترى من عواقب عملنا.
كلام الرجل بعث في نفسي بعض الاطمئنان.. اللوحات من جانبها ساهمت في تقبلي الأمر، والنظر إليه من زاوية مختلفة..
حين وصلت إلى البيت، دون تباطؤ دخلت غرفتي.. ضغطت على زر آلة التسجيل، فانطلق في الغرفة أنغام ناس الغيوان، خففت الصوت.. ثم شرعت في تقليب الموضوع من جميع جوانبه.. كاد التردد، أكثر من مرة، يحفزني للتخلي عن هذه المغامرة المجهولة العواقب.. لكنني كنت مضطرا إلى التعلق بهذه القشة حتى أنقذ نفسي من براثن البطالة والتسكع في الشوارع.. طرقات على الباب انتشلتني من شرودي.. أطل وجه أمي بسيمائه الهادئة: هل تأكل شيئا ؟
- نظرت إليها بمحبة زائدة، ثم قلت لها:
-لا رغبة لي في ذلك.
دخلت إلى الغرفة.. أخذت تجمع بعض ملابسي المبعثرة على امتداد الأرضية، ثم قالت:
-ألا زلت لم تتعود على ترتيب غرفتك بنفسك.. لقد أتعبتني يا ولد.
جلست في وضع مقابل لي، ثم أخذت تطوي الملابس بطريقتها المعتادة، التي تبعث في نفسي كثيرا من البهجة.. يداها المدربتان والهادئتان تتملكان انتباهي.. على حين غرة تسألني بنوع من الاحتجاج المبطن:
-ألم تجد أي شغل بعد ؟
أتأفف من هذا السؤال .. ثم أتصنع الغضب.. تقف أمي.. تمضي بخطوات هادئة تفتح الباب، وقبل أن تخرج تخاطبني بلهجة مستسلمة:
-الله يهديك يا ولدي.
غيرت ملابسي.. ثم غادرت البيت.. دون تباطؤ توجهت نحو المكان الذي اعتدت اللقاء فيه بمنى.. كالعادة كان علي الانتظار بعض الوقت حتى تظهر بملابسها الرجالية، التي تجعل منها فتاة غير مشتهاة.. رأيتها من بعيد، تحمل في يدها اليسرى كتابا.. شعرها القصير يمنحها سيماء فتاة متحررة.. بخطواتها السريعة تقدمت نحوي.. حييتها كالعادة، ثم انخرطنا في مشينا، نخترق الأزقة تائهين، لا نعرف لنا وجهة.. فقط كانت أقدامنا تمضي بنا أنى شاءت.. منشغلا كنت لا أزال باللقاء.. لاحظت منى اقتصادي في الكلام.. إذ لم أكد أقول شيئا ذا بال.. سألتني بسخريتها المعهودة :
-هل مات أحد ما ؟
حس السخرية الطافر من سؤالها استفزني.. تجاهلته، وظللت منكفئا على ذاتي، متحصنا بصمت ثقيل.. لحظتها طرحت علي سؤالا مباشرا :
-ماذا بك ؟ أراك منشغل البال.
فكرت لحظة، ثم حدثت نفسي قائلا: " لا بأس من إخبارها.. ربما ساعدني ذلك على اتخاذ القرار الصائب ".
صمتت برهة ثم قلت لها :
- لقد حدث لي أمر غريب.
رغبة مني في إذكاء الفضول في نفسها لم أضف كلمة واحدة.. انتظرت أن اختبر وقع كلماتي عليها.. فطنت إلى لعبتي، فأرضت غروري.. وبكلمات مستفهمة قالت :
- أخبرني ما الأمر الغريب الذي حدث، لقد شوقتني.
أمسكتها من يدها.. توجهنا نحو أحد الكراسي الإسمنتية في حديقة لا يكاد يزورها أحد.. جلسنا متقاربين، ثم واصلت حديثي.
-التقيت أحدهم في المقهى، وعرض علي شراء لوحاتي.
بسرعة عقبت قائلة :
-مبروك يا سيدي.. وما الغريب في الأمر.. ألم تنتظر ذلك زمنا طويلا ؟
في دواخلي فكرت أن أكتفي بما أخبرتها به حتى الآن.. قلت في نفسي متراجعا عن قراري " إنها لا بد ستفطن إلى الأمر. وقد يذهب ذهنها مذاهب شتى، أنا في غنى عنها " فأردفت قائلا :
-هذا جزء مما وقع.
عقبت مستفسرة :
-الجزء الآخر أين هو ؟
بشيء من الغموض أجبتها :
-الحقيقة إن الأمر لا يتعلق بلوحاتي.
علامات الاستغراب لاحت على ملامحها.. صوتها طاله بعض التهدج، فاكتسب بحة تصيبها دوما حين تنفعل.. قالت متسائلة :
-هل الأمر يتعلق بلغز.. لم لا تخبرني مباشرة بكل شيء؟
أجلت نظري من حولي.. الحديقة هذا المساء فارغة من البشر.. بدت لي كئيبة وجميلة.. الأشجار الشديدة الخضرة تخضبت ببعض السواد.. برودة خفيفة تتسلل إلى الجسد، تذكره بقوة الوجود، من بعيد لاح لي بعض المتشردين يلتفون حول بعضهم.. في نفسي قلت:
" إنهم يتحلقون حول القنينات إياها.. الكحول ممتزج بالمشروبات الغازية ".. بعث ذلك في نفس بعض التوجس.
التفتت إلى منى.. رأيت على وجهها علامات الانتظار.. أعجبتني هذه الحيرة المعلقة في عينيها.. إنها تبدو، بحيرتها، أجمل.. وكأنها طفلة يلفها الفضول، مستعدة لأن تدفع حياتها ثمنا من أجل أن تعرف كل شيء.. أبعدت نظري عنها، ثم قلت، وقد تعمدت إثارتها:
-القضية، يا سيدتي-فخمت كلمة سيدتي التي يعجبني مناداتها بها- فيها نوع من التزوير.
ازدادت الدهشة اتساعا على سحنتها.. فيما ارتسمت على مبسمي ابتسامة ماكرة.. لقد استطعت أخيرا أن ألعب بعواطفها كما أشاء.. لقد سقطت في المصيدة التي نصبتها لها، وهي الآن مستعدة لتقديم روحها ثمنا لتعرف ما حدث.. لكم تعجبني هذه الحيرة على وجهها..حينها فكرت في مشاكستها، فقلت:
-لم لا تدعينا من هذا الموضوع؟.. الأمر لا يستحق كل هذا الحديث.
علامات الاحتجاج أطلت من حدقتي عينيها، وبتسرع فاضح ولهجة منفعلة خاطبتني قائلة :
-لا، أبدا.. ليس هناك أهم من ذلك.. لا بد أن تخبرني.
حالة من الانتشاء استبدت بي، وأنا أرى كل هذا الإصرار الذي اكتسحها.. إنها في حالة تعز عن الوصف.. نظرت إلي نظرة متفحصة.. لمحت على سحنتي بقايا ابتسامة، تشي بمدى اللذة التي أشعر بها، وأنا أشاكسها بتمنعي ومماطلتي في إخبارها.. فطنت إلى اللعبة التي ألعبها معها فقالت :
-نعم سيدي.. إنك ترغب في تعذيبي.. لقد تحقق لك ما تريد.. أنا اللحظة في غاية الشوق لمعرفة ما حدث.. هذا يرضي أنانيتك.. إذن أخبرني أرجوك، وكفاك مماطلة.
مرتبكا حملقت فيها ثم أجبت.
-لا، أبدا .. كان في نيتي منذ البداية أن أخبرك بكل شيء.. بل بتفاصيل التفاصيل.. لكنني خمنت أن الأمر لا يستحق.
تملمت في جلستها، وكأنها غير مصدقة ثم قالت :
-بل الأمر يستحق، وأنا مصرة على معرفة كل شيء.. وكما قلت تفاصيل التفاصيل.
اتخذت هيئة من ليس في عجلة من أمره، مستعدة للاستماع.. أثار انتباهي جماعة السكارى، الذين يبدو أن مفعول المشروب بدأ يسري في أجسادهم وعقولهم.. قلت لها معقبا:
-لن يمضي زمن طويل حتى يتعتع هؤلاء السكر.. لم لا نغير هذا المكان ؟
مصرة ومتحدية قالت:
-أبدا لن نغير هذا المكان حتى تخبرني بما لديك، أو على الأقل بالخطوط العريضة، وفيما بعد يمكنك أن تحكي لي التفاصيل كما تشاء.
أعرف جيدا أنها عنيدة، وأبدا لن تتنازل عن رأيها.. فقررت أن أوجز لها الموضوع في بعض الكلمات:
-الرجل يا سيدتي، يريدني أن أقلد بعض اللوحات، يتكفل هو بوضع تواقيع مزورة عليها.
من جديد علقت الدهشة على ملامحها.. عقبت قائلة :
-وكأن الأمر يتعلق بشريط سينمائي.
ودون أن تترك فرصة للصمت ليمتد بيننا، أردفت:
-تابع، ماذا بعد ؟
اصطنعت الاستغراب، وأجبتها :
-ماذا بعد ؟ لا شيء طبعا.. هذا كل ما في الأمر.
وكأنها فطنت لتهربي من الإجابة على سؤالها، ألقت دون مواربة سؤالا محددا :
-وأنت ماذا كان ردك ؟ هل قبلت ؟
ماطلت قليلا.. وكأنني أفكر في الموضوع بكل حواسي، لذت محتميا بالصمت.. طرحت جزءا منه في الفضاء.. نظرت إليها.. كان بصرها مستقرا على وجهي.. لا تكاد تطرف لها عين.. ثم قلت بلهجة توشك أن تكون درامية :
-أنا ؟.. الحقيقة، لم أتخذ قراري بعد.
أعرف حق المعرفة نزوعها نحو المبادئ.. أحلامها دوما مثالية.. هي لا تفتأ تطرز بها لقاءاتنا، وكأنها تنتمي إلى عالم آخر.. أردفت قائلة:
-هل الأمر يستحق التفكير ؟
اصطنعت عدم الفهم، وسألتها:

-ماذا تقصدين ؟
ظهر الغصب على محياها.. رمقتني بنظرات شرسة.. وكأنها تحاصرني في زاوية ضيقة، قالت :
-ترفض طبعا.. هذه جريمة لا يمكنك المشاركة فيها.. هي بالتأكيد ضد الأخلاق والقانون.
وكأنها بكلامها هذا فتحت لي بابا للنجاة.. رددت عليها قائلا":
- عن أية جريمة تتحدثين يا سيدتي ...من يحفل بوجودنا أصلا. إن الرجل أخبرني بأن الكثير من الفنانين يقومون بهذا العمل ...إنها فرصة أتيحت لي للانعتاق، فكيف أضيعها؟..أنا لن أشارك في أية جريمة بقيامي بهذا العمل...الجريمة هي أن أظل هكذا أتسكع في الأزقة دون عمل ..إنني يوما بعد يوم أدنو من حالة يصعب العودة منها، هذا الرجل لا يهمني عمله في شيء ..أنا فقط أريد أن أرسم، ويعود علي هذا الرسم بدخل أستطيع من خلاله أن أحيا ..هل يعجبك هذا الحال الذي أنا عليه ..ربما لأنك فتاة لا تشعرين بنفس ما أشعر به..كيفما كان الأمر، فنحن في مجتمع لا يزال يعتبر المكان المناسب للمرأة هو البيت، فإن لم توفق في الحصول على العمل، فلا أحد يلومها ..الكل يبرر وضعها ..فهي عاجلا أو آجلا سوف تتزوج، وحينذاك يتكفل بها زوجها..أما أنا،فليتك ترين السياط التي تجلدني كل يوم..أرى الشماتة في عيون كل معارفي ..بل والاحتقار في عيون البعض..
حين بلغت هذا الحد من الكلام قاطعتني قائلة:
-أنت الآن، وبكل بساطة تبحث عن مبررات تسيغ لك القيام بعمل قذر ولا أخلاقي ..هو بكل تأكيد يتعارض مع المبادئ التي ظللت دائما تؤمن بها .. وأنا بكل بساطة لست مستعدة لأساعدك في إيجاد هذا المبرر..أعرف جيدا أن المرء لا يقوى على القيام بعمل من هذا القبيل إلا إذا وجد له مبررا يقيه وخز الضمير ..وهذا بالضبط ما تحاول القيام به الآن..كل ما قلته الآن يبرهن بأنك لازلت بخير..لكني أنصحك بأن تقصي الأمر كله عن تفكيرك..فالصعوبات لا تحل بهذه الطريقة ..لابد من الصبر والمكابدة..لاسبيل لك سوى البحث الجدي والعقلاني على حل للمشكلة..أما أن ترتمي أمام أية فرصة كيفما كانت.. فهذا يعني أن المبادئ التي تؤمن بها ليست حقيقة ..أنت الآن على المحك،وسنرى مدى مقاومتك.
قاطعتها قائلا:
-وضعي يا سيدتي أعقد من ذلك بكثير...هذه الكلمات التي تطلقينها في الهواء دون رقيب أو حسيب لن تحل مشكلتي..إنك لم تمتحني يا عزيزتي.
بانفعال ردت:
من يقول هذا الكلام؟..أنت الذي تعرفني حق المعرفة.. ألم أمتحن حين عرض على الزواج من رجل تتمناه كل فتاة ..ولأنه إنسان جاهل ولا يناسب شخصيتي وطموحي ومبادئي رفضته.
بنوع من السخرية رددت عليها:
-ليس ذلك بامتحان حقيقي يا عزيزتي.. أنت لا تزالين في ريعان الشباب..إن ضاعت فرصة،حتما ستأتي فرصة أخرى.. أما أنا ففي مرحلة أصبحت فيها عاجزا عن الاعتماد على غيري..
في المرسم كل شيء معد بإتقان..ما إن يجد المرء نفسه داخل هذا الفضاء حتى تنفتح نفسه للإقبال على الرسم ..باشرت العمل بحماس. أمامي لوحة رسام هولاندي مشهور ..أتأمل فيها بكل ما أملك من هوس.. أحاول أن يكون تقليدي لها متألقا.. إنها تجربتي الأولى، ولابد أن تنال استحسان السيد حسن ..أبدا لن أسمح لنفسي بالفشل ..كل هواجسي وانشغالاتي الذهنية طردتها بعيدا..لزاما أن يصل ذهني إلى حالة قصوى من الصفاء ..يجب أن أتقن عملي بكل ما أملك من حب وشغف للفن..فجأة انفتح باب المرسم.. حانت مني التفاتة.. رأيت الرجل بأناقته المعهودة..ابتسامته الرحبة تستلقي على شفتيه ..لا أدري كيف اكتسحني إحساس أن الرجل يعاني من مس من شذوذ ربما سلسلته الذهبية على صدره أوحت لي بذلك.. أو طريقة ابتسامته.. إن في هذا الرجل شيئا غريبا،لست متأكدا منه ..تقدم نحوي بكثير من الاحتفاء، ثم ما لبث أن قال بلهجته المتصنعة.
-عظيم..عظيم..ها نحن قد بدأنا.
رددت عليه بابتسامة متحفظة..وجوده أمامي أحيا هواجسي.. لحظة واحدة فقط كانت كافية لأحييه وأنهمك من جديد في عملي.. ظل الرجل يحوم حولي"وهو لا يفتأ يعبر عن إعجابه بما تخطه يداي.. أحسست أن في كلامه كثيرا من النفاق، ضاعف من توجسي منه..
الباب يفتح من جديد.. استرقت النظر نحوه، فإذا بشابة في مقتبل العمر تدخل المرسم .. ملابسها خفيفة وأنيقة ..توجه السيد حسن نحوها ببشاشة..
- أهلا أهلا ..ماذا جاء بك الآن؟
تقدمت نحوه بكثير من الابتهاج..حضنها في صدره..طبع قبلة على وجنتها.. وكأنه انتبه فجأة إلى وجودي ..أمسك الفتاة من يدها وبلهجة احتفالية قال لي:
-أقدم لك ابنتي هدى ..إنها تدرس فن الرسم في فرنسا.
ثم التفت إليها:
-وهذا الرسام الجديد، إنه فنان أصيل. ثم بحركة استعراضية:
-آه ذكرني باسمك.
بقليل من الاهتمام أجبته:
-يوسف.
نظر إلى الفتاة،ثم ضرب جبينه براحته، و قال:
-آه يوسف ..أصبحت أنسى كثيرا في المدة الأخيرة.. أقدم لك يوسف..
مدت الفتاة يدها نحوي.. أمسكتها بلطف سحبت يدها وأخذت تحوم حولي وأنا أرسم..ثم قالت بلكنة فرنسية أنيقة: C’est fantastique
داهمني بعض الخجل..حرارة جسدي ارتفعت قليلا خفضت عيني إلى أسفل، ثم انهمكت من جديد في عملي.
-هيا ..يجب أن ننصرف لنترك يوسف لعمله..إنه في حاجة إلى الهدوء والتركيز.
قبل أن يغادرا المرسم، رمقتني الفتاة بنظرة زئبقية، يمتزج فيها الإعجاب، بشيء لم أتبينه جيدا .. اختطفت نظرة نحوها قبل أن يبتلعهما الباب.. حين اختفيا عن بصري، توقفت عن الرسم..جال في ذهني كثير من الأفكار المتضاربة ..ثم ما لبثت أن تخلصت من شرودي واندمجت في أجواء الرسم.
مساء كان موعدي المعتاد مع منى.. من بعيد أراها قادمة بخطواتها العجلى.. على الرصيف حركة دائبة ..الناس يغادرون مقرات عملهم، ليلتحقوا بمنازلهم بعد يوم من التعب..كانت منى كعادتها ترتدي لباسا رجاليا..سروالا من نوع "الجينز"وسترة سوداء.. خصلات شعرها القصير تمنح الرائي انطباعا بالخفة والحيوية ..حين رأتني علقت على شفتيها ابتسامة ، لا تكاد تعلن عن نفسها..ثم خفضت رأسها..حاولت أن أمنحها انطباعا
بالشرود..تلامس خدانا ثم مضينا في طريقنا دون أن ننبس ببنت شفة.. فجأة ودون مقدمات خاطبتني قائلة:
- يجب أن لا أتأخر كثيرا
تجاهلت ملاحظتها، وغرقت في غور ذاتي ..وكأنني وحيد لا يرافقني أحد. حين انتبهت إلى صمتي قالت معلقة.
-لازلت مشغول البال.لم تحسم الأمر بعد؟
متظاهرا بعدم الفهم سألتها:
-أي أمر؟
دون أن تنظر إلي قالت:
-أنت تدري جيدا ما أقصد.
كنا في هذه اللحظة أمام واجهة المقهى التي اعتدنا ارتيادها.. مقهى "سيسليان".. مقهى أنيق، ويوحي بالفخامة ...أخذنا مكاننا على منضدة منعزلة ...جاء النادل..طلبنا قهوة سوداء، ومشروبا غازيا.. المقهى يعج بالرواد ..أكثرهم شباب في أبهى لحظات العمر..ملابسهم تشي بمدى الرخاء الذي ينعمون به.. كنت أشعر بنفسي غريبا وسط هذا الجو.. في أعماقي أحس بأنه مكان لا يناسبني.حين أتفرس وجوه بعض الرواد، وطريقة حديثهم يداهمني حزن عميق ..إنهم يبدون لي بدون معاناة ولا مشاكل من النوع التي أعاني منها.. على ملامحهم يرى المرء ذلك النوع من الرضى عن الذات الذي تولده في النفس انتفاء الحاجة ..هم بلا ريب أبناء أناس أثرياء.. مشاكلهم المادية محلولة ، ولا تكبس على أنفاسهم مثلي ..أتحصر في صمت ..نظرت إلى منى نظرة تحمل معاني متعددة .. تجاهلتها.وغصت من جديد في بحيرة صمتي.. لكنها انتشلتني بسؤالها الاحتجاجي:
-وماذا بعد؟ أراك صامتا كتمثال.
اختلست النظر إلى عينيها الحائرتين..ثم أبعدت بصري نحو الشارع أمامي.. لاحظت أنه لا يزال مكتظا بالمارة ..بدا لي وضعي بجانبها تافها.. لا يمكن أن أستمر على نفس الحال..لابد أن أخلق جوا من الألفة بيننا..حتما ستمل صمتي المقيت هذا ..وحتى أتدارك خطأي قلت لها .
-ليس هناك ما يستحق الحديث.
بيني وبين نفسي كنت قد عزمت على عدم إخبارها بما استجد معي من أحداث..
أخاف أن يتعقد الأمر أكثر.. أبعدت منى خصلة من شعرها القصير عن جبينها.. أمسكت زجاجة المشروب..أفرغت بعضه في كأس.. وضعت الزجاجة على المنضدة..حضنت الكأس براحتيها..ثم أحنت رأسها نحوه أمسكت المصاصة بشفتيها اللتين حرصت على تزيينهما بأحمر شفاه باهت، لا يكاد يعلن عن نفسه ..ارتشفت بأناقة جرعات من المشروب ثم قالت.
-ماذا قررت بالنسبة للعمل الذي عرض عليك؟
أحسست ببعض التوتر ..أخرجت سيجارة من العلبة التي وضعتها أمامي.أشعلتها ..عمدت إلى كأس القهوة ..وضعت حافته على شفتي. دون أن أكون متأكدا من أنني ارتشفت منه شيئا، ثم قلت:
-دعينا من ذلك ..أخبرتك أن لاشيء يستحق الحديث.
لا أدري كيف حدست منى بأنني أخفي شيئا...اصطنعت الغضب ..بدا ذلك واضحا على أسارير وجهها التي انقبضت، ثم ردت علي:
-تهربك من الموضوع لا يقنعني. يبدو أن شيئا طارئا قد حدث ..
هكذا على حين غرة انفجرت في وجهها:
-ما الذي ترغبين معرفته؟نعم..لقد ذهبت عند الرجل إلى بيته، وبدأت العمل.
التزمت الصمت برهة ..كنت بادي التوتر، أحاول إعطاء الانطباع بعدم الرغبة في مواصلة الحديث في الموضوع ..صمت ثقيل ران علينا معا.. أحسست بوطأة الألم الذي سببته لها بكلماتي الجافة والقاسية..حاولت تخفيف الأجواء،فقلت لها بلهجة مداعبة:
-إنك تضخمين الأمور.
رمقتني بنظرة جانبية، ثم قالت: - أبدا.. أنت تعرف أنني لا أفعل ذلك.
الفضول أخذ من جديد ينهش دواخلها ..حاولت أن تكون هادئة،ثم رجتني قائلة:
-أرجوك.. احك لي كل شيء بالتفاصيل..كيف ثم ذلك؟
حينها اغتنمت الفرصة وعلقت عليها:
-ألم تكوني مستعجلة؟.. أخبرتني بأنك تودين المغادرة باكرا.
ابتسمت ابتساماتها الطفولية الجميلة، ثم قالت:
-نعم مستعجلة.. لكن ذلك لن يمنعني من الإنصات لما حدث.
بنوع من البرود المصطنع رددت:
-لاشيء طريف في الموضوع ..قصدت بيت الرجل وهناك بدأت العمل.
علامات الانفعال طفرت من ملامحها ثانية:
-بيته؟
-نعم بيته.. ماذا في الأمر؟
وكأنها فطنت إلى تسرعها عقبت قائلة:
-لا لا شيء.. لكن من المفترض أن البيت ليس ورشة عمل.
أجبتها بكثير من الثقة في النفس:
-في بيت الرجل مرسم لائق..هو في الحقيقة جناح مستقل..يكاد لا ينتمي إلى البيت.
ركزت بصرها علي ثم قالت بدهاء:
- حقا لقد شوقتني..وهل لهذا الرجل أبناء؟.
في نفسي خمنت ما يجول بخاطرها..إنها تفكر في شيء محدد، دون أن تقوى على ذكره ..أجبتها:
-أظن أن له بنتا واحدة..لقد قدمها لي، ولا أدري إن كان لها إخوة.
دون تباطؤ سألتني:
-هل رأيتها؟
أجبتها بنوع من السخرية :
-ألم أقل لك إنه قدمها لي..؟
أعرفها جيدا..إنها لن تفوت الفرصة للانقضاض علي..وبلهجة تمتزج بالسخرية والمرارة أردفت قائلة:
-الأمور بدأت تتطور..وبالطبع أنت لا يهمك سوى العمل.
فهمت قصدها..لكنني افتعلت الغضب:
-ماذا تقصدين؟..لا يعجبني تلميحك هذا.
بكثير من البراءة أجابتني:
-أبدا، لا أقصد شيئا أفكر فقط أن الفتاة قد تكون فرصة مواتية لك للتخلص من الفقر.
أحسست حينذاك بغضب حقيقي فرددت على قولها:
-إنك تقولين كلاما لا يحتمل.. انتبهي إلى عباراتك.
بسرعة أردفت:
-ولم أنت غاضب؟ ..أنا لا أقصدك شخصيا ..أنا أتكلم بشكل عام.
التزمت الصمت برهة ثم أجبت:
-إن الفتاة تدرس الفن في أروبا، وهي الآن في إجازة..ولا أظنها ستفكر في شخص مثلي.
أجالت منى بصرها في فضاء المقهى ..وضعت وجهها الصغير بين راحتيها، ثم ما لبثت أن أمسكت الكأس..ارتشفت جرعة خفيفة..فجأة اكتسبت ملامحها بسيماء الصرامة والجدية، ثم قالت كمن حسم أمره:
-اسمع يا يوسف سأحدثك بكلام يجب أن تستوعبه جيدا..هناك أمر لابد أن تفكر فيه بشكل جدي .. إما أن تبتعد عن طريق ذلك الرجل، وإما أن تكف عن الاتصال بها.
منى وحيدة والديها..أبوها رجل تعليم قضى في مهنته مدة تربو عن الثلاثين سنة، وهو الآن يضع رجلا في الفصل وأخرى في التقاعد..ابنته الوحيدة تشربت كثيرا من كلامه وخصاله..المبادئ الكبرى كانت محركه في الحياة..كل عمل يقوم به لا بد وأن يكون له ارتباط بمبدأ ما حتى وإن كان عملا عاديا..كثيرا ما كانت منى صدى لأفكاره، حين تحدثني ألحظ تماهيها مع أبيها الذي يشكل بالنسبة إليها قدوة لا مثيل لها ..فقلما يخلو حديثهما من الدفاع على المبادئ والأفكار الضاربة بعمقها في الحق والواجب والعدالة الاجتماعية.
منى دائمة الفخر بماضي أبيها النضالي.. وحين تتحدث عن ما جناه أبوها في مساره الحياتي كان يعجبها أن تردد: " كلما أراد أبي أن يقف على حصيلته، لا يجد أمامه سوى شقة لازلنا إلى اليوم ندفع كرائها، وشعر اشتعل شيبا، وأمراض تبدأ بألم المفاصل وتنتهي بأعصاب متوترة هائجة، ومع ذلك لقد عاش رجلا شريفا.. ويكفيني ذلك فخرا " ..
تعرض أبو منى لتعسف النظام.. لقد أوقف عن العمل لمدة ثلاث سنوات، عانى فيها من الحاجة والمهانة .. ففي سنة واحد وثمانين وتسعمائة ألف، دعت مركزية نقابية مرتبطة بحزب يساري كبير إلى إضراب عام عن العمل، شمل هذا الإضراب قطاعات كثيرة من الوظيفة العمومية وشبه العمومية، وجانب من القطاع الخاص، الاستجابة للإضراب كانت واسعة جدا، فالموظفون والمستخدمون كانوا قد وصل بهم وضعهم المادي والاجتماعي إلى الحضيض.. الغلاء كوى بناره الملتهبة قدرتهم الشرائية المتدنية أصلا، فازدادت تدهورا .. عرفت تلك الفترة من تاريخ المغرب توترا كبيرا بين النظام والأحزاب السياسية ذات المرجعية اليسارية، التي كانت تدعو إلى إصلاحات عميقة في نظام الحكم، ينقله من نظام مستبد إلى نظام ينعم بالمشاركة السياسية لكل الفرقاء السياسيين، بما يضمن توزيعا عادلا للثورة والتداول على السلطة .. تناقلت جرائد هذه الأحزاب الدعوة إلى الإضراب خاصة وإن قيادات النقابة الداعية إليه تنتمي إلى هذه الأحزاب .. كانت الاستجابة مبهرة، فأربكت النظام، وخاصة القطاع المسؤول على الأمن .. وفي مثل هذا الاحتقان الاجتماعي والسياسي، كان لا بد أن يخرج الأمر عن السيطرة، إذ استغلت الفئات الاجتماعية التي تعيش على هامش التركيبة الاقتصادية للبلاد هذا الوضع.. فانتفضت للتنفيس على مدى الحنق الذي يتملكها من دولة يساهم نظامها في خنقها بكل قوة .. خرجت جموع من المواطنين، واقتحمت المحلات التجارية، وأفرغتها من محتوياتها، ثم احتلت الشارع العام، وأوقفت حركة المرور .. تأجج الوضع أكثر، فعمدوا إلى إضرام النار في السيارات والإطارات، ثم أخذوا يرشقون بالحجارة كل ما يصدفهم .. استغل النظام حالة الفوضى، فأنزل قوات الجيش إلى الشارع مدججين بأعتى الأسلحة، وكأنهم في حالة حرب حقيقية. ثم ما لبثوا أن اشتبكوا مع المنتفضين.. لكن سرعان ما تدهور الوضع بشكل كارثي .. أفراد الجيش شرعوا في اقتناص المتظاهرين بالرصاص الحي، فقتلوا منهم عددا كبيرا .. وقد التجأ رجال الأمن إلى حيلة ذكية، حيث أنهم عمدوا إلى رش المتظاهرين بالمياه الممتزجة ببعض الأصبغة.. وذلك من أجل أن يسهل عليهم فيما بعد التقاط المتظاهرين واحدا بعد الآخر، بعد أن يقتحموا منازلهم .. فمن وجدوا على ثيابه تلك الصباغة، يثبت لديهم أنه كان من المشاركين في الانتفاضة، حتى وإن كان حظه العاثر قاده صدفة إلى مكان التجمهر أو كان مجرد متفرج، دفعه الفضول لتتبع تطور الأوضاع. اقتيد عدد كبير من السكان وخاصة من الشباب إلى مخافر الشرطة وثكنات الجيش، ومورس عليهم تنكيل لا مثيل له .. بعضهم فارق الحياة تحت التعذيب، وآخرون فقدوا عقولهم، وظلوا يحملون معهم فيما بعد جنونهم معهم، يذكر من وقع عليهم بصره بتلك الأحداث الأليمة. كان نصيب الموظفين، وخاصة أولئك المنضوين تحت لواء النقابة الداعية إلى الإضراب، التعذيب والسجن، ومن ثمة التوقيف عن العمل لمدد متفاوتة، حسب درجة المسؤولية التي يتحملونها في هيكلة النقابة. نال أبو منى نصيبه من ذلك، اعتقل ثم أوقف عن العمل .. ولم يتم إرجاعه إلى وظيفته إلا بعد مدة لا تقل عن ثلاث سنوات.
منى تحمل بين جوانحها اعتزازا كبيرا بأبيها.. حديثها لا يكاد يخلو من أفكاره وإخلاصه في عمله، والحيف الذي لاقاه من طرف النظام رغم ما يحمله من حب للوطن.
لقائي الأول بمنى كان في أحد المعارض.. حيث كان يقام معرض لفنانين تشكيليين يمثلون حساسيات مختلفة.. كنت أمر أمام اللوحات بهدوء وتأن .. أتوقف عند كل لوحة ما يكفي من الوقت لأكون فكرة متكاملة عنها، وعن مذهب صاحبها في الرسم.. المعرض ذلك الصباح شبه فارغ.. لم أهتم بأي شيء من حولي .. فقط اللوحات وألوانها استبدات بكياني.. أحاول أن أتبين أوجه الائتلاف والاختلاف فيما بينها... أسجل بعض الملاحظات في مذكرتي، خاصة أسماء الفنانين وانطباعات حول الألوان المستعملة في الرسم. فجأة رفعت بصري بشكل لا إرادي ...بجانبي فتاة قصيرة الشعر، على شفتيها ابتسامة طبيعية، وكأنها ابتسامة طفل...خفضت عيني كرد فعل طبيعي لعدم معرفتي المسبقة بها ..أحسست أنها تسترق النظر إلى ما أسجله على المذكرة ...اختلست نظرة نحوها، فالتقت نظراتنا.. ابتسمت، وعلى شفتيها كلام يكاد ينفلت من عقاله...ابتسمت لها، ثم عدت إلى مفكرتي...فجأة خاطبتني قائلة:
- هل أنت صحافي؟
- دون تردد أجبتها:
- لا ..
في عينيها لمحت بريقا، يلتمع عادة في أعين الناس الذين يتمتعون بالذكاء والحيوية، وتمور في أعماقهم براكين من الأسئلة..تأجج ملتهبة، ولا تأنف من الظهور معلنة عن نفسها حين تسنح لها الفرصة.
انشغلت من جديد باللوحة أمامي .. أحسست أن الفتاة ترغب في طرح مزيد من الأسئلة .. بطبيعتي أميل إلى الخجل والتحفظ تجاه الغرباء..فكرت أنها ستحرجني بمزيد من الأسئلة، فتحركت من مكاني.. لزمت الفتاة مكانها برهة، ثم برحته ببطء.. من جديد أجدها بجانبي تتطلع إلى اللوحة التي أحاول تتبع خطوطها وألوانها، لأتأكد من الاتجاه الفني لصاحبها.. من طرف خفي استرقت النظر إليها .. كانت ترتدي سروال "دجينز" وقميصا يتناسب مع لون السروال.. رقبتها تتميز ببعض الطول الملفت، مما جعل تسريحة شعرها تناسبها إلى حد كبير.. فكرت أن قصة شعرها متعمدة، لتبرز هذا الجيد الجميل .. نحيفة كانت، تميل إلى الطول .. اصطدمت نظراتنا ثانية، فابتسمت . ابتسمت أنا كذلك .. ثم قالت بما يشبه الكلام العام.
-في بعض الأحيان أكاد لا أفهم ما الجدوى من بعض اللوحات.
حاولت حينئذ أن أتقمص دور الخبير فقلت:
-المرء يحتاج إلى ثقافة تشكيلية ليفهم بعض اللوحات.
وكأنها فهمت كلامي كإهانة لها ردت:
-أنا، أمتلك بعض المعلومات، ولكنني أعجز أحيانا عن الفهم.
خطت خطوة نحوي .. أحسست بوجيب قلبي يرتفع .. ظللت جامدا في مكاني .. حين دنت مني، احتميت بطرح سؤال عليها:
-ما الذي لا تفهمينه ؟
أجابت بنوع من عدم اليقين:
-ينتابني إحساس بأن بعض الفنانين، هم أنفسهم يجهلون ما يقومون به.
فكرت قليلا ثم أجبتها:
-من الممكن أن يكون الأمر كذلك.
استلطفت إجابتي فأردفت:
-إذن ما الفائدة ؟
رمقتها بنظرة مضطربة، ثم قلت:
-لا نطلب دائما من الفن أن يكون ذا فائدة.
بدا عليها نوع من التفكير، سحنتها أوحت لي بذلك .. لاحظت بعض التوتر قد ارتسم على ملامحها، ثم ما لبثت أن قالت :
-لم أفهم .. إذا كان الفن لا يفيد الناس، فما قيمته، وما مبرر وجوده ؟
لحظتها فكرت أن ألم شتات أفكاري، وأجيبها بما ترسخ في ذهني من أفكار حول الفن التشكيلي ووظيفته، وما إلى ذلك مما أصبح دارجا على لسان كل مهتم بهذا الفن .. بيد أنني أحسست بأنني سأكون تافها وأنا أتقمص دور العارف الخبير .. حينها حسمت أمري وقلت لها :
-الكلام في ذلك يحتاج إلى وقت طويل.
وبجسارة لم أتوقعها منها قالت :
-أتسمح لي بإطلالة على ما تكتبه على أوراقك ؟
ترددت قليلا، ثم مددت يدي إليها بالمفكرة التي دونت فيها ملاحظتي .. ألقت نظرة متفحصة عليها، ثم قالت :
-إذن أنت خبير بالفن.
قاطعتها قائلا :
-لا أبدا .. فقط أنا هاو..
بسرعة أجابت:
-وما الفرق ؟
فكرت للحظات ثم أجبتها.
-الفرق أنني لا أسترزق من الفن ..أنا فقط عاشق لفن التشكيل.
على وجهها ظهر كثير من الاهتمام .. تحركت من مكاني، لأنتقل إلى لوحة أخرى .. رافقتني بنوع من الهدوء والتلقائية.
وهي تقف بجانبي تملكني لحظة بعض الشرود .. فقدت التركيز .. ثم ما لبثت أن وجدت نفسي منغمسا معها في حديث طويل .. أصبح مروري على اللوحات بدون جدوى .. لم أعد أسجل أي ملاحظات جديدة .. وصلنا إلى بوابة المعرض ..أحسست بنوع من الانجذاب نحو الفتاة .. في الخارج كان الجو منعشا، وحركة المرور واهنة .. الأشجار التي تزين باحة المعرض تحيي في النفس نشوة الحياة .. مشيت بجانبها صامتا، أفكر في الطريقة الفضلى للتعامل معها .. لا أدري كيف التفتت نحوها، وبجرأة سألتها :
- هل لديك فسحة من الوقت؟
- أجابت بسؤال ربما تعرف الإجابة عليه :
- لماذا ؟
أبعدت عنها بصري، ثم أجبت :
-يمكن أن نقضي بعض الوقت في المقهى، ونتم حديثنا.
صمتت قليلا ثم قالت :
-بشرط، أن لا نطيل المكوث فيه .. يجب أن أعود إلى البيت.
في الطريق نحو المقهى حاولت أن أبني في ذهني فكرة متكاملة حول الفتاة .. انشغلت بإيجاد المنافذ التي يمكن من خلالها التسرب إلى أعماقها، لأفهم أي نوع من الفتيات تكون .. مشيتها بجانبي توحي بكثير من الثقة في النفس .. قادتنا خطواتنا إلى حديقة الجامعة العربية .. على طول الممرات التي تحفها أشجار نخيل عملاقة، تتوزع كراس خضراء ..أكثرها يحتله طلبة يحتضنون كراريسهم الدراسية، منكبين عليها بكثير من الجدية والاهتمام .. في بعض الزوايا المحتجبة التقط بصري لفيف من المتشردين يتحلقون حول معشوقتهم الأزلية .. يحتسون الكحول بانتشاء الرهبان .. عمال النظافة يكنسون الأوراق الجافة المتساقطة على امتداد أرضية الحديقة .. يجمعونها بفتور، ثم يضعونها في عرباتهم الصغيرة .. وصلنا إلى مقهى " الفردوس " .. اقتعدنا كرسيين حول منضدة لا تبعد كثيرا عن الشارع، الذي يخترق الحديقة من منتصفها .. لفنا الصمت قليلا، ثم انخرطنا في حديث عام، عرفت من خلاله اسمها، وعرفت اسمي، ثم أخبرتني أنها طالبة في شعبة الاقتصاد .. استغربت اهتمامها بالفن رغم تخصصها العلمي .. في نفسي قلت لا بد أنها كانت تزجي بعض الوقت الضائع في المعرض .. لا يمكن أن يكون لها نفس لوعتي تجاه الفن .. ارتشفنا مشروبينا ببطء .. تحدثنا في مواضيع شتى.. كنت حريصا على أن أخلق لديها انطباعا جيدا نحوي .. صراحة لقد أحسست بكثير من الميل نحوها .. طريقة كلامها، وتأنقها في ارتشاف المشروب وخفة ظلها، كل ذلك أخذ تدريجيا يتسرب إلى سويداء قلبي .. في نفسي قلت " ما أجمل أن يقضي المرء حياته مع فتاة مثلها " .. بين لحظة وأخرى كانت تزين وجهها ابتسامتها الطفولية الجميلة .. ونحن نتبادل أطراف الحديث توقفت بجانبنا امرأة غريبة الأطوار.. حملقت في كلينا لحظة، ثم خاطبتني قائلة :
-أعطني درهما وأخبرك شيئا مهما.
حاولت تجاهلها، لكنها أصرت على طلبها، ظلت منتصبة أمامنا.
التفتت منى نحوي ثم قالت بلهجة مبتسمة.
-هل أعطيها أنا الدرهم ؟
أجبتها :
-لا لا، سأمنحها إياه .. ثم أدخلت يدي في جيبي، وأخرجت الدرهم .. وضعته في يدها أمسكته، نظرت إليه متفحصة ثم قالت :
-إنها فتاة تناسبك تماما، لم لا تتزوجها ؟
انسحبت المرأة، فيما انطبعت على شفتي منى ابتسامة خجلى .. شيعت المرأة بنظرات معادية، ثم قلت :
-إنها امرأة ماكرة ..
بحماس رددت منى :
-بل إنها امرأة مقهورة، تبحث عن وسيلة لاكتساب عيشها.
صمتت قليلا .. كانت منى تنظر بفرح حولها .. بين لحظة وأخرى كنت أسترق النظر إليها، أتأمل وجهها الصغير المتناسق الملامح، وفي قلبي ينبني صرح ما، خمنت أنني أبدا لن أستطيع هدمه مهما امتلكت من قوة ..
تململت منى في مكانها، فبادرت إلى سؤالها :
-هل تودين الانصراف؟
نظرت إلي بتحبب ثم قالت :
-نعم يجب أن نغادر المقهى الآن.
أديت ثمن مشروبينا، رافقتها نحو محطة الحافلة .. هناك افترقنا بعد أن تواعدنا على اللقاء بعد بضعة أيام.
غادرت البيت في الصباح الباكر .. بخطوات نشطة أمضي نحو محطة الحافلة رقم 35 .. حي الألفة الذي أسكن فيه هادئ هذا الصباح .. بقايا من الطل تبلل الإسفلت .. البيوت متشابهة متراصة في نظام بديع .. الشوارع الواسعة تذكي في النفس الإحساس بالحرية والانطلاق.. أناس يحثون السير نحو محطات النقل، ليستقلوا سيارات الأجرة أو الحافلات نحو مقرات عملهم بحي المعا ريف أو مركز المدينة .. المقاهي فتحت أبوابها لاستقبال رواد الصباح، الذين دأبوا على تناول فطورهم فيها .. كنت ممتلئا بالحماس بعد دعوات أمي لي بالتوفيق، فما إن أخبرتها بحصولي على العمل حتى انطبعت على وجهها سيماء الفرح .. كانت حريصة على أن أكون في أحسن الأحوال وأنا أتوجه إلى عملي .. أعدت لي الفطور بكثير من الحب .. جلست بجانبي وأنا أحتسي فنجان القهوة، وأقضم كسرات الخبز المدهون بالزبدة والمربى .. لم أخبر والدتي بتفاصيل العمل .. كنت خائفا من ردة فعلها .. هي بالتأكيد ستلح إن أخبرتها بطبيعة العمل – أن لا أغامر بمستقبلي وطمأنينتها..
انتظرت حلول الحافلة .. وما إن زحفت بجسدها المعدني الهائل نحو المحطة، حتى استعددت لأخذ مكاني في جوفها.. الزحام لا يطاق.. والناس يتنافسون من أجل الحصول على الأماكن المريحة .. لكن لا أحد في الحقيقة يمكن أن يظفر بالراحة في حافلة من هذا النوع.. وقفت في ركن على مقربة من زجاج النافذة .. تحركت الحافلة .. كنت أستشرف مستقبلي مع السيد حسن .. لا بد أن الأمور ستتطور .. وحتما سأحصل على فرصتي .. مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة .. مررنا من شوارع مختلفة .. حين بلغنا حي المعا ريف أخذت حركة المرور في الاختناق .. الحافلة تقطع طريقها بتثاقل مقيت، في كل محطة تتوقف .. تتقيأ أعدادا من البشر، وتزدرد أعدادا أخرى .. الناس هنا يمثلون كرنفالا متنوعا من المهن والوظائف .. أكثر الركاب فتيات يتوجهن نحو معامل النسيج بحي المعا ريف .. لا يتوقفن أبدا عن الحديث، والضحك..كنت منطويا على ذاتي، أفكر في العمل الذي ينتظرني.. اللوحة الأولى أوشكت على الانتهاء .. حتما سترسخ مكانتي عند السيد حسن .. بانتهائها سأحصل على أول أجر من عمل يدي .. أخيرا يتحقق حلمي في أن أعيش من الفن .. حين أفكر في طبيعة عملي المرتبط أساسا بتقليد لوحات الآخرين، بل وبتزويرها، يخترقني غم ثقيل، لا قبل لي على تحمله ..أبعد كل الهواجس عن نفسي .. أجد في التركيز في ما يتعين علي القيام به .. أنجح في ذلك نسبيا. لكن ما ألبث أن أشعر بألم ما يخترق صدري .. يمر بسرعة .. لكنه يخلف أثرا سيئا على نفسيتي.
حين وصلت الحافلة إلى المكان الذي أقصده، غادرتها، وحثثت السير نحو وجهتي كان كل شيء معدا في المرسم، أزحت الستار عن اللوحة التي أوشكت على نهايتها، ابتعدت عنها قليلا، تأملتها بكثير من التمعن، ثم قارنتها باللوحة الأصلية، بعث ذلك في نفسي كثيرا من الاطمئنان .. إنني أخطو بثبات نحو تأكيد ذاتي .. بدأت في العمل بحيوية ونشاط .. الألوان تستقيم أمام بصري بألق وتوهج .. بعد حين، اقتعدت كرسيا، أخرجت سيجارة .. بانتشاء دخنتها .. تتبعت خيط الدخان المنبعث من السيجارة .. كان يتطاير بنوع من الثقة في النفس .. فجأة سمعت طرقات على الباب .. ثم ما لبث أن انفتح .. أطل وجه السيد حسن .. كان بشوشا كعادته .. يرتدي قميصا مزركشا، يفتح أزراره العليا، وحول عنقه قلادة ذهبية ممتلئة .. تقدم نحوي باحتفاء .. حييته باحترام .. ألقى نظرة على اللوحة، فارتسم على وجهه نوع من الرضى، ثم خاطبني قائلا:
-حدسي لا يخيب أبدا .. إنك فنان موهوب.
التزمت الصمت، وأنا أتأمل اللوحة .. نظر إلي بابتهاج ثم قال :
-تستحق بعد هذا الانجاز أن تنال قسطا من الراحة.
اعتذرت له، متحججا بضرورة إنهاء العمل الذي بين يدي .. ابتسم ابتسامته المعهودة ثم قال :
-ثق بي، أنا أعرف الفنانين جيدا .. سرعان ما تكل أنفسهم وتكتئب .. لا بأس من وقت قصير لاستجماع الأنفاس والترويح عنها.
أمام إصراره وضعت الفرشاة جانبا .. وتبعت خطواته نحو الباب.
ضمتنا قاعة الجلوس .. جاءت الخادمة، تحمل صينية .. قدمت لنا كأسي القهوة ثم انصرفت .. كنت أجلس بمواجهة السيد حسن .. اللحظة أتأمله عن قرب .. بدا لي مختلفا بعض الشيء .. لا أستطيع تحديد طبيعة التغيير الذي طرأ عليه في نفسي قلت " هذا أمر عاد، لم أجتمع به إلا للحظات معدودة، وهذا لا يكفي لاكتمال الصورة حوله".
.. كان منشرحا جدا .. في طريقة ترحيبه كثير من التلقائية .. أشعل سيجارة، طلب مني أن أتناول واحدة .. رفضت .. لكنه أصر، طالبا مني أن أرفع الكلفة بيننا .. تناولت السيجارة .. أشعلها لي من قداحته الذهبية .. ارتشفت بعض القهوة .. فاجأني بملاحظته الدقيقة :
-تبدو لي متحفظا كثيرا.. الحياة لا تستحق.
رسمت على فمي ابتسامة زئبقية، سرعان ما لجمتها .. في خاطري تجول كثير من الأفكار المتضاربة " ماذا يريد هذا الرجل مني ؟ ".. حين صمتت سألني :
-هل لك ارتباط مع فتاة ما ؟
فكرت أن الرجل يبحث لابنته عن عريس .. ولمزيد من الاحتراس أجبت :
-لا شيء مهم .. علاقات عابرة فقط.
ابتسم الرجل وظهرت علامات الاطمئنان على ملامحه، ثم ما لبث أن أضاف:
-حسنا فعلت .. النساء لا يأتي من ورائهم سوى وجع القلب والرأس.حينها أحسست ببعض الشجاعة تتسرب إلى كياني. فكرت لحظة ثم قلت مؤكدا على كلامه :
-نعم .. كلامك صحيح .. فمتطلباتهن كثيرة.
لم يترك الصمت يفصل بيننا، إذ سرعان ما أردف قائلا :
-اسألني أنا .. فمنذ أن طلقت زوجتي، وأنا أعيش سيد نفسي.
عقدت المفاجأة لساني .. ازدردت ريقي .. ثم سألته :
-وما سبب طلاقكما ؟
أجال بصره في المكان من حوله .. أمسك كأس القهوة، شرب جرعة منه .. ثم أجاب :
-النساء متعبات.
لاحظت الاقتضاب الذي أجابني به، فعلقت على كلامه قائلا :
-والبنت أعني هدى، ألم يؤثر فيها الأمر؟
بكثير من الثقة أجاب :
-لا أبدا .. إنها تقضي أكثر وقتها في أوربا، وحين تعود إلى المغرب، تقضي بعض الوقت عندي، والبعض الآخر عندها. إنها فتاة متفهمة .. هذه فضيلة أوربا .. الناس أحرار يفعلون بحياتهم ما يطيب لهم.
كلامه هذا فتح كوى كثيرة، أستطيع أن أطل من خلالها على حياته..في نفسي تساءلت عن السبب الذي يجعله يخبرني بتفاصيل في حياته، لا تهمني في شيء..فكرت أن الرجل تاجر، وهو بطبيعة الحال لا يقوم بأية خطوة غير محسوبة العواقب.
نظرت إليه نظرة متفحصة.. لم أظفر بشيء..يبدو لي الرجل غامضا، رغم الانطباع الذي يحاول رسمه عن شخصيته... تململت في مكاني...فطن إلى أنني مللت من هذه الجلسة، فتدارك الوضع بطرح بعض الأسئلة :
-هل تسكن مع أسرتك ؟
أجبته بلا مبالاة :
-نعم.
أضاف مستفسرا:
فيم يشتغل أبوك؟
ترددت لحظة، ثم أجبته:
-أبي مستخدم بسيط في إحدى الشركات من القطاع الشبه عمومي.
وبلهجة أبوية أرادها أن تكون صادقة قال :
-إذن يجب أن تفكر جيدا في مستقبلك ..إذا التزمت بالبقاء معي، فإن كل مشاكلك المادية ستحل.وستنطلق بسرعة في دنيا المال والأعمال.
صمتت ..وكأنني غير مقتنع بما قاله، فأضاف :
-أنا أفكر في توسيع مجال عملي.. ولقد لاحظت أنك شخص يمكن الاعتماد عليه...سأجعلك وكيل أعمالي...أنت تفهم في اللوحات أكثر من أي شخص آخر ..إذن لم لا تقم بالعمل المناسب.. وسترى التغيير الذي سيطال حياتك..
صراحة لم أقتنع بكلامه...فكرت أن الرجل يحاول إحكام قبضته علي .."أي أمر يبيته لي".. جاملته ببعض الكلمات العامة...ثم سرعان ما انتقل بي إلى موضوع آخر...إذ فاجأني بقوله :
لدي لك مفاجأة سارة.
لم أتسرع ..احتميت بالصمت، فأضاف:
-ألا تسألني ما هي؟
مرتبكا سألته:
-ما هي ؟
بلهجة متفاخمة أجاب :
-الحقيقة إنهما مفاجأتان: الأولى ، لقد أعجبني ما قمت به من عمل، لذا سأدفع لك اليوم قدرا من المال ..ثم وضع يده في محفظته الجلدية التي كانت تتمدد بجانبه..أخرج منها مبلغا من المال وسلمه إلي....أخذت المال وشكرته، ثم لزمت الصمت من جديد.
حين طال صمتي سألني:
-ألن تسألني عن المفاجأة الثانية؟
تداركت الأمر، قائلا:
-لقد أنساني المال أن أسألك عن المفاجأة الثانية ...عفوا...
حينذاك اعتدل في جلسته وقال :
-اسمع يا يوسف ...لقد حققت في الأيام الأخيرة صفقة مربحة. استطعت أن أبيع كمية من التحف واللوحات دفعة واحدة...لقد كان دخولك إلى حياتي فألا حسنا على تجارتي، لذا أود أن نحتفل بهذا الانجاز.
جال ذهني، وأنا أسمع كلماته في كثير من الاحتمالات...لا أدري لم اخترقني فجأة
كلام منى وتحذيرها لي...استغربت كل هذا الإقبال من الرجل علي، رغم أنني لم أقض صحبته زمنا كافيا، يسمح برفع الحواجز بيننا.
التزمت الصمت من جديد، أحاول استيعاب الأمر..أردف الرجل بحماس:
-هل تعرف "سيدي بوزيد"؟
أجبته باقتضاب:
-نعم، في ضواحي مدينة الجديدة.
بابتهاج تابع كلامه:
-نعم، في ذلك المكان عندي "فيلا" صغيرة..أقيم فيها فقط في أيام الصيف من أجل الاستجمام ..سنذهب إلى هناك ونحتفل.
أحس بمدى الحيرة التي تملكتني ...لمحت في عينيه بريقا من نوع خاص...الابتسامة لا تبرح شفتيه..تململت في مكاني من جديد ...أبعدت بصري عنه..ركزت نظري على لوحة تحتل حيزا محترما على الجدران ...اللوحة تصور أجواء مغربية تقليدية.
صمت الرجل برهة ليتأكد من وقع كلامه على نفسي...وكأنه أحس بتشككي تجاه نواياه أردف بثقة أكبر.
-وبالطبع سيكون رفقتنا لفيف من الأصدقاء ...ستكون فرصة سانحة لكي تتعرف على بعض الفنانين المحترفين.
كلامه الأخير بعث بعض الطمأنينة في نفسي.. ومع ذلك التزمت الصمت.. حينذاك أضاف سائلا:
- ما رأيك؟
خجلت من صمتي، الذي بدا لي بدون معنى.. في نفسي قلت "ربما ظلمت الرجل، لا يمكن أن نطلع على النوايا".. أجبت قائلا:
- بالطبع يسعدني ذلك.
حينها انتفض الرجل واقفا.. قمت أنا كذلك من مكاني، وبكلمات ودودة خاطبني قائلا:
- موعدنا يوم السبت على الساعة الرابعة مساء.
صافحته بحرارة، ثم توجهت نحو باب المرسم، وكلي حماس لأنهي اللوحة قبل أن أنصرف إلى حال سبيلي.
قبل لقائي الثاني بمنى، استبد بي كثير من القلق.. متوجسا كنت إلى أبعد الحدود من عدم حضورها.. فكرت أن لقائي الأول بها لم يكن كافيا ليبعث فيها الحماس للحضور مرة أخرى .. شيئا فشيئا طفقت بعض الهواجس تتسرب إلى الذهن والقلب، لتشيد هناك كتلة من الهم تكبس بثقلها على نفسي.. لم أعد قادرا –خلال مدة الانتظار – التركيز على أي شيء.. وجهها الطفولي الجميل، وابتسامتها الطبيعية التي لا تبرح شفتها يتأرجحان في خيالي.. حاولت أن أكون أكثر هدوءا حتى لا يصدمني عدم حضورها.. لكن عبثا ذهبت كل محاولاتي .. عشت في الأيام الأخيرة على إيقاع متذبذب، بين الرغبة الجامحة، والتعقل.. في اليوم المحدد، تضاعف القلق داخل نفسي.. موعدنا الساعة الثالثة بعد الزوال.. قرب موقف الحافلة "رقم 7" بمركز المدينة.. قبل ربع ساعة من الموعد كنت هناك.. انتصب غير بعيد عن المكان المحدد.. حل الوقت فأصابني بعض الاضطراب.. كنت لا أكف عن الحركة.. أتطلع في وجه كل فتاة قادمة.. كم مرة يقع بصري على إحداهن تتوجه نحوي.. أظنها هي.. يخفق قلبي.. أستعد لاستقبالها.. لكن ما إن تدنو مني بمسافة معقولة حتى تتربع الخيبة على وجهي.. مر الوقت مهرولا، تجاوزت الإشارة الساعة الثالثة بقليل.. ران علي غم ثقيل .. في نفسي قلت محاولا امتصاص حدة غضبي "إنها فتاة تافهة .. ولا تستحق كل هذا الانشغال".
عزمت على مغادرة المكان.. لكنني لم أجرأ على ذلك .. طمأنت نفسي بمبررات شتى..
وفجأة لاحت لي من بعيد، قادمة بقامتها المائلة إلى الطول، وقصة شعرها المميزة إنها هي بكل تأكيد.. أبدا لا يمكن للعين أن تخطئها.. اختلج الفرح في دواخلي.. نظرت إلى أسفل، ثم إلى أعلى.. من مكانها على الرصيف احتضنها بصري الحالم، وزينها بإطار لامع، بدت داخلة أميرة قادمة من عالم سحري لا علاقة له بعالمنا البائس.. دنت مني أكثر.. شعت ابتسامتها في وجهي، فأطاحت – دفعة واحدة- بكل الغضب والهم الذين كبسا إلى حين على نفسي.. صافحتها بحرارة، فبادرتني قائلة:
- أعتذر عن التأخير.. الحافلة هي السبب، لقد أوقفها المراقب للتأكد من تذاكر الركاب.
بلهجة متسامحة أجبتها:
- لا بأس.. أعرف مشاكل النقل.. إنها مصيبة ابتلينا بها في هذه المدينة.
مضينا في طريقنا صامتين، لا نعرف لنا وجهة.. فجأة التفتت منى نحوي وقالت:
- إلى أين سنذهب؟
صمتت برهة ثم أجبت:
- ما رأيك في السينما؟
نظرت إلي نظرة متوجسة، أدركت معناها جيدا.. كثير من الشباب يصطحبون الفتيات إلى قاعات السينما لنوايا غير سليمة.. وقبل أن أتدارك الأمر ردت:
- لا بأس.
الحركة دائبة في ساحة "مارشال".. المارة يتشابكون في سيرهم على امتداد الأرصفة، مررنا بمحاذاة المقاهي المكتظة بالرواد.. أكثرهم يفضل الكراسي الخارجية للتملي في المارة خاصة من الفتيات اللواتي يبرعن في إبراز مفاتنهن حتى أن بعض الحادقين يعبرون عن ذلك ب"التصريح بالممتلكات".. الباعة المتجولون يعرضون بضائع متنوعة.. أحزمة.. جوارب.. محافظ جلدية.. مقهى فرنسا المقابل لفندق حياة ريجينسي خلية حية، لا تفتر فيها الحركة.. عطفنا نحو شارع محمد الخامس.. الضجيج لا يطاق.. طابور السيارات والحافلات انتظم على مد البصر في انتظار الضوء الأخضر، ليزحف من جديد.. مررنا أمام كشك الجرائد.. توقفت إزاءه، فالتصقت بي منى، جال بصري في العناوين المعروضة.. امتدت يدي نحو مجلة، اعتادت تخصيص بعض صفحاتها للفن التشكيلي.. تصفحتها قليلا ثم أعدتها إلى مكانها.. لا قبل لي بشرائها، فثمنها ليس في متناولي.. حدجني صاحب الكشك بنظرة شرسة.. واصلنا طريقنا وسط المارة.. اعترض طريقنا رجل متسول.. تجاهلته، لكن منى توقفت، أخرجت حافظتها، ناولته قطعة نقدية لم أتبين قيمتها، ثم لحقت بي.. توقفنا أمام سينما "لامبير" ملصقات الأفلام تزين المدخل.. القاعة تعرض ذلك الأسبوع فلما أمريكيا نال استحسان الكثيرين.. فكرت أن أستغل الفرصة لمشاهدته.. عنوان الفيلم: "فورست غامب".. تفحصتني منى بنظرة هادئة .. كنت قد بدأت التعود عليها إلى جانبي.. بدا لي وكأنني أعرفها منذ زمن طويل.. سألتها:
- أندخل لمشاهدة هذا الفيلم؟
أعادت النظر في الملصق، ثم أجابت:
- هل هو فيلم جديد؟.. فالأفلام الأمريكية مليئة بالعنف.. أنا لا أميل إلى هذا النوع من الأفلام.
بثقة رددت عليها:
- لا.. هذا فيلم مختلف.
أعادت النظر في الملصق.. أجالت بصرها في باحة السينما ثم قالت:
- هل سبق لك أن شاهدته؟
- لا، لكنني قرأت عنه بعض المقالات، وسمعت عنه من طرف بعض الأصدقاء.
وافقت منى على اقتراحي.. دفعت ثمن تذكرتين، ثم ولجنا قاعة العرض.. كان الفيلم قد عرض جزء بسيط منه.. حين جلسنا كان الطفل "فورست غامب" يركض هاربا من أطفال يطاردونه بدراجاتهم.. في لقطة جميلة ومعبرة، تخلص الطفل الخائف من القضبان الحديدية التي تحيط برجليه، فتحرر من إعاقته، وانطلق كالسهم.. فلم يقو الأطفال على اللحاق به.. كل ذلك بتحريض من فتاة يكبرها ببضع سنوات.. يبدو أن عاطفة قوية تربط بين قلبيهما.. الفتاة تصرخ حاثة الطفل على الركض.. مده ذلك بطاقة غريبة، لا يستطيع المرء معرفة مصدرها.. فكانت استجابته قوية، متألقة، عميقة، وإنسانية.
بعد أن استقر بنا المقام داخل القاعة، اعتادت أعيننا تدريجيا على الظلمة الخفيفة التي تلفنا في حضنها الدافئ، وتضمنا بلطف في كنفها.. ببطء طفقت أستوعب الموقف الجديد الذي يسيج حياتي.. ها هي الفتاة التي انتظرتها طويلا بجانبي تماما.. تجلس بكل أناقة ولطف.. عيناها مركزتان على شاشة العرض.. حاولت أن أخمن وجهة تفكيرها "ترى ماذا يدور في ثنايا رأسها الجميل؟".. للحظات استغرقتني أحداث الفيلم.. أعجبتني التقنية المبتكرة في سرد الأحداث.. بين الفينة والأخرى تنقلنا الصورة إلى الكرسي الذي يجلس عليه البطل في الشارع العام، على مقربة من محطة الحافلة.. وهو يحكي أطوار حياته لكل من قذفت به الصدفة ليجلس إلى جانبه.. يتغير الجالسون ويستمر هو في الحكي.. لا يهمه في شيء أن ينصرف من يستمع إليه.. هو فقط مأخوذ بسحر الحكاية.. ودائما هناك من يصغي إليه، ولو للحظات قليلة.
من الصعب أن أتجاهل وجودها إلى جانبي.. جمالية الفيلم لم تقو على تخليصي من بعض التوتر الذي لزمني، أشعر به خفيفا يداعب وجداني.. بين لحظة وأخرى استرق النظر إليها.. لا تلتفت إلي، وكأنها تتوجس من شيء ما.. أو أن أحداث الفيلم استبدت بانتباهها.. كيفما كان الأمر.. فنحن حديثا التعرف على بعضنا البعض، ولا داعي للتسرع.. إن كانت الفتاة قد وفت بوعدها نحوي، وجاءت لتلتقي بي، ثم وافقت على مرافقتي إلى السينما، فذلك قد لا يعني الشيء الكثير.
لا أستطيع التأكد من مشاعرها نحوي.. للحظة طردت كل هواجسي بعيدا.. انشغلت بتطور أحداث الفيلم .. مشاهد الحرب مؤلمة.. لكن العلاقة الإنسانية البديعة التي ربطها بطل الفيلم مع زميله الزنجي عميقة وثرية بالدلالات.. فجأة لا أدري كيف ارتفعت دقات قلبي.. تسللت يدي المضطربة نحو يد منى، ووضعتها فوقها لم تبد أي رد فعل.. بيد أنها بعد وقت وجيز جدا، سحبت يدها بلطف.. نظرت إليها، فلم تبادلني النظر.. عيناها مسمرتان على الشاشة.. انشغلت بما يجول في دواخلي لحظة.. انتظرت قليلا، ثم أعدت الكرة من جديد.. هذه المرة لم تمانع.. حافظت على يدها في حضن يدي.. يدها دافئة وناعمة .. أجج ذلك النار في أعماقي.. تتبعت الفيلم بنوع من الهدوء المصطنع.. البطل ينقذ زملاءه الجنود من موت محقق.. استثمر في سبيل ذلك موهبته المثلى الممثلة في الركض.
اختلست النظر من جديد نحو منى.. أحسست أن بعض الاضطراب يخالجها.. أعدت النظر نحو الشاشة المنتصبة أمامي بتوهج.. شردت للحظة، أفكر في حرب الفيتنام، والأثر العميق الذي خلفته في نفسية المواطن الأمريكي.. حتى أن كثيرا من الأفلام السينمائية استغلت الموضوع، وجعلت منه تيمتها الأثيرة، محاولة بذلك إبراز وجهات نظر متعددة حولها.. الكبرياء الأمريكي، الذي تأسس منذ استقلال الولايات المتحدة الأمريكية على القوة، تمرغ في وحل الفيتنام، وانتقع في بحيراتها وأدغالها المليئة بالفخاخ، وبأس الإنسان المقهور، الذي يسعى بكل ما يملك نحو الكرامة والحرية.. كان الشرخ عميقا في نفسية الوعي واللاوعي الجمعيين للأمة الأمريكية، فشكل بذلك عقدة قد لن يتخلص منها المواطن الأمريكي في وقت قريب.. وقد تكون حرب الخليج التي تدق طبولها بحدة، محاولة لتصفية حسابات مع الماضي.. لكن هذه المرة سيكون ذلك على حساب أمة أخرى، مستضعفة لا قبل لها على مواجهة هذا الملف الأمريكي العنيد.. ومرة أخرى سيكتوي الأبرياء من عامة الناس من الجانبين بويلات الجحيم.
تتبعت أحداث الفيلم بكثير من الاحتفاء.. بهرني سلوك البطل بشكل لا يمكن تصوره.. بدا لي يمثل الجانب العميق في الإنسان، بل ويمثل المصير البشري بكثير من الألق والتوهج.. قبل موت صديقه الزنجي، استمع البطل إلى وصيته الأخيرة المتعلقة بحلمه بإنشاء شركة لصيد "الأربيان".
لا يستطيع المرء سوى أن ينبهر بقوة الفيلم وتألقه.. الممثل "طوم هانكس" برع إلى أقصى الحدود في أداء دوره كبطل، فأضاف إلى السيناريو والإخراج قيمة مضافة لا يمكن تجاهلها .. حقيقة لا أتصور أي ممثل آخر قادر على أداء الدور بنفس الإقناع والمتعة..
بين لحظة وأخرى انتبه إلى أن يدي الحالمة لا تزال تحتضن يد منى الناعمة، فتدب في جسدي بأسرة قشعريرة لذيذة ومربكة ..كانت منى هادئة ومستسلمة لقدرها..الحق يقال،أنني لم أكن أتوقع منها هذا الامتثال، لذا أعددت نفسي قبل لقائها لمواجهة بعض المقاومة من جانبها..التجربة علمتني أن اللقاءات الأولى مع الفتيات غالبا ما لا تعد بشيء..خلالها يبدين كثيرا من العناد والتمنع.
لكن بمرور الزمن يتجاوز حرجهن تدريجيا، ثم ما-يلبثن أن يستسلمن كليا..وقد يشط بهذا الاندفاع –بعد ذلك-إلى ما لا يمكن توقعه..وأنا أتألقى مشاهد الفيلم، كان أخر فيلم ينسج أحداثه الخفية بنوع من المخاتلة والإصرار بطلاه أنا ومنى.. في لحظة ما تملكتني رغبة قوية في ضمها إلى صدري وتقبيلها في كل عضو من جسدها..استغربت ذلك، فمعرفتي بها لا تتجاوز أياما معدودات ومع ذلك يستبد بي كل هذا الشوق نحوها..من خلال تجاربي السابقة مع الفتيات كنت ألمس في نفسي بعض التحفظ.. شعاري في ذلك أن الثمرة لا يمكن قطفها قبل أوان نضجها.. فإن أسرعت كان مذاقها مرا لا يحتمل, وإن تأخرت فسدت وفسد طعمها..لا ادري كيف سحبت يدي من يدها ..احتفظت بها فترة من زمن ثم فسحت لها المجال لتسلل خفية نحو كتفها..حين أحطتها بها لم تتحرك ..ظلت جامدة في مكانها وكأنها أخذت بالمفاجأة.. قدرت أن ما يعتمل داخلها هو بالضبط ما يمور في دواخلي..عدم ردة فعلها هذه حقنتني بمزيد من الشجاعة ..بحركة خفيفة سحبتها نحوي،فمالت بدون ممانعة..ارتج قلبي..سمرت عيني أكثر على الشاشة.. كان البطل "فورست غامب" يلقي خطبة غير مسموعة أمام حشد من الشباب المحتجين على الحرب، وفي لحظة ما تنبثق فجأة من بين المتجمهرين فتاة تناديه بأعلى صوتها، ثم تخوض بقدميها في بركة ماء اصطناعية، متوجهة نحوه دون أن تكف عن الصراخ باسمه..أنتبه "فورست غامب" إليها ..حملق فيها جيدا ، فإذا بها حبيبته القديمة التي فرقت بينهما ظروف الزمان.. تخلى عن مكانه في المنصة، وركض بكل ما يملك من قوة نحوها.. اندفعت الفتاة نحوه وهرول هو نحوها.. التقيا وسط البركة، فتعانقا وسط تصفيقات المتجمهرين، الذين كانوا تواقين إلى ما يخرجهم من جهامة وضعهم الإحتياجي، فانفعلوا بالحدث كثيرا.. وضعت رأسي على رأس منى..أمسكتها من وجهها الصغير حضنته بين كفي تأملته في الغبش المهيمن على القاعة. أحسست بارتعاشة تكتسح وجهها.. بدت لحظتها مخلوقا جميلا وناعما لايمكن أن يماثله أي مخلوق ..فجأة التصقت شفتانا ..إنخرطنا في قبلة طويلة...أحسست بالخدر يكتسحني من أخمص قدمي، لينتشر في باقي جسدي فندت عنها لحظتئد شهقة عميقة.. أحسست بحرارة جسمها ترتفع بشكل تدريجي.. حاولت التخلص مني، لكنني تمسكت بها بكل ما أملك من قوة.. استسلمت أخيرا فأطلقنا العنان لشفاهنا، كي تنوب عنا في التعبير عن ما يختلج في قلب كل منا من مشاعر قوية ..بعد لحظات لثمت شفتها السفلى، ثم ملت نحو خذها الأيمن تشممت رائحته المسكرة.. تدريجيا وجدت نفسي أميل نحو عنقها الأتلع الجميل..حين وضعت شفتي عليه انتفضت وانسلت من قبضتي..عرفت أن الأمر قد يتطور إلى ما لا يحمد عقباه، إن استمررنا في ما نحن فيه..بدون اتفاق مسبق ختمنا هذه اللحظات الحميمة بقبلة على الشفاه..عاد كل منا إلى وضعه السابق..أحسست بكثير من الانتشاء.. مددت بيدي نحوها، فبسطت نحوي يدها دون تردد.. سحبتها نحوي وحضنتها بكثير من اللطف والحرص..
انتبهت إلى الفيلم، البطل قد توقف عن الركض الذي قضى فيه مدة طويلة من الزمن..كان قدانخرط في الركض دون سبب منطقي، فقط أحس برغبة قوية في ذلك ، فانطلق راكضا لا يمنعه شيء من تنفيذ ذلك، أقول ذلك لأنني شاهدت الفيلم فيما بعد مرات عدة، حتى حفظته عن ظهر قلب.. فجأة توقف "فورست غامب"عن الركض وقرر العودة إلى البيت، وحين سأله بعض الذين التحقوا به، -وركضوا معه مدفوعين بالفضول،أو الاعتقاد بأن الرجل يمثل طائفة دينية ما- إن السبب..بكل بساطة أجابهم :
-لقد تعبت وأريد العودة إلى البيت.
حينذاك علق أخر متسائلا:
-ونحن ماذا نفعل؟
كان المشهد عميقا وقويا يطرح مسألة جوهرية في سلوك الإنسان..من الصعب الإحاطة بها والإجابة عليها..الإنسان في العمق يحب أن يكون تابعا، يحتاج إلى سيد يقوده ويسيطر على مشاعره وتصرفاته..قد تكون عادة نشترك فيها مع الحيوانات التي غالبا ما نراها تنتظم ضمن قطيع يقوده أحدها..تتبعه بلا تفكير..أينما خاض بقوائمه لا تتردد في إتباعه حتى لو أدى بها ذلك إلى التهلكة.. إنها ثقافة القطيع التي تحكم البشر كذلك، فالمرء دوما يحتاج إلى أن يبرر سلوكاته من خلال ما يقوم به الآخرون، حتى وإن كان يعلم أنهم مخطئون..
كل مساء اعتدت أن أجتمع بلفيف من الأصدقاء في مقهى بحي الألفة حيث اقطن، أصدقاء الدراسة الذين أتموا تعليمهم وحصلوا على شواهد تؤهلهم لدخول سوق العمل،تخصصاتهم متعددة ما بين اللغات والإقتصاد والعلوم، لكنهم لازالوا على حالهم، يعيشون على إيقاع البطالة..وجدوا أنفسهم في دوامة لا يقوون على الخروج منها طلبات ولقاءات ومباريات التوظيف ثم لا شيء.. منهم من حسم أمره وانخرط في عمل يوفر له قدرا من المال، يبعد عنه شبح استجداء الأسرة لتمنحه مصروف اليوم..سعيد مثلا لم يتردد في القيام برحلات مكوكية بين شمال المغرب،والدار البيضاء،يشتري بعض السلع المهربة ويحضرها إلى الدار البيضاء،ثم يعرضها على معارفه من أجل إقتنائها..لم يكن هذا العمل الذي امتهنه سعيد دون فائدة تعود علينا نحن أصدقاءه، لقد شرع في مدنا كل أسبوع بقنينات من الخمور الإسبانية الرخيصة الثمن..كان يحضر لنا في نهاية كل أسبوع قنينات من الويسكي المهرب دون أن ندفع ثمنها،الذي نسدده فيما بعد بالتقسيط المريح..وأكثر من ذلك فقد أبدع لنا مكانا خاصا، نحتسي فيه تلك الخمور.. زاوية ضيقة في بيتهم، تحت السلالم نتسلل إليها فرادى تحت جنح الظلام، نجتمع ثم نلتف حول القنينتين، ونشرع في مزجهما بالمشروبات الغازية، ثم نكرع ما شاءت الأقدار أن تتيح لنا من فسحة زمنية، لا ينتبه فيها أحد من أسرته إلى وجودنا هناك.
قبل أن أقصد المقهى"الخير" تحركت بخطى بطيئة، على امتداد شارع أم الربيع، أملي بصري في دنيا الناس من حولي.. السيارات كعادتها تملأ الفضاء..والأبنية متراصة يلتصق بعضها ببعض..كنت مأخوذا بمثل هذه الجولات، التي تتيح كثيرا من الهدوء وصفاء الذهن..قادتني خطواتي نحو بركة مائية، توجد على مقربة من مركب إداري ضخم..البركة تستقر في بطن حفرة كبيرة جدا، كانت فيما مضى من زمان مقلعا للحجارة..وبعد توقف الأشغال به تجمعت فيه مياه الأمطار، لتكون منظرا طبيعيا جميلا..مالبث أن قصدته أنواع من الطيور البرية، فأضفت على المكان روعة لاتقاوم..توقفت في أعلى أتملى بمنظر البط البري وهو يسبح في رحاب البركة، يظهر حينا ثم يختفي...من مكاني هناك أشرف على مدينة الدار البيضاء..تلوح لي صومعة مسجد "الدار البيضاء" الكبير..المتمدد على شاطئ البحر بالقرب من الميناء. إخترت مكانا مناسبا وجلست أمتع نظري بالمشهد العام للمدينة.. بين لحظة وأخرى تثير انتباهي طائرة صغيرة تقلع أو تهبط في المطار، الذي لا يبعد عني سوى بكيلومترين على أبعد تقدير.
مع أول غبش المساء قفلت راجعا من حيث أتيت.. قصدت مقهى "الخير"..وجدت لمة الأصدقاء قد اكتملت..اتخذت لي مقعدا بينهم..كان خالد يحتسي القهوة ويدخن سجارته، وسعيد يضع أمامه مذكرة صغيرة يسجل فيها مداخيله، وما بقي في ذمة الزبناء من مال أما سعد فكان يتصفح الجريدة التي سرعان ما بحث عن شبكة كلماتها المتقاطعة، وبدأ في ملأ المربعات الفارغة بالحروف.. فيما كان سمير محتميا بصمته الأزلي.
كان خالد قد استبدت به الرغبة في الهجرة لذا كان حديثه لايتوقف عن هذا الموضوع وحين جلست بجانبه بادر إلى إخباري بجديده.
-لقد اقتربت من الانصراف.
سألته مستغربا:
-الانصراف إلى أين؟
أجاب وعلامات الانتشاء على وجهه.
-إلى بلاد "الشرفاء"..أعرف أنه يقصد بذلك أوربا حيث ترسخ في الأذهان أنها بلاد تحترم الانسان كإنسان،وهناك يمكن لكل فرد أن ينال فرصته.
صمتت لحظة ثم سألته:
- هل حصلت على التأشيرة؟
دون تردد أجابني
-عن أي تأشيرة تتحدث، سوف "أحرك" يعني سيهاجر سريا.
تربعت الدهشة على ملامحي:
- ألا تخشى أن ينتهي بك الأمر عند الشرفاء الحقيقيين؟
مستغربا استفسرني:
-ماذا تقصد؟
بكثير من الجدية اجبته:
- أعني السمك: ستصبح وليمة للأسماك بعد غرقك.. ألا تقرأ يوميا عن أخبار المهاجرين السريين الذين تغرق بهم المراكب فيولم عليهم السمك؟
ارتسمت إبتسامة على شفتيه فقال: أعذرك لأنك فنان ..والفنانون يعيشون في عالم خيالي لا ارتباط له بالواقع.. يا صديقي الحراكون - .يقصد المهاجرين السريين-أنواع هناك الذين يعرضون أنفسهم لخطر الغرق وأولائك ينتمون إلى الدرك الأسفل من الحراكين، صحبة أولائك الذين يهاجرون في صهاريج الشاحنات وغيرها.. أما أنا فأنتمي إلى فئة راقية لا تخاطر بحياتها ،بل كل شيء يمر بسلاسة وكأن الأمر يتعلق بنزهة جميلة في حديقة غناء.
ارتسمت الدهشة على ملامحي فسألته:
- وضح ماذا تقصد بكلامك هذا.
دون إبطاء أردف قائلا:
- إن الأمر يتعلق بحصولي على أوراق مزورة، جربها الكثيرون، ولا يمكن أبدا تمييزها عن الأوراق السليمة.
أعربت عن تشككي بحركات من يدي.
فأضاف موضحا.
- الجواز والتأشيرة وعقد العمل.. كل شيء مزور.. لكن الثمن مرتفع وأسرتي مستعدة لدفع المقابل.. المهم أن تنقذني من هذا الوضع البائس.
لم أحاول أن أجادل كثيرا في ما أخبرني به صديقي خالد، فالتزمت الصمت، أفكر في الطريقة التي يمكن بها تزوير الوثائق.
حين لم أعترض على كلامه، فاجأني بسؤاله:
- وماذا عنك، هل وجدت عملا ما؟
نظرت إليه، ثم أجبت:
-ألم أخبرك أنني حصلت على عمل في الرسم؟
بلهجة ساخرة أردف معلقا:
- وهل تسمي ذلك عملا.. يا صديقي، عنادك هذا، يضيع عليك فرصا كثيرة.
لم أجبه.. أشعلت سيجارة، ثم حملقت في الشارع، أتملى في تسلل الظلام بهدوء على المكان من حولنا.. نظر خالد إلي نظرة متحفزة ثم قال:
- لم لا نهاجر معا؟
ابتسمت مستغربا، ثم قلت:
- وماذا سأفعل هناك.. هل تصدق أن أوربا جنة على الأرض. إذا ذهبت إلى هناك يا صديقي، فشمر على ساعد الجد، سوف تشتغل في أشغال لا تقوم بها سوى الدواب.
باقتناع كبير أجابني:
- المهم أنني سأتقاضى ثمنا يناسب الجهد الذي أبذله.
ابتسمت ثم أردفت قائلا:
- هل تستطيع أن تشتغل في بساتين الطماطم المغطاة بالبلاستيك إنها يا صديقي تماثل الجحيم.. يمكنك أن تبذل نفس الجهد هنا وتحصل على المال.
فكر لحظة ثم قال:
- هنا الناس يعرفونني ولا أستطيع أن أقوم بأي عمل وضيع بعد أن أنهيت دراستي وحلمت بالوظيفة ...أما هناك فلا أحد يعرفني، يمكنني أن أبدأ حياتى من جديد، وكأنني لم أدرس يوما...أجمع المال ،وأعود لتأسيس مشروع يضمن لي حياة مستقرة.
ابتسمت ابتسامة ساخرة ثم قلت له:
-إنها يا صديقي مجرد أحلام..ومع ذلك أتمنى لك التوفيق..
حينذاك تدخل سعيد ،وقال:
-كيف أحوالك في العمل الجديد؟
نظرت إليه..لم ألمح أي نظرة ساخرة على وجهه فأجبته: -بخير..الأمور تتطور نحو الأفضل.
وبلهجة متشككة:
-وهل حقا سيشتري لوحاتك؟
أحسست ببعض التوتر، لأنني لم أخبرهم بطبيعة العمل الذي يتعين على القيام به،..لم أتعود الكذب بسهولة..لازلت إلى يومنا هذا كلما حاولت الكذب، شعرت بكثير من الاضطراب، فأخشى أن يظهر ذلك على ملامحي.. داريت ارتباكي بابتسامة حاولت من خلال استعادة ثقتي بنفسي، ثم أجبته بسؤال:
-وهل أنت تشك في الأمر؟ألا أستحق ذلك؟
نظر إلي نظرة اعتذار ثم قال:
-أبدا لا أقصد..لكنني أستغرب أن يهتم أحد في المغرب بالفن،بل ويعطي مقابله مالا.
دون تباطؤ أجبته:
لا يتعلق الأمر بمقتنين مغاربة،بل أجانب..الرجل يتوفر على شبكة في أروبا لترويج اللوحات.
حينذاك تدخل خالد قائلا:
-ولم لا تطلب منه أن ييسر لك الهجرة نحو أروبا؟
رمقته بنظرة محتجة ثم أجبته:
-أنت لاتفكر إلا في الهجرة..كل موضوع نتحدث حوله،يمكن أن تجد فيه منفذا نحو الهجرة..غريب أمرك يا صديقي.
ابتسم وقال:
-إنني أفكر في مصلحتك..سوف تضيع فرصة أخرى..فمثل هذا الرجل لن تعوزه الطريقة لتهريبك إلى أوروبا.
أحسست ببعض الضيق فأجبته:
-دعنا من هذا الموضوع حينما تصل إلى هناك وتستقر، يمكنك أن تبعث لنا أوراق الإقامة ونلحق بك.
راقه كلامي فعلق قائلا:
-أخي يوسف..ما إن تتيسر أموري حتى أبعث لك بوثائق سليمة...سأشتري عقدة عمل وأبعث بها إليك لتساعدك على الهجرة.
حينذاك تدخل سعيد قائلا:
-لاتنسوا سهرة يوم السبت،لقد أحضرت "الزاد".
بابتهاج رد عليه خالد
-إذن ستكون ليلة ليلاء.
صمتت قليلا ثم قلت:
- أنا لن أستطيع الحضور.
باستغراب سألني سعيد:
- ماذا حدث؟ لم لن تحضر؟
فكرت للحظات ثم أجبته
-لدي عشاء عمل.
انفجر خالد مقهقها ثم قال:
-عشاء عمل...الله ياعيني.. ما هذا؟ الرجل تبرجز.
لتوضيح الأمر أكثر أردفت:
- لقد دعاني رب العمل لحفلة ستقام بمناسبة تحقيقه لصفقة جيدة.
متلهفا سأل سعيد:
- وأين سيقام هذا الحفل؟
أجبته:
-في فيلا بسيدي بوزيد في ناحية مدينة الجديدة.
حينها أضاف قائلا:
وهل يمكن أن نحضر معك؟
دون تردد سألته:
- وبأية مناسبة؟ ما علاقتك أنت بالعمل الذي نقوم به؟
رد بحماس:
-ألسنا أصدقاءك ويحق لنا أن نحتفل بنجاحك؟
نظرت إليه بسخرية ثم أجبته:
-هل أنت أحمق؟ إذا كان الأمر كذلك لم لا تحضر معك كل عائلتك، هل تظن الأمر يتعلق بحفل زفاف؟
أحس سعيد ببعض الغضب من جوابي فأردف معلقا:
-الإنسان سرعان ما يتغير..منذ البداية أعلنت عن نيتك السيئة.
التزمت الصمت ثم أخرجت من العلبة سيجارة أخرى..وبعد لحظات من انقطاع كلامه قلت له:
-أنت لا تعرف طبيعة الناس الذين أتعامل معهم..إنهم لا يحبون من يتطفل على حياتهم..أتظن أنه من السهولة بمكان أن أصحبكم معي؟
الأمر في غاية التعقيد..وأنا نفسي لن أذهب من أجل المتعة..إنه الواجب ما يجبرني على الحضور..فالجلوس معكما في سهرة يوم السبت لا يمكن.. أن يعوضه لدي أي مكان آخر.. كن عاقلا يا سعيد.. حين ذاك استعاد سعيد مرحه، واكتسى وجهه بابتسامته المعهودة..الليل يتوغل تدريجيا.. مصابيح أعمدة الكهرباء تناضل في صراع مرير من أجل قهر الظلمة، التي مافتئت تلف المكان من حولنا.. انخرطنا في سورة من الضحك المفاجئ الذي فجرته نكتة جديدة.سردها علينا سعيد.. ثم ما لبثنا أن عرجنا على مناقشة الأحداث الكبيرة، التي يعرفها الشرق العربي..تساءل خالد:
-هل تتصور أن أمريكا ستقصف العراق؟
رد سعد:
-نعم أنا متأكد من ذلك، فأمريكا لا يهمها أن تخرج العراق من الكويت أم لا.. إن لعابها يسيل من أجل السيطرة على المنطقة ونفطها.
التفت خالد نحوي وقال:
-ما رأيك أنت؟
فكرت قليلا ثم قلت:
-حسب ما أراه من استعدادات جادة، فالحرب لابد قائمة.
تحمس خالد لإجابتي ثم سأل:
-وهل يستطيع العراق مواجهة أمريكا؟
صمتت للحظات ثم أجبته:
- علمنا التاريخ أن الشعوب تخلق المعجزات.
حينذاك تدخل حسن قائلا:
- عن أي شعوب تتحدث. فالشعوب العربية مغيبة، إنها مغلوبة على أمرها..الزعيم من يتخذ القرار وما عليها إلا التنفيذ.
حاولت أن أرد عليه، إلا أنني فضلت أن ألزم الصمت..أعرف أنني مثالي في تحليلي، وسأدافع عن قوة الجماهير والتعبئة خلال الحرب، ومنطق العدو الأجنبي الذي يوحد المتناقضات، غير إنني تراجعت عن ذلك، لأنني طالما كررت على مسامعهما هذا الكلام إلى حدود الملل..
قبل العودة إلى البيت بعد جلسة المقهى في رحاب الأصدقاء ودفئهم ..توجهت نحو جهاز الهاتف في زاوية الشارع..ركبت رقم هاتف بيت منى..انتظرت قليلا..يصلني من بعيد صوت رنين متقطع..ثم فجأة وصلني صوتها:
- ألو من؟
بسرعة أجبتها:
- ألو أنا يوسف.
انتظرت أن ترد علي ..لكنها صمتت، فكررت:
- ألو منى.
أجابت ببرود
-نعم أنا منى..أنا أسمعك.
فكرت أنها لا تزال متأثرة بحديثنا في لقائنا الأخير.. فشيء من الغضب لايزال يضغط على أنفاسها..
حاولت أن أمتص غضبها فسألتها:
-ما هذا البرود في الرد؟ ألم تشتاقي إلي..
استمرت في صمتها للحظات ثم فاجأتني بقولها:
-ماذا قررت بالنسبة لعملك؟
متصنعا الدهشة سألتها:
-ماذا تقصدين؟
صدرت عنها آهة متأففة ثم قالت:
- أنت تعرف ما أقصد ..
-ألا ترين أنك تسرعت في الحكم..ألا يستحق الأمر مزيدا من الوقت، حتى أستطيع أن أكون صورة متكاملة عن الموضوع.
وكأنها قد رتبت كل شيء مسبقا قالت:
- اسمع يا يوسف، لقد أقسمت أن لا ألتقي بك حتى تترك ذلك العمل. عندما تحسم أمرك اتصل بي لنلتقي.
أحسست بأنها تجبرني على القيام بتصرف رغما عني.. اخترقني بعض الغضب، لم أدرك كيف وضعت السماعة في مكانها، وانصرفت نحو البيت.
دخلت غرفتي والغضب يعتصر قلبي.. ارتميت على سريري.. امتدت يدي نحو آلة التسجيل ضغطت على الزر، فانبعثت أغنية لناس الغيوان "هلي الحال يا هلي الحال ايمتا يصفى الحال"..ذهني يسبح في عوالم غير مستقرة.. أفكر في منى، ألتمس لها الأعذار، فما قامت به نابع من عاطفة نحوي.. إنها تخشى أن أتورط في أي مشكل قد لا أقوى على مواجهته.. ثم سرعان ما ينتقل بي ذهني نحو "السيد حسن" يمثل أمامي بابتسامته الزئبقية، التي لا تفارق شفتيه.. أستشرف الحفل الذي طلب مني أن أحضره صحبته.. أفكر في هذا المصير الذي يتربص بخطواتي.. يطرق الباب ثم يفتح، تظهر والدتي، تنظر إلي بعينيها الفاحصتين اللتين أبدا لا يخفى عنهما حالي، تسألني: ما ذا بك يا يوسف، إنك لم تسأل عن طعام العشاء؟
أرد عليها باقتضاب:
- لا شهية عندي للطعام سأتناوله فيما بعد.
تتقدم نحوي بخطوات ثابتة، تقتعد السرير إلى جانبي، تمد يدها نحو رأسي، تمرر راحتها عليه ثم تحثني على الحديث:
- يا بني، أنا أعرفك أكثر من نفسك.. إنك تعاني من مشكل ما.. لا بد أن تخبرني.. قلب الأم لا يخطئ.. لا بد أن تخبرني.
أبعد بصري عنها ثم أجيبها:
- لا شيء يا أمي.. أنا فقط أعاني من بعض الإرهاق.
تنظر إلي نظرة مشككة ثم تقول:
- لا أبدا.. الأمر لا يتعلق بالتعب، لم لا تخبرني.. أنا أمك، ويمكنني مساعدتك.
أظهر بعض التوتر، ثم أرد عليها:
-قلت لك بأنني لا أعاني من أية مشكلة.. دعيني من فضلك، أريد أن أنام.
ظلت والدتي في مكانها، صمتت برهة ثم قالت:
- ألا تفكر في الزواج؟ من هي التي تشغل بالك.
حينذاك انبعثت مني قهقهة ساخرة، في نفسي قلت "مسكينة أمي، لازالت تعتقد أن الأمور لم تتغير.. من هذا الذي يخجل اليوم في الإعلان عن رغبته في فتاة ما"
نظرت إلي والدتي مستغربة، ثم سألتني باحتجاج:
- ما الذي يضحكك في كلامي؟ آه منكم يا أبناء اليوم.
استدركت الأمر قائلا:
- لا يا أمي لا شيء،.. أعتذر، فقد تذكرت نكتة حكاها لي أحد الأصدقاء في المقهى.
أحست والدتي ببعض الحرج، قامت من على السرير، توجهت نحو باب الغرفة، وقبل أن تفتح الباب وتنسحب قالت:
- الله يهديك أوليدي.
الغرفة مفعمة ثانية بأنغام موسيقى الغيوان .. وأنا أحملق في السقف بدون هدى، بين لحظة وأخرى تصطدم عيناي بصورة "بوب مارلي" المعلقة على الجدار.. ضفائره المتشابكة تبعث في نفسي كثيرا من الانتشاء.. تجعلني أفكر في الحرية والانطلاق، في قدرة الإنسان على التحدي، ومواجهة قدره.. أملي بصري فترة من الزمن في ملامح "ملك الريغي".. ثم ما ألبث أن أنكفئ على ذاتي.. أغوص في أعماق أعماقي.. أحاول أن أعثر هنالك على قشة من أمل أتمسك بها.. في نفسي تتردد بعض الأحاسيس المتناقضة.. مرات أقول "ماذا سيحدث لو تخليت عن عملي مع السيد حسن، لأرضي حبيبتي منى .. ومرات أخرى أفكر في سبيل مناقض تماما " وماذا سيحدث لو قطعت اتصالي بمنى حقا أعرف جيدا أنني أحبها.. فراقها بالتأكيد سيسبب لي ألما موجعا.. لكن ما العمل؟ يجب أن اتخذ قرارا حاسما.. لقد وضعتني أمام اختيار صعب .. إما هي وإما عملي مع السيد حسن.. لا أحب أن أوضع في مثل هذه المواقف.. إنها بذلك تحرجني كثيرا.. كان يتعين عليها على الأقل أن تنتظر بعض الوقت، ثم تصدر حكمها .. من يضمن لي إن أخذت برأيها وأصبحت عاطلا من جديد، أن لا تتخلى عني في يوم من الأيام.. أنا لست أنانيا.. أعرف أن مصير المرأة الزواج.. ففي وقت ما سيفرض موضوع الزواج نفسه عليها.. ستجده يتسلل إليها من حيث لا تحتسب.. الأسر المغربية لا شاغل لها سوى تزويج فتياتها .. لا تحتمل أن تظل الفتاة في البيت بعد تجاوزها سنا معينا، وكأنها عبء ثقيل يتعين التخلص منه.. أنا بالطبع لن استطيع التقدم إلى أهلها من أجل خطبتها.. أعرف وضعي جيدا أنا شخص عاطل وحتما عملي هذا عبارة عن بطالة مقنعة.. ففي أي لحظة يمكن أن أجد نفسي ضحية للخواء.. كرامتي لن تسمح لي بتوريطها في مشاكلي التي لا تنتهي.. بالتأكيد إذا ما اسمررت معها في هذه العلاقة سيلحق بها الضرر...أرفض ذلك..إذن لم لا أنسحب في صمت؟.. أبدا أن لن تتاح لي فرصة تماثل هاته..هذا وضع مثالي لا يتكرر بنفس التفاصيل.. سأستغل هذا التوتر في العلاقة بيننا ، لأنفصل عنها نهائيا.. بالطبع سأعاني من بعض الألم، وسيكتسحني لفترة من الزمن كثير من الشرود، وبعد ذلك سيستقيم الوضع...أعود إلى سابق حالي ...أصبح كما كنت سابقا حرا طليقا، لا تكبلني أية التزامات.. حينها إذا حدث لي أي مكروه بسبب عملي مع السيد حسن فلن تتحمل منى عواقب ذلك.
كنت غارقا في تأملاتي حين نادتني أمي بصوت مرتفع:
-يوسف.. يوسف.
من مكاني في الغرفة أجبت رافعا صوتي لعلها تسمعني:
-ماذا.. ماذا تريدين يا أمي؟
لم أسمع ردها..نهضت من على السرير،وضعت النعل في رجلي..ثم توجهت نحو الباب..فتحته،ثم توجهت بخطى متكاسلة نحو "الصالون"..كانت أمي تحلق في التلفزيون بانتباه لم أعهده فيها..فهي عادة ما لا تهتم بنشرة الأخبار ..فقط تستهويها المسلسلات والأفلام المغربية والمصرية..نظرت إليها بحيرة:
- ماذا هناك؟
لقد سمعت نبأ في الأخبار، ولم أفهمه جيدا.. قال المذيع أن أمريكا هاجمت العراق..
نظرت نحو الشاشة الصغيرة.. كانت تعرض صورا لحاملات الطائرات عائمة في مياه البحر الأحمر...بترسانتها العملاقة.. أصخت السمع فإذا المذيع يكرر الخبر: طائرات F16 أغارت على مناطق متعددة داخل العراق،وعادت إلى قاعدتها سالمة دون أن تصاب بضرر.
قاطعت أمي تلقفي للأخبار فسألتني:
-هل ضربوا العراق يا بني؟
نظرت إليها ثم أجبت:
-نعم يبدو ذلك، فأمريكا لن تتراجع على تحقيق أهدافها.
مستغربة تساءلت أمي:
- ولكن ما ذنب الناس الأبرياء؟.. كم من الأطفال سيموتون في هذا الحرب؟
صمتت لحظة ثم قلت:
-أمريكا لا تهتم بذلك؟ هي فقط تفكر في الاستيلاء على النفط.
بحرقة أردفت والدتي:
- يا لهفي على الأطفال وأمهاتهم.
تركت أمي إلى حرقتها وعدت إلى غرفتي أحاول أنا أفهم هذا الصلف الذي يتميز به البشر.. حروب وراء حروب.. مصالح.. أسلحة مدمرة.. طائرات.. نفط.. شركات بيع الأسلحة..العولمة.. القهر.. الاستبداد .. الفقر.. المجاعة.. أمور كثيرة تلتمع في ذهني ثم تتوارى في صمت مخلفة مكانها لأخرى.
في المرسم تدريجيا ربطت وشائج قوية مع المكان..الصمت يلفني بردائه الملائكي البديع ..الفرشاة تتراقص ببهاء بين أناملي..مبتهجا إلى أقصى الحدود كنت، وأنا أنقل الألوان والمشاهد من لوحة إلى أخرى..كثيرا ما كنت أتقهقر إلى الخلف فأحضن ببصري الحالم اللوحة التي تستقيم تدريجيا أمام ناظري..أبتسم ثم أقبل على العمل..لحظات كانت صورة السيد حسن تنبثق في ذهني بغتة، يبدو لي من خلالها رجلا غامضا ...أبرر ذلك بعدم اعتيادي على التعامل مع رجال من طينته ..مستغرقا كنت في عملي، حين سمعت طرقات خفيفة على الباب ثم ما لبت أن فتح ..رفعت بصري نحوه، فإذا ابنة السيد حسن تمثل أمام بصري. نظرت إلي ثم قال محيية:
Bonjour ça va
رددت على تحيتها
Ca va merci
بخطوات رشيقة دلفت نحوي..حاولت تجاهلها غير أنها وقفت بجانبي، وشرعت تتأمل اللوحة وهي تنقل بصرها بين الأصل والنسخة التي أشتغل عليها، ثم بعبرات بدت صادقة وصادرة من أعماقها قالت:
C’est fantastique
دون أن ألتفت رددت على مجاملتها قائلا:
شكرا.
نظرت إلي بعيني باسمتين
-أنت فنان موهوب لم تضيع وقتك في تقليد لوحات الآخرين؟..لم لا ترسم لوحاتك الخاصة؟
رمقتها بنظرة متشككة ثم أجبت:
- ظروف العيش تفرض علي ذلك.
بكلمات متحمسة قالت:
- يجب أن لا يستسلم الإنسان بسهولة لاكراهات الحياة.
بدت لي كلماتها قوية وغير متوقعة من إنسانة تعيش رغد الحياة..صمتت برهة ثم قلت لها:
- اكراهات الحياة تكون أحيانا أقوى من أي إرادة مهما كانت صلبة.
وبكلمات مشجعة أردفت قائلة:
- ثق بي أنك موهوب جدا عملك يدل على ذلك وهذا العمل لا يناسبك.
التزمت الصمت ..وكأنني لا أرغب الاسترسال معها في الكلام..تردد في داخلي أن الفتاة لا تعي ما تنطق به..إنها فتاة مدللة هدفها تجزية بعض الوقت على حسابي ...حين لاحظت صمتي وعدم إجابتي على ملاحظاتها أضافت:
- هل جربت أن ترسم لوحات خاصة بك؟
رمقتها بنظرة خاطفة ثم أجبتها:
-نعم ..لدي كثير من اللوحات الشخصية لكن لا أحد يهتم بها.
بحماس أضافت:
-هل يمكن أن تسلمني بعضها ..أنا يمكنني أن أعرضها على أساتذتي في فرنسا.
بدهشة التفت نحوها...في نفسي قلت "ها هي فتاة حالمة أخرى"..
كانت تنتظر ردي ولما تباطأت في الجواب أضافت ملحة:
ما رأيك ؟
فكرت للحظات ثم أجبتها:
لا مانع لدي..لكنني لست متأكدا من جدوى ذلك.
التمع بريق فرح في عينيها فأضافت:
- لا تكن متشائما.. في فرنسا الأمر مختلف..هنالك يوجد اهتمام حقيقي بالفن..أعرف رسامين محدودي المواهب، ومع ذلك يتم الاحتفاء بهم، وتباع لوحاتهم بأثمنة لا تخطر لك على البال.
في دواخلي أخذ بعد الاقتناع يمهد طريقه نحوي..أعدت النظر إلى الفتاة محاولا أن أستشف علامات الصدق، فوجئت بمدى اختلافها عن أبيها سحنتها تبدو منبسطة وهادئة..إنها تنتمي إلى أولئك البشر الذين سرعان ما يشعر نحوهم المرء بالطمأنينة...لا يبدو عليها أي نوع من الخداع على وجهها...ما جال في خاطري غير نظرتي نحوها، فأقبلت عليها بقلب مفتوح...رسمت على شفتي ابتسامة شكر وعرفان،ثم قلت لها متسائلا:
-وهل يمكن أن نستشير أباك في الأمر.
اكتسى وجهها ببعض الحزن ثم قالت بنوع من الحسم:
- إطلاقا..لا يمكنك ذلك.
- ولم؟
ترددت لحظة ، ثم قالت:
- الحقيقة إن أبي لن يسعده أبدا أن تنال فرصتك ..من مصلحته أن تظل تحت تصرفه إنه يستغلك ويكسب من ورائك ووراء أمثالك الكثير من المال.
كلماتها أطاحت بما تبقى لدي من تحفظ نحوها..لكن مع ذلك لم أجارها في طبيعة حديثها ...من يدري ربما تلعب الفتاة معي دورا ما؟...فجأة سألتها:
-وما مصلحتك أنت في هذا الأمر؟
أخرجت السيجارة ..وضعتها بين شفتيها أسرعت إلى إخراج القداحة ...أشعلت لها اللفافة ..مصت بعض الدخان بعصبية..ثم مجته في فضاء الغرفة، ثم قالت:
- أنت لا تعرف شيئا.
باستغراب رددت عليها مستفسرا:
- ما الشيء الذي لا أعرفه...أرجوك أن تخبريني.
ظهر بعض التردد على ملامحها..أبعدت بصرها عني ثم قالت :
-لا أستطيع أن أخبرك بشيء..سأتركك تكتشف الأمر بنفسك.
انتابني كثير من القلق..إلى ماذا تلمح هذه الفتاة؟.. ما الشيء الذي يجب أن أكتشفه بنفسي؟.. وضعت الفرشاة في مكانها ثم حملقت فيها بكثير من الجدية ..أبعدت بصرها عن نظراتي الجسورة. قلت لها راجيا:
-يجب أن تخبريني هل الأمر خطير إلى الحد، الذي يجعلك غير قادرة على النطق به. عبت جرعات متتابعة من الدخان ثم قالت:
- الأمر يتوقف عليك.
باندهاش رددت عليها:
ما هذه الألغاز؟ لم لا تكونين واضحة؟
حينذاك ..ألقت نظرة أخيرة على اللوحة ..رمقتني بنظرة سريعة وحادة، ثم قالت:
-وداعا...سأنصرف لدي موعد مهم.
قبل أن تغادر المرسم ..حاولت التأثير فيها قائلا:
- لقد أرعبتني ...لم لا توضحين لي ولو جزء من الأمر؟
لم ترد على استعطافي. بخطى سريعة توجهت نحو الباب، فتحته متعجلة، وقبل أن تختفي وصلتني تحيتها الأخيرة :
-باي.
ما إن أصبحت وحدي من جديد حتى كبس على أنفاسي تأثير كلمات بنت السيد حسن.. في نفسي قلت "بالتأكيد هناك شيء ما لا أعرفه، وقد يكون له علاقة بأبيها، ولكن ما هذا الشيء الذي لا تستطيع البوح به ؟..استرجعت ملامحها وبعض العبارات التي استعملتها في كلامها..لايبدو عليها أنها محتالة.. هل يمكن أن تكون علاقتها مع أبيها ليست على ما يرام، وهي بذلك تود الانتقام منه بهذه الطريقة. فأي إنسان يسمع كلامها يتملكه الخوف من التعامل مع السيد حسن. في نفسي قلت أبدا لن أسقط فريسة للأوهام..كيفما كان الأمر فهي فتاة مراهقة.
قد لا تعي جيدا ما يتفوه به لسانها...طردت هواجسي بعيدا محاولا التركيز على اللوحة أمامي..بيد أنني وجدت نفسي عاجزا على ذلك..وضعت الفرشاة في مكانها،زحفت نحو الكرسي..اقتعدته، ثم أخرجت سيجارة..أشعلتها، متمنيا أن أنفث مع دخانها بعض من القلق الذي تربع على وجداني.
متعبا تلك الليلة توجهت نحو سريري ..أفكار وهواجس تنتابني ..أحاول أن أبني فكرة واضحة على كل ما يحدث لي في الأيام الأخيرة ..شريط الأحداث يمر في ذهني ،متتاليا حينا ومتشظيا حينا آخر.. على مقربة من الوسادة، قبع جهاز التسجيل ،وقد ألقمته شريطا غنائيا لبوب
مارلي.. صوته المخضب بسحر "الراسطا" ينساب هادئا وعميقا، أغنية « the three little birds » تحرك في دواخلي رعشة رومانسية، أتهادى مع أنغامها الجميلة.. أطرد هواجسي للحظة، ثم سرعان ما تقتحمني بكثير من الحدة.. السيد حسن .. ابنته هدى .. منى.. أصدقائي خالد وسعيد وسمير .. المرسم.. سيدي بوزيد.. تنتهي أغنية بوب مارلي لتعقبها أخرى تتحدث عن العبودية مصير الإنسان الأسود في القارة الأمريكية، بعد أن اقتلع من تربته الطبيعية في رحاب إفريقيا، التي تسم أبناءها بسمات خاصة، اللون والعاطفة الجياشة، أغنية Befalo Soldier » « .. فرضت علي نفسها للحظات، فكرت في مدى القهر الذي عانته البشرية بسبب الميز في اللون أو العرق أو الدين.. تدريجيا أخذ الخدر يتسرب إلى كل عضو من أعضاء جسدي.. بصعوبة أفتح عيني، لكن سرعان ما تنغمضان.. لا أدري كيف انقطعت فجأة صلتي بالعالم الواقعي، فانغمست في أعماقي.. رأيت نفسي وأنا أمشي في حقل واسع شديد الخضرة.. العالم من حولي غير العالم.. مندهشا أتطلع في المكان .. أحاول أن أتبين حقيقة المكان الذي أتواجد فيه..لا شيء مميز، فقط بساط من الخضرة يحيط بي من كل جانب.. لم أدر لحظتها أي شعور يجب أن أوطن نفسي عليه.. أأفرح لهذا العالم الأخضر الذي يقدم نفسه لي بلا تحفظ، أم أتوجس من ذلك خيفة؟.. مضيت في طريقي، لأتبين لي وجهة.. فجأة انبثق أمامي طريق.. بدون وعي مني وجدت نفسي أسلكه، ثم سرعان ما تفرع الطريق إلى مسالك عدة.. حائرا وقفت أمامها.. لا أدري أيها أختار.. بقوة مغناطيسية خفية انجذبت نحو أحدها.. مشيت فيه، ألتفت يمينا ويسارا.. في قلبي ارتعاشة خفيفة.. قدماي لا أكاد أتحكم في وجهتهما.. اختفى الاخضرار من حولي، أنا الآن أمام بناية غير واضحة المعالم.. لا أستطيع الجزم بطبيعتها.. بناية شاهقة، وأكثر جدرانها مهدمة.. ماذا يعني ذلك ؟.. لا أكاد أفهم شيئا.. ألفيت نفسي مدفوعا برغبة ما في الولوج إلى تلك البناية.. تقدمت نحوها بخطى زئبقية، غير أكيدة.. فجأة وجدت نفسي وسط البناية. لا أدري كيف حدث هذا التحول المفاجئ.. فقط كنت أحملق من حولي.. الخوف يستبد بفؤادي.. البناية فارغة.. الجدران وحدها تتعانق في كآبة.. حملقت جيدا في عمقها، حيث بدا لي شيء ما غير واضح الملامح.. تقدمت نحوه، فإذا بلوحة تنتصب أمامي، زاهية الألوان تفرض على المرء سطوتها.. مسلوب الإرادة دلفت نحوها.. توقفت أمامها.. حين أمعنت فيها النظر، أثار انتباهي عنكبوت صغيرة، سوداء اللون، تتحرك برشاقة داخل اللوحة.. كدت لأول وهلة أظنه جزءا من الرسم.. لكن حركتها الدائبة، وهي تنسج شبكتها الرفيعة، أطاحت بهذا الظن.. تألمت لحال اللوحة.. هي جميلة ومتألقة، لكن نسيج العنكبوت سيشوهها.. بدت لي العنكبوت وهي مجددة في عملها، وكأنها تمارس رقصة بديعة.. أخذت بحركاتها للحظات، لكن سرعان ما ران علي الحزن بسبب مصير اللوحة.. عزمت أن أخلصها من العنكبوت.. لا أدري كيف وجدت في يدي شيئا لم أتبين طبيعته، يمكنه أن يسعفني في طرد العنكبوت أو قتلها.. بخطوات حذرة دنوت منها.. رفعت يدي لأهش عليها بما في يدي، فحدثت المفاجأة، التي كادت تقذف بي في أحضان الإغماء.. العنكبوت تضخمت بشكل لا يصدق.. تدريجيا أخذت تنتفخ.. أنا عاجز عن الحركة أحملق فيها منذهلا.. مأخوذا بقوة المفاجأة، أحسست بأن أعضائي قد شلت، لا تقوى على الحركة.. العنكبوت تحتل تدريجيا فضاء البناية.. بعد لحظات التصقت بي، ضغطتني نحو الحائط.. وأنا أحملق في جثتها الضخمة.. حاولت أن أصرخ.. استغيث.. لكن صوتي انكتم في داخلي.. لا حيلة له في الانتشار خارج حنجرتي.. ارتعبت.. نشجت بصمت.. حجم العنكبوت لا يكف عن التضخم.. حتى بدت عملاقا ضخما.. وأنا المنضغط بين الجدران والعملاق الشاهق، أحس بنفسي ضئيلا، تافها، وعاجزا.. فجأة بدأت البناية تتهدم.. من حولي أرى حجارتها تتساقط.. قوة العنكبوت وضخامتها لم تترك للبناية أي حظ في المقاومة فتهاوت.. هكذا وجدت نفسي في العراء.. تنفست الصعداء.. فأطلقت ساقي الريح.. أركض بكل ما أملك من قوة.. التفتت خلفي فإذا العنكبوت تتعقبني.. من جديد وجدت نفسي في رحاب الخضرة.. لا أدري كيف حضر في ذهني تلك اللحظة السيد حسن.. لا أفهم العلاقة التي يمكن أن يربطها المرء بينه وبين العنكبوت.. أستمر في الركض، وقلبي يكاد ينفجر من الخوف والتعب.. فجأة تنبثق من العدم صورة "منى" تحتل المكان من حولي.. حيثما وليت نظري أراها مبتسمة، ترمقني بنظرات حانية، أحاول أن أتمسك بها، فلا أتحصل سوى على الفراغ.. فجأة تنتصب أمامي بناية أخرى، مختلفة عن البناية الأولى.. في أعماقي انتصب إحساس بأن صورة منى تستدرجني نحو البناية، التي بدت في أحسن حال.. تحين منى التفاتة نحو الوراء.. العنكبوت مجدة لا تزال في محاولتها اللحاق بي.. حين أشرفت على البناية، انفتحت بوابتها تلقائيا.. لم أتردد في ولوجها.. انغلقت البوابة، فأحسست بكثير من الطمأنينة.. لكن ما لبثت أن سمعت ضربات قوية على البناية.. العنكبوت تحاول أن تقتحمها.. استولى علي الرعب من جديد، ظللت في مكاني محتميا في أحضان البناية.. إحساس ما تبرعم في وجداني وذهني بأنني هنا في هذا المكان بعيد عن الخطر.. الضربات تزداد قوتها.. لكن الجدران صامدة.. بغتة هزت الأجواء صرخة قوية، مزلزلة، فانتفضت بكل ما أملك من قوة، فإذا بي أجد نفسي جالسا على سريري أتصبب عرقا، وقد اكتسحت حلقي غلة شديدة.. استرجعت هذا الحلم الغريب في ذهني.. وجيب قلبي لا يزال مضطربا.. غادرت فراشي.. توجهت نحو المرحاض أفرغت متانتي مما تجمع فيها.. دلفت نحو المطبخ.. فتحت الثلاجة.. تناولت قنينة ماء.. أفرغت بعض مائها في جوفي.. ثم نكصت نحو سريري، وأنا أنوس بين عوالم متناقضة تحول، دون أن يستقر ذهني ووجداني على حال.
عند انتهائي من لوحتي الأولى، تقاضيت أجرا مجزيا من السيد حسن، وكلمات مشجعة، أذكت في نفسي الحماس، وحرضتني على بناء قصور من الأحلام الوردية بخصوص المستقبل.. تبين لي من خلال تعامله معي بأن كل شكوكي لم تكن في محلها.. بررت كل هواجسي السابقة بنفسية الفنان الميالة دوما إلى الحزن، بفعل الحساسية الزائدة اتجاه الذات والعالم..
استعدادا لحفلة يوم السبت، قصدت "جوطية درب غلف" ذلك السوق الشهير ببضائعه المتنوعة المهربة، لأبحث لنفسي عن هندام مناسب، أحضر به الحفل، ركبت طاكسيا كبيرا، فقطع بي صحبة الركاب، المسافة في وقت قصير جدا.. ترجلت قرب مرآب حافلات الوكالة المستقلة للنقل الحضري، المتواجدة بتقاطع شوارع مشهورة، كشارع بئر انزران، وشارع الروداني وشارع طريق الجديدة..انتظرت اشتعال الضوء الأحمر ليتوقف سيل السيارات المنهمر، ثم عبرت الطريق جذلا بما تحصل لدي من مال..إنها تكاد تكون المرة الأولى التي أتحصل على مبلغ محترم من المال نتيجة عملي...أسرعت في سيري، مررت على سوق الخضر، الذي دأبت على رؤية طبقة خاصة من الناس تقتني حاجياتها منه، هو دائما نظيف، وخضره وفواكهه مرصوفة بنظام يغري على الشراء ..لمحت نساء أنيقات يتبعهن خادمات، يحملن قففا ليملأنها من ثمار السوق المتأنق ..السيدات يشرن من بعيد بأصابعهن المدللة نحو البضائع، والباعة يناولونهن المطلوب ...على امتداد الشارع المحاذي للسوق ترتكن سيارات فاخرة، داخل أغلبها تتواجد كلاب من أنواع راقية، يصعب رؤية مثلها تائهة في الشوارع...واصلت سيري حثيثا...أول ما يستقبلك وأنت تضع قدميك في "الجوطية" كرنفال من أصوات الأشرطة الغنائية، أغاني شرقية وأخرى غربية، وثالثة شعبية..الباعة يتنافسون في جذب الزبناء نحوهم...وكلما ارتفع صوت الشريط، يعتقد البائع أن رواد السوق سيميلون نحو...بضائع متنوعة، لا يمكن أن تخطر للمرء على بال ...بعضها جديد، وأكثرها مستعمل ...ملابس، آلات إلكترونية، مفاتيح فرش، طنافس...كراس...كتب...نظارات طبية وشمسية...ساعات...إطارات ألمنيوم...أنوع من العصير، حلويات ...أدوات ميكانيكية...قطع تبديل للسيارات ...أشرطة غنائية...توجهت نحو ضالتي دون تضييع الوقت في التجول على المحلات، كما اعتدت ذلك، أيام البطالة.. دخلت بعض المحلات، أجول ببصري على المعروضات..من الصعب أن يطمئن قلب الإنسان لشيء محدد أمام هذا الركام من الملابس والأحذية ...أينما حللت تجد ترحيبا من الباعة ...يعرضون عليك ما لديهم بكثير من الكرم وحسن الضيافة...لا شيء يلبي رغبتي ..أريد ملابس لائقة بهذا الحفل المنتظر..يجب أن لا أكون أقل من الآخرين أناقة ...وجهتي وقصدي ملابس إيطالية مهربة...يجمع الكل على أناقتها وجودة المواد المستعملة في صناعتها ...استفسرت عن ثمن بذلة من هذا النوع ...حين أخبرني البائع بالثمن أسقط في يدي ....لا قبل لي بتحمل مثل هذه المصاريف ...عوضت رغبته بخطة بديلة، تقتضي شراء كل من المعطف والسروال منفصلين، مع مراعاة انسجامهما...ذلك بلا ريب سيكون أقل ثمنا ويضمن لي أناقة مقبولة ...جربت كثيرا من المعاطف، لكن كل معطف يبرز فيه عيب معين...في نهاية المطاف خفضت من درجة حماسي...كان علي أن أقبل ببعض التنازلات ..حينها استطعت الحصول على بغيتي..لم أجد بعد ذلك أدنى صعوبة في الحصول على سروال مناسب.. لكن محنتي ستتكرر مع الأحذية.. من الصعب تمييز الأصلي من المقلد فيها.. القاعدة تقول كلما اشتريت بثمن أغلى حصلت على بضاعة جيدة.. حددت المقدار الذي يمكنني التضحية به.. قمت بجولات متعددة حول محلات بيع الأحذية.. في كل مرة أجد نفسي أكرر نفس العملية.. أختار حذاء، أقيسه لأرى إن كان مناسبا لرجلي، ثم أنخرط مع البائع في التفاوض حول الثمن، ألمس في نفسي بعض الانقباض نحو الحذاء، فأتخلى عنه.. أعتذر من صاحب المحل، وأنتقل إلى محل آخر.. بعد محاولات عدة حصلت على بغيتي، وإن كنت قد تنازلت قليلا على النموذج الذي ترسخ في ذهني.
مساء، كنت بكامل أناقتي وأنا أقف في المكان الذي اتفقت عليه مع السيد حسن، في ملتقى الطرق ما بين شارع سيدي عبد الرحمان الذي يفصل الحي الحسني وحي الهناء، والمتوجه قدما نحو عين الذئاب، وشارع طريق آزمور الذي يعد امتدادا لشارع عمر الخطابي، الذي هو بدوره امتداد لشارع أنفا.. كانت نسائم البحر تصل إلي تباعا، فتنعشني بأنفاس باردة.. إحساس متناقض يرين علي.. يتملكني الانتشاء للحظات بسبب ما تحقق لي في الأيام الأخيرة، فإلى عهد قريب كنت أقف على حافة اليأس.. هاهي الحياة تزين وجهها بابتسامة جذلى وتحييني بخجل.. تظهر لي وجهها البشوش، وتعدني بالمزيد.. لكن سرعان ما يخترقني وميض الليلة الماضية.. يتعملق حلمها المرعب في وجداني.....فرحتي تتقهقر.. أتطلع في السيارات القادمة.. أنتظر حضور السيد حسن، فذلك كفيل بتخليصي من الحالة التي تنتابني..
فجأة توقفت على مقربة مني، جانب الإسفلت، سيارة سوداء، رباعية الدفع.. أحملق فيها.. أنتظر إشارة ما، فإذا السيد حسن يترجل منها ويقبل علي باشا، مرحبا، وقد بدا متألقا بملابسه الزاهية، الباهظة الثمن.. دلفت نحوه.. حييته، ثم توجهنا نحو السيارة.. لم يكن بصحبته أي شخص آخر.. طرح ذلك علي بعض الأسئلة في نفسي، فلجمتها داخلي.. انطلقت السيارة تنهب الطريق متوجهة باندفاع صوب مدينة الجديدة.. مررنا في طريقنا، بأراض فلاحية يانعة الاخضرار.. هذا المنظر الجميل على امتداد منطقة " دار بوعزة " ذكرني بحلم الليلة الماضية.. علامات الاستغراب عرشت في ذهني.. وخفقات قلبي طالها بعض الاضطراب.. التزمت الصمت.. امتدت يد السيد حسن إلى جهاز التسجيل في السيارة، حركه، فانبعثت منه موسيقى شرقية خفيفة منشرحة، تبعث في الأجواء البهجة.. دون أن يلتفت السيد حسن نحوي سألني:
- لم أنت صامت، ألا يستهويك السفر؟
بسرعة رددت عليه:
- بلى.. إن السفر متعة، أحبه كثيرا.
لم يترك السيد حسن الصمت يبني حاجزه السميك بيننا فأضاف:
- إذا مكثت في العمل معي فسوف تمتلئ حياتك بالأسفار.
ابتسمت، ثم صمتت.. عيناي تلتقطان المناظر الجميلة من حولنا، في هذه الأجواء الربيعية الجميلة.. حين تجاوزنا منطقة " سيدي رحال " توغلنا في بادية " اشتوكة " حيث التقطت عيناي بساتين الخضر المترامية الأطراف، وعلى حواشيها ترعى الأبقار والأغنام.. تعجبني البادية بامتدادها وفضائها المفتوح.. التقط بصري بمتعة الخطوط البديعة لأشجار الصبار.. بين لحظة، صادف بعض البدويين المنهمكين في أشغالهم الفلاحية.. وعلى امتداد الطريق صاحبتنا زرقة المحيط التي تظهر وتختفي، حسب ارتفاع الأرض وانخفاضها وطبيعة الغطاء النباتي المنتشر فيها.. أشرفنا على مدينة آزمور، فأخذ غبش المساء يتسلل من حولنا، ليبسط يديه على العالم.. عبرنا قنطرة المدينة، فالتفت نحوي السيد حسن، ثم اقترح:
- هل نرتاح قليلا ونتناول شيئا هنا؟
دون حماس أجبته:
- الأمر عندي سيان.
توقفت السيارة، فترجلنا، قصدنا المقهى.. أخذ كل منا كأس القهوة، ارتشفنا المشروب بالتذاذ ونحن نحملق في الجدار الأثري الشاهق الذي يسيج المدينة القديمة.. لا أدري كيف بعث هذا الجدار هواجسي من جديد، ذكرني بالحلم الذي أحاول طمره في أغوار الذاكرة.. انهممت من جديد.. أحس الرجل بقلقي فبادرني سائلا:
- ما بك؟ تبدو قلقا.
أردت أن أخفف من الأجواء، فأجبت:
- لا، لا شيء، هذا الطبيعي، فأنا حال وأحوال.
شربنا كأسي القهوة.. ثم غادرنا المدينة، لم يعد يفصلنا عن مدينة الجديدة سوى مسافة قليلة، قطعناها في فترة زمنية لا تكاد تذكر، بعد أن عبرنا وسط غابة ذات أشجار كثيفة، ينام في حضنها السجن المشهور " العادر ".. أضواء المدينة تتراقص أمام ناظرينا.. وأنفاس البحر غدت أكثر قوة وعنفوان.. خفف السيد حسن من السرعة، فأتاح لي ذلك الاستمتاع بالمدينة، حين وصلنا مركز المدينة، أخبرني الرجل أنه يحتاج إلى اقتناء بعض لوازم السهر.. تركني هناك واختفى..
مأخوذا بأجواء المدينة البديعة، حركت قدمي اتجاه مركز البريد، ثم عبرت نحو ميناء المدينة، لأجد نفسي في مواجهة الشاطئ، الذي طالما فتنني هدوؤه وانبساط رماله، التي غالبا ما يجعل منها الجديديون ملعبا مفضلا لكرة القدم.. المقاهي ممتدة على مشارف المحيط، يرتادها زبناء قلة في هذا الوقت من السنة، على عكس أيام الصيف، حين تكتظ بالرواد، أغلبهم وافدون على المدينة، بحثا عن الرطوبة والانتعاش.. تجولت قليلا على الرصيف، ثم سرعان ما تقهقرت راجعا نحو السيارة. حين وصلت كان السيد حسن يحتل مكانه وراء المقود.. ركبت، فتحركت السيارة، خضنا في بعض الشوارع، ثم ما لبثنا أن غادرنا المدينة، متوجهين نحو الضاحية، حيث توجد منطقة " سيدي بوزيد " حين أشرفنا عليها، توغلنا في طريق غير معبد، فإذا ببناية تلوح إلينا رغم بعض الظلمة التي تكتنف المكان.. علق السيد حسن:
- ها نحن قد وصلنا.
توقفت السيارة.. نزل السيد حسن، ثم حثني باحتفاء:
- تفضل.. انزل.. البيت بيتك.
ترددت قليلا، لكنني مع ذلك غادرت مكاني، وترجلت من السيارة.. طلبت من السيد حسن أن أساعده في حمل مقتنياته، لكنه امتنع بلطف.. وهو يقول:
- لا تشغل بالك.. الأمر لا يستحق..
لم أجادله في ذلك.. وإنما انشغلت بالبناية التي فرضت علي سطوتها بقوة.. مرة أخرى يحضر الحلم بقوة.. أربكني ذلك، فتردد في دواخلي بالرغم عني هذا السؤال "ترى ماذا ينتظرني داخل هذه الفيلا؟" .. للحظة سخرت من هواجسي التافهة .. تتبعت خطوات السيد حسن، لأجد نفسي داخل بيت فاخر.. كل شيء فيه يشي بالثراء.. أجلت بصري في المكان من حولي، والانبهار يتربع على سحنتي.. أحس السيد حسن بانبهاري، فقال:
- لا تخجل. البيت بيتك.
ارتميت على كرسي وثير.. أشعل السيد حسن التلفاز، ثم انصرف لا أدري إلى أين.
لازلت لم أكون صورة واضحة عن مرافق البيت.. أخذت عيناي تلتقط الصور التي تجود بها الشاشة.. أحاول بذلك قهر ما يعتمل في دواخلي من أحاسيس.. فجأة ظهر السيد حسن ثم شرع يعد المائدة أمامي.. وضع بعض القناني من المشروبات الروحية، ثم بسط بجانبها أنواع من الأطعمة المكونة أساسا من النقانق واللحم المفروم، وبعض الفواكه ومستلزمات السهرة.. هواجسي ترسخت أكثر فألقيت عليه سؤالي:
- أين الآخرون؟ لا أرى أحدا هنا.
علق الرجل ابتسامته الزئبقية الماكرة، ومخنثة على شفتيه. ثم أجاب:
- لا تخشى شيئا.. قد يحضرون في أي وقت.
لم تقنعني إجابته.. شعرت أن هناك شيئا ما ليس على ما يرام.. التزمت الصمت.
بدأ السيد حسن في تناول الطعام ثم حثني على الأكل.. مددت يدي بتوجس.. تناولت قليلا منه.. ثم تراجعت إلى الخلف.. كانت شهية السيد حسن مفتوحة.. فأقبل على الطعام بمتعة .. أصر أن أشاركه في ما تبقى، فاستجبت بتردد.
جمع الرجل ما فضل من طعام، بحنكة من اعتاد هذا النمط من الحياة.. امتدت يده إلى قنينة "ويسكي" فتحها وصب منها في كأس أمامه، ثم تطاولت يده نحو كأسي فسكب فيه بعضا منه، ثم قال بابتهاج:
- Sec أو Mélangé؟
صمتت، فامتدت يده إلى قنينة أخرى لأحد المشروبات الغازية، فأضاف منها إلى كأسي، أمسك كأسه، نظر إلى برجاء، فامتدت يدي إلى كأسي، ثم قال:
- في صحتك.
كرع كأسه في دفعات متتالية، فيما ارتشفت قليلا ثم وضعت الكأس أمامي، صب له كأسا آخر، وأتى عليه في لحظات .. سرعان ما بدا مفعول المشروب عليه، فتخضب وجهه بحمرة أرجوانية.. استأذن مني ثم اختفى من جديد.. وحدي ظللت أقلب الوضع من وجوه عدة.. أحاول أن أرتب ما يحدث ضمن سياق واضح، يسعفني في اتخاذ قرار ما.. فجأة ظهر السيد حسن، وقد غير ملابسه.. كان يرتدي سروالا قصيرا وقميصا خفيفا.. استغربت الأمر.. توجه نحوي بابتسامته الزئبقية.. جلس، ثم سرعان ما نهض من مكانه.. أطفأ التلفاز، وأشعل جهاز الفيديو .. ألقمه شريطا، ثم عاد إلى مكانه.. أمام ذهولي أخذ الشريط يرشقنا بصور جنسية فاضحة.. التفتت نحو السيد حسن مستغربا ثم سألته:
- ما هذا؟ ماذا يحدث؟
علق الرجل على شفتيه ابتسامة مخنثة ، ثم قال:
- هل لديك عقدة من الجنس.. إننا نستمتع.
التزمت الصمت برهة.. الأمور أخذت تتضح أمام ناظري تدريجيا.. دنا السيد حسن مني، حتى التصق بي، ثم قال:
- ألا أعجبك؟
ارتبكت.. ابتعدت قليلا، فأصر على الالتصاق بي، ثم قال:
- ألم تفهم يا صديقي؟
دون تردد أجبته:
- ماذا علي أن أفهم؟
امتدت يده نحو عضوي، بحركة رشيقة، ثم قال:
- أريدك أن تكون صديقي.
وكأنني صعقت، انتفضت من مكاني .. جلدته بنظرة شرسة ثم قلت:
- ماذا تقصد؟.. هل أنت شاذ؟
ابتسم أكثر ثم قال:
- ما هذه الكلمات القاسية.. أنا فقط رجل عاطفي، ورومانسي.. أحب أن أعيش حياتي حتى الثمالة.
حينذاك، استعدت وعيي كاملا فخاطبته:
- إذن لم يكن الرسم سوى طعم.
أتى الرجل بحركة مخنثة ثم قال:
- الآن أنت تفهم جيدا، تعجبني هكذا.
دون تباطؤ أردفت
- وإذا رفضت الاستجابة لك.
ابتسم الرجل ابتسامة ماكرة وقال:
- إنك شاب عاقل.. مستقبلك معي، ولن تضيع ذلك من بين يديك.. أنا لا اطلب كثيرا فقط لقاء واحد في الشهر.
اختطفت نظرة نحو الشاشة، كان تبث صورة لرجلين شاذين يمارسان الجنس بشكل مقزز، يبعث على الغثيان.. أبعدت بصري.. نظرت إلى السيد حسن، كان يتلذذ بالمشاهد.. بيني وبين نفسي حسمت أمري، فقلت للرجل:
- هذا لا يمكن أن يحدث أبدا.. أرجو أن تدعني أنصرف بهدوء.
رمقني الرجل بغنج:
- أنا لن أفرض عليك شيئا، لكن لا يمكن أن أدعك تنصرف في هذا الوقت من الليل.. أعدك أن لا يحدث شيء الليلة.. أنا لست مستعجلا.. خذ ما يلزمك من الوقت. وفكر في مصلحتك.
نظرت إليه نظرة احتقار، ثم توجهت نحو الباب لأنصرف، كان الباب مقفلا من الداخل.. طلبت منه أن يفتحه.. لكنه رفض .. حين ذاك هددته، قائلا:
- إما أن تفتح الباب أو سأشرع في تكسير كل شيء أمامي.
بتودد نظر إلي ثم قال:
- لم كل هذه العصبية؟.. دعنا هنا إلى الصباح، وحينذاك ستنصرف.
غاضبا أخذت أركل الباب برجلي.. قام السيد حسن من مكانه ثم خاطبني قائلا :
- لا نريد فضائح.. ثم أخرج حزمة من النقود، ومدها نحوي.. أمسكتها، تأملتها لحظة ثم رميتها على الأرض، وقلت له بلا مبالاة:
- لا تلزمني.. فقط أريد أن أغادر هذا الوكر المتعفن.
علامات الغضب ارتسمت على ملامح الرجل، فبدا أكثر صرامة، ثم قال:
- سأستدعي الشرطة، وأتهمك بالسرقة.. ماذا تفعل هنا في مسكني؟
هنا وجدت نفسي أفكر بسرعة في حل ينجيني من مكيدة الرجل.. التمعت في ذهني فكرة قوية، فطبعت على وجهي ابتسامة، تشي بثقة في النفس ثم قلت له:
- لا تستطيع فعل ذلك.. لدي ما أدافع به عن نفسي، وأستطيع توريطك.. ابنتك حكت لي كل ما يتعلق بك.
حينها ظهر الانشغال على وجه الرجل.. أحسست بتغيير يطال ملامحه، ثم بانفعال خاطبني:
- بماذا أخبرتك تلك اللقيطة؟
دون تردد أجبته:
- لن أخبرك بشيء حتى تحضر الشرطة.
أتت الفكرة بالمطلوب، فأخرج الرجل المفتاح، فتح الباب ثم قال:
- إلى الجحيم، لا تفكر أن تتصل بي مستقبلا، يا وجه الفقر والهم.
انسحبت من الفيلا..وجدت نفسي في الخلاء.. من بعيد يلوح لي كهرباء الطريق يؤدي إلى مدينة الجديدة.. أسرعت في الخطو، اصطدمت قدماي بكثير من الحجارة.. نباح الكلاب يصلني من بعيد، خفت أن تعترض سبيلي.. واصلت سيري حتى بلغت الاسفلت.. توقفت جانبه، منتظرا مرور سيارة.. لاشيء في الأفق.. فجأة لاح لي ضوء سيارة قادمة من بعيد.. حين اقتربت مني أشرت إليها بالوقوف.. لم يستجب صاحبها لإشارتي.. في نفسي قلت "لم لا أقطع المسافة مشيا على قدمي وفي نفس الوقت ألوح للسيارات العابرة بالوقوف؟.. مضيت بمحاذاة الإسفلت، كل شيء يذكرني بحلم الليلة الماضية.. لا أدري كيف وجدت نفسي أفكر في منى، لزاما علي أن أتصل بها.. قطعت عهدا على نفسي أن أهاتفها حين أصل المدينة.. مرت كثير من السيارات، ولم تتوقف منها واحدة.. كدت أيأس من وقوف إحداها، فإذا بي أفاجأ بسيارة أجرة كبيرة قادمة من مدينة آسفي على ما يبدو، توقفت، ركبت، فانزاح عن نفسي غم ثقيل.. تنفست الصعداء.. أحسست بأنفاس الحرية تهب على كياني.. ابتهجت ابتهاج من فك أسره بعد مدة سجن طويلة.. في المدينة قصدت إحدى الفنادق المتواضعة.. حجزت هناك غرفة قضيت بها ليلتي..
صباحا، تناولت فطوري، ثم توجهت نحو مخدع الهاتف، ركبت رقم هاتف بيت منى:
- ألو..
– ألو من؟
أنا يوسف..
- أي يوسف ؟
تبينت فيما بعد أن الصوت مختلف، إنه ليس صوت منى .. فتداركت الأمر قائلا:
- هل منى موجودة.
رد علي الصوت بهدوء:
- من يطلبها؟
- ترددت لحظة ثم قلت:
- أنا طالب أدرس معها، أريد أن أسألها عن شيء ما بخصوص الدراسة.
- ردت علي المتكلمة قائلة:
- انتظر، سأناديها.
- انقطع الاتصال لحظات، ثم جاءني صوت منى يتمادى في خيلاء
- آلو.. من؟
- آلو منى.. أنا يوسف.
صمتت برهة ثم قالت:
- ماذا فعلت بخصوص ما حدثتك عنه؟
بفرح أجبتها:
- لقد كنت على حق، لقد تخلصت من الرجل وعمله.
بانفعال ردت منى:
- كيف حدث ذلك؟
بثقة أجبتها:
- لا يهم كيف حدث ذلك.. المهم أنني في حاجة إليك، متى نلتقي؟
دون تردد أجابت:
- مساء إن شئت..
بكلمات لا إرادية، وجدت نفسي اقول لها من أعماق قلبي:
- أحبك.
لم يصلني أي رد فعل .. صمت معبر امتد بيننا، ثم قلت بفرح:
- أراك مساء.
بغنج قالت:
- سأنتظرك بشوق
ثم انقطع الاتصال.

انتهى
































الســـيــرة الذاتـيــة

مصطفى لغتيري
- العنوان: ص. ب 8844 حي الألفة الدار البيضاء.
- الهاتف: 065.43.09.02
- من مواليد 1965 بالدار البيضاء
- عضو اتحاد كتاب المغرب

1. هواجس امرأة - مجموعة قصصية - منشورات وزارة الثقافة - 2001
2. شيء من الوجل - مجموعة قصصية - دار القرويين 2004
3. مظلة في قبر - قصص قصيرة جدا- منشورات القلم المغربي 2006
4. "رجال وكلاب "- رواية - منشورات إفريقيا الشرق 2007.
5. تسونامي - قصص قصيرة جدا - منشورات أجراس - 2008
6. عائشة القديسة - رواية - دار النايا - سوريا 2008.
7. ليلة إفريقية - رواية - أفرقيا الشرق - 2010.
8. رقصة العنكبوت - رواية - دار النايا - سوريا 2011
9. ابن السماء - رواية - دار النايا - سوريا 2012.
10. على ضفاف البحيرة - رواية - دارالنايا - سوريا 2012.
11. "أسلاك شائكة (رواية) دارالوطن المغرب 2012 و دارالنايا سوريا 2013
12. تراتيل أمازيغية - رواية - دارالنايا - سوريا 2013.
13. زخات حارقة - قصص قصيرة جدا- دارالنايا سوريا 2013
14. "امرأة تخشى الحب( رواية) دارالنايا سوريا 2013.
15. "ربيع تونس- رحلة الإنسان و الأدب ( رحلة) دارالنايا سوريا 2013.
16. تأملات في حرفة الأدب – مقالات أدبية –دارلوطن –المغرب 2013
حاصل على :
جائزة النعمان الأدبية من لبنان
• تكريم الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب
• جائزة ثقافة بلاحدود من سوريا
• تنويه جائزة دار الحرف للرواية.



#مصطفى_لغتيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسلاك شائكة- رواية- الكتاب كاملا
- لعبة القدر
- قصص قصيرة جدا من جنوب المتوسط
- الجسر
- شيء من الوجل - الكتاب كاملا
- بورتريهات قصصية في -ظلال حارقة - للكاتب المغربي ادريس الواغي ...
- ثيمة الصمت في -حطب بكامل غاباته المرتعشة - للشاعرعبد الغني ف ...
- ضجة بسبب صورة غلاف مجموعة قصصية
- العرب تحاور مصطفى لغتيري حول اتحاد كتاب المغرب
- امرأة تخشى الحب
- ورقة حول مشروع النشر و الإعلام و التواصل.‎
- إلى أصدقائي الرائعين
- التجديد تحاور لغتيري حول المبادرات الجديدة لاتحاد كتاب المغر ...
- في ذكرى ميلادي السابعة و الأربعين.
- البيان الختامي للمؤتمر الوطني الثامن عشر لاتحاد كتاب المغرب
- فجر جديد في اتحاد كتاب المغرب
- هواجس امرأة - مجموعة قصصية - الكتاب كاملا.
- -رجال وكلاب- لمصطفى لغتيري: أو : جدلية الوضوح والتعتيم
- رواية ابن السماء للروائي المغربي مصطفى لغتيري
- -تراتيل أمازيغية- مخطوط رواية جديدة لمصطفى لغتيري.


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى لغتيري - رقصة العنكبوت -رواية- الكتاب كاملا.