أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى لغتيري - هواجس امرأة - مجموعة قصصية - الكتاب كاملا.















المزيد.....



هواجس امرأة - مجموعة قصصية - الكتاب كاملا.


مصطفى لغتيري

الحوار المتمدن-العدد: 3834 - 2012 / 8 / 29 - 22:38
المحور: الادب والفن
    















الطبعة الأولى 2001
منشورات وزارة الثقافة المغربية.
تقديم :
هواجس امرأة بحيرة قصصية تحتفي بالجدل ... إذ يكاد يكون في كل قصة طرفان يتصارعان، غير أنه جدل من نوع خاص ، جدل روحي إذا صح التعبير، توتر في العلاقة الإنسانية لا ينتهي إلى مركب جديد يطور الجدل بقدر ما يدور حول نفسه ليحافظ على نار الجدل مشتعلة . وربما كان المركب الذي يبنيه هذا الجدل في كل قصة هو القصة نفسها.
و يبدو أن هذا المحرك الداخلي للكتابة في قصص المجموعة كلها هو الذي جعلها تتميز - و لا أقول تمتاز - عن كتابة القصاصين الآخرين من جيل الأستاذ لغتيري بخاصية فريدة في بناء الجمل : جمل الكتاب الآخرين قصيرة برقية خاطفة تتجاهل أدوات الربط و تتقدم في قفزات متقطعة كما يدرج العصفور.
و جمل الأستاذ مصطفى لغتيري طويلة كأعناق الزرافات ، تتمدد كل جملة منها بالنعوت و الأحوال و الظروف و أدوات الشرط و الربط ، و تتحرك على أرض القصة كما يتحرك المحراث.
-هل لأنها تزرع معنى ما لم ينبت بعد ؟
-هل ذلك لأن ما تتحدث عنه ( هذا الجدل الروحي الداخلي ) متشابك متداخل معقد؟
-هل هو جدل آخر يشب في القصة المغربية بين حداثة الإحساس و قدامة التعبير؟
قد يكون شيئا من هذا كله ، و قد لا يتعدى جدل قراءة يعبر عني أكثر مما يعبر عن المجموعة القصصية أو كاتبها.
ما رأيك أيها الداخل إلى البحيرة؟
أحمد بوزفور.





هواجس امرأة
- لم تخبرني برأيك في الموضوع؟ قالت و هي تنظر إلى الزاوية اليسرى ، حيث كانت عنكبوت تنسج بإتقان مصيدة في انتظار فريسة ما.
- عن أي موضوع تتحدثين ؟ سألها و عيناه تمسحان الشارع الخلفي للبيت ، و هو يتساءل في أعماقه عن سر هذا السكون الذي يدثر المكان من حوله .. و لا حركة واحدة.. الأمر مقرف للغاية.
- موضوع الفتاة، فأنا في أشد الحاجة إليها. أشعر برعب حقيقي عندما أفكر أن حياتي ستستمر دون أن أرزق ببنية، تؤنسني في وحدتي. أجابته و هي تتأمل بإعجاب هذه العنكبوت التي لاتكل، فرغم أنها تخرب بيتها يوميا تقريبا ، إلا أنها مصرة على الاستمرار في البناء ، بل و في نفس المكان تقريبا . و الغريب أنها كلما نظفت البيت ، لا تعتر لها على أثر.
-قلت لك أكثر من مرة إن الأمر خارج عن إرادتنا ، و إن وافقتك الرأي فمن يضمن لنا أن المولود سيكون بنتا . أجابها محاولا إقناعها ، بينما يلمح في الشارع من سيحدث أول ثقب في جدار لسكون السميك : رجلا يحمل كيسا على ظهره المقوس و هو ينادي في شبه رتابة:
- نخال ..خبز كارم.
شعر ببعض الارتخاء عندما لمح الرجل ،الذي واصل سيره غير مبال بما حوله ، و كأنه لا يتوقع أن يناديه أحد ، ليعطيه بعض الخبز اليابس.
- لماذا لا نجرب؟ لدي إحساس عميق بأن محاولتنا لن تذهب سدى . قالت بنبرة يخالطها أمل زئبقي ، كلما حاولت التمسك به ، بدا لها سرابا ، تفوح رائحته بين ترانيم صوتها المتكسر. و عيناها تعلقتا بذبابة تحلق في فضاء الغرفة ، تصدر طنينا ، و كلما أوشكت أن تحط في مكان ما ، خالجها التردد ، فتستمر في طيرانها، و كأن إحساسا بالذعر يحاصرها.
- أنت تفكرين بعاطفتك ، و أنا لا أرغب في أن أغامر في تجربة غير مضمونة النتائج . قال ذلك و هو يتطلع في فضول إلى كلب يتبع كلبة . ابتسم في أعماقه . الكلب يبصبص بذيله ، الذي لا يتوقف عن الحركة . و الكلبة أدخلت ذيلها بين قائمتيها الخلفيتين ، و هي تصدر صوتا أقرب إلى النحيب منه إلى النباح.
- هذه الأشياء لا دخل للعقل فيها ، فإحساس الأمومة أقوى من حسابات العقل . قالت ذلك و هي تحملق بتركيز في الذبابة، التي مازال طنينها يغتصب في لطف مساحات الصمت ، التي تفصل بين كلامها و كلام زوجها . استوت في جلستها ، و هي تراقب الذبابة التي تنتقل دون هدى . تنزلق نحو النافذة ، و كأنها تفر من خطر محدق بها .. تصطدم بالزجاج ، ثم تعود إلى تحلقيها و قد تضاعف طيرانها.
حاولي التفكير في حل آخر غير الحمل و الإنجاب. أنت تعرفين ما تحملناه من جهد و تعب في المرة السابقة ، فكان الطفل ذكرا كالعادة. لفظ الكلمات و هو يودع بعينييه الكلبين اللذين استمرا في طريقهما . حاول أن ينسج في مخيلته ما يمكن أن يحدث بينهما بعد زمن قصير ، إلا أنه تراجع عن ذلك و قد أفرج عن بسمة استلقت على شفتيه ، سرعان ما اختفت و هو يتلقف كلماته زوجته:
- و أي حل تقترح؟ لقد تعبت من التفكير دون أن أهتدي إلى حل . قالت و هي تحدق في تلك الذبابة التي زادها ارتطامها بالزجاج تشنجا ، فأضحت أكثر إصرارا على الطيران من ذي قبل ، و قد استبد بها ذعر حقيقي ، إنها تطير دون تركيز و عينا المرأة تطاردانها بإصرار كبير .. تدنو الذبابة من بيت العنكبوت ، تمر محاذية .. العنكبوت لا تزال كامنة تنتظر بشغف فريستها.
- فكري في التبني . فهو حل مناسب لمثل حالتنا . يقول بلهجة المتيقن ، و هو يرمق سيارة تمرق في الشارع الخلفي. حاول التعرف على سائقها ، بيد أن ذلك بدا له صعبا ، فاكتفى بالنظر إلى لوحة أرقامها . لم يكن فيها شيء مميز ، فالتفت نحو زوجته التي نادته:
- أحمد ، أحمد ، أراهن أن هذه الذبابة ستقع فريسة للعنكبوت.
- أي ذبابة ؟ و أي عنكبوت ؟ قال مستفسرا.
أشارت إلى عش العنكبوت ، ثم إلى الذبابة المتوترة ، التي ازداد ارتباكها ، فتضاعفت قوة طيرانها.
ابتسم و هو يتجه نحو النافذة . فتحها، فإذا بالذبابة تنسل خارج الغرفة ، فيما رمقته زوجته بنظرة يمازجها عتاب لا يكاد يعلن عن نفسه ، ثم قالت:
- سأفكر جديا في الموضوع.


مصير شجرة

كان الوقت قد جاوز الظهيرة بقليل، حين كانت خطواته تدوس بقايا الأوراق والأغصان اليابسة المتناثرة في جنبات الطريق، تصدر خشخشة تختلط بأصوات تنبعث من أماكن مختلفة، يطغى عليها صفير صرصار توارى خلف شجرة، أو تفيأ تحت حجرة من الأحجار المتراكمة بين الحقول. تتوسط الشمس كبد السماء، تسكب أشعة بلا انقطاع، تلفح وجهه، فيقي عينيه براحته اليمنى وهو ينظر إلى الأغصان العارية التي تتطلع باستعطاف إلى غيمة شاردة، يسحبها نسيم لا يكاد يعلن عن نفسه، فيتعلق بها بصره وهو يتمتم:
- آه لو تمطر !
يواصل سيره، يصادف امرأة تحمل على ظهرها كومة من الحطب، يفسح لها الطريق لتمر. ثعبان أصفر يتسلل من بين الأشجار، لينساب نحو شجرة غير بعيدة عن فزاعة، تنتصب وسط الحقل، لطرد العصافير كي لا تلتهم الحبوب التي بذرت في انتظار قطرات الغيث... التربة عطشى وقد تجعد وجهها واعتراها شحوب ، مافتئ أن تحول إلى شقوق يزيدها القيظ اتساعا، وكأنها شفاه تبتهل للسماء لتجود عليها بما يطفئ العطش الذي غدا أخطبوطا يلتف حول رقبتها....
التفت إلى الشجرة التي انساب في أعماقها الثعبان، تأمل أفنانها الجرداء، وهي تتشابك في عنف زاد من إحباطه، فبدا له الأمل في المطر متجردا من أوراقه مثل هذه الشجرة. وفي لحظة لا يعرف كيف تكاثفت فيها دقات قلبه قرر أن يقطع الشجرة ، لتصبح وقودا يستعين به على قسوة أيام القر القادمة.
خالجه إحساس غريب وهو يقترب منها.. تفحصها بإمعان ... ثم ابتعد عنها، لم يجرؤ على تنفيذ ما قرر. خيمت عليه ذكرى والده وهو يغرسها، فشعر حينها بأنها ضاربة بجذورها في أعماق وجدانه. نظر إلى التربة المتشققة. سحلية تمرق بسرعة لتتسلل إلى أحد الشقوق. رفع بصره نحو السماء المشبعة بالزرقة حتى النخاع. لازال النسيم يرعى السحابة اليتيمة في البساط الأزرق اللامتناهي. تحسر، ثم قرر أن يقفل عائدا إلى البيت ليكلف ابنه البكر بقطع الشجرة.
في طريقه نحو المنزل كانت قدماه تصطدمان بأحجار متناثرة في غير انتظام، مخلفتين وراءهما غبارا يرتفع عن الأرض للحظات ثم يرتمي نحوها في عناق أبدي،لا يفسده سوى خطوات تائهة في أوقات متباعدة.. يلمح صبية تركض في اتجاهه، ترتدي كسوة امتزجت ألوانها بلون التربة، يتصبب من جبينها عرق، شكل منه الغبار المتطاير خطوطا، تقاطعت على محياها المائل إلى السمرة. توقفت عنده وهي تلهث وتغالب مخاطها الذي يطل من فتحة أنفها اليسرى كدويدة مترددة.
تخاطبه بصوت متقطع:
- أبي .. أبي .. البقرة تلد.
يرد عليها بارتباك يخاطبه فرح حذر:
- صحيح يا ابنتي؟ وماذا فعلت أمك؟
- أمي لا تعرف ماذا تفعل إنها تبكي بجانبها كلما تضاعف ألمها.
يسرع في مشيته والصبية تحاول أن تجاريه في المشي، فإذا بها تجد نفسها تعدو بجانبه وعلامات الإجهاد ترتسم على محياها، فتلتفت إليه مستعطفة:
- لقد تعبت يا أبي.
يشجعها الأب على مواصلة المسير، وهو يتمتم بكلمات مبهمة، تغدو أكثر وضوحا مع كل خطو تلتهمها قدماه بنهم، يغذيه خيال أضحى أكثر خصوبة، تزهر فيه صورة القادم السعيد.. يتقدم نحو المنزل الطيني على إيقاع دقات قلبه المتسارعة، يركض نحو كلبه الأغبر وهو يبصبص بذيله الذي لا يتوقف عن الحركة، يحاول أن يتجاهله ليواصل سيره إلا أن زغرودة لعلعت في الفضاء جعلته يتوقف مذهولا، وقد احتلت شفتيه ابتسامة، تشي بفرحة استوطنت كيانه. وقبل أن يستأنف خطواته استقبلته زوجته بباب المنزل بأسارير منبسطة، وهي تلفظ كلمات تلقفها بعشق آسر:
- امبارك ومسعود !
حينها تسللت الشجرة إلى خياله، وقد كستها خضرة يانعة ، تغازلها قطرات الندى بلطف أيقظ في دواخله حنينا دفينا، جعله يتراجع عن قرار اجتثاثها.



الإسكافي
شعور بالقرف يكتسحني كلما مررت أمامه، فمنظره يبعث في نفسي التقزز، وكلما ألقيت بصري نحوه، تراءى لي دكانه كوحش يفغر فاه في رتابة مستعدا لابتلاع كل ما يمكن أن يقترب منه، وربما لهذا السبب كنت أسرع الخطى كلما دنوت منه، وكأن شعورا بالخطر يداهمني.
حينما تمزق حذائي الأيمن كنت مضطرا لزيارته حاولت التغلب على شعوري بالقرف نحوه، وأقنعت نفسي بأن لحظات قليلة لا تضير، وهي كافية لترميم الحذاء فقررت أن أتحمل خلقته التي لم ترق لي يوما.. توجهت نحوه بخطوات مرتبكة، يخالجني تردد، استطعت برباطة جأش أن أخنقه وأدوسه بقدمي، اللتين تتقدمان بثبات وعزم تجاهه.
عندما أشرفت على باب الدكان الذي بدا لي قذرا ومشمئزا، وجدته منهمكا في إصلاح نعل نسائي.. ألقيت عليه تحية مقتضبة وأنا أمسح بعيني جنبات المحل ،التي علقت عليها أنواع من الأحذية في فوضى ضاعفت من المرارة التي أحس بها نحو صاحبه.. رفع نحوي بصره، فما كاد يتحقق من وجودي، وربما من هويتي، حتى خضب وجهه بابتسامة عريضة وهو يمد يده نحو الحذاء.. وقبل أن يتفحصه مد لي كرسيا خشبيا وعيناه تشعان ببريق من الأنس، وهو يخاطبني بلهجة ودودة:
- تفضل، اجلس.
شكرته واعتذرت له بلطف، إلا أنني حين لمس إصرار، استجبت على مضض، خاصة حين أكد لي أنه سيصلح الحذاء حالا.
اقتعدت الكرسي الخشبي ، في الوقت الذي انهمك فيه الإسكافي في ترميم الحذاء. ودون مقدمات، وجه لي الخطاب قائلا:
- أراك دائما تحمل كتبا، هل أنت أستاذ؟
أدركت أنه يريد أن يورطني في حديث لا ضفاف له.
فأجبته باقتضاب:
- نعم.
كان إصراره على مواصلة الحديث أقوى من رغبتي في إنهائه، فاسترسل في الكلام محاولا تحطيم حصن الصمت الذي لذت به .. أخذ يتحدث عن ظروف العيش في أيامنا هذه، وعن الأزمة الخانقة التي أكد أنه يحس بها أكثر من غيره، فطبيعة عمله تجعله يجس باستمرار نبض المعيش اليومي للناس، فكلما أصروا على ترميم الأحذية شعر بدرجة الاختناق التي يحيونها.. لم أستطع إخفاء إعجابي بطريقة تحليله، وبدرجة وعيه بمشاكل الناس، فلم أجد بدا من التعليق على بعض استنتاجاته، مع المحافظة على مسافة معقولة، حتى لا أجد نفسي منغمسا معه في حديث لا يمكن إنهاؤه.. بيد أن أسلوبه في الحديث وتقاسيم وجهه التي كانت تنضح حيوية وهو يلفظ الكلمات بسلالة وحماس، في الوقت الذي يصوب فيه مطرقته نحو مسامير صغيرة جدا بدقة وإتقان في أماكن محددة من الحذاء المستسلم لقدره، جعلني ألمس دفئه الإنساني ينساب بلطف نحو، فلم أستطع مقاومته.. ورويدا رويدا وجدت نفسي أناقشه في بعض ما ورد على لسانه، وأنا ألمح في محياه مسحة من الألفة والدعة افتقدتها في الناس منذ زمن بعيد، وأحسست أن شجرة من اللطف والسماحة تمتد داخله، وارفة الظلال، أخذت شيئا فشيئا تغمرني بظلالها. فتملكني حينئذ إحساس عميق بالذنب على نظرتي السابقة له، وأخذت أستفيض معه في الحديث وكأنني أحاول أن أكفر عن خطيئتي نحوه..
حين انتهى من ترميم الحذاء قدمه لي بفرح ونشوة، وكأنه يقدم هدية لصديق عزيز في مناسبة غالية. تناولت الحذاء وهممت أن أضع يدي في جيبي لأناوله ثمن مجهوده، غير أنه أقسم أن لا يأخذ مني شيئا، رغم إصراري... ودعته وأنا أفكر في الطبيعة الإنسانية، في ذلك النهر الفياض من الأحاسيس النبيلة ،الذي يمكن أن يغمرنا في أية لحظة من الزمن، وفي أوقات لا يمكن توقعها، ومن أناس امتد الوهم بيننا وبينهم سورا منيعا، يحجب عن تيار الدفء البشري الذي يفور من أعماقهم.
في صباح اليوم الموالي تأبطت بعض كتبي، ثم توجهت نحو مقهاي المفضل لأحتسي قهوتي الصباحية، وما كدت أخطو بعض الخطوات، حتى وجدتني أنجذب نحو دكان الإسكافي، الذي ما عن انتبه لقدومي حتى وقف مرحبا وهو يمد لي كرسيه الخشبي ... ولم تمض سوى لحظات حتى كنت أتمدد تحت ظلال شجرة إنسانية وارفة، وأنا أخوض معه في حديث ، تمنيت من أعماق قلبي لو يستمر إلى ما لا نهاية.




ديالكتيك العشق

I. القضية
حين رفعت القينة عقيرتها تصدح بصوتها الشجي تشنف أسماع الخليفة بألحان رائعة تنساب في عشق ممتزجة بإيقاع موسيقى ينبعث من قيثارة حضنتها في لطف زائد كأنها تحضن رضيعه، كان الخليفة قد تمدد على سريره المزخرف بألوان زاهية، تخترقها خيوط صفراء، تلتف حول شجرة خضراء ، تزينها ثمرات تعددت ألوانها، ويضع تحت ذراعه اليسرى مخدة رسمت على قماشها صورة طاووس انبسطت ألوانه بشكل رائع. وبين لحظة وأخرى يستزيدها مقاطع من شعر جميع. فتنشد:
إن العيون التي في طرفها حور
قتلتنا ثم لم يحيين قتلانا
تؤجج الكلمات في نفسه نار الشوق والرغبة الجامحة التي تجرفه إلى هاوية الاحتراق. فيطلق عليها سهم عينيه الذي يصيبها في مقتلها. تشعر وكأنه يجردها من ملابسها، فتلوذ بحصن الخجل، محتمية بحمرة تخضبت بها وجنتاها. ثم لا تلبث أن تتقدم نحوه بخطوات يعتورها الدلال، لتصب في قدحه مداما يضاعف لوعته. ولما تشعر أنه على وشك أن يلتهمها، تتقهقر في لطف وكأنها نسمة شاردة في يوم قائظ. تتكور في جلستها، وهي تدعو سيدها للاستماع إلى أبيات جميلة لبشار بن برد، فتنطلق مغردة بصوتها الصداح:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
يستحسن الحليفة البيت، فيستزيدها وهو يفرغ جوفه الكأس تلو الأخرى. تستجيب في استسلام. وكلما رددت بيتا، تخلصت من قطعة من ملابسها، لتجعل الخليفة يكتوي بنار تضطرم في أحشائه:
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم
الأذن كالعين تؤتي القلب ما كانا


فيقوم الخليفة وقد اكتنفت كيانه رغبة لا تقاوم. يتقدم نحوها وهو يتلوى من شدة الشوق. يسحبها نحوه بعنف يخالطه لين لا يكاد يفصح عن نفسه، ليحضنهما سرير ،اختلطت فيه الألوان وتشابكت أغصان الشجرة، التي رسمت على فراشه بشكل يستحيل تبيان تفاصيلها.
2. نقيض القضية
جلس في مقعده يدخن بشراهة، وهو يلتهم بعينيه صورا لنساء عاريات، زينت جدران الغرفة. وبين لحظة وأخرى، ينظر إلى معصمه، ليتأكد أن الوقت لا يزال سانحا لتزوره في بيته كما وعدته. ما أصعب الانتظار، ثم يخاطب نفسه: "لابد أن تأتي" يعبث بأصابعه بعصبية ظاهرة. وكلما اصطدمت عيناه بعقارب الساعة ازداد توتره.
دقات متتالية على الباب تضاعف خفقات قلبه. ينتفض نحو الباب يفتحه، لتنتصب أمامه بسروالها (دجينز) وقميصها المزركش بألوان لطيفة تتناسق مع زرقة البنطلون. يتغلب على ارتباكه ويدعوها للدخول، تستجيب وهي تداري خجلها بالعبث بخصلات شعرها القصير وحينما تحتضنهما الغرفة، يسود صمت امتد لبعض لحظات، ثم يمزقه صوت الموسيقى الذي انبعث من الجهاز الذي أدار زره، فيغمر فضاء الغرفة إيقاع راقص لأغنية شعبية، يوجه لها الخطاب في تلعثم:
- هل ترقصين؟
- لا، لا أحب هذا النوع من الموسيقى.
- وأي نوع تفضلين؟
- الآن. لا شيء. أفضل أن نتحدث
- ليس الوقت مناسبا للحديث. ثم يقترب منها، يحاول أن يلتصق بجسدها. غير أنها تنتفض مبتعدة. وقد ارتسمت على شفتيها بسمة خجولة. تعمد إلى الجهاز فتسكته. ثم تخاطبه بلهجة مستعطفة:
- أريد أن آخذ رأيك في قضية تشغلني.
يجيبها:
- ليس الآن. بيد أنه يلمس منها إصرارا يستسلم.
- ماذا؟ تحدثي !
تكتسب ملامحها سحنة جادة:
- هل تظن أن العولمة قدر محتوم على الشعوب؟

يستغرب من جدية السؤال. ثم يدنو منها محاولا استغفالها، وعندما يلتصق بها تبتعد أكثر:
- أجبني من فضلك !
يغلي الدم في عروقه، يشعر أن تيارا عارما يجرفه نحو براكين الرغبة المتأججة في أعماقه، بين أنها بصرامتها تطفئ نيرانه التي تضطرم في أحشائه. يسألها في حنق:
-لماذا تمانعين؟
- أمانع في ماذا؟
- إنك تعرفين ماذا أقصد.
تلملم شجاعتها وترد عليه:
- ولماذا تنتظر مني أن أستجيب لرغباتك؟
- لأنك تحبينني.
- الحب لا يجعل مني جارية لك.
-إذن أنت لا تحبينني.
-لم أقل ذلك. لكنك تصر على أن تسلبني إنسانيتي ، لتخلق مني شهرزاد أسيرة لرغباتك الحيوانية.
- إنك تبحثين عن مبررات.
- بل إنها الحقيقة.
ينتفض واقفا لتغدو قسماته أكثر قسوة وصلابة، فيوجه إليها الكلام بعنف وقسوة:
- اسمعي، إما أن تستجيبي لي. وإما أن نفترق إلى الأبد.
تحاول أن تمتص غضبه بابتسامتها الجميلة:
- لماذا لا تنظر إلى الموضوع من زاوية مختلفة.
- ليس هناك زاوية غير التي عرضتها عليك.
تبتسم أكثر:
- لاحظ أنك متعصب لرأيك. لماذا لا نناقش الأمر بهدوء؟
- لا أرغب في أي نوع من المناقشة. ثم يتوجه نحو الباب، يفتحه لتخرج بخطوات متعثرة وقد انسلت من أحداقها دمعة ساخنة حرصت على إخفائها وهي تغادر البيت.

3. التركيب
كان الظلام قد خيم على أرجاء المدينة حين كان يفرغ في جوفه كؤوسا من خمر رديء في حانة اعتاد على ارتيادها بين وقت وآخر. لفائف الدخان لا تكاد تفارق شفتيه. وكلما رفع عينيه، كانتا تصطدمان بكتلة بشرية تتعمد النظر إليه، وهي تجود بابتسامات مغرية، ينتزع عينيه ليصوبهما نحو ذاته. يتعملق داخله إحساس بالوحدة، يتحول إلى كومة من الألم، تغمر كيانه.، حاول تبديدها بمزيد من الكؤوس. تفسد عليه المرأة التي كانت أمامه تأمله:
- شعل لي أخويا !
يشعر بارتباك لا يلبث أن يتغلب عليه، ليشعل عود الثقاب وهو ينظر إلى العينين العسليتين في فضول زائد. وما أن همت بالانصراف حتى دعاها للجلوس معه على نفس المنضدة. فلم تمانع. وما كادت تستقيم في جلستها حتى هرول النادل نحوها لتخاطبه بدلال مصطنع:
-زوج سبسيال أخويا !
يحمل النادل إليها الزجاجتين ، وهي تثرثر، تحاول أن تقول كل شيء دفعة واحدة. وهو ينظر إليها في صمت لا تتخلله سوى همهمات، تشجعها على الاسترسال في الكلام.
وحينما تنبعث من الجهاز نغمات راقصة لأغنية رديئة، يطلب منها أن ترقص، فتستجيب في دلال وهي تنادي النادل:
- زوج خراين، الله يخليك.
تجرف كؤوس الخمر وعيه حيث لا يدري، يندفع نحوها ، يشاركها رقصتها.
ثم لا تلبث الأغنية أن تتوقف. ليحضنهما كرسي جلدي، يدنو منها أكثر، يهمس في أذنها اليسرى:
- هل نتم السهر في غرفتي !
تبتسم بمكر، ثم تلتفت نحو النادل، الذي أسرع حولها بابتسامة لا تفارق ثغره:
- أجيب لي زوج. ماكتسمعش؟



في رحاب الانتظار

ارتدى الخبر في بدايته ثوب الإشاعة. تسلل عبر الشقوق والنوافذ المواربة إلى جميع بيوت القرية القابعة وسط الحقول الممتدة إلى ما لانهاية.. بدا أن الأهالي ارتشفوا الخبر مع جرعات الشاي الذي دأبوا على احتسائه في أوقات محددة، يسمون بها فترات من أيام الصيف القائظة.. لاكت الألسن الكلمات بحرص وحذر.. وكلما داهم الشك الأذهان،كانت العيون تجود بنظرات ساهمة ، تفضح ذلك الخوف من أن يكون الخبر مجرد إشاعة، لا نصيب لها من الصحة. تتعلق القلوب بحبال الرجاء، التي تربطها بأهداب سماء ،تظلل بزرقتها امتدادات الأمل، الذي زادته الأيام خصوبة، فأينعت شجيراته في بساتين شرايينهم المتدفقة في متاهات الزمن، الذي تناثرت حبيباته ، مكونة كثبانا رملية، تلفح حرارتها أقدامهم العابرة نحو الحلم المنفلت من قبضاتهم، التي أوهنها الانتظار.
اشرأبت القرية نحو الزمن القادم تستشرف الآتي، وتسبح في بركة تنعش جسدها المترنح تحت أشعة الشمس الحارقة، تسائل نفسها حينا، وترمي السؤال حينا آخر في غياهب الامتدادات اللامتناهية، فلا يجيبها سوى الصمت المتلحف برهبة السكون،القادم من عوالم لا قرار لها.
ككل مساء اجتمعت الأسرة حول مائدة العشاء، تحت توهج شمعة يتراقص لسانها الأصفر، يلفظ ضياء متعبة، تصارع الظلمة ،التي تترصدها دون كلل. أخذت المرأة تمزق قرص الخبز إلى قطع متفاوتة، التهمها الأطفال بأعين جائعة ، تسكن وجوها لفحها القيظ، فترك عليها آثار السمرة الداكنة.. فيما يعالج الأب غليونه القصبي. يدخل في جوفه قضيبا فيخرج من طرفه الموالي خيطا أسود ممتلئا، يرمقه الصبي بعينين شاخصتين، فيتمثل له كدودة أرض داكنة، كانت تنام في غيلون أبيه . حينئذ يدنو الكلب المائل إلى الصفرة من الأم وهو يبصبص بذيله، يستجيدها كسرة خبز يسكنها لمدة من الزمن في كيس معدته الفارغ... تمد المرأة يدها نحو الإبريق لتنقذه من وهج النار المتقدة أسفله، وتضعه على المائدة التي قرفصت وسطهم على قوائمها الثلاثة، تشرع الأم في تفريغ الشاي في الأكواب الفاغرة أفواهها، فتسرق ألباب الأطفال، فيما أخذ الكرى يداعب أجفتهم المتعبة.. تخاطب المرأة زوجها بصوت يغالب شرشرة الشاي:
- هل صحيح ما سمعته؟
فيرد بلهجة مستفسرة :
- وماذا سمعت؟
تجيبه قائلة:
- سمعت أنهم سيبنون في قريتنا مدرسة ومستوصفا.
فيقول لها:
- مجرد إشاعة، سأتأكد من صحتها يوم السوق.
ينشغل الجميع بقضم كسرات الخبز، التي يبللونها داخل أفواههم بجرعات من الشاي تكوي شفاه الصغار كلما لامست الكؤوس الدقيقة.
تستقبل القرية يوم السوق بأذرع منفرجة.. يلفظه الفراش مع أولى الصيحات التي تجود بها الديكة لتحفز خيوط النور، كي تهاجم بشراسة رداء الظلمة، فتمزقه وترمي خرقه البالية في أعماق المجهول.. يمتطي صهوة حماره، ويمضي بخطى حثيثة بين الحقول ، التي زادت قطرات الندى سمرتها اشتعالا.
.في السوق تلاقت الأيدي تصافح بعضها بعضا، وتعالى نهيق الدواب، تؤججه الرغبة المستعرة، وثرثرت الألسن بشتى أنواع الحديث، وانتشرت في الجو رائحة الشواء مدغدغة عواطف الأهالي ومسيلة لعابهم. فيما ارتفع الغبار يعانق الجميع فلم يوفر أحدا.. وفي غفلة من القرويين امتدت جذور الخبر، لتنغرس في أعماق تربة مرتوية حتى النخاع، فتشابكت بالشرايين والعظام المنتشرة عبر تفاصيل الأجساد، التي نحتها الجهد والجوع.
عاد الرجال إلى القرية حاملين معهم كميات من الفول المسلوق للأطفال والحلويات الرخيصة، التي تزينها خطوط متوازية في رتابة ، لا تضاهيها سوى تلك الرتابة التي نامت في أعينهم منذ أن كانوا وكانت السماء تظللهم بلا كلل ولا ملل.. عادوا وهم يحملون في قلوبهم الأمل وقد غدا حقيقة، لن يقهرها الشك المتربص بالأفئدة، والذي كان إلى وقت قريب يحلق في فضاء القرية كطيور السنونو، التي تدنو من الرؤس، فما يكاد المرء ينتبه إليها حتى تكون قد عانقت المدى الفسيح.
أيام الصيف تزحف بثبات وحلم "البنايتين " يجثم في سويداء القلوب، يبني له حصونا يعجز عن اختراقها عتاة الجيوش.. تينع الابتسامات على الشفاه لتشي بالفرح الذي يغازل أحلام الصغار، وتستعد النسوة لذلك اليوم الذي سيرافقن فيه الصغار إلى الفصول .. في لحظة متخضبة بحمرة الخجل تتمسح طفلة بتلابيب أمها، تعانقها ثم تسر لها بكلمات اكتسحها الحبور:
"سأتعلم، وأصبح طبيبة"
تستلقي الابتسامة على شفتي الأم، فترد عليها باطمئنان:
"إن شاء الله"
حل اليوم الذي انتظره الجميع، واستعدت له القرية بأحلى ما تملك.. أرسلت الشمس أشعة لينة تلامس الجباه بلطف.. احتشد أهل القرية ينتظرون، بعد أن نصبوا خيمة كبيرة لاستقبال الضيوف الذين سيشرفون على البناء.. وفجأة أطلت الشاحنات من بعيد كنقط صغيرة ما فتئت تنمو رويدا رويدا.. علت الفرحة الوجوه، وانقذفت الدماء نحو الرؤوس ليرتسم الاحمرار على الخدود.. أخذ الأزيز يتهادى إلى أسماعهم ليزف لهم خبر الوصول.. اصطف الأهالي على امتداد الطريق المتربة.. الشاحنات تزحف بثبات والعيون تكاد تغادر الأحداق، فيما تتضاعف خفقات القلوب الأزيز سيد الموقف، يقهر جلبة الأطفال الذين تطلعوا بعشق إلى الشاحنات المحملة بالجدران المعدة للبناء.. الشاحنات تصل .. تمر.. لا تتوقف.. الدم يجمد في العروق.. الأقدام تتصلب.. الدهشة تشنق بفجائيتها الرقاب.. الأزيز يبتعد .. الشاحنات تستمر في طريقها مخلفة خلفها سحابة من الغبار، التي حجبتها لمدة من الزمن، لم تكن كافية لينتشل أهل القرية أنفسهم من براثن الصدمة التي أخرست الألسن، وجعلت الدماء تفر من وجوه الصغار وهم يشيعون الشاحنات بنظرات بائسة.










الثعبان
تملكتني فجأة نشوة مشبعة بالحبور وأنا مستلق على ظهري، أتفيأ تحت ظلال شجرة تنتصب منفردة في الجهة الشرقية لحقل الذرة الممتدة في اتجاه الشاطئ. أتلمظ نشوة الاسترخاء، وقد دب في جسدي خدر لذيذ زاد من روعته شدو عصفور تهادى إلى مسمعي. ينساب متقطعا.
يرصع باتقان رداء السكون بنمنمه المتلألئ، ويفجر في أعماق الذات ينابيع الافتتان ، فتنشرع أبواب الروح برحابة الامتداد، لتعب بجذل واشتهاء تفاصيل اللحظة الآسرة بفتنتها وحضورها الجارف نحو وهاد الدعة والاطمئنان، وتحفز في دواخلي الرغبة في التعلق بأهداب الحياة بولع صوفي..
تداعى سيل من الأحاسيس يطهر الذات من بقايا هموم راكمها الزمن، لتنحل عقدة ما في دياجير القلب، فتستلقي ابتسامة على مبسمي مبددة بلطف سحابة حزن ، ظل طيفها يترصدني دون كلل.
في تلك اللحظة التي لامست فيها أصابع البهجة أوتار قلبي ، انبثق من حيث لا أدري جسد ابني وهو في حالة من الجهد، بدت على ملامحه التي استلقت عليها سيماء الانفعال. يغالب مخاطه الذي بعث في نفسي التقزز، فيما علا وجهه الغبار، فامتزج بخيوط العرق الناضج من مسام جبينه. توقف بجانبي وقد تسارع شهيقه وزفيره، فبدا متلعثما غير قادر على نطق كلمة واحدة. أشاع اضطرابه في قلبي قلقا جعلني أنتفض واقفا، ثم طوقته بين ذراعي وخاطبته مستفسرا:
- ماذا بك؟ ماذا حدث؟
انهمرت دموعه شاقة طريقها على خديه ، حارفة معها بعض الغبار، فأضحى وجهه لوحة سريالية، تشابكت فيها الخيوط واختلطت الألوان بشكل جعلني أرثي لحاله من كل قلبي. ضممته إلى صدري، ثم أردفت قائلا:
- توقف عن البكاء. ثم أخبرني ما بك.
أخذت همهماته تنكتم شيئا فشيئا. ثم قال بصوت لا تكاد نبراته تستقر على حال:
- الثعبان.. بابا.. في البيت.. الثعبان.. رأيته بابا.. رأيته.
قدرت حينئذ حجم المأساة التي قد تكون حلت بالبيت، خاصة وأنه يومهم الثاني في البادية ، فرؤية ثعبان مهما صغر حجمه سوف تسبب لهم صدمة عنيفة.. حاولت امتصاص انفعاله بكلمات حرصت على اختيارها بعناية:
-لاتخف.. بابا.. الأمر عاد جدا.. فالبادية ليست كالمدينة .. وتلك الثعابين ليست مؤذية.. فالقرويون يتعايشون معها.
غير أن كلماتي لم تقو على إطفاء جذوة الخوف المتأججة في مقلتيه الصغيرتين، اللتين طالما نام في حضنيهما فرحه الطفولي. ذلك الذي كنت أرتشفه بنهم، فلا ارتوي أبدا ، وإنما تزداد غلتي إلى عذوبته كلما انساب في أعماقي جدوله الرقراق.
أجهش باكيا وقد انحبست الكلمات في حلقه..
- لا بابا.. إنه كبير، كبير جدا.. لقد أخافني .. بابا.. أخافني..
سايرته في اندهاشه حتى يشعر بالمشاركة، التي أحسست أنه في حاجة إليها ، ثم استفسرته:
- أحقا هو كبير؟ وهل رأته "الماما"؟
قهر جزئيا اضطرابه. ثم أجاب:
- لا بابا. لم تره.. ولكن عندما أخبرتها، خافت، وطلبت مني أن أسرع لأخبرك.
وبما أنني أعرف مدى الرعب الذي سيتمك "الماما" من مجرد سماع خبر الثعبان، قررت أن أسرع إلى البيت لأتدارك الأمر قبل أن يتطور إلى ما لا يحمد عقباه.. أسرعت بخطوات حثيثة فيما كانت قدما ابني تحاولان مجاراة خطواتي. وكلما تقدمت في طريقي ساورني بعض القلق ، خاصة وأن كلمات الصبي ودرجة انفعاله غذتا التوتر في نفسي، وهو يؤكد أنه رأى عينيه اللامعتين وأنه طويل جدا.. كانت الشمس لا تزال تتوسط كبد السماء فتساقطت أشعتها على رأسينا كشلال استوائي. أشفقت على الصغير فأمسكته بيدي. فعجلتي وتوتري لم يسعفاني على حمله بين ذراعي.
حين وصلت البيت، دفعت الباب، فوقع بصري على "الماما" وهي تحمل بين ذراعيها رضيعها، وشرارة الخوف تلتمع في عينيها المشرعتين إلى أقصى الحدود. وقبل أن أتبين منها دقة الخبر، فاجئتني بعباراتها التي يفوح من ثناياها إصرار لا يلين:
- هيا نعود إلى بيتنا في المدينة، أبدا لن أبيت هنا.
رددت بكلمات تحاول طمأنتها:

- لم كل هذا الخوف؟ هل رأيت الثعبان بعينيك؟
أجابت بنبرة مفعمة بالاستغراب:
- وهل أنتظر حتى أراه؟ أبدا. أبدا.
كان الفزع الذي يهيمن على كيانها أقوى من أية كلمات يمكن أن أخاطبها بها، فآثرت أن أوجه الخطاب إلى الصغير:
- قل لي أنت. أين رأيت الثعبان؟
استولى الانفعال على حركاته من جديد، ثم أشار إلى شجيرة وسط الفناء تحيط بها بعض الأحجار بشكل دائري، مكونة سياجا حولها. تحف بها أعشاب صغيرة متفاوتة الخضرة والحجم. ثم قال بشفتين شاحبتين وعينين استقر فيهما الذهول.
- رأيته، بابا، يتسلل نحو هذه الشجرة.
تناولت عصا صلبة، ثم اقتربت بحذر من المكان الذي أشار إليه، وأخذت أغرسها في نقط متعددة. فجأة سرت حركة وسط النباتات، انقبض لها قلبي، بيد أنني تماسكت وواصلت تحريك العصا. وفي لحظة متوترة انسلت سحلية من بين الأحجار. مرقت نحو الباب، فيما لعلعت في البيت صرخة "الماما،" أما الصغير فانخرط في صراخ هستيري.
- بابا.. بابا.. إنه الثعبان.. أرأيت بابا.
ركضت وراء السحلية محاولا ضربها بالعصا، إلا أنها نجت بجلدها بعدما خلفت وراءها ذيلا يهتز بحركة دائبة.. انفجرت من أعماقي قهقهة امتص بكاء الرضيع المفاجئ بعض قوتها.
ثم وجهت لهما الخطاب:
- أهذا هو الثعبان؟
استغرب الصغير ضحكي. في حين كانت "الماما" قد قررت الرحيل، وهي توجه لي كلاما حازما:
- مادام هناك سحلية، فمن يضمن لي أن ليس هناك ثعبان؟
انسحبت لتبتلعها إحدى الغرف، فيما اتجهت نحو الصغير، حملته بين يدي وأنا عازم على أن أوضح الفرق بين السحلية والثعبان ، وقد تمدد في خلدي شعور مفاجئ بالانتماء إلى هذه الأرض المتربة إلى حدود الانسحاق ، وتخالجني رغبة عارمة لا تقاوم في الهروب، في العدو بأقوى سرعة ممكنة نحو أماكن ،لا يمكن فيها لأي مخلوق أن يفسد علي بصلف وقذارة لحظة إحساس عميق بصفاء جواني، يلقي بظلاله على الذات العطشى إلى الانفلات من صخب الحياة، حتى ولو كان هذا المخلوق ثعبانا حقيقيا لا مجرد سحلية حقيرة لا قيمة لها.























البطاقة

كعادتي عندما أتيه في المدينة، تحملني خطواتي الفاترة نحو اتجاهات لم تخطر لي ببال، يقودني إحساس غامض لم أفلح يوما في تفسيره أن شيئا ما سيحدث، شيئا جديدا أو غريبا يخنق الرتابة ،التي تقتفي أثري وتشدني بين لحظة وأخرى من خناقي، مما يجعل أنفاسي يعتريها بعض الضيق.. أحث الخطى نحو المجهول كأنني أفر من أشباح تطاردني بلا كلل ولا ملل ،لأرتمي في أحضان لحظة منفلتة من سياق الزمن الرتيب، فتحيي في الذات نشوة الانجراف نحو تجربة جديدة.. بيد أن صقيع الإسمنت المتمدد إلى ما لانهاية يجلد بسياطه جسدي المتضائل، وسط لجج بشرية لا تنتهي، فأنكفئ إلى الذات أجتر شريطا داخليا ،يشغلني لفترة من الزمن عن الوجوه المتدفقة على جانبي الإسفلت، فتبدو كأنها نسخ لوجه واحد، استوطنته تقاسيم ترشح قتامة وبؤسا.
أنهيت جولتي كالعادة عند الكتبي، الذي اعتدت اقتناء بعض كتبه المستعملة. استقبلني بابتسامة ما لبثت أن اختفت لتترك المجال واسعا لتلك التقاسيم الرتيبة ، التي تسكنها القتامة، والتي يشترك فيها مع باقي الوجوه. سألته بفتور:
- هل من جديد؟
استعرض علي بعض ما لديه. تصفحت العناوين ثم اخترت ما أستطيع دفع ثمنه، الذي تراضينا عليه بعد مساومة انتهت بقبوله نصف ما طلب أو ربما أقل من ذلك بقليل.
أخذت الكتب وودعت الكتبي، الذي انشغل بفتح صندوقه ليرمي في جوفه ما أخذه مني، فيما توجهت نحو الحافلة، التي ستنقلني إلى البيت، بعد أن اشتاقت إليه كل خلية من الخلايا المنتشرة عبر مساحة الجسد، الذي داهمه بعض التعب.. حينما احتوتني غرفتي، شعرت ببعض التحرر يتسرب إلى ذاتي ، وكأنني تخلصت من عبء ثقيل، كان يجثم على صدري.
استلقيت على سريري، وانا أعب الهواء بكل ما أملك من قوة.. شعرت ببعض الارتخاء ينساب بخفوت إلى أوصالي، انتفضت طاردا الكسل المتربص بي، فأخذت أتصفح الكتب التي اقتنيتها، كان كل شيء عاديا.. الفهرست يحاول أن يكون دليلا مخلصا يختصر المسافة نحو ما احتواه الكتاب. أقلب الصفحات بعجلة.. لفت انتباهي وجود بطاقة وسط أحد الكتب ،الذي كان حجمه متوسطا، أخذتها بين يدي، أثار فضولي بعض الرسوم التي تزينها ،وهي عبارة عن طلاسم لم أستطع فك ألغازها، كنت كلما انظر إليها من زاوية تبدو لي صورة أحد الحيوانات. فمن زاوية تنتصب الطلاسم لترسم صورة أفعى ملتوية على ذاتها، ومن زاوية أخرى تنتظم نفس الطلاسم لتلوح من خلالها صورة طائر غريب، لم أفلح في معرفة اسمه.. ما من الناحية الثالثة فتظهر صورة لشكل لا يمكن تبين ملامحه، فما أكاد أتعرف عليه حتى يخيب مسعاي وتنفلت الصورة من أمامي لتنتظم صورة أخرى لا علاقة لها بالصورة السابقة، وحينما لم أفلح في معرفة هوية الصورة المنتظمة قلبت البطاقة إلى الزاوية الرابعة فإذا حروفها تصفعني بكلمات قاسية: "الشؤم وسوء العاقبة لمن دخلت بيته هذه البطاقة".. حاولت تجاهلها فوضعتها داخل الكتاب الذي كانت وسطه، ثم تابعت قراءة فهارس باقي الكتب، لم ينفعني تجاهلها شيئا، فما إن مرت لحظات حتى وجدت أن ظلال الكلمات والصور التي انتصبت في أعماق الطلاسم تخيم على وجداني.. فوجدت نفسي أفكر في كل ذلك وعبثا حاولت الانفلات من أسره.. وفي الأخير حسمت الأمر بأن لا مجال للإيمان بالخرافات... وأنه ليس من المعقول في شيء أن أضحى بكل ما راكمته من بناء لذات لا تؤمن إلا بالعلم من أجل بطاقة تافهة رماها القدر في طريقي. غادرت سريري لأدلف إلى المطبخ كي أحضر بعض الطعام للعشاء.. كانت نفسي تحيا نزاعا مريرا بين ذات كامنة في أعماقي تحاول أن تنتصب لتجعلني أتوجس من تلك البطاقة، وبين عقلي المتحفز إلى أبعد الحدود ليدافع عن حصنه الصلب المتين الذي يرفض مجرد التفكير في أمرها، تناولت بعض الخضر لأقطعها إلى قطع صغيرة بعد تقشيرها قبل أن أرميها في الطنجرة التي أوقدت النار تحتها.. فإذا بالسكين ينحرف ليصيبني في إبهامي. انسكب الدم أحمر ليوقظ في دواخلي مخاوف كانت نائمة في ركن من أركان الذات.. تركت أمر العشاء وأخذت أحاول إيقاف النزيف، وتضميد الإبهام، فيما نسمة شك أخذت تتسرب إلى ذهني.
استطعت بعد جهد جهيد أن أخنقها في المهد قبل أن تمتد جذورها في تربة الذات.. استغنيت عن فكرة العشاء، ثم ارتميت في فراشي محاولا أن أنتشل نفس مما حدث وأرتمي في أحضان إغفاءة ألوذ بها من هواجسي ، التي أخذت تترصدني رغم محاولاتي الحثيثة للقضاء عليها.
استلقيت من جديد على السرير ، الذي ضمني في لطف ، وما هي إلا لحظات حتى استولى علي بعض الخدر، الذي قذفني نحو نوم داعب خيالي بلطف جعلني أستريح في حضنه الدافئ.. شعرت بنفسي أنقذف في أعماق سكون رهيب ، ففقدت الإحساس بكل ما يحيط بي، فإذا بي أجد نفسي في طريق طويل مقفر لا يبدو له نهاية.. أمشي فيه دون هدى، أحاول أن أعثر على كائن ما .. لا أفلح في ذلك.. الفراغ يدثر المكان بجلاله.. أشعر بالخوف يكتسحني فأعدو نحو المجهول محاولا العثور على دليل يقودني نحو الأمان.. لاشيء.. التفت في كل الاتجاهات، كل الطرق متشابهة.. وفجأة تنبثق من أعماق الفراغ صورة أرعبتني، تدنو مني رويدا رويدا.. تتضح ملامحها .. إنها .. إنها صورة الطائر الذي رأيته في البطاقة يفرد جناحيه وهو يتقدم نحوي.. ثم سرعان ما يتحول إلى أفعى تزحف تجاهي بشكلها المرعب.. أحاول أن أصرخ.. تنكتم الصرخة في صدري، أدفعه بكل ما أملك من قوة.. لكن دون جدوى.. الأفعى تقترب أكثر فأكثر.. الصرخة تتمزق داخلي.. أحاول .. وأحاول.. وأخيرا استطعت أن أنفلت من شرنقة الكابوس المزعج.. فأجدني جالسا على السرير أتصبب عرقا، حينئذ حضرت البطاقة بكل ثقلها، فهيمنت على تفكيري.. دلفت خارج الغرفة قاصدا المرحاض لأفرغ ما تجمع في أسفل بطني.. لعلني أستريح وأطرد ما خيم على ذاتي من أفكار لا تليق وما أومن به.. وما إن خطوت خارج الغرفة حتى تسربت إلى أنفي رائحة البوطان ،الذي عبق بها المطبخ وتسربت خارجه.. وتذكرت برهبة ورعب أنني نسيت الغاز مفتوحا على الطنجرة ،التي غلا ماؤها، واندلق على كانون الغاز فأطفأه. ولولا الحلم الذي أيقظني لحدث ما لا أستطيع مجرد التفكير فيه.. تيقنت حينئذ بما لا يدع مجالا للمكابرة أن البطاقة شر يجب التخلص منه، نظرت إلى ساعتي، إنها الحادية عشر ليلا .. كيف أتخلص من البطاقة....لم أستطع تمزيقها.. لا يمكن أن تبيت معي هذه الليلة.. اهتديت إلى فكرة، فبالقرب من البيت مقهى.. سأذهب إليها وأتناول فيها أي شيء، ثم أحاول أن أترك الكتاب وكأنني نسيته، فيأتي أحدهم ويأخذه وأتخلص منه ومن البطاقة.
كانت المقهى تستلقي تحت وهج الأضواء المتعبة، والنادل أخذ يتسلل النوم إلى جفونه، لكنه تقدم نحوي بخطوات توحي بأنه لازال يتمتع ببعض نشاطه، ناولني ما طلبت، ثم انصرف، فيما انشغلت بتناول ما قدمه لي، وحينما تأكدت بأن لا أحد ينتبه إلي، وضعت الكتاب على منضدة مجاورة وأخفيته ببعض الجرائد.. وما إن نجحت في مهمتي حتى بادرت إلى مغادرة المقهى ،وقد استقر في أعماقي شعور بالطمأنينة وانزاح عن قلبي الهم واستطعت أن أشهق نفسا عميقا أنعشني، وجعلني أنعم بليلة هادئة، تقهقرت خلالها هواجسي مخلفة وراءها إحساسا بالبهجة ظلل كياني.
عندما استيقظت في صباح اليوم الموالي، تناولت طعام الفطور على إيقاع أنغام صباحية جميلة ، انسابت في لطف من المذياع نحو الذات المتعطشة إلى الألحان التي تداعب الوجدان.. دقات متتالية على الباب انتزعتني من لحظتي الجميلة. دلفت نحو الباب لأفتحه، فانتصب أمامي طفل صغير دأبت على رؤيته في المقهى يقوم ببعض المهمات الصغيرة، تطلع إلي بعينين باسمتين ، ثم مد لي يدا ضئيلة تحمل كتابا وهو يقول لي:
- خذ كتابك، لقد نسيته عندنا الليلة الماضية.


















أبدا، لن أعود !

حينما أعلن الطبيب، أن فلانا قد فارق الحياة، وارتفعت أصوات النسوة بالنواح معلنات للعالم أن الموت اختطف من بين أيديهن شخصا عزيزا. كنت قد تسللت خارج الجسد، دون أن يشعر بي أحد، لأحلق في الفضاء. شعرت بنسيم الانعتاق قد هب على كياني. انبسطت أساريري، وتملكتني نشوة الفرح إلى أبعد الحدود. وهممت أن أنطلق في العالم الرحب. أجوب الآفاق، وأكحل عيني بجمال الكون من حولي. بيد أن عويل امرأة اجتذبني نحو الجسد المتمدد في تلك الغرفة الضيقة. نواحها ينسج موالا حزينا، يتغنى بعبثية الموت وقسوته. فكرت للحظة أن أعود للجسد الذي فقد حرارته، وتمدد في حياد لا يعبأ بما حوله. فقد عز علي أن أرى هذه المرأة ،وهي توشك أن تتصدع وينفطر قلبها من هول ما حل بزوجها. لكنني تذكرت أياما وشهورا وسنوات، وأنا بين قضبان الجسد، اكتوي بلهيب الأسر. من الحمق أن أعود. فهذه المرأة ستنسى بعد أن يوارى الجسد التراب. أما حريتي فصعب أن أقدمها هدية لأي كان. تقهقرت إلى الخلف. أسترق النظر إلى الجسد، الذي كنت إلى وقت قريب أقبع في إحدى زواياه. لا أطل على العالم إلا من خلاله. وكلما أحببت أن أنطلق، أن أحيا، اصطدمت بصلابته وقسوته.
صممت أن أنتظر حتى تنقل الجثة إلى حيث سيحضنا التراب. انزويت في ركن علوي أنظر إلى تلك الحركة الدائبة التي اعترت المكان: الناس يدخلون تلك الغرفة ليلقوا نظرة أخيرة على الجسد الذي سيودعهم إلى حيث لن يعود أبدا. في تلك اللحظة يتقدم رجل مجلبب، انتشرت شعيرات غير منتظمة في ذقنه. أفسح الناس له المجال:
- تفضل آسي الفقيه !
يدخل الرجل، وهو يرتل بعض الآيات من القرآن الكريم. ثم يدلف يصب الماء على الجسد بعد أن جرده من ملابسه. وكلما أمسك بعضو من أعضائه شعر بارتخاء قد استوطنه ممتزجا ببرودة الموت، تعلن عن انطفاء جذوة الحياة. بعد أن أتم الفقيه غسل الجسد ، أخذ يلفه في قطع من الثوب الأبيض، ولسانه لا يكاد يتوقف عن التمتمة بكلمات، لا أكاد أتبين معناها.
كان المنظر حزينا ومؤلما. الناس يحملون الجسد ، الذي لفه البياض ليضعوه في النعش الخشبي، قد لعلع في الفضاء نواح النسوة وهن يتنافسن في ترديد خصال صاحب الجسد، الذي كان إلى وقت قريب يغمر بحيويته الدنيا من حولهن. رفع جماعة من الناس النعش وهم يرددون كلمات دأبوا على ترديدها، كلما زفوا جسدا بشريا إلى مثواه الأخير. في آخر الموكب المحتشد في غير انتظام طفلة تتعثر في مشيتها، اختلطت دموعها بآثار التراب ،الذي تعفر به محياها وخصلات شعرها تنافرت بشكل ينم عن إهمال قد لا يكون مقصودا. تحملق في النعش الذي احتضن جسد أبيها. لا تدري إلى أين سينقل وكلما اقتربت من حامليه، كان احدهم يبعدها برفق دون تدري سببا لذلك. ربما تمنت من أعماق قلبها، لو دنت من أبيها وطلبت منه قطعة من الحلوى دأب على حملها إليها كل مساء. جرفني منظر الفتاة إلى هاوية الألم والحزن. كاد يفسد علي فرحتي بانعتاقي، فصممت أن أعود للجسد الذي فارقته، لعلي أعيد إلى ذلك الوجه الصغير بسمته. رفرفت نحوه بعزم لا يلين. بيد أنني ما كدت أدنو من الجسد المتشح بالبياض ، حتى انتصب أمامي مرارة أيام الأسر بعنفها وسماجتها، فما شعرت إلا وأنا أنتفض لأنطلق بعيدا عنه. حافظت على مسافة وأنا أراقب الموكب الجنائزي يلتهم الطريق نحو المقبرة. النعش في المقدمة يحمله بعض الرجال، وخلفهم لفيف من الناس اختلطت بهم زمرة من الأطفال ، يدفعهم الفضول لمعرفة مآل الرجل. وفي آخر الموكب لا تزال الفتاة تنتزع قدميها من الأرض انتزاعا. تتقدم بخطوات متعثرة، محافظة على مسافة بينها وبين الموكب الرجالي.
وصل الموكب إلى المقبرة. تسارع عدد من القراء نحوه، يرتلون آيات من القرآن الكريم ويجمعون ما تجود به الأيدي. في الوقت الذي دلف فيه رجل يشق الأرض بفأسه ، وآخر يساعده على رمي التراب بالقرب منهما ليتكوم في شبه تل . الطفلة تتفحص المكان من بعيد. وأنا أحلق في الفضاء أنظر إلى الرجال وهم يحملون الجسد. يرتفع صوت القراء أكثر ليعلن عن اللحظة التي سيبتلع فيها اللحد البارد جسدا أكثر برودة. تنسكب قطرات الدمع الساخن على وجنتي الطفلة. يعتريني حزن يستوطن أعماقي. أحمله بين ثنايا ذاتي، وأحلق به بعيدا في المدى الفسيح حيث يغدو الأسر ذكرى، طمر جزء منها في تلابيب الجسد، بيد أن طرفا منها تعلق بي، بل أصبح جزءا من كياني.





امتدادات لا متناهية

كانت السيارة تلتهم المسافات غير عابثة بما حولها، تسابق الزمن بإصرار يصل حدود الهوس، وأنا أتكور خلف المقود، أقتفي أثر الشريط الأسود المتمدد برتابة مقيتة إلى ما لا نهاية، يظللني السقف السماوي الأزرق المترامي الأطراف، وقد هامت في رحابته سحابة صيف بيضاء يتخللها سواد لا يكاد يعلن عن نفسه.. يسحبها نسيم خفيف نحو المجهول.. حين فكرت في المدى الذي يمكن أن تبلغه، انتابتني لحظة قلق حاولت جاهدا خنقها في أعماقي ،لأنشغل بالخطوط البيضاء النائمة في حضن الإسفلت، والتي توجه انسيابي باستبداد ناعم..
شعرت ببعض التصلب يترسب إلى أوصالي، زاد من حدته ذلك الإحساس المفاجئ الذي داهمني، فشعرت خلاله بأنني نقطة متناهية الصغر في امتداد لا متناه، يصعب لملمته وتشكيله انطلاقا من رغبات الذات، التي استبدت بها لحظة توتر منفلتة.. من بعيد تراءت لي شجرة أيقظت خضرتها اليانعة في نفسي لواعج، كنت قد طمرتها في غياهب الذاكرة.. عطفت نحوها وقد أسر السحر العابق من ثناياها كل كياني.. أوقفت السيارة، وارتميت تحت ظلالها الوارفة.. تملكتني نشوة أحضان أم رؤوم.. وتهادى إلى مسمعي خرير خافت.. التفت نحوه فإذا بجدول رقراق ينبع من أسفل الشجرة، ليشق طريقه برشاقة في اتجاه لا أعلمه.. وما كدت أستسلم للخدر الذي أخذ يتسلل إلى أوصالي، حتى سمعت نباحا متقطعا ما لبث يعلو شيئا فشيئا ..رفعت رأسي نحو مصدره فإذا بشيخ يحمل على ظهره المتقوس كيسا ممتلئا ويرافقه ثلاثة كلاب، تشتبك خطواته بخطواتها الحثيثة. ولما دنا مني ألقى علي التحية؛
- السلام عليكم.
رددت عليه تحيته، فأردف قائلا:
-احترس إنها شجرة مسكونة.
ودون أن يكترث بمدى الأثر الذي خلفه كلامه في نفسي، واصل سيره، فيما تبددت داخلي ابتسامة ، طفا طيفها على شفتي ، اللتين اكتسحهما بعض الشحوب.. أسعفني استلقائي على ظهري أن أتتبع غصنا منفلتا من صرامة الاشتباكات المتداخلة لباقي الأغصان، فتراءت لي بشكل واضح أوراقه المتفاوتة في خضرتها وامتدادها. كان أغلبها يتدلى إلى أسفل إلا واحدة ترتفع إلى أعلى، وحين أمعنت النظر استطعت أن أتبين الخطوط الرفيعة المنتشرة في أعماقها.. ولكم أعجبني أن أتتبع تأرجحها فبدت لي وكأنها تذكر الكون الذي يتجاهلها بجذوة الحياة المشتعلة في شرايينها.. وما كادت أوصالي تستمتع بلذة الاسترخاء حتى تحفزت كل حواسي حين شعرت بلمسة ناعمة تداعب ملمسي.. انفتحت عيناي فإذا بامرأة ترتدي لباسا أبيض وتسدل على كتفيها خصلات شعرها المنساب في خيلاء. ومن عينيها ينبعث بريق ساحر جعلني أسبح في صفائه العميق.. حاولت أن أسألها عن هويتها، غير أن لساني تخشب، فيما جحظت عيناي وأنا أتملى في ذلك الحضور الكاسح الذي جرف وجداني إلى حافة الانفعال، وقد انتصبت بجسدها الخرافي أمامي، ثم انسابت كلماتها متهادية في لطف وكأنها أنغام قيثارة أسطورية:
- هل أنت غريب؟
حاولت أن أجيب إلا أن صوتي كان قد انزلق إلى ركن ما من جسدي، فلم أفلح في العثور عليه. ولما أحست بارتباكي، أشارت إلي بعينيها السبلاوين بأن أتبعها، فانتفضت ململما جسدي المتهالك.. ومشيت بخطوات راسخة أقتفي أثرها وأنا منبهر بذلك اللمعان الذي يخلفه انسيابها ... وفي لحظة لا يمكن أن تنتمي لسياق الزمن، غاصت بقدميها المتلألئتين في ماء بركة تحاكي بزرقتها زرقة السماء، ثم طلبت مني أن أتبعها، فإذا بي أغوص بقدمي في الماء، فتلسعني برودته القاسية. حاولت أن أستغيث بها فإذا الصوت ينكتم في أعماقي، وإذا بجسدها يندثر.. الصرخة تنبعث من جديد مجلجلة في زوايا الذات، وبرودة الماء تنتشلني من اللحظة الحرجة، لأجدني متمددا تحت الشجرة وقد تصببت عرقا.. وما كدت أسترجع إحساسي بالمكان من حولي حتى تراءى لي صاحب الكيس يقفل راجعا وكلابه الثلاثة ترافقه.. وقبل أن يصل إلي، كنت قد ركبت السيارة وانطلقت في طريقي، ألتهم المسافات. تظللني زرقة السماء، وشبح المرأة يترصدني بلا كلل.. بيد أنه ما إن توغلت في طريقي حتى أخذ يتبدد رويدا رويدا، لأنشغل من جديد بالخطوط البيضاء ،التي انتظمت في رتابة على امتداد الشريط الأسود النائم في حضن المدى اللامتناهي.



سيادة الرئيس

نوافذ المكتب تشرف على بناية تعددت طوابقها وارتفعتن في شموخ، تطاول السحب، حتى إن الرئيس الذي ارتمى في حضن كرسيه الوثير، ذي اللون الأسود، لم يستطع رؤية كل الطبقات. الفضول دفعه لأن يقترب من الزجاج بشكل كبير ويتطلع إلى نهاية البناية. ثم تقهقر في صمت نحو كرسيه، وأخذ يجيل نظره في فضاء المكتب الذي زين بمجموعة من المناضد تناسقت ألوانها مع الكراسي التي وضعت في أماكن حرص على أن تكون بعيدة شيئا ما عن مكتبه.. ومن وسط السقف تدلت ثريا انتشرت في جنباتها قطع بلورية تعطي شعورا بالجاه والفخامة. وأمامه علقت خريطة صممت من مواد متنوعة امتزجت فيما بينها لتشكل صورة فنية رائعة، تسلب الألباب وتبين بخطوط بارزة حدود "البلدية" التي يتربع على عرشها، منذ انتخب رئيسا بأغلبية شبه مطلقة.. كان حرصه شديدا أن يكون البساط أحمر، فقد شعر في أعماقه أن هذا اللون سيمنحه القوة، وسيبعث في نفس زواره الرهبة والارتباك ، اللذين يعجبه أن يظهرا على مخاطبيه. صورة من الماضي لعلعت في ذاكرته، فارتسمت الدهشة على محياه.. لا يكاد يصدق هذا التحول في حياته، إذ لم يكن يحلم مجرد أن يكون نائبا ثالثا أو رابعا للرئيس، فإذا الأقدار تنصفه وتجعله يرتفع إلى القمة.. شعور بالاعتزاز انساب في لطف إلى أعماقه، ليبدد علامات الشرود التي استلقت على قسماته.. حسم الأمر بتأكيده أنه يستحق كل ما يعيش في كنفه من نعيم. فلقد بنى مجده بكفاحه لبنة لبنة، والفضل يرجع إلى مهنته كوسيط ،التي منحته تجربة لا تضاهى، فقد توسط في كل ما يمكن أن يخطر للإنسان على بال: تاجر في السيارات والأراضي والبهائم، كل ذلك أكسبه قوة الإقناع بجميع الوسائل. وتأكد في قرارة نفسه أن لكل شيء ثمنا، لذا استطاع أن يحرق المراحل وأن يجلس على هذا الكرسي الوثير وقد أخذ وعدا على نفسه أن لا يبرحه أبدا ما دام حيا يرزق.. دقات على الباب انتشلته من شروده. رد بصمت تعمد أن يكون مجلجلا:
- تفضل. ادخل !
انفتح الباب فإذا بأحد مساعديه يتقدم نحوه بخطوات مرتبكة. فخاطبه بصوت يخالجه التهدج:
- رسائل. سعادة الرئيس.
مد يده ليتسلم الأظرفة وهو يسأله:
- كيف الأحوال؟
أجاب المساعد بكلمات اعترتها مسحة من الخنوع:
- كل شيء على ما يرام. سيدي الرئيس.
أردف مستفسرا.
- وماذا عن مشكل الكهرباء؟
أجاب بوثوق هذه المرة:
- لقد سددنا ما علينا من دين. واليوم سوف يصلنا التيار.
سأله باندهاش تخالطه نبرة الإعجاب:
- وكيف تم ذلك؟
أجاب وابتسامة ماكرة تداعب شفتيه:
- لقد تصرفت يا سيدي.
انسحب المساعد بتواضع من بين يدي السيد الرئيس،الذي شيعه بابتسامة عبرت عن الرضى ، الذي أحس به نحوه. أثارت انتباهه برقية بين الأظرفة.. تفحصها بإمعان.. ثم حاول فك رموزها، فرغم أنه لم يستطع تجاوز المرحلة الابتدائية في تعلميه، فإنه يتمكن من قراءة الكلمات ولو بصعوبة:
"السيد رئيس بلدية..
المرجو الحضور للندوة، التي ستنظم تحت إشراف الإدارة المركزية، بتنشيط نخبة من الأساتذة حول موضوع "التنمية المحلية ..الواقع والآفاق".
والحضور ضروري ومؤكد".
تاه وسط الكلمات التي لم يستقم معناها في دماغه، غير أنه خرج بنتيجة من قراءته المتلعثمة للبرقية، بأنه يجب أن يحضر لأن ذلك أمر يجب تنفيذه.
حينما خرج من باب البلدية استولى عليه إحساس بالقوة والانتشاء خاصة عندما ينحني له المستخدمون أو يتقدم أحد المارة نحوه ليلقي عليه التحية بتواضع تام ويدعو له بالتوفيق في مهمته الصعبة.. الدكاكين منتظمة على جنبات الرصيف والتحايا تنهال عليه من كل اتجاه، وحينما يتجاهله أحد يشعر بضيق يحاول تبديده بابتسامة زئبقية ،لا تكاد تستقر على شفتيه.
أمام باب البيت استقبله الحارس، الذي هرول نحوه بخطوات سريعة، وارتمى على يده يقبلها، ثم تبعه من الخلف وهو يدر على جميع الأسئلة ،التي أمطره بها تباعا.. أحس بنوع من الارتخاء حين وقت عيناه على شجرة البرتقال وقد ازدانت بحبات انتشرت على أغصانها المتشابكة.. انتبه إلى ظلها المتمدد على بساط العشب الأخضر. وأحس في أعماقه أن الحياة تستحق أن تعاش حتى الثمالة.. خطواته حملته إلى داخل البيت الذي كان أثاثه يفوح ثراء.. ارتمى فوق الأريكة ثم سحب نفسا عميقا، فيما كانت زوجته تأمر خادمة بإعداد مائدة الغذاء، وقد عمدت إلى جهاز التلفاز لتحرك زره، فانهالت عليها الصور يصاحبها صوت المذيعة ،التي تحرص على أن تكون الكلمات موزونة ورصينة ، بينما انشغل الرئيس بتغييره ملابسه. ولما لاحظت زوجته علامات الجدية على ملامحه سألته:
-ماذا بك؟ أراك مشغولا.
أجاب محاولا الضغط على الحروف.
- لا، فقط هناك اجتماع مهم يجب أن أحضره هذا المساء.
حين دخل القاعة، كانت غاصة بالمدعوين، تبادل التحايا مع بعض الذين تعرف عليهم في مناسبات سابقة.. الأقمصة نظيفة وألوانها زاهية.. البدلات تنضح بالمسؤولية. فيما كانت ربطات العنق سمات التميز الواضحة.. اختار مقعدا في الصف الذي يلي صف المسؤولين الكبار. حرص على أن يطلي وجهه بمسحة من الجد التي تقتضيها المناسبة.. دخل المحاضر وأخذ مكانه في المنصة، التي زينت بلافتة كبيرة ، لم يهتم بما خطط عليها لأنها كتبت بلغة أجنبية.. شيء ما جعل حواسه تتحفز بغتة.. الكلمات رغم أنه لم يفهم منها شيئا أثارت اهتمامه.. تطلع نحو صاحبها بفضول زائد ...الصوت يتضح أكثر، والصورة تنفلت حينا وتستقر ملامحها في ذاكرته حينا آخر.. إنه يتذكر صاحبها.. يرجع بذاكرته إلى الوراء، وهو يقتعد كرسيا خشبيا رفقة أحد الأطفال.. إنه معلمه الذي درسه عندما كان صبيا.. شعور بالارتباك استولى عليه.. كان المعلم يهوي عليه بين الحين و الأخر بيده القوية.. تضاءل.. أحس بجسده ينكمش.. تذكر أنه كان متهاونا إلى أقصى درجة، و كان معلمه يعاقبه باستمرار، لأنه لا يساير مستوى التلاميذ.. أحس بأسفل بطنه يتصلب.. ومعه ترتفع حدة الألم.. تذكر أنه كان يفلت بجلده حينما يدعي أنه محصور، و أنه يريد الخروج للتبول.. جسمه تخشب.. علاه الاحمرار، فيما شعر بخيط سائل انساب باردا في ظهره.. كاد أن يرفع يده لطلب من المحاضر أن يسمح له بالخروج لإفراغ ما تجمع في متانته.. تدارك الأمر.. لملم كيانه و انسل خارج القاعة و كأنه هارب من عقاب يترصده.. وما إن استقبله الفضاء الرحب، حتى شعر ببعض الانتشاء ، و أحس بالصبي يضمحل داخله رويدا رويدا، لينتصب في أعماقه الرئيس بكل قوة و جبروته.
























أيام في الجحيم
إلى روح أبي العلاء المعري

أكوام بشرية متكدسة، حرارة مرتفعة. الجو يدنو من الاختناق، وقرص الشمس تعلق بالقرب من الرؤوس، يسكب أشعة بلا انتهاء. أنظر إلى قدمي، فإذا الأرض مختلفة، تغطيها قشرة غريبة. تشعرك أنك تقف على جسم شبه متحرك. اجمع شتات ذهني. أحاول أن افهم. أين أنا؟ أول ما أتأكد منه متجرد من ملابسي. عار تماما. أختلس النظر إلى الناس من حولي، فأذهل. الأجساد عارية، و الأقدام حافية، و الشعور مسترسلة. أشعر بالخجل يكتفني. أنظر إلى الأعلى. السماء غير السماء. و لا سحابة واحدة. الزرقة تعتورها حمرة أرجوانية. وقرص الشمس يدنو من الناس بشكل غريب. ما هذا؟ أتصادم مع الأجساد العارية، فإذا الجميع منشغل عني، يرددون في صوت واحد, :
الرحمة ! الرحمة !
ألمح سحابة علقت في مكان ما. ينبعث منها نسيم يضيع في القيظ. أحاول أن أتوجه نحوها. فإذا بيد ثقيلة تلمسني في كتفي. ألتفت لأرى جسما غريبا هائلا ينتصب أمامي، لا يشبه البشر. أرتعد، يتملكني شعور بالخوف. يوجه لي الخطاب:
- لماذا لا تفعل كالآخرين؟
أجيبه بتلعثم ظاهر:
- إنني لم أفهم شيئا. ماذا يحدث؟ فكل شيء غريب.
يرد علي بثقة زائدة:
- لا تتعجل، ستفهم كل شيء في حينه.
أحاول أن أسأله أكثر، فإذا الجسد الهائل يختفي، يذوب وسط الأجساد أو تبتلعه الأرض. لا أدري. العرق لا زال يتصبب من جسدي، ورائحة الأجساد البشرية، يعبق بها المكان من حولي. ألتفت في كل الاتجاهات أهم بالهرب. لكني أشعر أن قيودا غلت حركتي. أتمنى في تلك اللحظة لو أن الأمر يتعلق بحلم، بكابوس، قد اخرج منه في أي لحظة، أنتظر من أعماقي. أن تلمسني يد، ترجني بعنف بشري لأتخلص من هذا الحلم الثقيل. لكن شيئا من ذلك لم يحدث. أشعر ان المسافة بين الحلم وبين ما أعيشه تتسع رويدا رويدا، لتقضي على آخر قشة أمل تعلقت بها.
ينتزعني صوت قوي من ذهولي:
- فلان بن فلان تقدم !
أتقدم بخطوات متعثرة. أحاول أن أستغيث. ينكتم الصوت في أعماقي، فأستسلم لقدري. أرى في طريقي صخرة صلدة، أحاول أن أرمي جسدي عليها، لأظفر بلحظات من الراحة. فإذا الصوت ينهرني:
- قم، لا مكان للجلوس هنا، ألمم أشلاء نفسي، أتماسك أقوي قدمي، ثم أنتصب واقفا، وشعور غريب يحاصرني يسيطر على ذاتي. أدنو من الصخرة أكثر، فإذا بكتاب ضخم، احتل جزءا منها.
أسمع الصوت من جديد يرج أركاني:
- تناول كتابك !
ارتبك أكثر. أتذكر كلمات بعيدة، تطفو رويدا رويدا، ثم ما تلبث أن تغدو أكثر وضوحا. أفهم ما معنى أن أتناوله بيدي اليسرى. أتراجع. أفكر للحظة، ثم أتقدم من جديد. وجو من الرعب تملكني. أمد يدي اليسرى. أسترق النظر من حولي. فإذا بسكون رهيب، يحيط بي وفي لحظة لم أعرف كيف تمت، أجدني اتناول الكتاب الضخم بكلتا يدي. حاولت يد أقوى أن تنزعه مني وإذا بالصوت ينتشر في الفضاء:
- لا، خطأ يجب أن تتناوله بيد واحدة، يدك اليسرى.
أضم الكتاب إلى صدري. أتمسك بهن في تلك اللحظة يجلجل صوت أقوى، صوت رهيب، زلزل المكان من حولي، ارتعد منه صاحب الجسد الهائل:
- أتركه !
فيبتعد مني تاركا الكتاب في حضني. يطلب مني أن أفتحه، لاتصفحه. كان اسمي بارزا على غلافه. وكلما أمعنت النظر فيه، تراءت لي صورتي، تدنو وتبتعد كأنها طيف في بركة ماء جارية.
يسألني صاحب الجسم الهائل:

- في .......... بتاريخ ........... فعلت كذا وكذا.
أشعر بالخجل يعتورني. أخفض رأسي إلى أسفل. فيستمر يذكرني بكثير من الأحداث، التي ارتكبت فيها أخطاء.
ثم حين يلمس مني إذعانا وقبولا لكل ما يقول يتوجه إلي بلهجة حادة:
-من خلال ما تقدم يتبين أن نبتة الشر مستوطنة في روحك القذرة. شعرت ببعض الشجاعة تخترقني، فرفعت نحوه رأسي ثم قلت:
- بل كنت أحمل ضعفي البشري، والرغبة تستقر في أعماقي. لم أخترها كانت جزءا من كياني. أنمو. فتنمو بوتيرة أكبر. تعملقت في مرحلة ما من حياتي. لم أستطع لجمها.
حاولت أن أكبتها لكنها كانت الأقوى فانتصرت.
أجابني بالسخرية:
- تبحث- كباقي البشر – عن مبررات.
ويشرع يذكرني ببعض التفاصيل التي جعلتني أخجل من متابعة الدفاع عن نفسي. لينسف حصنا من الوهم لذت به، فقط ظننت أنني قمت بأشياء كثيرة قد تشفع لي، بيد أنه تبين أن ما قمت به من شر، سجل في كتابي، يفوق ما توقعته.
ينهي العملية بخلاصة يقول فيها:
- يجب أن ترمى في الجحيم، لتتطهر روحك من القذارة التي تحملها.
يتقدم مني مخلوقان عظيمان، وهما يرددان كلمات لم أتبين معناها. كنت أستغيث بكل ما أملك من قوة، لكن صوتي كان يضيع في نبراتهما القوية، حملاني كما تحمل الكلاب الضالة، فتحا بابا تنبعث منه حرارة لا مثيل لها، ثم قذفاني في جوف الجحيم.
الحرارة ترتفع فيه شيئا فشيئا. والألم يغدو أكثر قوة. أشعر بالجسد يحترق أستغيث. لا من مجيب. الألم يتضاعف، رائحة الجسد المحترق تغلب على باقي الروائح. أشعر أنني أفقد وعيي تدريجيا. ثم ينعدم الإحساس. وأعود من جديد وكأنني أستيقظ من نوم عميق، عميق، صاحبه كابوس مرعب، تكرر العملية. الاحتراق سيد الموقف، نار في كل مكان، الصوت يضيع في أعماقي. إحساس بالعطش يخالجني. لا ماء. الألم فوق التصور. وشيئا فشيئا أحس أنني أكثر قدرة على التحمل، التفت فإذا بجسد آخر يكتوي بالقرب مني. أحاول أن أقترب منه ليؤنس وحدتي. كان منظره منفرا يبعث على الحزن والشفقة. يحمل كأسا يشرب منها لهبا يخترق جسده، يتفحم، ثم ينبعث من جديد. دنوت منه أكثر. ألقيت عليه التحية فلم يرد. سألته:
- من أنت؟
أجاب والألم يعتصره،
- وماذا يهمك أنت؟
قلت مستعطفا:
- يجب أن نتحدث. لأن ذلك ينفس عنا بعض الألم.
أجاب بما يشبه الأسف:
- لك ما تريد، ولو أنني لا يهمني ان أحدثك.
ثم استفسرني:
- من أي أمة أنت؟
أجبته:
- من أمة محمد؟
فاستدرك:
- أقصد هل من المتقدمين أم المتأخرين؟
أجبته:
- بل من المتأخرين.
فقال بغضب:
- إذن أنت ممن تسببوا لي في هذا العذاب.
استفسرته:
- لم أفهم قصدك.
أجاب:
- ألم تكن تعجبك حكمة قال صاحبها "اليوم خمر وغدا أمر"
أجبته:
- نعم. لقد كانت حكمة معبرة ومختصرة، بل إنها من جوامع الكلم.
قال الرجل في حسرة:
- هذه الحكمة أنا قائلها. وهي سبب هذا العذاب الذي لا نهاية له، ولا رحمة منه.






الزقاق

السكون مطبق على العالم من حولي .. لا أكاد أسمع إلا خشخشة متقطعة، تذكرني بهذا الوجود، ظلام كظلمة القبر يجثم على الصدر، يجعل الرؤية مستحيلة. أتحسس أعضائي عضوا، عضوا. كي أتأكد من أنني لم أفقد جزءا مني. أعيد الكرة مرات متعددة، و أنا أخطو خطوات متعثرة.. يمكن لخطوة ما أن تنهي كل شيء. أحاول في تلك اللحظة أن أتذكر كل شيء دفعة واحدة.. وكلما ازداد إحساسي بالضياع، تهاجمني ذكرى بعيدة من ذكريات الصبي. تشرئب بعنقها وسط ركام من الذكريات تغازلني للحظة ، ثم تغوص في العمق.. أحاول أن أتمسك بأحد خيوطها دون جدوى.. أعود إلى لحظتي الآنية. الظلام دامس. وحفرة ما قد تنهي كل شيء، بسبب خطوة لم تطأ المكان المناسب في الوقت المناسب.
كان علي أن أعبر هذا الزقاق من بدايته إلى نهايته.. و منذ أن غصت فيه لم يعد عندي وقت للاختيار.. كل شيء وقع فجأة.. وحينما أحاول أن أتذكر البداية، أجدها بعيدة المنال. صعب جدا أن أعود إلى لحظة الصفر، لحظة الانطلاق، ثم أقف للاختيار.
كان الزقاق طويلا كأنه لن ينتهي أبدا. و كنت أشعر أن في كل خطوة أتقدم بها، يمكن أن تكون نهايتي. حينئذ فكرت جديا في القدر و تمثلاته. الخطوات مرتكبة. و الأفكار لا تستقر. تنفلت، تشرد..الشعور بالخوف يغدو أكثر قوة.و الأمل في العبور سلام يتقلص شيئا فشيئا.. أشعر أن روحي تفارق الجسد، لتتعلق في مكان ما في الفضاء من خولي.. تراقبني.. لا أتبين ملامحها.. أحرص على أن تكون الخطوة دقيقة لا زلت أشم رائحة التربة و كأن هناك حفرا حفرت لتوها.. لكن، ما يغيظني حقا هو تلك الرائحة الغربية، التي تنبعث من ذاكرتي. أكاد أجن حينما تذكي الفضاء من حولي. أشرع في تلمس أعضائي من جديد. أحاول البحث عن تفسير لهذه الرائحة،التي لازمتني منذ زمن بعيد، خاصة حينما أكون في مكان مظلم. إنها تذكرني بأحداث غير منتظمة، متأرجحة و زئبقية. يطغى عليها ثابت واحد هو قامة امرأة مختلفة. تتخذ شكلا من الأشكال في انتصابها. قد أكون رأيتها يوما قي السينما أو في مجلة. أو نسجها الخيال أثناء اللحظات الحرجة.. ها هي تظهر بألوان مختلفة، متموجة، و داكنة،. مرة أراها تفترش الأرض في غنج. وأخرى أراها في عمق الماء تستغيث. تلوخ بيدها. تصدر عنها كلمات لا أتبينها.. أحاول أن أتذكر أكثر. فإذا بها سراب لا أمسك منه إلا تلك الرائحة الغربية، التي تختلط فيها كل الروائح بشكل يبعث في النفس الرهبة ،المككلة بجلال الغموض.
لا زلت لم أتمكن من عبور الزقاق. و الحفر تترصد خطواتي.. أشعر أن شيئا ما يتحرك في اتجاهي.. أحاولأ ن أتجاهل الأمر و أعتبره هلوسة من هلوساتي.. بيد أن كل خطوة تجعلني أمسك قلبي كأني أخاف أن ينزلق و أفقده في الظلام.. ذلك الشيء يقترب.يدنو. أتوتر أكثر.. أحاول أن أسيطر على أعصابي، أن أكون هادئا قدر الإمكان. لكن شجاعتي تخونني.. إنني أفقد السيطرة على كياني شيئا فشيئا. قشعريرة تغزو جسدي. إنها تتسرب إلى كل خلية من خلاياه.. إحساس بالنهاية يعتورني.. أشعر أنني أهوى إلى القاع. شعور بالاختناق يحاصرني.لم يعد لذاتي أي حضور.. كل ما يمكن أن أقوله هو أنني رأيت- اللحظة- أنني وسط بركة موحلة. تنبعث منها رائحة كتلك التي تنبعث من ذاكرتي. يعبق المكان بها.. فكرت أن أتوقف. استجمعت جميع ما تبقى لي من قوة، علني أتذكر شيئا أخيرا. أو أن أعرف في هذه اللحظة الأخيرة تلك المرأة التي تطاردني ذكراها منذ زمن بعيد.. أحاول ثم أحاول، و ليس بين الهاوية و النجاة غير خيط رفيع.. أتمسك به... أشعر أن صرخة ما تتفجر بداخلي.. تحاول أن تشق طريقها لتطفو السطح، لكنها تختنق و في تلك اللحظة ينبلج أمامي ضوء، ليتساقط كخيط سميك من النور على الحفرة، التي أوشكت أن تحضنني. وإذا بصوت خشن ينبهني:
- كنت ستقع. انتبه جيدا فالزقاق يعج بالحفر.



#مصطفى_لغتيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- -رجال وكلاب- لمصطفى لغتيري: أو : جدلية الوضوح والتعتيم
- رواية ابن السماء للروائي المغربي مصطفى لغتيري
- -تراتيل أمازيغية- مخطوط رواية جديدة لمصطفى لغتيري.
- اللعب بتقنيات السرد في رواية عبدالغفور خوى -الطيور تغني كي ل ...
- الفانطستيك و لعبة الإيهام بالحقيقة
- الفانطاستيك في رحاب أكادير الجميللة
- الرؤية البانورامية و تعدد الأصوات في -على ضفاف البحيرة - لمص ...
- الأديب عبد الغفور خوى يكتب الرواية كي لا يموت
- جريدة السياسة الكويتية:- رقصة العنكبوت - للمغربي مصطفى لغتير ...
- السخرية أسلوبا لفضح تناقضات المجتمع في رواية -ابن السماء- لم ...
- -أسلاك شائكة- رواية جديدة لمصطفى لغتيري. الفصل الاول..
- جزء من رواية -ليلة إفريقية- لمصطفى لغتيري
- الفصل الأول من رواية -على ضفاف البحيرة- لمصطفى لغتيري
- العلام يرد على رسالة لغتيري المفتوحة
- رسالة مفتوحة إلى الناقد عبد الرحيم العلام.
- لطيفة الشابي شاعرة رومانسية من توزر مدينة أبي القاسم الشابي
- من أجل إنقاذ اتحاد كتاب المغرب.
- هشام ناجح صوت جديد في الرواية المغربية
- أحمد بوزفور و قصة القصة.
- الناقد التونسي عبدالدائم السلامي يمنطق اللامعقول في الرواية ...


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى لغتيري - هواجس امرأة - مجموعة قصصية - الكتاب كاملا.