|
دوستويفسكي: روايةُ الاضطهاد(6)
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 4086 - 2013 / 5 / 8 - 08:13
المحور:
الادب والفن
على المستويين الروائي والفكري تتداخل بنيةُ الرواية التجريدية الأخلاقية لدى دوستويفسكي بهيمنةِ الخطاب الديني بغياب البرجوازية الحديثة في روسيا وقتذاك. حين يقتل راسكولينكوف المرابيةَ العجوز في الجريمة والعقاب، لا يأتي ذلك لغياب الأب، لغياب السلطة الأخلاقية الروحية فقط، بل لغيابِ الطبقة الوسطى القائدة للتحول الحديث، فيدهسُ البطلُ العجوزَ مثلما يدهسُ قملةً، مؤكداً علوّ إرادته الفردية المطلقة، خارج الدين الإنساني الذي هو المسيحية هنا، فتعيدُهُ الأحداثُ الروائية والانقلابات الروحيةُ إلى الكنيسة، إلى الأب الروحي الشخصي المفقود هنا، والذي يتجسدُ بالانجيل. هكذا تغدو البرجوازيةُ والقوى الشعبية كائناتٍ هامشيةً، أو طفيلية، وخارج التاريخ الروائي، وهي كائناتُ المجتمع الضروري الحتمي الموضوعي. وخارج هذا المسار يغدو العالمُ الروائي أيديولوجياً وفضفاضاً متجهاً للتضخم الذاتي. الإرادة الفردية في تشكلها الإجرامي تغدو غير منتجة، ولكونها إرادة مسيحية فإن ضميرَها ينمو روائياً، وهي عمليةٌ متعددة كثيرة لدى المؤلف، لنتذكر بشكل هنا مدونة التسامح الكبيرة عند الأب زوسيما في رواية (الأخوة كرامازوف)، وهي الرافعة الأساسية لديه للتجديد الروحي الاجتماعي، وهي في المطلق مهمةٌ لكن في التاريخ النسبي غير متحققة والعكس هو الذي يجري، لكن العكس غير المرصود فنياً، فالكراهيةُ بين الطبقات هي التي تسود. إن التراكم المالي التحولي غير مرئي وغير معروض، فيصور المؤلفُ حدث القتل بلا سببيات مرتبطة بالصراع الاجتماعي، وفيما بعد سيطبقُ ستالين هذا التراكمَ المالي الرأسمالي الحكومي الموسّع، عبر الدهس لـ (القمل الريفي). يعرض دوستويفسكي النماذج المتوازية، فالسكير (مارميلادوف) يقوم بسرقة خزانةَ سيدةٍ لكي يواصل سكره وعربدته، فيما عائلته تشقى، وتقوم ابنته (سونيا) ببيع نفسها لكي تُطعم الصغار. هذه سونيا الساقطة تمثل الانبعاث الروحي، وهي تقيمُ علاقةً مع البطل راسكولنيكوف، وتجذبه للاعتراف بجريمته في قتل المرابية العجوز وبالتالي في تطهره. مثلما تقوم أخت راسكولنيكوف بالقبول بالزواج من شخصية رديئة من أجل أن تُنقذ العائلة. وقد استقطبت الروايةُ أبحاثاً واهتمامات بشرية كبيرة، وخاصة لهذا البطل القاتل الإشكالي. لقد كتبَ دوستويفسكي نفسه عن البطل قائلاً: (إن القاتل يجد نفسه أمام مسائل لا يمكن حلها، وأن أحاسيس ومشاعر مفاجئة لا يمكن الشك بوجودها تعذب قلبه. إن الإحساس بالانفتاح على البشرية أو الانفصال عنها، هذا الاحساس الذي شعر به في الحال بمجرد اقتراف الجريمة، كان يعذبه)، نظرية الأدب تأليف عددٌ من الباحثين السوفييت، مرجع سابق، ص .332 إن المسائل التي لا يمكن حلها هي مسائل التطور الاجتماعي السياسي لروسيا، وإن هذه الجريمة الفردية لا علاقة لها مباشرة بهذه التحولات، فالطالبُ الفقير والمرابيةُ على السواء لم يرمزا لقوة اجتماعية ما، والطالب فرضية فكرية يشكلها المؤلفُ للابتعاد عن طريق العنف، وعن الأنانية وبضرورة سلوك سبيل التضحية، ولا تدعو الأفكار الحديثة المجلوبة من الغرب لهذا الطريق، خاصة النزعة العدمية المنتشرة حينذاك، التي تطرحُ نماذجَ الأبطال المفارقين والذين يدوسون عقائدَ الشعوب، وبهذا فإن فرضيةَ المؤلف لمواجهة العنف واعتماد المسيحية والتسامح تعبيرٌ عن نزعةٍ برجوازية دينية متداخلة، في هذا الزمن الذي تتحول فيه روسيا من الإقطاع للرأسمالية، فالبطلُ حين يضع قدميه في العدمية وسحق الآخرِ يعبرُ عن نزعةٍ فردية متطرفة لم تتشكل في مجتمع طبقة وسطى حضارية، ولم تقم علاقة ديمقراطية مع العاملين، ويتملا طرحُ مشروعاتِ التحول بالخيال الحاد والمغامرة، ولكن المؤلف من جهةٍ أخرى لا يقوم بالتحليل للعلاقات الطبقية الصراعية واكتشاف مساراتها من خلال الواقع، بل يعبرُ عن تجريديها وعموميتها وضبابيتها من خلال النماذج المفعمة بالحدة والتطرف: سكيرٌ ضد زوجة مجنونة، طالبٌ مثقف قاتل ضد مومس طيبة، ابنة مضحية ضد خطيب سافل، فهذه النماذج تقع على ضفاف الواقع، بين البياض الشديد والعتمة الحادة، وفي حالات تعذيب الذات والآخر، وانقلاب هذه الحالات النفسية المروعة، بين أساليب واقعية وميلودرامية فاقعة، بين شاعرية تحليلية عميقة وبين تجريد عام. المسار الروسي والأيديولوجية الفنية لدستويفسكي يحددان هذه النماذج، والمسار نجده موجوداً كذلك لدى تولستوي فهو تعبيرٌ عن فئة، ولكن من خلال رؤية فنية مختلفة، فالفئاتُ المثقفةُ الإنسانية في ذلك الزمن الموضوعي حيث بعد لم تنتشر وتتعمق العلاقات الرأسمالية لم تجد حلولاً لأفق التطور التاريخي سوى بالابتعاد عن النموذج الغربي الرأسمالي الديمقراطي، عبر الروح القومية المتقوقعة في نفسها وتاريخها، والتي تريدُ تقديمَ الأصيل المختلف، وتجدُهُ عبر الدين، وهذا هو مسار العديد من الأمم الشرقية الأخرى التالية، ولهذا بدلاً من قراءة الواقع تأتي النماذج المستوحاة من التضادات المطلقة التي تتيح للوعي المثالي الديني أن يسرب أخلاقيته المبدئية عبر تناقضات من الواقع الحقيقي، وتبقى هذه النماذج رمزية قومية دينية لوعي أمة لم تتبلور في الصراع الاجتماعي.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دوستويفسكي: روايةُ الاضطهاد (5)
-
إفلاسُ الليبراليةِ: هجومٌ عالمي
-
نضال شعبي ضد الإرهاب ومن أجل الديمقراطية والسلام
-
العراقُ ومسيرتُهُ إلى الوراء
-
إفلاسُ الليبرالية: فلسفياً
-
إفلاسُ الليبراليةِ: توطئةٌ
-
بروليتاريا رثةٌ: برجوازيةٌ ضعيفة
-
العلمانيةُ منعٌ للصراعاتِ الدينية
-
العمال وواجب النضال والتوحيد
-
حوارٌ تاريخي وليس حواراً وقتياً
-
دوستويفسكي: الروايةُ والاضطهادُ (3)
-
النظرُ إلى جهةٍ واحدة
-
متسلقو السياسة!
-
الشارقة ترفعُ ثقافةَ الأطفالِ إلى الذروة
-
يمينانِ في صدام
-
سهولةُ الهجومِ على اليسار!
-
دوستويفسكي روايةُ الاضطهادِ (2-2)
-
دوستويفسكي: روايةُ الاضطهادِ (1 -2)
-
لجنةُ العريضةِ والتحولاتُ السياسيةُ (6)
-
لجنةُ العريضةِ والتحولاتُ السياسية (5)
المزيد.....
-
السعودية ترحب باختيارها لاستضافة مؤتمر اليونسكو العالمي للسي
...
-
فيلم من إنتاج -الجزيرة 360- يتوج بمهرجان عنابة
-
-تاريخ العطش-.. أبو شايب يشيد ملحمة غنائية للحب ويحتفي بفلسط
...
-
-لا بغداد قرب حياتي-.. علي حبش يكتب خرائط المنفى
-
فيلم -معركة تلو الأخرى-.. دي كابريو وأندرسون يسخران من جنون
...
-
لولا يونغ تلغي حفلاتها بعد أيام من انهيارها على المسرح
-
مستوحى من ثقافة الأنمي.. مساعد رقمي ثلاثي الأبعاد للمحادثة
-
جمعية التشكيليين العراقيين تستعد لاقامة معرض للنحت العراقي ا
...
-
من الدلتا إلى العالمية.. أحمد نوار يحكي بقلب فنان وروح مناضل
...
-
الأدب، أداة سياسية وعنصرية في -اسرائيل-
المزيد.....
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
المزيد.....
|