أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى لغتيري - أسلاك شائكة- رواية- الكتاب كاملا















المزيد.....



أسلاك شائكة- رواية- الكتاب كاملا


مصطفى لغتيري

الحوار المتمدن-العدد: 4285 - 2013 / 11 / 24 - 20:45
المحور: الادب والفن
    



مع إطلالة نور الصباح الأولى، غادر "احميدة" فراشه، تمطط للحظات على مضجعه،مدد أطرافه بانتشاء ، كان يستهويه أن يسمع فرقعة عظامه كل صباح، يشعره ذلك بالسعادة ، و يمنحه القدرة على القيام بما ينتظره من عمل.. ألقى نظرة مبتهجة على وجه " الزاهية" زوجته المستلقية بجانبه ، تملى في صفحة وجهها الجميل ،بملامحه المتناسقة وابتسامته الخفرة، التي لا تكاد تفارق شفتيها حتى وهي مستغرقة في النوم ..كل ذلك يبعث في نفسه شعورا بالانتشاء ، ويلقي في ذهنه وقلبه إحساسا لا يخبو توهجه،يتردد للحظات في دواخله ، فيقنعه بأنه استطاع أن يغنم من الحياة أفضل ما فيها..

جال ببصره في أرجاء الغرفة.. بعض من غبش الصباح المبكر ما يزال يترنح في الأجواء، فكر في فتح النافدة ليتسلل الضوء إلى الغرفة ، لكنه تراجع عن ذلك، حين استرق نظرة خفرة نحو الزاهية ..لم يرغب في إفساد لحظاتها الاخيرة في رحاب نومة الصباح البهية.. صوت الديكة يصله تباعا ينقطع للحظات ثم مايلبث أن يلعلع قويا، وجميلا، يخترق الصمت الصباحي السادر في فتنته، يحفز الناس على مغادرة افرشتهم، كي ينخرطوا في خضم يوم جديد..تسلل احميدة من فراشه مشى بخطوات هادئة وصامتة نحو الباب .. بتؤدة فتحه ،وبكثير من الاحتراس غادر الغرفة ،ثم اغلق بابها..استقبلته نسمات خفيفة باردة ومحفزة، أطاحت بما تبقى في جسده من خدر النوم مباشرة توجه نحو المغسل إنه عبارة عن حوض صغير تتجمع المياه فيه...رش وجهه بحفنة ماء، ثم خلل شعره ببعضه...توجه نحو الحبل المتمدد في البهو، أمسك بمنشفة.. مسح وجهه ثم القى بها على كتفه.

في البيت الذي استقر به منذ ما زيد عن سنة تقريبا، بعد أن تنقل في أماكن عدة ، توجد باحة متوسطة المساحة.. وسطها تتنصب شجرة تين يانعة الخضرة.. اقترب منها ..نظر إليها بتحبب ، ثم ما لبث أن توجه نحو باب المستودع ..فتحه.. ألقى نظرة متفحصة على عدة العمل البسيطة التي يملكها.. في ذهنه ترتع أحلام لا ضفاف لها، يمني نفسه بامتلاك المزيد من الآلات الفلاحية ، لتسعفه في الاعتناء بالأرض ، التي ورثتها زوجته الزاهية عن أبيها، الذي قضى نحبه خلال معركة مقاومة الاحتلال الفرنسي.. كانت الزاهية تعتز بأبيها أيها اعتزاز. دوما تحدث زوجها عنه بكثير من الألق، حتى أنه كان يشكك في كثير ما تحكيه عنه. في حديثها دوما تطفر تلك الصورة المجللة بالكبرياء لرجل يأبى الظلم، ولا يصبر على ضيم، منذ شبابه المبكر انخرط في صفوف المقاومة الجزائرية. ومع ذلك لم يهمل أرضه أبدا. كان يجد الوقت الكافي الاهتمام بها، ولا يسمح لنفسه أبدا بأن يهملها ..منه تعلمت الزاهية الشيء الكثير عن الأرض وما تحضنه من نباتات ..حين اختطفته رصاصة غادرة، وعدت الزاهية نفسها بأن لا تفرط مطلقا في الأرض، مهما يحدث ..هذا الاصرار على الاعتناء بها وجد وقعا حسنا في نفس احميدة، الذي لم يكن قبل لقائه بالزاهية وارتباطه بها ، يتصور أنه في يوم من الأيام سيصبح فلاحا ، كل همه رعاية الارض ، و ما تجود به تربتها .. لقد أغوته التجارة والترحال منذ زمن بعيد. تنقل بين مدن عدة، يشتري البضائع من هنا ،ويبيعها هناك ..اعتاد على هذا النوع من الحياة ..كل يوم يأتي برزقه ن وقد تمر أيام دون أن يظفر بشيء ذي بال ، و رغم كل شيء أحب حياته كما هي ، ولم يكن ينوي ابدا تغييرها. . ما إن تقاطعت طريقه بطريق الزاهية حتى انقلب رأسا على عقب .. حياته تغيرت بشكل جذري ، فلم يندم على شيء ، حين قرن مصيره بمصيرها ، لقد سلبت لبه ، فكان لزاما أن ينخرط في حياتها بكل تعقيداتها.

انطلاقته بدأت من مدينة فاس ، هناك قضى طفولته يتنقل في حواريها يركض هنا وهناك ، يتلصص على هذا الدكان، ثم ينتقل إلى آخر.. استهوته التجارة منذ نعومة أظافره.. حاول أبوه أن يدفع به إلى أكثر من صانع تقليدي ليتشرب أسرار الصنعة منذ صغره، بيد أنه أبدا لم يستمر في كنف أي "صنايعي" أكثر من يوم واحد، سرعان ما يستبد به الملل ويركض هاربا إلى حيث لا يعثر عليه أحد ..فقط كان يتمنى لو تمكن من الحصول على دكانه الخاص، الذي يمارس فيه تجارته.. هذا الحلم ظل مترسخا في وجدانه ، وقضى على اي امل في أن يتعلم اي حرفة غير التجارة.. حين يئس منه أبوه ، وأخذ يقسو عليه بالكلام الجارح، ويهدده بالطرد من البيت، شد الرحال نحو مدينة صفرو القريبة من مدينة فاس. هناك تحول من التفكير في التجارة إلى الانخراط في أجوائها، بدأ ببيع أدوات بسيطة يحصل عليها بطرق مختلفة، ثم يجوب بها الأزقة. يعرضها على أصحاب الدكاكين، فيحصل على بعض الربح القليل ، الذي كان يقنع به في تلك الأثناء. مع التجارة تسللت إلى نفسه لوثة الترحال واستقرت في سويداء قلبه.. بعد فترة زمنية معينة غادر المدينة ومضى غير آسف على شيء. ألقى بنفسه إلى المجهول. وجهته الشرق الغامض والساحر. هناك حيث يدنو حثيثا من الحدود، ففي تلك المنطقة يمكنه أن يمارس شغفه بالتجارة بالطريقة التي تلائمه. دوما تكون الحدود بين الدول واعدة في هذا المجال، هناك تنشط كل أنواع التجارة المشروعة و غير المشروعة..

بعد تنقله في مدن عدة استقر به المقام في مدينة وجدة الحدودية. من هناك تطلع إلى الجانب الموالي للحدود، الحركة دائبة ولا تستقر على حال، الجزائريون يتدفقون على مدينة وجدة بكثافة ملحوظة. في السابق لم تكن لدين فكرة واضحة عن هؤلاء القوم، رغم أنه سمع عنهم الشيء الكثير، لكن ما سمعه كان في غالبه مبهما ومتناقضا.

تفاجأ كثيرا حين التقى بالكثيرين منهم. بدوا له مثله ومثل باقي الناس الذين يعيش بين ظهرانيهم. لا يختلفون عنهم في شيء. سحناتهم متشابهة. تحيتهم.. ملابسهم.. فقط تختلف اللهجة قليلا، لكنها قريبة جدا من لهجة الوجديين. ما إن خرج بهذا الانطباع حتى ترسخ في ذهنه الاقتناع بأن يجرب حظه هناك، في الضفة الأخرى، فانطلق لا يلوي على شيء سوى أن يرمي بنفسه في أحضان فكرة غامضة لا ملامح لها لكنه لم يتردد في تنفيذها ، دوما اكتلك ذلك الحس المجازف الذي لا يقوى على العيش بدونه..

انتقل إلى هناك بيسر لم يتوقعه ،و تدريجيا اعتاد الأجواء في مستقره الجديد.. برع في تجارته، وإن كان المال دوما يتسرب من بين يديه بشكل لا يكاد يصدقه هو نفسه.. كان يحب أن يستمتع بالمال، ينفقه دون أن يرف له جفن.. اقترح عليه بعض التجار الكبار أن ينقل البضاعة إلى مدن جنوبية في أقصى جنوب الجزائر، فلم يتردد في فعل ذلك. بسرعة حصل على رخصة السياقة، وأخذ ينتقل بالبضائع في كثير من المدن.

التفت احميدة نحو باب الغرفة، الذي انفتح فجأة. أخرجه انفتاحه من شروده. رأى الزاهية تعلن عن نفسها ببذخ، جميلة كانت و حانية. في عينيها وسحنتها رقة لا تخفى على النظر.. زادها انتفاخ بطنها أنوثة. بين شفتيها تحمل ابتسامتها الخجلى. خداها يتألقان بغمازتين تزيدان وجهها بهاء. دنت منه ثم حيته قائلة:

- صباح الخير

انتقلت عدوى الابتسامة إليه فرد عليها:

- صباح الخير بأم المهدي.

زادت ابتسامتها اتساعا وتألقا. اكتست سحنتها بكثير من الغنج والإشراق،

ردت عليه قائلة:

-لا أبدا. بل أم المهدية.

ارتفعت قهقهته في الأجواء، مسح وجهها بنظرة حانية ، ثم خاطبها قائلا:

- المهم أن تنجبي طفلك بألف خير. ما يأتي به الله خير وبركة. لكنه سيكون المهدي إن شاء الله.

لم ترد الزاهية بأي كلمة. اكتفت بابتسامتها الجذلى. تعرف حق المعرفة تعلقه برجائه في أن يكون المولود ذكرا. هي نفسها ترغب في ذلك، وإن كانت تأبى أن تعلن عن رغبتهان وتتمسك بالإعلان عن أن المولود سيكون بنتا، لا تدري السبب الذي يدفعه إلى فعل ذلك. لكن الأمر يستهويها، تعرف أن احميدة رجل طيب. يحبها كثيرا وسيعتني بها وبمولودها حتى وإن كان بنتا. حتما سيفرح بحلولها بينهما، وسيحيطها بعنايته وعطفه. لقد اختارت أن تكون له زوجة رغم غربته. لم تر له أبوين أو أقارب. يحدثها من حين لآخر عن عائلته المستقرة في مدينة فاس ، دون ان يشعرها بالحنين إليها. لقد اكتفى بها واكتفت به. اعتبرت وحدانيته رسالة ما توجهها الأقدار إليه. هي نفسها يتيمة ووحيدة. فمنذ موت المرحوم الحاج الطاهر، اعتبرت نفسها في أقصى درجات اليتم. أمها "فطوم" رغم تواجدها، فهي امرأة سلبية، لا تهش ولا تنش. طيبة زيادة عن اللزوم، ولا يعول عليها في شيء. لقد دللها الحاج الطاهر كثيرا، بل أفسدها، حتى أنها لا تكاد تعرف عن الدنيا من حولها شيئا، كل هذا جعلها ترتمي في أحضان احميدة، الذي لم يتردد في التخلي عن كل شيء من أجله وربط قدره بقدرها.

بخطى متثاقلة اتجهت الزاهية نحو غرفة أمها. في طريقها قامت بحركات متباطئة ، جادت بها يداها المتكاسلتان، تحاول من خلالها إخافة الدجاجات ، التي تحلقت وسط الفناء. طردتها بعيدا. دقت على باب الغرفة، تحرض أمها على مغادرة الفراش، كي تساعدها في الاستعداد ليوم جديد. بتكاسل غادرت "فطوم" غرفتها. استقبلتها الزاهية بابتسامة محفزة، وكلمات تعرف الأم معناها جيدا. مفادها أن أعمالا كثيرة تنتظرها، أهمها حلب البقرة، التي وضعت- قبل شهرين تقريبا -عجلا لطيفا، جميل المنظر .. كان يستهوي "فطوم" القيام بهذا العمل ، فتبرع في إتقانه.. تحمل إناء، وتتجه نحو الحظيرة ،التي تقبع ملاصقة للبيت. تبعد العجل عن أمه، فيصبح مشاكسا، يحاول في كل لحظة أن يشاركها الثدي الممتلئ حليبا.. بعد لأي تنال ما تمني النفس به من حليب، ثم تفسح المجال للعجل، كي يحظى بكفايته. تلقي عليه نظرة امتنان على البقرة و عجلها ..تحمل إناءها، وتتجه نحو البهو.. هناك تنخرط في عملها المحبوب، تصفي الحليب، وتوزعه على بعض الأواني الأخرى ، في انتظار أن تستخرج من بعضه الزبدة ، ومن بعضه الآخر أشياء تنوي القيام به دون أن يفطن لها أحد.

أعدت الزاهية طعام الفطور، فيما كان احميدة منشغلا بجهاز الراديو الكبير الحجم، الذي اقتناه قبل أيام في صفقة رابحة مع أحد أصدقائه التجار. الذي اعتاد التعامل معه قبل أن تسرقه الفلاحة إلى أحضانها. الجهاز يستقر في غرفة النوم، لكنه اللحظة، يحمله احميدة إلى البهو حيث سيتناول فطوره رفقة الزاهية وحماته فطوم. وضع الجهاز على منضدة ثلاثية القوائم.. حمل البطارية، ووضعها جانبا على الأرض، مد الأسلاك. قلبه مبتهج بهذه الأجواء الجميلة، التي يعيشها بشغف لا يصدق. الضوء يكتسح العالم بشكل بطيء وتدريجي. العصافير تتساقط تباعا على أغصان شجرة التين المنتصبة بخيلاء وسط الفناء. تختفي العصافير بين الأوراق، والأغصان، حتى يصبح من الصعب رؤيتها. لكن زقزقتها ترتفع بشكل مثير يصل إلى حد الإزعاج. ثم لا تلبث أن تطير جماعة، تغادر المكان دفعة واحدة ، كدفقة ريح مفاجئة ، لتبحث عن مستقر جديد.. مرت فطوم بمحاذاة احميدة المستغرق في عمله بتفان مشهود. ألقت عليه تحيتها الصباحية، دون أن تنتظر منه ردا.

استمرت في طريقها نحو الحظيرة. بعد فترة من سماعه لتحيتهان رد عليها، وهي توشك أن تختفي خلف البواية الكبرى للبيت.

فجأة سرت الحياة في جهاز الراديو. ارتفعت وشوشته في الأجواء، أصوات غير واضحة بدأت تنبعث من أحشائه. تظهر وتختفي. اتكأ احميدة في تلك الأثناء على جنبه الأيسر، محاولا أن يريح جسده في جلسة جانبية، تصورها في ذهنه، ثم طفق يبحث عن الوضع السليمن الذي يمكنه من تحقيقها. حين اطمأن لوضعه ، مد يده ثانية نحو الجهاز. امسك مؤشر الصوت بين أنامله ثم شرع يعبث به، يحركه يمينا ويسارا، حتى اطمأن إلى أن الصوت أصبح مناسبا.

عد بعد ذلك إلى موجه الإذاعات، فبدأ يحركه بكثير من الحرص والتأني، في تلك الأثناء كانت الزاهية دائبة الحركة تنتقل من هنا إلى هناك. تحمل بعض الأغطية والأواني من غرفة إلى غرفة أخرى. تبتلعها إحداها للحظات، ثم تلفظها لتبتلعها أخرى. تظهر هنيهة وتختفي. تلقي نظرة حانية على زوجها. يسعدها انهماكه في تشغيل جهاز الراديو. تبتسم خفية، ثم تعود إلى ديدنها. يتوقف المؤشر عند إذاعة "هنا لندن" الناطقة بالعربية. موسيقى عربية تملأ الأجواء. لقد اعتاد أن يستمع إلى هذا النوع من الأغاني عندما يقود سيارة البضائع في رحلاته المتعددة. جادت الإذاعة بعد ذلك بأغنية تبدو من ألحانها أنها أ تنتمي إلى إحدى بلدان المغرب العربي. بعد الاستماع إلى جزء منها ، رجح أن تكون أغنية جزائرية ، وتأكد من تخمينه حينما سأل الزاهية وأكدت له ذلك، تماهى مع ألحانها بانتشاء، عدل الوسادة تحت ذراعه، كي يريح جسده أكثر.. فجأة تنقطع الموسيقى وتتوقف الأغنية. جاء موعد الأخبار الصباحية. صوت المذيع قوي يفرض سطوته على المستمع. بغتة يهتز قلبه بشدة. لا يكاد يصدق ما تلقته أذناه، في نفسه قال "الله" ماذا يحدث؟ لا يمكن أن يحدث هذا الأمر" ..لقد أعلن المذيع أن حربا اندلعت بين الجارين الجزائر والمغرب.. نزل الخبر عليه كالصاعقة. فقد صوته للحظات. لم يستطع أن يتفوه بأي كلمة. شحوب طارئ اكتسحه. كاد يكذب أذنيه ،لكن الخبر كان يتكرر بصيغ مختلفة. لقد أعاد المذيع التأكيد عليه مرارا و تكرارا. و أطلق على الحرب التي استعرت بين الجارين بدون مقدمات "حرب الرمال".. بأصابع مرتعشة غير اتجاه المؤشر. توقف عند الإذاعة الوطنية الجزائرية. عيناه شاردتان، والخوف يلتمع في أعماقهما. اعتدل في جلسته، ثم انحنى أكثر على الجهاز. الإذاعة تبث موسيقى عسكرية، بعض شككه تبدد. يعرف أن هذا النوع من الموسيقى يصاحب الحروب عادة. انتظر قليلا يداعبه ما تبقى لديه من شك في أمر الحرب، ثم ما لبث أن جاءه الخبر اليقين. صوت المذيع الجزائري يعلن بصوت واضح ونبرات قوية بأن الجار الشقيق، ويقصد المغرب، قد قام بهجوم على تراب الوطن. ابتلع ريقه بصعوبة. لا يمكنه أن يصدق أن المغرب قادر على فعل ذلك، حاول أن يحول المؤشر نحو الإذاعة الوطنية المغربية. ذهبت مجهوداته سدى. لم يفلح في ذلك. كل محاولاته المتكررة باءت بالفشل، عاد إلى إذاعة "هنا لندن". جاد المذيع ببعض التفاصيل الإضافية عن الاشتباك الذي وقع في الحدود بين البلدين ، ثم ما لبث أن تطور إلى حرب حقيقية. أشار المذيع إلى أن هناك تدخلا دوليا و عربيا في الحرب بعض القوات التي تنتمي إلى الجيش المصري مشاركة في الحرب إلى جانب الجزائر، و تستخدم أسلحة روسية يشرف عليها تقنيون روس، فيما كانت ايادي الأمريكان و الفرنسيين الخفية توجه المغاربة عن بعد.. وسط ذهوله، نادى على زوجته الزاهية، أخبرها بالحدث، ابتسمت الزاهية ثم طمأنته قائلة:

- لا تشغل نفسك بمثل هذه الأمور. لا يمكن أن يحدث ذلك بين الجزائر والمغرب.نحن إخوة وأشقاء- أضافت قائلة- أبدا لن نتورط في حرب فيما بينا. لا تصدق ما يهذي به جهازك هذا. قم لتتناول فطورك وتذهب إلى ما ينتظرك من عمل.

حاول إقناع نفسه بأن الزاهية تمتلك نصيبا من الحقيقة في كلامها. قد يكون الأمر مجرد مناوشات محدودة وعادية، لكن الإذاعات تضخمها، وتصورها كحرب حقيقية. فآخرما يمكن تصديقه أن يشتبك المغاربة والجزائريون في حرب. فإلى وقت قريب كانت أصداء التعاون فيما بينهما ضد المستعمر الفرنسي على كل لسان، و الجميع تداول بفخررفض المغرب ترسيم الحدود بينه و بين الجزائر بطلب من فرنسا المستعمرة ، ..حتى أن الناس صنعوا من مثل هذه الاخبار خرافات وأساطير ما يزال تأثيرها ساريا إلى اليوم.

تناول احميدة طعام فطوره، وفي نفسه شيء من الضيق ، الذي بدأ يتراجع تدريجيا حتى تبدد إلى أشلاء، لم يفضل منه إلا الشيء القليل. توجه نحو المستودع. أخرج بعض العدة، التي تسلمها من التعاونية الفلاحية، التي تسعى إلى تطوير الإنتاج الفلاحي في المنطقة. مضى في طريقه نحو الحقل، الذي أصبحت تربطه به عرى وثيقة.. لم يعد يتصور حياته بعيدا عنه، دون أن ينهمك في أشغاله في رحابه. يقلب التربة، ويشق الطريق للماء ليمر نحو النباتات والخضروات. لقد تعلم بسرعة الاعتناء بكل ما تحتاجه الأرض كي ترضى، وتمنح طائعة مستسلمة خيراتها المرغوبة. لقد حرص على تنويع مغروساته، لذا لا يكاد ينتهي من العمل على طوال أيام السنة. كلما انتهى موسم غنتاج نوع معين، بدأ موسم إنتاج نوع آخر.

استبد بوجدانه بستان الطماطم. نظر بفرح إلى الثمار المتدلية من عناقيدها.. كانت الطماطم ناضجة، تغزوها الحمرة تدريجيا حتى قضت على الإخضرار المائل إلى الصفرة الذي كان يهيمن عليها إلى وقت قريب. هذه الحمرة الخجولة التي تعلن عن نفسها بحذر تبعث في نفسه الكثير من الانتشاء والثقة في المستقبل.

تحسس بيديه الحانيتين بعد العناقيد. لامس بعض الثمار الناضجة، قلبها من كل الجهات. أشعره ذلك بكثير من الرضى.. حانت منه التفاتة مفاجئة نحو الجهة الأخرى. وقع بصره على جاره الحاج "لخضر"، يمر بسرعة دون أن يلقي عليه تحية الصباح كعادته. استغرب الأمر. لم يستغرقه التفكير في ذلك كثيرا، إذ سرعان ما انتشل نفسه مما هو فيه، ورفع صوته مناديا:

-آلحاج لخضر، صباح الخير.

لم يحفل الرجل بتحيته. استمر في مشيته المتعجلة. استغرب احميدة هذا التصرف من جاره، الذي يكن له كل الود، كان يعرف طبعه الحامي والعصبي. إنه من رجالات المقاومة، الذين كانوا شديدي المراس في محاربة الفرنسيين، وحين انتهت الحرب، وعاد الفرنسيون إلى بلدهم يجرون أذيال الخيبة، رفض أن يتسلم أي منصب، كان دوما يردد بأنه قام بواجبه وانتهى كل شيء. عاد إلى أرضه في البادية يداعب تربتها ويستخرج من أحشائها أنواعا من الخيرات. لم يكن يتحمل أن ينتقد أحد الجزائر أويذكرها بأي كلام غير لائق. يعلن دوما بأنه مستعد لحمل السلاح من جديد من أجل أن تظل الجزائر حرة كريمة.

وضع احميدة المعول الذي كان يرتاح على كتفه أرضا، قرب الجدول المائي الصغير، الذي كان ينساب متدفقا ليسقي الأغراس العطشى. ركض باتجاه الرجل.. دنا منه بشكل كبير. ناداه. لم يتوقف الرجل. تناسلت الشكوك في ذهنه. أصر على ملاحقته. لم ينل التجاهل الذي حظي به من الجار من عزيمته، أخيرا لحق به ثم أوقفه قائلا:

- ماذا بك. آلحاج لخضر. ماذا حدث. لم أنت غاضب مني. هل بدر مني – لا سمح الله- تجاهك أي أمر مشين؟

غاضبا ومتوترا رد الحاج لخضر:

- ألا تعرف ما حدث؟ انتم غادرون. لقد هاجمتم بلادنا ، وهي لم تتعاف بعد مما ألحقه بها الكفار الفرنسيس.

عادت ملامح صوت مذيع "هنا لندن" إلى احميدة قوية ومستفزة ومقنعة.بإصرار طرد تأثيرها عن ذهنه ، ثم رد على جاره:

- وما دخلي أنا بالأمر؟

ودون أن ينتظر إجابة منه ، أردف متسائلا:

- هل حقا اندلعت الحرب؟

-نعم اندلعت. وسوف تدفعون ثمن وقاحتكم. ستعرفون ما يستطيع القيام به أحرار الجزائر.

انصرف الجار حاثا سيره نحو حقله، ينثر من حوله كلمات غاضبة، ينفثها بغضب، علها تشفي غليله، وتحرر نفسه من وطأة ما يشعر به من حنق وعنف تراكم في دواخله. فيما ظل احميدة متسمرا في مكانه، شارد الذهن، مضطرب المشاعر.. أحس بالوهن والغبن، كان يظن أنه أصبح ينتمي إلى هذا الوطن عندما تخلى عن كل شيء، واختار أن يستقر في أرضه، بل تزوج من إحدى بناته، ونسي إلى الأبد المكان الذي جاء منه. الشمس ترسل أشعتها بقسوة. حرارتها تشتد تدريجيا، حتى أضحت لا تحتمل، بعد أن توسط قرصها كبد السماء أو كاد يفعل ذلك. ظل على حاله هاته لبعض من الوقت، ثم انتبه إلى نفسه وإلى وضعه البائس، انتشل نفسه مما هو فيه، تخلص من حالة الشرود التي هيمنت عليه. ألقى بنظره بعيدا حيث مضى "الحاج لخضر". بدا له من مكانه بعيدا جدا. لم يجهد نفسه في تتبع هرولته. بل طفق يجر خطواته، يسعى نحو حقله ،الذي يحتاج كل وقته وجهده. قدماه تصطدمان بالأعشاب الطرية الناعمة، تجنب الحجارة التي تنتشر على امتداد الحدود الفاصلة ما بين الحقول. بعقل مشوش توجه نحو المكان الذي غادره قبل قليل.. حين توسط حقله، شعر بتعب كبير يتسلل إلى جسده. لم يعثر في أعماقه على الطاقة اللازمة ، التي تسعفه للاستمرار في عمله.. الأحداث الطارئة المفاجئة تنيخ بثقلها على نفسه. قرفص جانبا، يفكر في المصير الذي ينتظره. حتما ستنغرس العداوة عميقا في قلوب الناس، وسيؤدي الأبرياء الثمن. حتى جاره الذي كان يعتز بصداقته، ويعرف حق المعرفة نبله وطيبوبته رغم قوته وصلابته، خاطبه بطريقة أبدا لم تكن تخطر له على بال. ماذا سيكون رد فعل الآخرين خاصة السفهاء من الناس الذين لا يفقهون عمق الأمور، وإنما تغلب عليهم عواطفهم ويتأثرون بسرعة بما يتداوله الناس بينهم حتى وإن كان بعيدا عن الحقيقة والصواب.. حاول جاهدا طرد هواجسه بعيدا. لم يفلح في ذلك عادت به الذكريات القهقرى إلى طفولته في فاس.. شعر بحنين كبير إلى مسقط رأسه. لأول مرة يشعر بذلك، ينتابه بعض الندم لأنه فرط في جذوره. فكر في العودة إلى هناك إذا ما ساء الوضع هنا، يحمل زوجته وابنه وحماته ويرحل. لكنه لم يسافر إلى فاس لأكثر من عشر سنوات، ولا يعرف شيئا عن أهله. لقد استبدل وطنا بوطن آخر.. هنا في هذه الأرض، التي امتصت الكثير من عرقه، انغرست جذوره من جديد. لا يتصور لنفسه حياة في أي مكان آخر بعيدا عن هذا المكان. فاس ذكرى بعيدة. مجرد أطياف تتراقص في الذهن في فترات متباعدة، تزوره في أحلامه كأشباح لا يستقيم لها معنى، هنا وطنه، ولن يغيره بأي وطن آخر في الدنيا بأكملها. حين بلغ هذا الحد من التفكير، تداعى معها بكثير من الإصرار، حضرت الزاهية إلى ذهنه قوية ومتألقة. قريبا جدا ستنجب له ابنا يرسخ قدميه أكثر في هذه الأرض التي أحبها، ولا يبغي عنها بديلا.. في تلك الأثناء، وهو هائم في تخيلاته. رأى شخصا قادما من بعيد، يتجه نحوه باصرار، لم يهتم بذلك، وإنما استجمع أنفاسه وقوته، وأمسك بمعوله، حمله على كتفه، واستأنف جولته في رحاب الحقل، يبحث عن الممرات التي لم يبلغها ماء السقي بعد.. حانت منه التفاتة نحو القادم البعيد. فإذا به يصبح قريبا. ملامحه الكبرى بدأت تنجلي وتتضح تدريجيا.. تأكد الآن أنه يعرفه. إنها حماته، تتعثر في مشيتها المضطربة، تتحاشى النباتات الشوكية والأحجار المستلقية في كل مكان. ترافقها الكلبة المائلة إلى السواد، التي اعتادت مرافقتها إلى كل مكان. الكلبة تتقدم الحماة للحظات، ثم ما تلبث أن تتأخر عنها. تبتعد قليلا وتقترب الحماة جادة في سعيها، مما دفع احميدة ليضع المعول أرضا، خاصة حين تأكد من هويتها بما لا يدع مجالا للشك، اتكأ على عصا المعول، واستمر في احتضان المرأة القادمة المهرولة بعينين شكاكتين و متسائلتين. وضع راحته على جبينه ليتحاشى أشعة الشمس التي أصبحت أكثر عنفا وعدوانية. وقى عينيه من الأذى، وهو يرنو متطلعا إلى الجسد المتضائل، الذي يترنح بإصرار نحوه.

انتظر احميدة في مكانه، ثم ما لبث أن زحف تحت ظل شجرة وارفة الظلال، وهو يستعد لاستقبال حماته "فطوم" التي يبدو أنها تنقل إليه خبرا مهما، ربما يزيح عن قلبه ما تراكم فيه من هموم هذا الصباح بأحزانه المثيرة. أوربما تحمل له خبرا يعمق المأساة في قلبه.

توقفت الحماة أمامه وهي تلهث. تنفسها يعبر عن حالة الإجهاد التي تبدو عليها. تحاول أن تتحدث، لكنها لا تتوقف في ذلك، طلب منها أن تقتعد الأرض حتى تسترجع أنفاسها. لم تفعل ذلك، وإنما وضعت يدها على صدرها، ثم قالت مخاطبة إياه:

- هل هذا وقت الجلوس؟ ابنتي فاجأها المخاض، ستلد قريبا، يجب نقلها إلى المستشفى.

رد عليها مندهشا:

- ولم لا تنجب في البيت؟

- لقد جاءت القابلة وفحصتها. ثم أخبرتني بأن حالتها صعبة ولا يمكن أن تلد في البيت. يجب نقلها إلى المستشفى.

وقع الخبر على احميدة وقعا قويا ومفاجئا. لم ينتظر هناك لحظة، وإنما انخرط في الركض نحو البيت. أخذت حماته تناديه كي ينتظرها. لم يلتفت إليها، بل استمر في ركضه، لا يلوي على شيء سوى أن يدرك زوجته وابنه المرتقب قبل أن يصيبهما أي مكروه.

حين أطل من الباب بدت له النسوة مجتمعات حول غرفة النوم، اخترق الجمع بإصرار. توقف قرب زوجته، ثم سألها متلهفا:

-ماذا يحدث لك؟ هل أنت بخير؟

بصوت متهالك واهن ردت عليه:

- هيا، حضر العربة كي تنقلني إلى المستشفى.

الفصل الثاني:
باستعجال ملحوظ أعد احميدة العربة، أوثق الحصان أمامها. ربت على رأسه بحنو، وكأنه يستعطفه ويتمنى ألا يخذله في نقل زوجته إلى المستشفى. نادى زوجته التي كانت في وضع صعب، تئن من وطأة الألم الذي ما فتئ يتضاعف. ساعدتها أمها فطوم في الوصول إلى حيث توقفت العربة. بعض النسوة تطوعت كذلك لمساعدتها على احتلال مقعدها داخل العربة، أصرت أمها على مرافقها إلى حيث ستضع ابنها المنتظر. لكن الزاهية رفضت بقوة. تعرف أن أمها لن تتوقف على الأنين و الشكوى، سيكون نفعها في البيت اكثر مما لو ذهبت معها إلى المستشفى. رجتها بأن تمكث في البيت لتسهر على شؤونه، حتى تعود إليه سالمة معافاة.

على مضض قبلت فطوم رغبة ابنتها. فظلت في مكانها واقفة، حائرة، متوترة، تشيع العربة وهي تمضي قدما نحو وجهتها.

خب الحصان مسرعا في طريقه ، متجها نحو أقرب مدينة من القرية التي يستقر بها احميدة وزوجته، الحلم يتأرجح في حدقتي احميدة. بين الحين والآخر يلتفت نحو الزاهية ويطمئنها بكلمات فقدت قوة تأثيرها، وأوضحت مستهلكة بكثرة ما رددها على مسامعها. أضحت الكلمات بالية وشاحبة لا نفع يرتجى منها. رأس الزاهية يتمايل ذات اليمين وذات الشمال، وهي تتكوم في ردائها الأبيض، بلونه الناصع، الذي يعكس الضوء بقوة، فيغشي الأبصار.

استقبلتهم المدينة بضوضائها، الذي تكرهه الزاهية كثيرا. لا تطيق أن تقضي يوما واحدا في أحضان المدينة الضاجة بناسها وبحركتها الصاخبة، لقد اعتادت على أجواء البادية الهادئة المطمئنة. احميدة نفسه أصبح ينفر من أجواء المدينة لكثرة ما لزم البادية. بعد أن كان لا يحلو له مستقر إلا في رحابها. لقد تغير كثيرا. أصبح بدوي الطبع والخلال..

الحركة دائبة، السيارات تخترق الشوارع من كل الاتجاهات . توقفت العربة مرة، ومرتين وثلاثا. يسأل احميدة عن الطريق المختصر الأقرب الذي يؤدي مباشرة إلى المستشفى.. كان الناس مختلفين في توجيهاتهم يقترح شخص طريقا ما، ثم يقترح آخر طريقا غيره.. تاهت العربة في الشوارع لمدة من الزمن، ثم وجدت طريقا سالكا نحو المستشفى. أوقف احميدة العربة في مكان قدر أنه يليق بها. بعيدا عن صخب الشارع. ساعد زوجته على الترجل من العربة.. ثم تقدما بخطوات مرتبكة نحو بوابة المستشفى. ولجاه. هناك قدم احميدة وثائقه الثبوتية للممرض المكلف بهذه المهمة. فيما أمسكت ممرضة بذراع الزاهية، وقادتها نحو قاعة التوليد. مرت بها عبر العديد من الممرات والغرف، حتى بلغتا وجهتهما. كتب الممرض بعض المعلومات في سجله الضخم، ثم سلم البطاقة لاحميدة. لاحظ هذا الأخير أن الرجل قد رمقه بنظرة غير متسامحة. فكر ثانية في الحرب وفي مصيره ، الذي أضحى بين كفي عفريت. لا يدري إلى أين سينتهي به الأمر، لم يترك هذا الأمر يهيمن على نفسه، إذ سرعان ما تدارك الأمر بعد أن قال في نفسه:

"تفو.. اللعنة ... من أين خرجت لنا هذه الحرب القذرة؟".

لم يترك احميدة نفسه تستسلم للحزن أو الغضب، فقط انشغل بالوافد الجديد، الذي سيحل قريبا ضيفا على حياته، وبالتأكيد سيمنحها معنى كبيرا كما يأمل في ذلك. الطفل يداعب خياله، يؤرجه يمينا وشمالا، يرجع به القهقرى إلى طفولته البعيدة، يتذكر نفسه وهو يركض هنا وهناك. ينخرط في أجواء اللعب بكل ما يملك شغب وحب. "المهدي" سيكون ابنه ورفيقه في الحياة. بالتأكيد سيجعل منه صديقا وأخا

..سيلاعبه، ويناغيه وحين يسشتد عوده يسجله في المدرسة كي يتعلم ما حرم هو منه..لن يسمح أبدا بأن تفوت ابنه فرصة أن يكون مختلفا عنه، ويكون مصيره أفضل مما كتب له هو في الحياة. وحتما حين يصبح شابا ورجلا ناضجا سيقوى من عضده،ويكون هو كل عائلته.. تخيله وهو يحبو في باحة البيت، يطادر الدجاجات الخائفة ، ثم طفلا يتعثر في خطواته البائسة. ثم يافعا يملأ الدنيا حركة وضجيجا .. يقضي أكثر وقته في المدرسة ليتعلم ويغترف من بحر المعرفة ،الذي حرمته الظروف منه، إنه الآن يستقيم في ذهنه شابا قويا، يتجول رفقته وسط الحقول. يساعده في أوقات فراغه عندما ينتهي من دروسه، أو في أيام العطل.. الحركة دائبة في المستشفى. إنها عبارة عن خلية نشيطة.. أناس يدخلون وآخرون يخرجون. الصراخ يرتفع هنا وهناك. الممرضات بلباسهن الأبيض يحمن في كل مكان، وكأنهن يعلن عن وجودهن القوي في المكان. يذرعن الممرات جيئة وإيابا.. احميدة حائر مضطرب، لا يدري كيف يتصرف إزاء هذا الوضع الغريب عنه، الذي لم يعش مثله من قبل. التوتر باد على ملامحه.. يحرك أصابع بعصبية ظاهرة، يمسح الجدران بعينيه الحائرتين، لا يستقر بصره على مكان معين. يقصد كرسيا في الممر.. يجلس قليلا، ثم ما يلبث أن يغادره. يخرج قليلا ليتنفس الهواء مختلفا، يسترق بصره نظرات عجلى على السيارات والمارة في الشارع، يثير انتباهه بعض النباتات في حديقة المستشفى. يسافر به خياله نحو القرية والحقل الذي يحتاجه في هذه اللحظات ليعتني به. يعد نفسه بأنه في الغد سيعوض ما ضيعه اليوم من وقت ثمين. يخفف عن نفسه، فهو منذ مدة طويلة لم ينعم بالراحة. يمنح نفسه كليا للعناية بالحقل والماشية. ابنه "المهدي" الذي سيفد على الدنيا بعد قليل يستحق هذه التضحية..

وبينما هو ساهم في خيالاته هاته، تقدمت نحوه ممرضة، تبدو متوسطة العمر. وفي ملامحها نوع من الجدية والقسوة، توقفت أمامه، ثم سألته:

- هل أنت زوج الزاهية؟

نظر إليها والخوف يستبد بكانه، تقمص شخص أطيب إنسان على الأرض ثم أجابها:

- نعم سيدي، أنا زوجها.. ماذا حدث لها؟

- لا شيء.. لا شيء .. لا تخش شيئا .. كل شيء تحت السيطرة.

-الحمد لله.. هل يمكن أن أراها؟

- لا أبدا.

نظرت إليه نظرة صارمة، ثم قالت:

- زوجتك ستحتاج إلى بعض الأشياء، وكذلك الرضيع، يجب إحضارها.

رد عليها احميدة:

- أنا أسكن بعيدا.

بلهجة واثقة، عقبت الممرضة قائلة:

- أعرف.. أعرف، اذهب إلى السوق المركزي واشتري هذه الحاجيات.

قالت ذلك وهي تمد له ورقة كتبت على صفحتها كل ما تحتاج الزاهية ورضيعها. أمسك بالقائمة. نظر إليها. لم يفهم مما كتب شيئا، لكنه لم يضيع وقته، هرول نحو الخارج. تلقفه الشارع بصخبه، سأل أحد المارة عن السوق المركزي، أشار إلى الطريق الذي يجب أن يسلكه. ركض في الاتجاه المطلوب بحيوية ملحوظة.

داخل السوق المركزي كانت السلع متراكمة في كل مكان. تمنح الزائر إحساسا بالوفرة. مواد مستوردة من مناطق عدة من العالم. علب وقنينات وبضائع بأشكال وألوان مختلفة .. الزبناء يتنقلون في رحاب السوق. يتفقدون هذه البضاعة ويسألون عن أخرى، أكثر رواد السوق نساء. يرتدين الحايك الأبيض اللون، بعضها يرتدين ملابس أوربية خاصة الأصغر سنا منهن. ارتبك احميدة. لا يعرف أين يمكنه الحصول على ضالته. مد القائمة إلى صاحب دكان. نظر إليها مليا ثم وجهه إلى الدكان المقصود. اقتنى احميدة ما تحتاجه زوجته وابنه المنتظر، وضع كل ذلك في كيس.. أدى ثمن مشترياته لصاحب المتجر. ثم غادر السوق منتشيا بما تحصل عليه.. مضى في طريقه نحو المستشفى، يمني نفسه بلقاء قريب مع قرة عينه، في تلك اللحظة اختفى العالم من ناظريه، فقط تمركز الكون كله في المستشفى الذي يحضن بين ذراعيه الدافئين أعز ما لديه في الوجود، إنه اللحظة شارد، حالم، سعيد، يسبح في عالم مختلف لا ينتمي إلى العالم الذي يخطو في رحابه بخطوات غير واثقة من نفسه. عالم تؤثثه ظلال الحلم، والأمل، والثقة في المستقبل.

بغتة وبشكل مفاجئ لم يتوقعه أبدا، أخرجه صوت قوي من شروده:

- أنت توقف !

انتشل نفسه من الجو الحالم الذي كان يهيم فيه. نظر خلفه مستطلعا مصدر الصوت، فإذا به يرى رجلا يرتدي زيا عسكريا.. على ملامحه تبدو صرامة مخيفة، حاول أن يتجاهه، غير أن الصوت الهادر الذي تعقبه حسم الأمر:

- أنت. توقف. نعم أقصدك أنت.

تلعثم احميدة.. لم يرد. وإنما ظل جامدا في مكانه، يحملق في الرجل العسكري بنوع من الخوف والرهبة.

قصده الرجل بخطوات حازمة. توقف إزاءه، ثم خاطبه قائلا:

- بطاقتك.

مرتبكا وضع احميدة الكيس أرضا. فتش جيوبه الداخلية، أخرج البطاقة بيد مرتعشة مدها للعسكري، الذي تفحصها بكثير من الاهتمام.. ارتسمت ابتسامة ماكرة على شفتيه، ثم ما لبث أن أعلن عن ظفره قائلا:

- أهلا..أنت منهم.. أهل الغدر..هيا تقدم أمامي.

- حائرامرتبكا رد احميدة :

- ماذا فعلت؟..أنا لم أرتكب خطأ سيدي ..زوجتي تضع حلمها في المستشفى ..لابد أن أذهب إليها.. أنا أحمل بعض مسلتزمات الولادة ..انظر سيدي ..

عمد إلى كيسه أخرج بعض محتوياته يعرضها على العسكري، الذي استفزه هذا السلوك من احميدة فرفع رجله، وركل الكيس بعيدا بما فيه، ثم خاطبه قائلا:

-اسكت يا ابن العاهرة.. أمامي وإلا جلدتك هنا أمام الملأ .

غصة ما توقفت قوية في صدر احميدة وانتقلت إلى حلقة، مانعة إياه من أن يتنفس إلا بصعوبة.. شعر بالحسرة..بالحزن .. بالخوف.. بالغضب.. بالغبن.. نكس رأسه، وتقدم بخطوات حزينة.. حضر طيف زوجته ..ثم طيف الوليد المنتظر.. المستشفى برائحته المختلفة .. تمتدد الحقل أمامه.. كانت الأشجار التي تتوسط كئيبة... أوراقها تتساقط تباعا. المياه امتنعت عن الانطلاق لتسقي النباتات العطشى. بدا له شبح الحاج لخضر قويا وصلبا وعنيدا.. شريط أحداث اليوم تسارع في ذهنه.. انصاع لأوامر العسكري و مضى في طريقه ..فتور مقيت داهمه ، لم تعد لديه الطاقة اللازمة لفعل أي شيء.. فقط كان يتهادى مع خطواته الشاردة. حين انتبه العسكري إلى فتوره في المشي، لكزه في ظهره، ثم خاطبه بلهجة صارمة، تفوح منها رائحة حقد وليد:

-هيا تحرك.. اللعنة عليكم.. هل سنقضي اليوم كله معك. يجب أن أطهر أرضنا من أمثالك.

-أسرع احميدة في خطواته مستسلما. لم يرد على الرجل..فقط دار في خلده أن كل هذه الأمور ستكون استثنائية وسرعان ما يعود الجميع إلى سيرتهم الأولى، التي كانوا عليها. تداعى في ذهنه أنه لا يمكن لإخوة اشتركوا في الدم والأفراح والأتراح، وتعاونوا معا لطرد المحتل أن يحدقوا على بعضهم البعض إلى هذه الدرجة. كان العسكري يوجه خطوات احميدة في الاتجاه الصحيح..

بعد مسافة قصيرة وصلا إلى مكان غريب.. لا هوية له..يبدو أنه أعد على عجل لمهمة محددة .. دخله تحت تهديد العسكري وكلماته التي تتقاطر غضبا.. وجد نفسه في فضاء واسع.. بناية ربما كانت في وقت من الأوقات مستودعا لشيء ما.. رأى جمعا من الناس يتجمهرون في المكان .. رجال ونساء من فئات عمرية مختلفة ، في رفقتهم بعض الأطفال. كانت سحنات الناس وملابسهم تدل على أنهم ينتمون إلى طبقات اجتماعية متنوعة .. لم يفهم احميدة ما يحدث بالتحديد.. لماذا تم جمعهم هنا؟ أي هدف من ذلك؟ أخذ مكانه وسط الجمع الحائر، المضطرب بعد أن مر من أمام عسكري.،يجلس خلف منضده، يتمدد أمامه سجل ضخم ،يسجل فيه بعض المعلومات التي تتعلق بكل الحاضرين في هذا المكان المجهول الهوية. قدم احميدة بطاقته للعسكري. عكف عليها الرجل للحظات. سجل ما يهمه منها في سجله، ثم سلمها له، وأمرها بالابتعاد.

اختلط احميدة بالناس. كلهم في حالة لا تصدق، يكبس الذهول عليهم.. اقترب من رجل يكبره ببعض السنوات. بدأ الشيب يغزو شعره بتؤدة، غطى فوديه وبدأ ينتقل إلى أماكن مختلفة من رأسه. يبدو أنه رجل متعلم، ويقوم بوظيفة محترمة قدر احميدة أن تكون في التدريس أو المحاماة. فهو يعرف هذا النوع من الناس الذين تبدو وظائفهم على ملامحهم، ومن تلك المسحة الخاصة على وجوههم، التي تميزهم عن باقي الناس. وعندما يتحدثون يكون كلامهم جميلا، يشبه كلام الراديو. ورغم أنه لا يفهمه بشكل كلي، غير أنه يستهويه. تردد للحظات لكنه في النهاية حسم أمره. بعد أن شعر أن هذا المكان قد ألغى الفوارق بين الجميع. هنا أصبح الكل واحدا، ومتساويا في المصير، نظر إلى الرجل باندهاش من لم يفقه شيئا مما يجري أمامه من أحداث، ثم سأله:

- ماذا يحدث ؟ لماذا جمعونا هنا؟

ابتسم الرجل ابتسامة الواثق من معلوماته، ثم أجابه :

- سيرحلوننا نحو المغرب.. يعتبروننا الآن أعداءهم .

مندهشا سأله احميدة:

- وماذا فعلنا نحن هذه بلدنا نحن كذلك .

بنفس الابتسامة الساخرة التي لم تفارق شفتي الرجل، أردف قائلا:

- انهم يعتبروننا أجانب.. الحرب مع المغرب جعلتهم ينظرون إلينا بريبة ثم قال بصوت خافت:

-إنهم ينتقمون يبدو أن المغرب انتصر على جيشهم وطارده في أعماق الصحراء .

حاول احميدة استيعاب حديث الرجل.. عجز عن فهم أبعاد كلامه، الأمور أكبر من أن يفهمها ..اسغرب ابتهاج محدثه بانتصار المغرب على الجيش الجزائري. أبدا لم يفكر بمثل هذا المنطق في نفسه.. ترسخ أن هذه الحرب لا منتصر فيها.. الجميع منهزم ..


حين فكر أحميدة في كل ذلك تواري إلى الخلق.. استند إلى الحائط وابتلعه الصمت.

مضى بعد الوقت.. الوشوشة لا تنقطع فيما بين المجتمعين في المبني، فجأة ساد صمت غريب، وكأن الجميع اتفقوا على لجم ألسنتهم دفعة واحدة.. هدير حافلات تتوقف قرب البناية.. الجميع أصاخ السمع وقد تعلق السؤال على جباههم و في مآقي أعينهم .. دخل بعض العساكر إلى المبنى..طلبوا من الجميع الانتظام في صفوف ،ثم ما لبثوا أن أمروهم بالتقدم في انتظام وانضباط، ليصعدوا إلى الحافلات.. أخذ البعض ينتحب، خاصة النساء والأطفال.. العويل ارتفع في الأجواء.. شهر بعض العساكر سلاحتهم . ثم توجه أحدهم بالكلام إلى المرحلين:

- إياكم أن يفكر أحدكم في الهرب، سيستقر الرصاص في جسده إن تجرأ على فعل ذلك.

منكوسي الرؤوس، خائري الإرادة، حزينين، ركب الرجال والنساء والأطفال الحافلات يلهفهم الحزن والصمت. الحسرة تعتصر القلوب.. النواح يرتفع في أجواء الحافلات ..العساكر ينهرون الركاب،يحرضونهم على لزوم الصمت ، ثم ما يلبثون أن يشتموهم بأحط النعوت والأوصاف، ثم انطلقت الحافلة في طريقها غير مبالية بحزن المهجرين و لا بحنق العساكر و غضبهم.

توقفت الحافلة قرب الحدود الفاصلة بين الجزائر والمغرب،على مقربة من الموقع الحدودي " زوج بغال".هناك أخذت الحافلة تتتقيأ ركابها.. العساكر يأمرون الناس بالانتظام في صفوف منضبطة.. قادوهم نحو الممر الفاصل بين البلدين .. سقطت امرأة متشنجة ..أخذت تولول بصوت مرتفع، وهي تلطم وجهها ..نهرها العسكري بكلمات يبدو أنها أصبحت سلسلة على لسانه، ولا يتورع من التلفظ بها بلا تحفظ ..تقدم نحوها احميدة وبعض الركاب الأخرين، أوقفوها على قدميها ..أحاطوها بينهم ،وتقدموابها نحو الممر الاسمنتي.

.كانت الجهة الأخرى من الحدود تبدو بعيدة و قريبة في نفس الآن.. الناس هناك يتحلقون في شكل غيرمنتظم يتفرجون على المشهد المرتبك، ينتظرون قريبا أو أحدأ يتسقطون منه أخبار ذويهم. الجميع يضعون أكفهم على قلوبهم،تعثر الموكب في خطواته..لا أحد يصدق هذا المآل.. مست أقدامهم تراب الضفة الأخرى.. بعض المهجرين وجدوا أهلا في استقبالهم فاستبشروا بذلك خيرا و خفف من وطأة الموقف على قلوبهم، والبعض الآخر تقطعت به السبل والحيل، وظل يحملق في الفراغ ، ولم يستوعب بعد هذا المصير الذي وجد نفسه ضحية له.

انتحى احميدة جانبا..الحسرة تعتصر قلبه.. لا يدري كيف يتصرف تجاه هذا الوضع الذي لم يستعد له لأبدا، لم يكن يتصور أبدا أن تتطور الأمور بهذه السرعة. في يوم واحد تنتقل حياته من النقيض إلى النقيض. كان يحيا في ظل الاستقرار والأمل والحلم بحياة ،تفتح أحضانها واسعة لضمه إليها، ينتظر ابنه القادم بلهفة. فإذا به يجد نفسه ملقى نحو مصير مجهول. لا معالم تحدده. شعر وكأنه يحيا بين براثن كابوس مقيت ، تمنى أن يستفيق في كل لحظة ، ويتخلص من سطوته. لكن هيهات. كل دقيقة تمر تشعره بأن ما يعيشه حقيقة مرة، مقرفة، لا راد لها.

استسلم في خنوع. جلس القرفصاء.. استدارت نحو المكان الذي غادره قسرا. عيناه ترنوان إلى هناك حيث خلف وراءه الأحبة. اخترق بصره الأفق البعيد.. ساح من جديد في تخيلاته. انطبعت صورة الولد، الذي لم يكحل بمرآه بصره. والذي سيكون حتما قد حل ضيفا عزيزا على الدنيا. تماسك ثم قال في أعماقه:

"غمة وستزول .. لا بد أن أراه قريبا".


الفصل الثالث:
قضى احميدة ليلته حائرا مضطربا، لا يعرف كيف يتعامل معه حياته الجديدة بعيدا عن بيته وأسرته. قصد المحطة الطرقية لمدينة وجدة. وهناك على مقربة منها جلس في مقهى، يداوم على تقديم خدماته للزبناء ليلا ونهارا. طلب كأس قهوة وآخر وثالث، وهو يحاول إقناع نفسه بالمصير الجديد الذي يعيشه. حرص على أن يكون قريبا من المذياع ليتسقط آخر الأخبار.. كانت الإذاعة تبث

أغنية مغربية ذكرته بالماضي البعيد، تماهى معها محاولا أن يسترد بعضا من ذكرياته البعيدة.. ساحت به الذاكرة في أزقة فاس ، تستفز الحنين إلى طفولة ، تخيلها سعيدة و بعيدة عن الهواجس ، حضر وجه أمه قويا..تراءت له ملامح وجهها و ابتسامتها التي كانت دوما تأسره ، أحس بدمعة ساخنة تترقرق في أعماق عينيه ، قاومها بعناد.. تسللت الزاهية إلى خياله ، تذكرها فيي مواقف عدة ، في البيت ، في الحقل ، في الفراش.. إنه يشعر الآن كم احبها.. يمني النفس بعودة وشيكة إلى حضنها . داعب خياله "المهدي" الطفل الذي كان ينتظر بشوق ولادته. قدر أن الابن الآن يرتع في حضن أمه. بالتأكيد سيخفف عليها المصاب الجلل الذي داهم حياتهما فجأة وبدون مقدمات. انتهت الأغنية وأزف موعد الأخبار. كان المذيع ينتقي كلماته القوية. المذيعون يتشابهون في العالم كله.. هكذا بدا له الأمر.. الشيء المختلف هنا هو أن الإذاعة حملت المسؤولية للجزائر في بدأ الحرب..كما أنها أشارت إلى ان السلطاتن المغربية لم تعمد إلى طرد اي جزائري أو جزائرية من ترابها الوطني.

انزوى احميدة في مكان متوار حتى لا يلفت النظر إليه. كان يكفيه أن يجد مكانا يضمه في هذه الليلة الموحشة، المقفرة بعيدا عن عشه الذي اعتاد احتضانه في كل ليلة بعد يوم من التعب المتواصل. فكر أن يلجأ إلى فندق رخيص يرمي فيه جسده المتعب الحزين. لكنه بعد تفكير طويل فضل أن يحتفظ بالمال في جيبه ..لا يعرف تحديدا كم ستطول هذه المحنة. لم يشعر احميدة بنفسه إلا وهو يغفو، تدريجيا فقد الإحساس بالعالم من حوله.. لكن ما إن مرت بعض لحظات ، ظنها طويلة بلا حد ، حتى استيقظ مفزوعا من حلم أزعجه. لم يتذكر تفاصيله، لكنه كان حلما شريرا، لا يمكن للمرء أن يطمئن له ، حاول جاهذا تذكر بعض التفاصيل ، لكنها متمنعة ، فقط تذكر أنه كان يغرق و يغرق في مياه سوداء ، و هو يشعر بالاختناق ، و لا احد ينتشله مما هو فيه ، ثم يتذكر أن المشهد تغير فإذا بالنيران تحاصره من كل جانب ، و هو يكاد يفقد وعيه من الرعب ، و لا يستطيع الفرار إلى أي مكان .

جاء الصباح بطيئا، تسلل معه الضوء باهتا شفقيا، ثم سرعان ما اتضحت معالمه.. ذكره ذلك باستيقاظه المبكر في البيت هناك في رحاب البادية ، حيث الصياح المتواصل للديكة ، و الحضور الجميل للزاهية ، التي يفتح عينيه كل صباح على قسماته الهادئة و الجميلة . ابتهج بذلك للحظات ، ثم سرعان ما ألقى وضعه القاتم بثقله على نفسه ..استعاد في ذهنه تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم ، الذي فقد فيه فجأة كل شيء ، و كأن الدنيا تنكرت له دفعة واحدة و قلبت وجهها عنه، بل صدته بكثير من الصلف بعد ان ذاق حنانها و لطفها و اعتاد عليهما. . قلب بصره في المقهى من حوله ، فارغا كان لا يزال إلى من قلة من الرواد .. تمطط قليلا في مكانه ، ثم وقف ، و حرك أعضاءه العليا و السفلا.. قصد المرحاض ، تطلع هناك إلى وجهه في المرآة ، لقد طال سحنته بعض التغيير.. زغب أسود ناصع غزا دقنه ، فأكسب وجهه حزنا مضاعفا.. عاد إلى مقعده .. طلب قهوة بالحليب، وخبزا. تناولهما بتأن، ثم انصرف من المقهى ، و هو لا يعرف له وجهة محددة.

فكرة واحدة استولت عليه و وجهت خطواته ، لقد قرر أن يكون عمليا. توجه نحو الحدود. مشى بسرعة رجل ينتظر تحقق شيء محدد. وصل إلى حيث يتجمهر الناس. كان المكان هناك قريبا وبعيدا. لا تفصله عنه إلا خطوات لا تعني شيئا، لكنه بعيد بشكل لا يصدق. العساكر في كل مكان، يشهرون أسلحتهم، ومستعدون لإطلاق النار على أي شيء يتحرك. فكر أن يلتجئ إلى المهربين كي يخلصوه من جحيمه. لكن ذلك يحتاج إلى الكثير من المال، وهو على حافة الإفلاس.. ظل هناك يترقب ظهور شخص يعرفه.. لا شيء في الأفق. الجانب الآخر من الحدود لا مدنيين فيه، فقط العسكريون يحتلون المكان.. كان دمعة تنحبس في مقلتيه، لكنه أبى أن يفرج عنها. في لحظة ما رأى حافلة تتقدم نحو الحدود من الجهة الأخرى.تتبعها بكثير من الاهتمام ..توقفت الحافلة ، ثم ما لبث أن تدفق منها سيل من البشر، توجهوا في صفوف نحو الممر الحدودي، حين ذاك تأكد أن الأمر جدي، وأن الحكام في الجزائر مصرون على إفراغ البلد من المغاربة. تحسر على فقدانه للأمل.. نكص إلى الخلف، عاد يجر رجليه المثقلتين نحو مدينة وجدة، بدت له المدينة هادئة ومحايدة بشكل مقرف. إنها لا تشعر به وبمأساته.في تلك اللحظة بالذات استقام القرار في ذهنه. لابد أن يجد عملا يقتات به في انتظار أن تنفتح الحدود، وتعود المياه إلى مجاريها.. تجول في المدينة يتطلع في معالمها، محاولا أن يجد كوة تسمح له بالتسلل إلى نسيجها، الذي بدا له معاندا، من الصعب اختراقه. في طريقه رأي ورش بناء، تنشط فيه الحركة عمال يشتغلون بجد.. قرر أن يجرب حظه هناك. دخل الورش ،فأوقفه الحارس،وسأله:

- ماذا تريد؟

- أبحث عن عمل.

-لا يوجد عمل اليوم، يمكنك الرجوع غدا.

لم يتحرك من مكانه. ظل خافضا رأسه، وهو يحملق في الأرض بكثير من الحزن.. تقدم الحارس نحوه، ثم سأله:

- ما بك. لا يبدو أنك معتاد على هذا النوع من العمل ،الذي تطلبه.

حينذاك فكر الرجل أن يحكي للحارس حكايته، وقبل أن يتمها، وجد أن الحارس ملم بكثير من تفاصيلها. بدا نوع التعاطف في حديث الرجل إليه، ثم ما لبث أن اقترح عليه شيئا:

- اسمع "آدزيري". العمال هنا يحتاجون بين الحين والآخر إلى من يعد لهم كأس شاي، ويزودهم ببعض الطعام. لم لا تقيم كوخا صغيرا في الجانب المتواري على حاشية الورش. يمكن أن تعيش فيه، وتقتات منه.

فكر احميدة في الاقتراح، فدا له مناسبا. طفح بعض البشر على وجهه ، خاصة وأنه يعتقد أن مهنته هاته لن تطول إلى الأبد. لم يعبر عن موافقته، لكنه ظل صامتا.. تحمس الحرس للاقتراح الذي سيحل أزمة الرجل الغريب، ويوفر عليه الانتقال بعيدا لإحضار متطلبات العمال، التي ترهقه. دعاه للجلوس، وكانت تلك الجلسة فاتحة صداقة بينهما. أخرج الحارس غيلونه، عبه، مص بعض الدخان،ثم مجه بانتشاء، وهو يرتشف بقايا الشاي في كأسه الذي علاه التراب. ملأ الغيلون من جديد، ومده لرفيقه وهو يقول:

- بسم الله ادزايري.

مد احميدة يده بخجل. تناول الغيلون، وامتص ما يحتويه بلهفة ،ثم ما لبث أن انخرط في السعال. لقد مر وقت طويل منذ أن انقطع عن تندخين "الكيف".

بسرعة انتسجت علاقة قوية بين الرجلين،انسجما في الحديث بينهما، ثم ما لبث أن توغل الحارس داخل الورش. انتظر احميدة عودته وهو يقلب بصره في المكان، مفكرا في اقتراح الحارس، الذي يدغدع خياله، ممنيا النفس بأن ينجح في هذه المهمة، التي ستوفر له على الأقل مكانا آمنا يأوي إليه.

عاد الحارس يحمل بعض الألواح الخشبية، وقطعا من الزنك. مدها لاحميدة باحتفاء، وهو يقول:

- باسم الله أدزايري. ابدأ العمل الآن.

أخذ احميد الألواح الخشبية، وحملها إلى المكان الذي أشار به الحارس، وهناك بدأ العمل.. تدريجيا أخذ الكوخ الصغير المكون من غرفة واحدة يؤثث المكان بحضوره النشاز..

نتهى العمل بسرعة غير متوقعة.. اطمأن احميدة إلى ما صنعت يداه، ثم استأذن من الحارس وقصد مركز المدينة للتسوق. نصحه الحارس بالاحتراس وأن لا يشتري إلا ما هو ضروري جدا لبدء العمل، وتدريجيا يقتني بعد ذلك الأشياء الأخرى التي يحتاجها.

في سوق المدينة اشترى احميدة علبة شاي وعلبة سكر، وقنينة زيت زيتون، وكمية محدودة من الخبز، اقتنى كذلك بعض الكؤوس الزجاجية، وصحون بلاستيكية وإبريقين، وبقراج. ثم عاد منفرج الأسارير نحو الورش. وجد الحارس في استقباله، فما إن رآه حتى سأله محتفيا:

-آش درت أدزايري؟

رد عليه احميدة:

- اشتريت عدة الشغل

- إذن على بركة الله. ابدأ في اعداد الشاي، سأخبر العمال بوجودك هنا.

لم يمض وقت طويل حتى توالت عليه الطلبات، وبدأت الكؤوس تنتقل من الكوخ إلى الورش. أشعره ذلك بالاغتباط، فعبر عن امتنانه للحارس ، الذي ردعليه بأنهما إخوة و لا دعي للشكر.

انغمس احميدة في عمله الجديد، يعد الشاي للعمال، ولم ينسى أن يخص الحارس بكأس شاي ، وفاء للصداقة الوليدة ،التي تجمع بينهما. في المساء توجه الحارس نحو احميدة، وقال له:

-سأغادر العمل الآن، سيأتي الحارس الليلي، سأعود عندك بعد قليل، انتظرني ، فبيتي غير بعيد عن هنا.

شعر احميدة بصدق الرجل ونبله، فأثنى عليه وشكره بكل ما يمكل من دعوات الخير.

اختفى الحارس لساعة من الزمن ثم عاد محملا ببعض الأغطية، قدمها لاحميدة وهو يظهر محبته له قائلا:

- أتمنى أن تقبل مني هذه الهدية، إنها ما استطعت احضاره لك.

شعر احميدة بالخجل من كرم الرجل، وخجل من بؤسه، لم ينطق بكلمة وإنما شعر بوخزة قوية في صدره، خفض رأسه، فألح عليه الحارس:

- خذ الأغطية، ستحتاج إليها. نحن إخوة آدزايري. لا تخجل من شيء.



الفصل الرابع:

ظلت الزاهية تعمل بين جوانحها الهم الثقيل. كانت تستطلع الأخبار. أخبار الحرب وأخبار المرحلين. عرفت أن الكثير من الأسر شتها هذا الترحيل. كانت أمها تشعر بالحزن الذي يعتصر قلبها، فتحاول أن تخفف عليها. لكن ذلك لم ينفعها كثيرا. في جل الوقت تغلق عن نفسها الغرفة، وتنخرط في البكاء. تنشج بقوة وحرقة. ابنتها تكبر بين يديها دون ان تعرف لها أبا يسعد بحضورها الجميل.كانت تحاول تعويضها عن هذا الحرمان بإغراقها في العطف والحنان. الأيام تمضي متسارعة ولا خبر عن زوجها، كانت الظنون تسرح بها في طرق شتى. هل يمكن أن يكون قد نساها. لا يمكن، إنها تعرف كم يحبها. هل يكون قد عاد إلى عائلته بفاس. أبدا لا يجرؤ على فعل ذلك. كانت تفكر في كل الاحتمالات، لكنها في الأخير تطمئن إلى أنه أبدا لن ينساها، سظل على مقربة من الحدود ينتظر اليوم الذي تفتح فيه الحدود، ويسمح للناس للتنقل بين البلدين. اشتد بها الشوق هذا الصباح. شعرت بغصة قوية. أحست بأنها لم تعد تقوى على العيش بعيدا عن زوجها. حينها فكرت أن تفعل شيئا. على الأقل تراه، وتطمئن إلى وجوده هناك قريبا على الحدود من الجهة الأخرى. أخبرت أمها بما عزمت عليها. لكنها حذرتها.

أمها لا تقوى على المجازفة ولا تفكر أبدا في القيام بأي أمر غير محمود العواقب.

لم تقتنع الزاهية بتحذيرات أمها. لقد اتخذت قرارها بالتوجه إلى الموقع الحدودي، وهناك ستتطلع إلى الجهة الأخرى من الحدود. من يدري، ربما يكون احميدة هناك ينتظر إطلالة منها قد تكفيه في الوقت الراهن، وتقوي من عزمه. قامت الزاهية بكل ما يتطلبه البيت من أشغال. حملت ابنتها "المهدية" على ظهرها ومضت في طريقها نحو رحلتها المجهولة..ركبت الحافلة التي تنقل الركاب إلى أقرب منطقة من الحدود.كانت الرحلة قصيرة نسبيا، لم تستغرق وقتا طويلا. فقط تأخرت الحافلة بعض الشيء، لأن العساكر كانوا يوقفون الحافلة في محطات عدة، ثم يصعد عسكري أو عسكريان، يأمرون الركاب بإشهار بطائق هويتهم.. كانت قد سمعت هذا الإجراء الذي أصبح أمرا روتينيا في البلد بأكمله، خاصة بعد اندلاع الحرب. في المحطة الأولى حيث يتواجد رتل من العساكر، توقفت الحافلة، طلب العسكري من سائق الحافلة أوراقه. تفقدها، ثم ردها إليه، ثم صعد عسكريان إلى الحافلة. واحد من الأمام والثاني من الخلف. أمر الركاب بإخراج بطائقهم، ثم شرعوا في تفقدها تباعا، كانوا يدققون في الهوية. وحين يتبين لهم شخص ما، رجلا امرأة، أن مكان ازدياده في إحدى المدن المغربية، أو يحمل بطاقة مغربية يطلبون منه الترجل. كان المشهد بئيسا .. طلبوا من رجل طاعن في السن أن يغادر الحافلة فامتنع، فأمسكه العسكري بخناقه، ودفعه بشكل مهين، رد الرجل المسن:

- أنا جزائري أكثر منك. أنا شاركت في حرب تحرير الجزائر.

اغضب العسكري هذا الكلام، فدفع الرجل نحو الباب. فقد الرجل توازنه فسقط في الممر الداخلي للحافلة، تعاطف بعض الركاب معه. قامت امرأة وخاطبت العسكري قائلة:

- على الأقل احترم شيخوخة الرجل.

- توجه العسكري نحوها غاضبا. طلب منها أن تريه بطاقتها فقالت له:

- لقد اطلعت عليها سابقا

استفزه الرد، فقال لها بعصبية:

- اريني بطاقتك.

أخرجت المرأة بطاقتها. أمسكها بين يديه، تطلع عليها تأكد من هويتها الجزائرية، فرد إليها البطاقة، ثم خاطبها بلهجة صارمة:

-اهتمي بأمورك الشخصية، وإلا قدتك معهم بتهمة الخيانة. تطوع شخص يجلس في الخلف، وقال رافعا صوته:

- اسكتي يا خائنة

التزمت المرأة الصمت، فيما انحذرت بعض الدموع من عيني الزاهية، وهي تتصور ما يمكن أن يكون قد لحق بزوجها من مهانة على أيدي هؤلاء العساكر.

توقفت الحافلة في محطة المدينة. غادرتها الزاهية وهي مرتبكة حائرة، لا تدري أي سبل تنهج في طريقها. توقفت قليلا، ثم توجهت عند شاب، يدعو الناس لركوب الحافلات في اتجاهات متعددة. أخبرته أنها ترغب في الذهاب إلى المنطقة الحدودية "جوج بقال". نظر الشاب إليها يتمعن ثم قال لها:

- هل فقدت عقلك يا امرأة. إنها الحدود مغلقة، وتلك منطقة عسكرية ممنوعة.. لا يمكن للمدنيين الوصول إليها.

- انخرطت المرأة في البكاء، وأخبرت الشاب عن مصير زوجها، تعاطف الشاب معها، فقال لها:

- إنه من الصعب الوصول إلى هناك. لكن ليس الأمر مستحيلا. هناك بعض السيارات تقطع طريقا ترابيا ملتويان وتضع الناس على مقربة من هناك. ثم يتابعون على أرجلهم حتى يصلون خفية إلى الممر الحدودي. ابتهجت المرأة بالخبر، فطلبت من الشاب أن يوجهها بعد أن دست في يدي ورقة نقدية.

ترك الشاب مكانه، وطلب منها ان تتبعه. اقتفت المرأة خطواته وهي تتعثر في مشيتها والرضيعة تلتصق بظهرها . دخل الشاب إلى مكان مسيج بحائط، وطلب منها أن تنتظره. دخل إلى مقهى، ثم عاد رفقة رجل كهل.. أخبرها الكهل أنه سيقوم بالرحلة الآن. لأنه كان ينتظر شخصا واحدا حتى يكتمل النصاب. أشار إليها بمكان السيارة. ودعت الشاب بعد أن شكرته، وتوجهت نحوها.. ركبتها فوجدت بداخلها أناسا يعيشون نفس مأساتها. نساء فقدن أزواجهن، ورجالا فقدوا سناءهم. تبادلوا الحديث عن المأساة على طول الطريق الذي قطعته السيارة ى . حين بلغوا وجهتهم، دلهم السائق الطريق، وأخبرهم بأنهم إن رغبوا في العودة أن ينتظروه هناك في نفس المكان.

نزلوا من السيارة، وختطوا في طريق غير ممهد، ثم ما لبثوا أن وصلوا إلى تلة مرتفعة. من هناك أطلوا على الممر الحدودي. لكن الوصول إليه صعب. اتفقوا فيما بينهم وقرروا أن يواجهوا العسكر. سيذهبون إليهم ويطلبون منهم ان يسمحوا لهم بالاقتراب أكثر لعلهم يحظون بإطلالة سريعة على الأحبة. قبل أن يصلوا إلى وجهتهم رأوا سيارة عسكرية تتوجه نحوهم. تملكهم الخوف، لكنهم استمروا في طريقهم.

السيارة تدنو منهم، حجمها يكبر تدريجيا حتى أصبحت في حجمها الطبيعي. توقفت قبل أن تبلغهم بمسافة معقولة، ترجل منها عسكريان مدججان بأسلحتهما. شهروا بندقياتهما في وجوههم. طلبا منهم إشهار بطائقهم، حين تأكد العسكريان من هويتهم الجزائرية. طلبا منهم أن يعودوا ادراجهم من حيث أتوا وإلا سيتم القبض عليهم بتهمة اختراق منطقة عسكرية ممنوعة، لم تنفع توسلاتهم في شيء. وفي نهاية المطاف نكصوا على أعقابهم يجرون أذيال الخيبة. وقفوا في المكان المطلوب في انتظار السيارة التي ستنقلهم من حيث انطلقوا في المدينة القريبة من الحدود.


الفصل الخامس:



أيام تمضي، تليها أسابيع وشهور. ثم عام فعام، واحميدة يقبع في كوخه.. يعد أكواب الشاي للعمال، وبعض الطعام البسيط،لقد أصبح قادرا على إعداد بعض الوجبات الخفيفة، التي زادت دخله، وأضحى اسم "ادزايري" غالبا على اسمه الحقيقي.. حياته تمضي في هدوء. يقضي سحابة يومه منشغلا في الحديث مع الحارس وإعطاء العمال ما يطلبونه.. أضاف إلى تجارته بيع السجائر المقسطة فاكتسب زبائن إضافيين.

في المساء عندما يغادر العمال المصنع، كان احميدة يجمع عدته وأجهزته البسيطة، ينظفها، يرتبها جانبا، يغلق الكوخ، ثم يتوغل في المدينة. كان لا بد ان يفعل ذلك. هذا الأمر يشعره بشيء ما. بأن الحياة تتدفق قوية، وأن الأمور ستتغير يوما..يمضي بلا تردد يتطلع في الواجهات و المارة ، كلما وقع بصره على امرأة بحث فيها عن وجه الزاهية ، في مرات عدة كان يوشك على إقاف امرأة او اقتفاء خطواتها ظانا أنها الزاهية بلحمها و دمها ، بيد انه سرعان ما يرعوي و يعود إلى رشده ، متيقنا بأن الزاهية بعيدة عن هذا المكان و لا يمكنها أن تتنقل بمفردها إلى الجهة الأخرى من الحدود ، حين يرى طفلا في سن ابنه المفترض "المهدي " يبتسم ، ثم سرعان ما يرين على نفسه حزن مقيت ، لا يتخلص منه إلا بعد لأي.

بعد ان ينال حظه من التعب و الألم ، كان يحرص على اقتناء جريدة كل يوم تقريبا.. يجلس في المقهى، ثم يطلب من طالب شاب عاطل أن يقرأ له ما كتب في الجريدة. حلريصا كان على معرفة التطورات في العالم، وأهم منها ما يحدث بين الجارين الشقيقين العدوين، ينتظر بفارغ الصبر أن تنفتح الحدود.

حينما يأخذ كفايته من الجلوس في المقهى، يتقهقر نحو كوخه، يتسلل إليه، يشعل شمعة ويقضي باقي الليل ساهرا مفكرا في مصيره الذي يكبس على أنفاسه. فكلما فكر أن الأمر سينتهي، تزداد مدته وتطول.

في تلك الليلة وهو يتعثر في خطوته الليلة. التفت فجأة خلفه بعد أن شعر بأن شيئا ما يتبعه، فإذا به يجد كلبا صغير الحجم يميل إلى الصفرة يقتفي خطواته. وإن كان غبش الليل لم يسمح له بتبين اللون الحقيقي لهذا الكلب. توقف ..رمقه بنظرة حانية، توقف الكلب كذلك. استانف احميدة المسير، فتبعه الكلب من جديد. توقف احميد ثانية، فتوقف الكلب، ناداه بحركة من يده، وصفير خافت. تردد الكلب للحظة، ثم ما لبث أن بصبص بذيله، وتوجه نحوه، هكذا بدأت علاقة جديدة بين احميدة والكلب، الذي اطلق عليه اسم " المجلي " والذي سيلازمه - بعد ذلك- مدة طويلة من عمره. حين وصلا إلى الكوخ قدم احميدة للكلب بعض القطع من الخبز، التي التهمها الجرو ممتنا، ثم انبطح على الأرض..غاب احميدة داخل كوخه للحظات كانت كافية لسخين الشاي ،ثم خرج منه ..أسند ظهره على جدار الورش. أخرج غيلونه، وبدأ في تدخين الكيف، بعد أن أعد لنفسه جلسة مناسبة، و طفق يدخن و يرتشف الشايبنزع من الانتشاء الذي تحن له نفسه.

صباح اليوم التالي، كان الجرو لا يزال يملأ بوجوده الطارئ محيط الكوخ. أطلق نباحا متقطعا.. كان احميدة يرمقه بعينين حانيتين وبين فترة وأخرى يقذف له بعض كسر الخبز، التي يقبل عليها الجرو بامتنان.

بعد أن يوزع احميدة الطلبات على العمال، محاولا ان يلبي للجميع رغباتهم، كان يختار مكانا مناسبا، يجلس فيه، ويتطلع إلى الأطفال حاملي المحافظ ،المتجهين بفتور صباحي ظاهر إلى المدرسة. هذا الطقس اليوم كان أبدا لا يخلف موعده. كان يخفف ما في نفسه من هم ، و يجدد الأمل في أعماقه بأنه سيرى يوما ابنه المهدي، الذي يقدر الآن أنه أصبح في سن يؤهله للذهاب إلى المدرسة، حين كان احميدة يفعل ذلك، تلمع في أعماق عينيه نظرة مشرقة، كان الحارس يشاركه فرحته، فيلقي بكلماته المشجعة وهو يقبع في مكانه أمام باب الورش.

-لا تحزن آدزايري، ستراه السي "المهدي" قريبا.

يرد عليه بابتسامة، تعبر عن امتنانه، ثم ما يلبث أن يبتلعه الكوخ، فيما ينخرط الكلب في سورة في النشاط يركض هنا وهناك، يبصبص بديله ..ينبطح أرضا يتمرغ في التراب، ثم ينتفض واقفا، ويركض من جديد ، وحين ينال كفايته يعود إلى باب الكوخ ويتمدد هناك في انتظار إشارة أو حركة من صاحبه.

حين يعتزم احميدة على إحضار بعض البضائع ، التي يحتاجها في عمله كان يصر على أن يذهب إلى مركز المدينة، يمضي راجلا يحث قدميه على التهام الطريق، كان ذلك يبعث النشاط في أوصاله ،بعد قعدته الطويلة في الكوخ ، لقد تعود جسده على الحكة و التعب ، فلا يميل إل حياة الدعة و الخمول.. يشتري ما يحتاجه، يعرج في طريقة على المسلك المؤدي إلى الممر الحدودي، يلقي نظرة من هناك ثم يعود نحو كوخه.. في طريقه كانت دوما تلفت انتباهه امرأة ، قدر أنها تتجاوز العشرين بقليل لكنها لم تتجاوز الثلاثين من عمرها. كان جمالها ملفتا، تغادر العمارة في أوقات معينة ، أصبح يحفظها، ويتعمد أن يمر أمامها في تلك الأوقات تحديدا، يراها تحمل بعض البضائع التي اقتنتها من السوق، وتعود بها إلى شقتها في العمارة.

في أوقات معينة كانت نفسه تحن إلى رؤية تلك المرأة ، إنها تشبه الزاهية بشكل مثير، وكأنها هي. كان يختلق الأعذار لنفسه ليمر من أمام تلك العمارة، في بعض الأحيان يرافقه الكلب الذي ازداد حجمه كبرا، وفي أوقات أخرى يصر على الذهاب وحده. اختار مقهى يشرف على العمارة ليقضي فيه بعض أوقات فراغه. وحين تلوح له من بعيد يترك كل شيء، يحمل جسده وينخرط في هرولة، تسمح له بأن يجعل من لقائه بها صدفة غير مدبرة. بدأت المرأة تنتبه تدريجيا لوجوده المخاتل، الذي لا يكاد يعلن عن نفسه . أخذت كلما التقيا في الطريق، أو تقاطعا على الرصيف ترسم على شفتيها ابتسامة خجلى، تجود بها عليه.

اكتفى احميدة بهذه الابتسامة التي أضحت تدريجيا تزين حياته الفارغة من حنان أنثوي، يشعر بنفسه في أمس الحاجة إليه.

علاقة احميدة بالحارس جعلت كل منهما يعرف عن الآخر الكثير من الامور الشخصية، كان الحارس يعرف أن احميدة يتوفر على رخصة سياقة، لكن الوثيقة التي تثبت ذلك بقيت هناك وراء الحدود في الجزائر. ومع ذلك ما إن علم بأن الورش يحتاج إلى سائقين للشاحنات من أجل نقل البضاعة إلى المدن القريبة والبعيدة، حتى توجه نحو صديقه في كوخه المتواضع ..ألقى عليه التحية كالعادة ثم قال له :

- يبدو أنك نلت رضا والديك آدزايري.

ابتسم احميدة ابتسامة امتنان لصديقه ثم أجابه :

- الله يسمعنا خيرا.

- كل الخير إن شاء الله، أخبرتني سابقا أنك تحسن السياقة.

- نعم أحسنها.

- الورش يبحث عن سائقين للشاحنات، هاته فرصتك.

متحسرا رد عليه احميدة :

- لكن الوثيقة ظلت هناك في الجزائر، لم أكن أستعملها منذ أن استقررت في البادية، وامتهنت الفلاحة.

ابتسم الحارس ورد عليه أحميدة :

- هذا أمر بسيط. هل لديك قدر من المال كاف.

- طبعا لقد تجمع لي في هذه السنوات بعض النقود.

- إذن الأمر منته، غدا سأرافقك عند صديق لي، يشتغل في مركز منح رخص السياقة، وسيسهل أمورك.

- الله يرحم والديك آصاحبي.

- فقط عليك أن تعد بعض الصور.

- لكني سأحتاج إلى شهادة السكنى.

- لا تخش شيئا، لقد فكرت في كل شيء، الرجل المكلف بإعطاء شهادة السكنى في الحي الذي أقطن فيه يقنع بالقليل، سنمنحه ورقة نقدية محترمة وسنحصل على الشهادة.

شعر أحميدة بأن الحياة تفتح له أحضانها من جديد، بعد أن صدته عنها لمدة طويلة، لم يصدق ما يحدث له في هذه الأثناء، لم يتمالك نفسه فارتمى في أحضان الحارس وعانقه عناقا حارا. رد عليه الحارس بأن ربت على ظهره وهو يقول :

- نحن إخوة آدزايري. ماتشغلش بالك بهذه الأمور.

حمل أحميدة معه فرحة المتبرعم وذهب إلى كوخه يستشرف مستقبله في السياقة، والخروج من حياة البؤس التي وجد نفسه ضحية لها. حضرت إلى الذهن زوجته الزاهية، جميلة ومشرقة، ومحرضة إياه على اقتراف مغامرة الحياة. ابنه المهدي كذلك تبدت ملامحه بارزة قوية، وابتسامته التي تدعوه إلى عدم تضييع الفرصة التي أتيحت له، حتى يعد نفسه للقاء الذي منى نفسه بأن يكون وشيكا ، خاصة بعد تواتر الأخبار عن إرخاء قبضة السلطات الأمنية عن منطقة الحدود في الجهة الأخرى، وأخذ الناس يتوافدون عليها، وكلهم أمل أن يلقوا نظرة على الأحبة، أو اقتناص كلمة تائهة يتصيدها ولو عن بعد ، قرر أن يكون في تلك اللحظة رفقة المتجمهرينقرب الحدود ممنيا نفسه بهدية قد ل تكون في الحسبان. لقد جرب ذلكسابقا و لم يظفر سوى بالحسرة و بعض اليأس ، لكن لا بأس .ذهب إلى المنطقة التي يقصدها الناس، ضاع وسط الجموع الغفيرة. كل منهم يسعى جاهدا ليبلغ رسالته الصوتية إلى قريب، فرق بينهما مكر السياسة الذي لا يؤمن جانبه. ظل هناك واقفا ينتظر، كل امرأة في الجهة الأخرى البعيدة تبدو له شبيهة بالزاهية أو هي نفسها. لكن هيهات. كيف يمكن له أن يتأكد من ذلك.

رأى أناسا ابتدعوا أشكالا مختلفة للتواصل. يلوحون برداء بلون معين، يظنون أن الجبيب في الجانب الآخر سيميزه عن غيره، هناك من يكتب ورقة يلفها في حجر، ثم يلقي بها بكل ما يملك من قوة. تصل الحجرة، وتتلاعب الرياح بالورقة، أو يتساقطان معا في هوة سحيقة، حيث الوادي الجاف المليء بالحجارة.


الفصل السادس:



مع مرور الأيام اكتسبت الزاهية نوعا من الحياد تجاه كل ما يحيط بها.. فقدت شهيتها لكل شيء. لم يعد من أمر يحرك وجدانها بقوة. لقد ركزت عواطفها في الغائب البعيد. تمني النفس بعودة محتملة. أحيانا تبدو لها قريبة، وأحيانا أخرى بعيدة جدا، بل ليست ،في حقيقة ، الأمر سوى أضغات أحلام .. ابنتها المهدية تكبر أمام عينيها. تحاول جاهدة أن تنقل لها كل ما يمكن أن يقربها من أبيها الغائب. في أحايين عدة تحدثها وكأن احميدة سيعود هذا المساء إلى البيت. ترغبها به، وتهددها إن أساءت عملا بعقابه لها.

ذهبت الزاهية مرارا إلى حيث تشعر بأن زوجها قريب منها قطعت تلك المسافة مرات عدة. الرحلة تتبعها ، و مع ذلك كانت مصرة على القيام بها، على الأقل يوما في الشهر .في السنوات الأولى كان العساكر يبعدونها عن المنطقة بدعوى اعتبارها حزاما عسكريا لا يحق للمدنيين الاقتراب منه،تحملت قسوتهم و انضباطهم العسكري بكثير من الصبر و الأمل..هناك كان تلتقي أناسا عرف أقاربهم نفس المصير ، الذي عرفه زوجها.. يجتمعون هناك ويتحدثون في الأمر، ويبحثون عن حلول مناسبة. لكن كل كلامهم يذهب أدراج الرياح لأن لا أحد قادر على ترجمة أقوالهم إلى أفعال. يحاولون المرور إلى حيث يمكنهم إلقاء نظرات قريبة، فيكون مصيرهم الصد.. يستعطفون العساكر.. يحاولون تقديم الرشاوي.. لكن كل ذلك باء بالفشل، لأن الأوامر صارمة، بعدم اقتراب أي أحد من المنطقة العازلة.. بمرور الأيام والشهور والسنوات ارتخت قبضة السلطات العسكرية على المنطقة، وسمحوا تدريجيا للناس بالاقتراب. كانت الزاهية في الموعد. هرولت نحو المنطقة القريبة من الممر الحدودي. حملت منديلا كان يستهوي احميدة حينما كان يعيش بين أحضانها، بدأت تلوح به كالمجنونة، وكثير من الدموع تغسل وجهها. كانت تبكي وهي تردد بعض الكلمات المبهمة، وكأنها تستعطف الأقدار بأن تجود عليها بنظرة واحدة لزوجها الغائب، لعل ذلك يطمئن فؤادها، فقط كانت في حاجة إلى أن تتأكد بأنه لا يزال هناك، على مقربة منها، حتى إذا ما انفتحت الحدود عاد إليها وإلى ابنتها المهدية، التي لم تكحل بصرها يوما بمرأى أبيها.

حين يقترب المساء. تعود الزاهية إلى البيت حاملة معها خيبتها. بعض الانكسار يظهر على ملامحها. حتى أن المرء يظن أنه أمام امرأة أخرى، لا علاقة لها بالزاهية، التي سرقت قلب احميدة، وقلوب الكثير من الشباب قبله وبعده. حزينة كانت، ومغلوبة على أمرها. تشعر بالعجز وقلة الحيلة. في لحظات معينة تشعر بمدى الانحدار النفسي الذي أصبحت تحيا على إيقاعه، تحاول أن تتدارك الأمر، لكن كل محاولاتها تذهب سدى، هناك شيء ما في أعماق أعماقها تحطم، ولا يمكن أن ترممه وتعيده إلى ما كان عليه من قبل، سوى عودة الحبيب الغائب: احميدة الذي عرفت معه الحب والسعادة والاستقرار والأمان.

ابنتها المهدية بلغت سن التمدرس، وأخذتها أمها إلى المدرسة التي توجد في المركز الحضري القريب من القرية. هناك أصبحت تتلقى دروسها، كانت جدتها ترافقها في الطريق ، فتملأ رأسها بالكثير من الحكايات. تحكي لها عن الاستعمار الفرنسي الذي استوطن البلاد لسنوات طويلة، حتى كادت الجزائر أن تصبح فرنسية، ثم تحدثها عن أبطال الجزائر الأحرار، الذين قدموا أرواحهم من أجل أن تنعم بلدهم بالاستقلال والكرامة. كما تحدثها عن جدها، الذي فقد حياته في سبيل نصرة الوطن. تستفيض في القول فتخبرها عن فرسه المحببة التي كان يسرجها باحتفاء يسرق ألباب الناس.. حين يمتطي صهوتها، يعطي للجميع الإحساس بأنه بطل قادم من زمن غابر. كان يحسن كل شيء يقوم به، كما تردد الجدة. ولا يستقر له مقام في مكان.. حكت لها عن رحلاته المتكررة إلى المغرب، وخاصة المدن المتاخمة للحدود مثل وجدة وفكيك. من هناك كان يأتي للثوار بالدعم والذخيرة لنصرتهم . لم تكن الحدود مغلقة- تضيف الجدة - كما هي الآن. الجزائري ينتقل بسهولة إلى المغرب ، والمغربي لا يجد عنتا في التنقل نحو الأراضي الجزائرية. لم نكن نفرق بين المغاربة والجزائريين. كنا أهلا وأقارب وأحبة. قبل الاستقلال كان جدك يخبرني بأننا إن نلنا استقلالنا كما ناله المغرب حتى نصبح بلدا واحدا. كان يخبرني دائما – تضيف باحتفاء – بأن الفرنسيين هم الذين يحاولون بدسائسهم ومكرهم أن يفرقوا بيننا. لكننا لم نسقط لهم في فخ التفرقة.

المهدية تصغي باهتمام إلى كل ما تجود به جدتها، وهي تداعب بقدميها الطريق المترب الذي يقودها إلى المدرسة، ومن حين لآخر تسأل جدتها عن أبيها. تفزج الجدة عن تنهيدة:

-والله لا أفهم لحد الآن ما ذنبه. كان رجلا منا، يحبنا ولم نشعر يوما أنه غريب عنا، لكن فجأة قالوا بأنه مغربي عدو للجزائر، ويجب أن يرحل إلى بلده، لكن تأكدي يا ابنتي بأنه سيعود.

تشعر الزاهية بأنها تتغير بشكل مضطرد. قوتها تنفلت منها ، تخونها.. الضربة القوية التي تلقتها بترحيل زوجها أحدثت ألما في القلب والصدر. بين فترة وأخرى تشعر بشيء ما ينغرس في صدرها، ثم لا يلبث أن ينقلب إلى القلب، فتحس بضعف ووهن. تقاوم وتقاوم. تحاول أن تتماسك بكل ما تملك من صبر وإرادة، لكن الأمور أصبحت فوق طاقتها. تلتجئ للفراش.. تبكي .. تئن.. تناجي ربها.. تناجي الغائب، فتزيد حالتها سواء. نبهتها أمها إلى ذلك. لكن لا حيلة لها. إن ما يحدث أكبر من إرادتها. إنها تنهار تدريجيا، ولم تعد المقاومة تجدي نفعا.. في نهاية المطاف أقنعت نفسها بأنها في حاجة ماسة إلى راحة طويلة الأمد. راحة أبدية. هكذا هو حظها عاثر، فلتقنع به. إنها لم تعد قادرة على التحمل.. حين تردد هذا الهاجس في نفسها شملها هدوء لا مثيل له،أصبحت مستسلمة لقدرها. لم تعد متحمسة لفعل أي شيء. فقط كانت تدعو المهدية إليها، تندس رفقتها تحت الغطاء، ثم تبدأ في سرد حكاية زوجها. تحكي لها عن تفاصيل حياته.. تفاصيل التفاصيل.

تشعر في قرارة نفسها أنها تعدها لما سيحدث مستقبلا، هاجس ما ألقى في روعها أنها أبدا لن ترى زوجها ثانية.. لم تعد لديها القوة للاستمرار، فقررت أن تتحلى بالشجاعة اللازمة، وأن تعد ابنتها لما هو آت. أخبرتها عن المنطقة الحدودية "زوج بغال" وأوصتها بأن أباها هناك ينتظرها وطال الزمن أو قصر، سيلتقيان.. أوصتها بجدتها خيرا. فهي امرأة طيبة – كما قالت- رغم أنها تفتقر للخبرة في الحياة.

كانت المهدية تستغرب طبيعة كلام أمها ولهجتها. سألتها يوما:

- لم تخبريني ماما بكل هذه الأمور؟ هل ستسافرين وتتركيني هنا؟

حضنها الزاهية بقوة إلى صدرها، ثم ترد عليها:

- لا يا بنيتي. لن أفعل ذلك، لكن لا أحد يضمن عمره.

تزداد المهدية ارتباكا ويزيدها كلام أمها بلبلة، فبدل أن يطمئنها يضاعف خوفها. تلتصق أكثر بصدر أمها وتنحب بصمت ، وقد تداعى في ذهنها أنها لا بد فاقدة أمها بعد أن فقدت أباها.

في أحد الصباحات تأخرت الزاهية على غير عادتها في مغادرة فراشها، انسلت المهدية من الفراش، وذهبت إلى غرفة جدتها لتوقظها من نومها، كي تعد لها الفطور، وترافقها إلى المدرسة، لقد أشفقت على أمها وتركتها مستلقية في فراشها.

حين فتحت الجدة باب غرفتها سألتها:

- لم لم توقظي أمك؟

- أمي مريضة، ويجب أن تظل نائمة، حتى تستعيد عافيتها.

-الله يرضى عنك يا ابنتي. لكنها ستغضب إن لم تطمئن عليك قبل الذهاب المدرسة. اذهبي وأيقضيها. أنا سأتكفل بإعداد الفطور.

ركضت المهدية نحو غرفة أمها. فتحت الباب، انسلت داخلها. أخذت تنادي أمها. لكنها لا تستجيب. نطت إلى أعلى السرير، حركتها بلطف في البداية ، ثم رجتها بقوة، لكن بدون جدوى، لم تبد عن الأم أي استجابة. حينذاك شعرت المهدية بالفزع. خرجت مسرعة من الغرفة وتوجهت نحو جدتها.. ألفتها تحلب البقرة. أخبرتها بأنها حاولت إيقاظ أمها إلا أنها لم تستجب لها .. تركت الجدة ما كانت بصدد القيام به. خفق قلبها بشدة. تدحرجت نحو الغرفة، أخذت تنادي ابنتها بقوة:

- الزاهية.. ابنتي الزاهية، هيا قومي.

لكن ما من مجيب، تقدمت نحوها. حركتها بلطف، ثم بعنف. لا استجابة. حينذاك أطلقت صرخة قوية أفزعت المهدية التي كانت تتابع المشهد بوجل. التفتت نحوها الجدة ثم قالت كلمات أكبر من أن تستوعبها الطفلة:

- ماماك الله يرحمها.

منذهلة ردت عليه المهدية:

- مالها؟

- لقد ماتت الزاهية.



الفصل السابع:
حياة جديدة فتحت أبوابها لاحميدة. لقد حصل على رخصة السياقة، وبدأ عمله الجديد كسائق للشاحنة التي تنقل مواد البناء المصنعة إلى أحياء مدينة وجدة والمدن المجاورة.طال حياته تغيير جذري، وأصبح ضروريا أن يغير الكثير مما اعتاد عليه سابقا.. أول ما كان عليه أن يغيره مقر سكناه. لقد اقترح عليه الحارس أن يشتري مسكنا جديدا بالقرب من مسكنه في ضاحية مدينة وجدة. هناك تتناسل بعض الدور العشوائية التي تستقطب المهاجرين من البوادي القريبة والبعيدة لكسب قوت عيشهم، لم يتردد احميدة في قبول اقتراح صديقه، فوطد العزم على ذلك. انتقل في اليوم الموالي إلى الحي الذي يقطن فيه الحارس قام بجولة هناك ، و تعرفا على الأاسعار عن كتب ، لم تكن تغريه الإقامة هناك لأنك دائم التفكير في الأحبة الذين سيعود لهم يوما ، بعد مساوامات عدة اسقر الاختيار على مسكن على بعد خطوات من منزل الحارس ، فلم يمض غير قليل من الزمن حتى كان لاحميدة مسكن يأوي إليه، إنه مسكن بسيط، لكنه يفي بالغرض، فلازال يتعرش في قلبه ووجدانه أن إقامته في هذه المدينة ليست سوى إقامة مؤقتة. دائما كان يفككر بأن الحدود ستفتح حتما يوما ويعود إلى أهله.

ظل احميدة وفيا لجلوسه في المقهى.. دون أن ينسى اقتناء الجريدة، ويبحث عن الشخص المناسب لبقرأ له بعض ما جاء فيها. فبعد أن فقد أثر الشاب العاطل الذي كان يقوم له بالمهمة، وجد في المقهى شخصا آخر يتطوع لفعل ذلك. ارتبطت بينه وبين أستاذ غريب عن المدينة علاقة متينة، فكان هذا الأستاذ يقرأ له بعض العناوين والمقالات التي تلقى هوى في نفس احميدة ويشرح له مضامينه. كانت تستوقفه أخبار فلسطين بعد حرب سبعة وستين. فبعد استيلاء اسرائيل على الكثير من الأراضي العربية في فلسطين وسوريا ولبنان والأردن ومصر، أقامت حدودا صارمة بأسلاك شائكة وأخرى كهربائية يحرسها جنود أشداء لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم طريقا، بسبب هذه الحرب وانتزاع الأراضي تشتت الكثير من الأسر، وهجرت أخرى، فأصبح التواصل صعبا بين الأهالي والأقارب على طرفي الحدود. كان ذلك يذكره بمأساته التي يعرفها الأستاذ حق المعرفة. لقد أخبره بجميع تفاصيلها، كما أنها كانت حديث الجميع في المنطقة المتاخمة للحدود.حين يحدثه الأستاذ في كل ذلك ،كان احميدة يعبر عن استغرابه بكل عفوية:

- أولئك الناس مختلفون في الدين واللغة والعرق. يمكن أن يفعلوا بالناس ما فعلوه. أما نحن والجزائريون فإننا نتشارك في كل شيء..نحن إخوة.. لماذا يحدث لنا هذا الأمر؟

يستمع إليه الأستاذ ويرد قائلا:

- إنه لعبة السياسة القذرة يا صيدقي، يشعلها الكبار، ويكتوي بنارها الصغار.

لم يفرط احميدة في كلبه الذي أخذه معه إلى مسكنه الجديد في الحي الهامشي الذي احتضنه، أصبح الرجل معروفا هناك باللقب الذي أطلقه عليه الحارس، الجميع ينادونه ب"ادزايري"، كان اللقب يستهويه، لأنه يؤكد له بأنه هنا في المكان الخطأ وأنه سيعود يوما إلى هناك.

بواسطة شاحنته أخذ احميدة ينتقل كل يوم إلى مكان جديد، يحمل كميات كبيرة من الآجور أو الاسمنت أو الحديد، ويمضي بها إلى وجهتها، أكثر أسفاره كانت إلى المدن القريبة.. كثيرا ما نقل شحنات إلى مدينة بركان والسعيدية و الناظور.. في الطريق إلى هناك، كان حريصا على الانتقال من إذاعة إلى أخرى. الإذاعة الجزائرية والإذاعة المغربية، وفي بعض الأحيان تستهويه إذاعة هنا لندن، فيستمع بحرقة إلى أخبار فلسطين ومحنة المهجرين الذين فارقوا قسرا ذويهم، وحين يغامر أحدهم للالتحاق بأهله في الضفة الموالية يكون الرصاص من نصيبه.

الاسفلت متمدد إلى ما نهاية، والشاحنة تلتهم المسافات ببطء وتؤدة.في الطريق يلفت انتباهه الأطفال الذين يحملون محافظهم ، ويمضون بخطواتهم الصغيرة نحو مدرسة ما، لا تبدو قريبة. أجسادهم الضئيلة مصرة على التقدم إلى الأمام وأرجلهم الواهنة تتمسك بالتراب المحاذي للإسفلت.. كان بعضهم ينهكه السير، فيلتفت نحو المركبات التي تلتهم الطريق. يرفعون أيديهم الصغيرة مؤشرين بإبهاهم طلبا لتوصيلة، هم في أمس الحاجة إليها، خاصة إذا كانت الشمس معاذية، تنلقي بجحيمها نحوهم. في كثير من المرات كان يتوقف في جانب الطريق، يحمل معه بعض الصبية وينقلهم إلى أقرب مكان ممكن من مدارسهم، يستهويه أن يفعل ذلك.

في كل طفل يرى ابنه "المهدي" الذي يطيب له أن يتخيله وهو يقطع طريقا آخر مشابها لهذا الطريق، وحين ينال منه التعب يرفع إبهامه الضئيل ويشير إلى سائق شاحنة راجيا منه التوقف ليحمله معه نحو وجهته ، حين يهيم في ذلك النوع من الخيال، تفرج شفتاه على ابتسامة متألقة، مشعة، يتمنى أن تقهر المسافات، لتصل إلى ابنه كي تدفئ قلبه، فقط يتمنى لو يحظى ابنه بفرصته، فيتعاطف معه أحد السائقين. يتوقف له في محاذاة الاسفلت، يحمله، ويمضي به إلى حيث تقبع مدرسته.

ظل احميدة وفيا لجلسته في المقهى المقابل للعمارة التي تقطن بها المرأة الشبيهة لزوجته. لقد أصبح يعرفها بأدق تفاصيلها.حتى أنه يميز سحنتها حتى لو كانت وسط جمهرة من النساء.. التقى بها كثيرا عن بعد. لم يجد لديه الجرأة ليكلمها، لأنه لم يستطع أن يفكر فيها بشكل مختلف. فقط كان يتمنى أن يراها. وحينما يتحقق ذلك يشعر بنوع من الإشباع. لما أخذته الشاحنة إلى البعيد، لم يعد وفيا لمواعيد الالتقاء بها ، التي ربما لا تعرفها المرأة بالتدقيق. ربما لازالت إلى اليوم تظن أن لقاءاته المتكررة بها مجرد صدف متجددة. لكنه أبدا لم ينسها. كانت دوما حاضرة في ذهنه. لذلك حين وقع عليه بصره وهي تقف بجانب الطريق تنتظر وصول وسيلة نقل تحملها إلى وجهتها، خفق قلبه بشدة. ضغط على الكابح وانعرج نحو اليمين، توقف في الممر الترابي المحادي للاسفلت، وانتظر أن تتقدم المرأة نحوه. لكنها لم تفعل، حينذاك انتفض من مكانه، فتح باب الشاحنة وانزلق إلى الأسفل. خطا بخطوات واثقة نحوها. لاحظت المرأة قدومه نحوها فالتفتت نحو الجهة المعاكسة، محاولة تجاهله.. دنا منها أكثر وحين أشرف عليها قال بلهحة محتفية:

- السلام عليكم، ماعرفتيتش؟

حانت منها التفاتة حذرة نحوه فإذا بها تتعرف عليه، فزينت وجهها بابتسامة جميلة، ثم ردت علي:

- عليكم السلام. مرحبا.. اسمح لي ماكنت كانعرف بأنك سائق.

نظر إليها نظرة متفهمة و متسامحة ، ثم خاطبها بلهجة وقورة:

- تفضلي.. أين أنت ذاهبة؟

- إلى مدينة السعيدية.

- جيد سأمر عليها في طريق. أنا ذاهب إلى مدينة الناظور

تخلصت المرأة من خجلها وترددها، فتزحزحت من مكانها، هرول احميدة نحو الشاحنة ليرتب دواخلها بما يليق بالضيفة العزيزة. فتح لها الباب على يمين الشاحنة، فاستقرت في مقعدها الجلدي الذي حال بعض لونه.. استأنفت الشاحنة سيرها، واحميدة في حالة يصعب التكهن بها، كان فرحا بهذا اللقاء المفاجئ ، الذي أبدا لم يتصور أن يحدث بمثل هذه البساطة ، وفي مثل هذه الظروف المناسبة. فأن يجمعه القدر بهذه المرأة التي طالما تمنى أن ينال منها نظرة واحدة أو كلمة شاردة، فذلك أقصى ما كان يتمناه.. لزمت الاثنان الصمت لفترة من الزمن، ثم على حين غرة سألته:

- تبدو لهجتك مختلفة. أنت لست من مدينة وجدة.

أكد احميدة على كلامها:

- نعم أنا أقيم فيها بشكل استثنائي، في انتظاري أن أعود إلى أهلي.

جوابه هذا أذكى في نفس المرأة بعض الفضول فسألته:

- أين يقيم أهلك ؟

- يقيمون في الجزائر.

استبدت الدهشة بالمرأة فألفت سؤالها العفوي

-هل أنت من المرحلين عن البلد بسبب الحرب؟

-نعم بالتحديد. وكيف عرفت ذلك.

- لقد خمنت الأمر..

أفرجت على آهة كبيرة ثم أردفت قائلة:

- أنا كذلك تعرضت لنفس المصير. زوجي وأبنائي لا يزالون في الجزائر. بينما طردت أنا إلى المغرب.

نوع من الذهول هيمن على نفس احميدة لزمن معلوم.. فسر على ضوئه اهتمامه بالمرأة وميوله نحوها. وكhنه كان يشعر بأنها تشترك معه في هول المآساة. استرق نظرة إلى وجهها k فرأى الحزن والألم يستوطن ملامحها. أبدا لم ينظر إليها بمثل هذا القرب.

إنها امرأة جميلة، لكنها كئيبة. تحمل في دواخلها الكثير من الهموم والأحزان. هذا الإحساس حفزه على أن يتعاطف معها بشكل كبير.. حكى لها حكايته، وحكت حكايتها. كان الكثير من اليأس يرفرف على أجواء الحكايتين، فرغم تشبت كل منهما بالأمل، بيد أنه أمل متهالك، متداع، يوشك على أن يصبح حطاما. إنهما يتشبتان به بالرغم من ذلك. لكن في قرارة نفسيهما كانا يشعران بأنهما واهمان.. حتى توقف الحديث انطوى كل منهما على نفسه، يجتر مرارته. لعلع صوت الإذاعة يغطي الأجواء. المذيع يتحدث عن التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط. حرب ثلاثة وسبعين حديث الساعة. الجميع يتحدث عن النصر غير المكتمل للعرب في الحرب، معاناة الفلسطينيين تستمر. الكل يتحدث باسمهم، وهم الغائب الأكبر عن الساحة. منظمة التحرير الفلسطينية تنتقل من بلد إلى آخر. تتجرع هزائم متوالية.. كل ذلك لم يشغل احميدة الذي كان أهم ما يستبد بعقله ووجدانه هو ما يحدث للناس، للمواطنين البسطاء الذين يكتوون بشظايا الحرب، خاصة أولئك القاطنون في الحدود بين البلدان المتنازعة، الأسر تتشتت والعائلة كذلك.. فكر في وضعه ووضع المرأة التي بجانبه. قال في نفسه "لا أحد يجرؤ على ارتكاب هذا الجرم. الزوجة تنتزع من زوجها وأبنائها والزوج يرحل عن زوجته وأبنائه، ثم انخرط في السياقة، بعقل متأرجح وإحساس لا يستقر على حال.. دخلت الشاحنة إلى مدينة بركان، طلب من المرأة التي عرف فيها بعد اسمها أن ترافقه إلى المقهى لتناول شيء ما قائلا:

- راضية. يجبأن نتناول شيء ما.

رفضت المرأة ذلك. فاستأذنها ثم اتجه نحو مقهى، شرب فنجان قهوة، ثم اقتنى بعض الطعام وعاد إلى الشاحنة. قدم إلى المرأة ما اقتناه لكنها رفضت قبوله.

حينذاك أصر عليها قائلا:

- يجب أن نشرك الطعام والملح.

زينت وجهها بابتسامة خجلة، ثم مدت يدها وتناولت بعض ما أحضره لها.

في ضاحية مدينة السعيدية الشاطئية، طلبت راضية من احميدة أن يتوقف وينزلها، لأنها وصلت إلى وجهتها. استجاب الرجل لها. أوقف الشاحنة، فتح الباب، ودعها بكلمات محتفية، واعدا إياها بأن يلتقيها في مناسبات لاحقة. أكدت المرأة على كلامه، وهي تقول:

- على الأقل نتبادل المعلومات والأخبار، فنحن نعاني من نفس المصيبة.

غادرت راضية الشاحنة، التي استمرت في طريقها في اتجاه مدينة الناظور. خيم على احميدة إحساس جميل وهادئ. لازمه بعض الشرود وهو يفكر في هذا الحضور المربك والمفاجئ لراضية. أخرج سيجارة. أشعلها، شرع يمتص دخانها ويمجه بانتشاء، وهو يمضي في طريقه نحو وجهته المعلومة.



الفصل الثامن:


تدريجيا غزا التلفزيون البيوت . أخذت الصورة تفرض نفسها بقوة و تشكل أذواق الناس و اذهانهم بشكل مختلف ..الجميع يتنافس من أجل اقتناء هذا الجهاز العجيب. في القرية الجزائرية التي كانت تحتضن احميدة ذات يوم، كان بعض البيوت قد استأنست بالتلفزيون. أخبار العالم وصور تتراقص على الشاشات التي، لا زال اللونان الأبيض والأسود طاغيين على ما سواهما.. تحت إلحاح "المهدية" اشترت جدتها هذا الجهاز العجيب. فأضحت تقضي بجانبه أكثر أوقاتها، خاصة الحصة المخصصة للأطفال، التي تقدم أفلاما كرطونية، تسبح بالخيال في عوالم غريبة وعجيبة ، تجعلها تنسى ، إلى حين، قسوة العالم الذي تحيا بين ظهرانيه.. حين يحين وقت تقديم الأخبار، كانت الفتاة الصغيرة تتلقف صور معاناة الفلسطينيين مع الحدود ،التي برع الجيش الإسرائيلي في تحصينها بالأسلاك الشائكة المنيعة. كانت الصور تنقل فلسطينيين يحاولون اقتحام هذه الحواجز. وفي المقابل كان أفراد من الجيش يشهرون أسلحتهم النارية على صدور المتظاهرين. انتقلت الكاميرا بعد ذلك إلى أحد مخيمات الفلسطينيين في لبنان، وقدمت تصريحات لمهجرين فلسطينيين يتوقون للعودة إلىبللداتهم وقراهم التي اقتلعوا منها اقتلاعا. ركزت الكاميرا على طفلة صغيرة، ينحدر دمعها مدرارا. تقول ببراءة إنها اشتاقت لصديقاتها على الجانب الآخر من الحدود. هذه الصور كانت كافية لتذكر "المهدية" الفتاة ،التي تجاوزت التعليم الابتدائي بقليل، بمأساتها الخاصة. غادرت المكان الذي كانت تقبع فيه. توجهت نحو جدتها. جلست بمحاذاتها، ثم قالت لها:

- جدتي يجب أن أزور أبي.

استغربت الجدة هذا الطلب المفاجئ، فردت عليها:

- كيف يا ابنتي. نحن لا نعرف المكان الذي يتواجد به أبوك. إنه ليس في الجزائر. والحدود ما تزال مغلقة.

غالبت الفتاة حزنها، ثم أردفت قائلة:

- نذهب إلى المكان الذي كانت تقصده أمي، وننتظر هناك ربما يظهر له أثر. لا بد أنه ينتظرني هناك.

وعدت الجدة حفيدتها خيرا، ولو أنها لا تدري كيف يمكنها التصرف تجاه الأمر. إنها حائرة وتائهة. لم تكتسب الخبرة للتصرف إزاء هذه الأمور.. قامت من مكانها متثاقلة توجهت نحو جارتها "خضرة" دقت الباب، فتحته المرأة ودعتها للدخول، حين ضمهما البيت، سألتها الجارة عن أحوالها، فأخبرتها بالحالة التي توجد عليها المهدية، بعد أن أصبح حديثها متكررا عن أبيها، استمعت إليها الجارة "خضرة" بكثير من التعاطف والحزن، ثم قالت لها مطمئنة.

- لا تحملي هما.. أنا سأرافقها إلى منطقة الحدود في الوقت الذي ترغب فيه.

ابتهجت "فطوم" بهذا الاقتراح. عانقت "خضرة"، شكرتها، ثم انصرفت إلى بيتها.

حين احتواها البيت أخبرت "المهدية" بأن الجارة "خضرة" سترافقها إلى منطقة الحدود.

متلهفة سألتها المهدية

- متى؟

أجابت الجدة بثقة:

- حينما تشائين.. من الأفضل أن يكون الأمر يوم الجمعة حين تكون المدارس معطلة.

في اليوم الموعود استيقظت المهدية باكرا. تناولت افطارها. غيرت ملابسها، عانقت جدتها ثم توجهت نحو بيت الجارة خضرة. استبطأتها هذه الأخيرة قليلا ريثما تجهز نفسها للسفر .. انتظرت المهدية متوترة،و مبتهجة، لكن خوفا خفيا يتسلل إلى قلبها الصغير. خرجت جدتها من البيت نادتها، ثم سلمتها بعض النقود. وطلبت منها أن تجد الطريقة المناسبة لتسلمها لخضرة في الطريق، لأنها تعرف جيدا أنها سترفض أن تتسلمها منها بشكل مباشر. ضمت يدها على الأوراق النقدية، وهي تستشرف الأحداث التي ستعيشها في هذا اليوم المشهود.

من يدري ربما تلتقي بأبيها، فيتبادلان النظرات والكلمات. الجارة خضرة، تعرف أباها، وستساعدها في التعرف عليه.

قطع السيارة المسافة في وقت لا يبدو طويلا. رغم أن المهدية شعرت بأن زمن السفر طويل جدا. حتى انها شعرت في لحظات معينة بان السيارة لن تصل أبدا إلى وجهتها. وصلا إلى المدينة القريبة من الحدود، فكان يتوجب عليهما أن تغادرا السيارة، لتبحثا عن وسيلة نقل أخرى توصلهما إلى المنطقة الحدودية التي تقصدانها.. تاها قليلا في المدينة. اقتنت خضرة بعض الأطعمة، قدمت جزءا منها إلى المهدية، فشكرتها على فعل ذلك، ثم مدت لها يدها بالنقود، التي سلمتها لها جدتها. غاضبة حدثتها خضرة قائلة:

- ماهذا؟ ماذا تفعلين؟

- جدتي اعطتني هذه النقود لأسلمها لك.

- عيب، ليست بيننا مثل هذه الأمور. نحن جيران. احتفظي بنقودك عندك.

شعرت الفتاة بالخجل والارتباك. لا تدري ماذا تفعل. حينذاك تداركت خضرة الأمر، فوجهت لها الخطاب قائلة:

-حسنا. أعطني النقود. حتما ستضيع منك. عندما نعود بالسلامة سأردها إلى جدتك.

أخذت خضرة النقود. خبأتها بحرص، ثم انخرطت رفقة الفتاة في البحث عن المحطة التي يمكن أن تستقلا فيها السيارة، التي ستقودهما نحو الحدود. لم يستغرق الأمر زمنا يستحق الذكر. سرعان ما وجدتا بغيتهما. فالأمور تغيرت كثيرا لم يعد السفر نحو الحدود يتطلب الكثير من الدهاء والاختفاء ، و لعب لعبة القط الفأر مع العساكر. ركبتا السيارة، وانتظرتا حتى اكتمل النصاب المطلوب لكي تنطلق نحو وجهتها. بعد ربع ساعة تقريبا وصلت السيارة إلى المكان المقصود، ترجل الركاب.. كان الجو خانقا.. الصيف على الأبواب، والحرارة لا تني ترتفع شيئا فشيئا.. المكان عبارة عن هضاب لا تكاد تعلن نفسها.. هناك طريق ترابية تخترق المكان، تؤدي إلى اتجاهات عدة، على امتداد البصر تتوزع شجيرات هنا وهناك. من بعيد يلوح السياج الكبير الذي يمتد على طول الحدود. شعرت الفتاة برهبة من تلك الأسلاك التي توطد في النفس أحاسيس الرهبة، والخوف. تدفق الناس نحو الممر الحدودي. لم يكن هناك الكثير من العساكر. مما سمح لهم بالتجمهر في أقرب نقطة ممكنة، تسمح بالتقاط نظرة أو كلمة، بوجل ورهبة تقدمت "المهدية" وهي تمسك بيد خضرة التي كانت حريصة على أن لا تضيع الفتاة من قبضتها ..الكثير من الناس يتجمهرون في المكان. شقت المهدية وخضرة طريقهما وسط الجموع. دنتا بشكل متواصل من السياج الشائك. أشرفتا عليه، ومن هناك رمتا طرفيهما نحو المكان البعيد. هناك في الضفة الحدودية الأخرى للبلد المجاور كان الأمر متشابها في الجهة الموالية. الناس يتجمهرون هناك، الأصوات مرتفعة هنا و هناك.. الأيادي تجتهد في الإتيان بإشارات وإيماءات. هناك من يتوقف في مكان محدد، ثم ما يلبث أن يغيره ليستقر في مكان آخر. يعتقد بأنه سييسر له التواصل مع أقاربه، كانت المهدية تحملق في الناس في الجهة الأخرى. لم تعرف منهم أحدا. يبدون بعيدين بشكل لا يصدق.

تدقق النظر أكثر ..في لحظات بعينها تركز بصرها على أحد الرجال. ثم تسحب نحوها خضرة من ثيابها، وتسألها:

- ألا يمكن أن يكون صاحب اللباس الأزرق هو أبي؟

ترد عليها خضرة:

-والله يا بنيتي، لقد مر وقت طويل على رؤيته، يمكن أن يكون هو، ويمكن أن لا يكون. كيف سنعرف يا ابنتي إنهم بعيدون عن هنا جدا، ويصعب من هذه المسافة أن نتأكد من ذلك.

تركز الفتاة على الرجل ذي اللباس الأزرق ثم تقول:

- أشعر بأن ذلك هو أبي.

تلوح له بيدها، تصيح بأعلى صورتها:

- بابا .. بابا ..

كان الرجل هو الآخر يلوح بيده، لا يعرف لم يفعل ذلك، لم يكن متأكدا من أي شيء. لكنه كان يفعل. ربما يحيي زوجة له في الجانب الآخر من الحدود، ربما له ابن أو ابنة. أو ربما يفعل ذلك ليوهم نفسه بأنه قد عثر على أقاربه، حتى يخرج من حالة نفسية تكبس عليه منذ مدة لا يعلم إلا الله تقديرها.

أخذت المهدية كفايتها من المشاعر المتدفقة. سمعت كلمات جديدة، وكحلت عينها بمناظر، لم تر مثلها من قبل إلا على شاشة التلفاز. تذكرت ما يحدث للفلسطينيين. حضرت في ذهنها الفتاة الفلسطينية التي اشتاقت إلى صديقتها وقريتها. أحست بأن هذه الرحلة زادتها اشتياقا لأبيها الغائب. في نفسها قررت بأنها ستتردد كثيرا على هذا المكان حتى تجد أباها وتتواصل معه.



الفصل التاسع:
في جلسة ليلية جمعت احميدة بصديقه الحارس، الذي توطت علاقته به بمرور الأيام، فاكتشف فيه أخا لا يمكن بسهولة الظفر بمثله. حدث احميدة صديقه عن همومه. وعن ذهابه المتكرر إلى المنطقة الحدودية طمعا في الظفر بنظرة إلى زوجته وابنه ، الذي توقع الآن أنه أصبح شابا، يساعد أمه على تحمل أعباء الحياة. شاركه الحارس همومه بكثير من الاهتمام، كان يحس بما يعتمل في دواخله، لقد جرب هو الآخر الغربة، وذاق من كأسها المر.. طاف بهما الحديث في مواضيع شتى على إيقاع الموسيقى التي يجود بها المذياع ، الذي صغر حجمه حتى أصبح بحجم الكف، لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنته مع الصندوق الكبير ، الذي كان احميدة يجهد في نقله من مكان إلى آخر، حينما كان في بيته الكبير في البادية بالجزائر.. أخبر احميدة صديقه عن راضية وعن مأساتها التي تشبه مأساته. حدثه عن لقائه المفاجئ بها على الطريق، وكيف أوصلها إلى مدينة السعيدية.

استغل الحارس الفرصة، وتطرق مع صديقه إلى موضوع، لم يجد سابقا الفرصة سانحة ليتحدث معه فيه، وهكذا على حين غرة قال له:

- لم لا تتزوج يا صديقي. حياة العزوبة والغربة يطعنان المرء طعنا.

شعر احميدة بكثير من المرارة من كلام صديقه، دارى إحساسه حتى لا يحرج صديقه، ثم أجابه:

- أنا متزوج يا صديقي. ولي ابن ينتظرني في الجهة الأخرى من الحدود. ولن يمضي وقت طويل حتى يجتمع شملنا.

مرارة الحديث التي شابت حديث وصلت إلى نفس الحارس، فتوقف عن الحديث في الموضوع، ثم ما لبث أن سأله:

- كيف حال الشغل معك؟

- والله بألف خير. على الأقل يتيح التنقل المستمر للإنسان نسيان همومه.

كان الكلب الذي استعذب أجواء السمر بين الصديقين منبطحا في مكانه. يستنشق رائحة "الكيف" بكثير من المتعة حين يرمقه صاحبه احميدة بنظرة محتفية، كان الكلب يحرك ذيله بانتشاء، محاولا أن يشعره بمدى الامتنان الذي يحس به تجاهه.

مر الوقت سريعا. كانت الجلسة ممتعة وإن تخللها بعض ما لا تهوى نفس احميدة من حديث. افترق الصديقان. كل منهما أوى إلى بيته ممنيا النفس بليلة سعيدة ينال فيها الجسد قسطا من النوم والراحة ، لا ريب أنه في حاجة إليهما.

ظل احميدة يتقلب في فراشه. حديث صديقه عن الزواج قلب عليه المواجع، لقد وطن نفسه على حياته كما هي. نسي احتياجاته الطبيعية، وكثف عواطفه في العمل، والتفكير في الزاهية البعيدة عنه مكانا، القريبة منه عاطفة ووجدنا، المرأة الوحيدة التي يهتم بها في عالمه الجديد هي راضية. عواطفه نحوها غير واضحة. مرتبكة، ولا معنى لها في كثير من الأحيان. فكر بأنها تذكره بزوجته. لكنه أبدا لم يسع لشيء آخر غير التفكير فيها. كان متأكدا من أنه يجب رؤيتها ..كان ذلك يكفيه كثيرا، بل يزيد عن حاجته. لكن ماحدث هذه الليلة، وكأنه بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس.

أحس بحنين كبير إلى جسد المرأة. تمنى لو أنه اللحظة في أحضان الزاهية اللدنة، الباذخة، لكن هيهات. بصعوبة ارتمى في النوم. بعد أن انتصب قرار ما في ذهنه.

صباحا استيقظ كعادته مبكرا أطعم نفسه وأطعم كلبه، ثم غادر نحو الورش، هناك كانت الشاحنة في انتظاره معبأة بالمواد، التي سينقلها إلى وجهة محددة. تبادل بعض التعاليق مع العمال ، الذين كانوا يحبون خفة ظله، وتحمله لعباراتهم، التي قد تقترب في بعض الأحيان من الوقاحة، لكنها وقاحة غير متعمدة من قبيل:

"مستى ستعود آدزايري لبلادك"

لم يصدقوا بعد أنه مغربي أبا عن جد، وأن انتقاله للجزائر للزواج والعيش فيها كان في مرحلة ما من حياته. كان يفسر كلامهم على أنه تعاطف معه للعودة إلى أسرته..

ركب احميدة الشاحنة ومضى في طريقه، يحث السير نحو وجهته المعلومة.

مساء عاد إلى الورش أوقف الشاحنة داخله وتوجه نحو المقهى المعتاد. هناك سمع أخبارا جديدة، تتحدث عن نية السلطات الجزائرية والمغربية بإعادة فتح الحدود.. أفرحه الخبر ..توجه طرا نحو المنطقة الحدودية، كان لا يزال يرتدي بذلته الزرقاء التي يسوق بها الشاحنة، والتي تقي ملابسه من الغبار حتى لا يتسلل إلى باقي الملابس التي يرتديها عادة.

هناك على مشارف الأسلاك الشائكة والسياج الحديدي الشامخ الذي يمكن تجاوزه. اختار مكانا وسط الجموع المتدفقة.

يغير مكانه باستمرار ويلوح إلى المجهول. كان بصره يبحث عن الزاهية. وبالطبع كان يفكر أنها حتما ستكون مرفوقة بالمهدي الذي يتوقع أن يكون سنه قد نيف عن ثلاثة عشر عاما. عيناه لا تستقران على حال. ينقب هنا وهناك. وحين يستقيم في ذهنهصورة لما يبحث عن رؤيته ، ينخرط في التلويح والصراخ. كان الناس في الجهة المقابلة يقومون بنفس الشيء. في جوه المبرك هذا صدم جسمه بامرأة تحاول جاهدة أن توصل رسالة ما إلى الطرف الآخر. دون أن تكون متأكدة بأن رسالتها ستصل.إنها راضية التقت نظراتهما فجأة. ابتسمت له وابتسم لها، ثم قال مبتهجا:

- سمعت أن الحدود ستنفتح قريبا.

ردت عليه راضية بكثير من الامتعاض:

-هذا الكلام سمعناه كثيرا دون أن يتحقق منه شيء.

لم يستسغ كلام راضية الذي أحبطه، لكنه التمس لها الأعذار ..بعد أن تعب من التلويح للمجهول، ورمي كلمات في الهواء لعلها تقوى على تبليغ أي رسالة، تقهقر إلى الخلف ، لقد أحس أنه قد أخذ كفايته .. فكر أن ينتظر راضية بعد أن تنال هي الأخرى كفايتها من الصراخ ، وتفرغ شحنتها من الأحزان ،التي تراكمت في وجدانها. لكنه في آخر المطاف قرر أن يمضي في طريقه وحيدا. قطع بعض المسافة في اتجاه مدينة وجدة، ثم حانت منه التفاتة نحو الخلف، رأى الجمع البعيد هناك.. الناس منخرطون في أحاديثهم الخاصة والعامة.

استقر به المقام في المقهى. هناك جلس غير بعيد عن الرصيف ..طلب مشروبا ارتشفه بلطف، وذهنه لا يستقر على حال.

بعد ساعة تقريبا لمح طيف راضية تجر خطواتها نحو العمارة.

حينما اختفت المرأة عاد احميدة إلى ذاته ..شبح الجنس سيطر على كيانه. حاول تفادي التفكير فيه، غير أنه لم يفلح في ذلك. حينذاك قرر أن يزور ليلا أحد المواخير التي تقبع في بعض الأحياء الهامشية في المدينة.

قادته خطواته نحو البيت بعد أن اكتفى من ارتشاف وجوه الناس في المدينة . فكر كثيرا في زوجته وابنه المهدي داعب خياله القرار الذي يبدو وأنه قد يجد طريقه إلى التنفيذ قريبا. حتما ستفتح الحدود. لا يمكن ان يستمر الوضع على هذا الشكل إلى ما لانهاية. في البيت استحم، وغير ملابسه، ثم استعد لمغامرته الجديدة. كانت الزاهية تحضر إلى الذهن، تؤنبه للحظات على ما سيقترفه من ذنب في حقها. لكنه سرعان ما يتخلص من تأثيرها عليه. لم يعد قادرا على التحمل أكثر.. لابد أن يحتضن امرأة شهية، تعيد إلى نفسه بعض التوازن الذي ما فتئ يفقده يوما بعد يوم.. كان سيدعو صديقه الحارس ليرافقه في مغامراته هاته. لكنه في آخر المطاف تراجع عن ذلك. الرجل يتوفر على أسرة فليس من اللائق أن يورطه فيما يفكر فيه، ويعتزم القيام به.

ليلا و في غفلة من الجميع تسلل نحو الخارج،بعد أن ساد غبش الظلامة الأول الذي أحال الدنيا إلى سواد متنام. استعد احميدة لرحلته، رش نفسه بقنينة عطر. أكسبت نفسه بعض الارتياح، ومنحته بعض الثقة في النفس ، التي يحتاجها في هذا الوقت تحديدا.

تاه في المدينة لفترة من الزمن، حتى يرتب دواخله، ويحضر نفسه لما ينتظره، كانت الأعمدة التي تنتصب في الشوارع تلقي بأضوائها الباهتة . المارة يتناقصون تدريجيا في الشوارع ..كان يمني نفسه بليلة مختلفة . لن يكتفي بممارسة عابرة، سيقضي في أحضان امرأة بعضا من وقت، أكثر مما تتطلبه الممارسة الجنسية . عزم على أن يقضي ليلته هناك. يريدها ليلة تعوضه عن حرمانه الذي استمر طويلا. دق الباب فتحت له امرأة متوسطة السن، تميل إلى الكهولة، كانت ملامحها تدل على طول باعها في هذا الميدان . رحبت به بكلمات نطقتها جيدا والابتسامة لا تفارق شفتيها. أدخلته إلى الصالون وأجلسته ..ثم انخرطت معه في كلام حميمي، سرعان ما انتقل إلى مفاوضات، تعرف المرأة كيف تدير ها..

حين عرفت منه بأنه ينوي قضاء الليلة هنا في ازداد ترحيبها به. لم يؤثر فيها التحفظ في الحديث الذي أبداه الرجل .

عرفت بحاستها أنه متزوج وأنها تجربتها الأولى في عالم الدعارة..شجعته بكلامها المتقن و خبرتها التي لا تخفى عن محدثها .

-إن شاء الله تعجبك بناتها . وستزورنا باستمرار .

رد عليها بكلمات محدودة . تناولت منه المبلغ المتفق عليه ، بل أضاف عليه قدرا ..إنه نوى بذلك تحفيزها على أن تعاملها بأفضلية . حين أمسكت المرأة النقود قالت محتفية.

-سأهتم بك وسأمنحك امرأة لم يمر على زواجها سوى مدة قصيرة.

أشارت له بالغرفة التي يجب أن يقصدها.. مرتكبا توجه نحوها. دفع الباب ببطء واستحياء .كانت الغرفة بسيطة ..في الجهة الأخرى من السرير تجلس امرأة وجهها إلى الحائط. لم ير منها سوى ظهرها ، الذي يبدو شهيا و مغريا ، كانت ترتدي لباس نوم خفيف أحمر اللون ، شفاف.

تأملها للحظات ، ومن أجل التخلص الجو المربك، الّذي وجد نفسه في كنفه ، قال لها مبادرا بالكلام:

-السلام عليكم.

-ردت المرأة عليه :

- مرحبا بك.

التفتت نحوه فإذا المفاجأة تصعقه.إنها راضية بلحمها ودمها . بهت أمام هول المشهد ،الذي لم يتوقعه أبدا.

أحست راضية بالخجل . آخر ما كانت تتمناه أن يراها الرجل، الذي تكن له كل الاحترام في هذا الوضع المحزن، مدت يدها نحو رداء لتستر به نفسها، ثم قالت موجهة له الكلام:

-لابد للمرء أن يعيش . لم يكن لدي خيار.

لم يعقب الرجل بكلمة، فقط استدار، فتح باب الغرفة وتسلل نحو الخارج.رمقته المرأة صاحب البيت بن!رة مندهشة ، ثم قالت له:

-لم تعجبك المرأة .هناك غيرها .تعال .انتظر.

لم يرد على كلامها ، وإنما واصل طريقه نحو الخارج، بينما انتصب سؤال كبير في ذهنه أرهقه إلى حد لا يمكن تصوره "ترى هل تكون الزاهية قد مضت في نفس السبيل؟ " .



#مصطفى_لغتيري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لعبة القدر
- قصص قصيرة جدا من جنوب المتوسط
- الجسر
- شيء من الوجل - الكتاب كاملا
- بورتريهات قصصية في -ظلال حارقة - للكاتب المغربي ادريس الواغي ...
- ثيمة الصمت في -حطب بكامل غاباته المرتعشة - للشاعرعبد الغني ف ...
- ضجة بسبب صورة غلاف مجموعة قصصية
- العرب تحاور مصطفى لغتيري حول اتحاد كتاب المغرب
- امرأة تخشى الحب
- ورقة حول مشروع النشر و الإعلام و التواصل.‎
- إلى أصدقائي الرائعين
- التجديد تحاور لغتيري حول المبادرات الجديدة لاتحاد كتاب المغر ...
- في ذكرى ميلادي السابعة و الأربعين.
- البيان الختامي للمؤتمر الوطني الثامن عشر لاتحاد كتاب المغرب
- فجر جديد في اتحاد كتاب المغرب
- هواجس امرأة - مجموعة قصصية - الكتاب كاملا.
- -رجال وكلاب- لمصطفى لغتيري: أو : جدلية الوضوح والتعتيم
- رواية ابن السماء للروائي المغربي مصطفى لغتيري
- -تراتيل أمازيغية- مخطوط رواية جديدة لمصطفى لغتيري.
- اللعب بتقنيات السرد في رواية عبدالغفور خوى -الطيور تغني كي ل ...


المزيد.....




- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...
- كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي ...
- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى لغتيري - أسلاك شائكة- رواية- الكتاب كاملا