نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1164 - 2005 / 4 / 11 - 11:15
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كان الاحتلال الأمريكي للعراق ,برغم الكثير من الملاحظات الهامة والجدية حوله,نقطة تحول بارزة ,ولعلها العلامة الفارقة الوحيدة في جبين التاريخ النمطي المتوارث بكسل والمستمر بتثاقل لهذه الجغرافيات منذ أمد ليس بقليل على أية حال, والذي تعلم ,وأدمن ,وقدّس فلسفة الثوابت ,التي تعني فيما تعنيه تكريس مبدأ السلطوية الأبدي ,وأدلجة بقاء هذه النظم المترهلة جاثمة لفترة غير محددة دون تطوير يذكر,أو مكاسب حقيقية للشرائح الاجتماعية العريضة التي تُركت عارية في فيافي الأوطان الجرداء.كما سيكون منعطفا حاسما , ونقطة بارزة في هذه المنطقة وعلى قارئي التاريخ أن يؤرخوا للأحداث بما قبل ,وما بعد التاسع من نيسان 2003. ولابد سيكون هناك من الآن وصاعدا مجالا كهرومغناطيسيا سياسيا يؤثر على الجميع بلا استثناء,وسيجذب الكثيرين للتمحور حوله .فهل يمكن القول الآن أن صدام حسين ,بكل مآسيه وما فعله قد قدم خدمة جليلة للعراق, والمنطقة بشكل عام, وأسس بأفعاله السوداء منطلقا جديدا, ويستحق لذلك الشكر والثناء ؟وكان كبش فداء التغيير والإصلاح؟ ولولاه لاستمر ضخ الثوابت إلى ما لانهاية من جوف الجامعة الفارغ من أي زاد؟والجواب بالتأكيد,وبرغم مرارته, ومجازيته,وبكل أسف , نعم. تماما كما حصل في أوروبا التي عانت من فظائع النازية والعنصرية والفاشية والقومية المتطرفة المنقرضة, التي وضعتها على عتبة مرحلة جديدة مختلفة كليا عن سابقتها,وأسست لحقب جديدة مبنية على العقلانية ,والحكمة والمصالح المشتركة التي تنعكس خيرا على الجميع. وكان لها إلى حد ما الفضل في ما تشهده أوروبا الآن من رفاهية وتقدم ,وهذا هو منطق وسيرورة التاريخ الأبدية المتصاعدة نحو الأفضل.فلينعم السلطويون والاستبداديون باستعراض آخر فصول الظلام التي لن تعود بعد الآن,وإن مايمارسوا مالذ من استبداد ,وظلم ,وقهر سيكون عامل فناء حتمي ,قبل أن يكون عامل بقاء أبدي.
وقد حمل هذا الاحتلال ,برغم التحفظات كما أسلفنا,مفاهيم جديدة لا بد ستصبغ وجه المنطقة ككل بوجه جديد مختلف كليا عما سبق.وإذا كان فيه شيئا من السلبيات ,فلا بد أن فيه ولو شيئا بسيطا من الإيجابيات التي قد لا تظهر تأثيراتها في القريب العاجل ,وإن كانت السلبيات هي الظاهرة على السطح ,والتي يحاول الصائدون في الماء العكر استغلالها لصالح معركة الثوابت التي باتت شبه "محسومة" تقريبا من الآن,برغم بيانات الجامعة العربية الممثل "الوحيد والشرعي" الباقي لأنظمة الثوابت المؤبدة.وأرجو تماما ألا يفسر هذا الكلام على أنه تبرير ,أو تأييد لأي نوع من الاحتلال ,أو فلسفة الاستعباد والإخضاع,والتدخل الأجنبي التي أقف ضدها شخصيا,وبقوة, وأيا كان فاعلها ,وممارسها,ولا أحبذ اللجوء إليها تحت شتى الظروف والمسميات ,والمسوغات. ولكن ,وفي نفس الوقت,لنكن واقعيين ونعترف بأن أشياء كثيرة مهمة قد حصلت منذ بزوغ فجر التاسع من نيسان,وأن الكثير من البنى والهياكل الرثة والبالية قد بدأت تتداعى تحت تلك الخضات التي أعقبت الزلزال العراقي ,وأصبحنا نسمع كلاما جديدا ,ولغة جديدة كان "تابو الثوابت" الجامد يحرم على أحد التفوه بها,ومن مختلف الفرقاء والأطياف,الحمراء ,والسوداء,والخضراء ,والصفراء,وأعتقد أن هذا لا يختلف عليه اثنان.
وما أهّل الرئيس الجديد لهذا المنصب هو تمتعه بالأهلية المواطنية,Citizenship , قبل أي شيء حيث ولد ,وعاش,وترعرع ,وتنسم هواء الوطن العليل ,وهو جواز المرور الوحيد لممارسة شعائر المواطنة المقدسة,والتي يجب أن يحترمها الجميع, وبعيدا عن كل ما قيل ويقال,وبرغم أنه كان هناك تجارب مريرة ومؤلمة واستغل البعض أجواء التسامح والعلمانية والليبرالية ليمارس تعصبا وتحزبا ضيقا في اتجاهات مختلفة.
إذن الأهلية المواطنية هي الشرعية الأولى, والوحيدة, والحامية للجميع, وليست الدعوات الحزبية ,والمناطقية ,والطائفية والإثنية البغيضة,وعمليات الفرز العنصرية الأخرى المستشرية في هذه البقاع.فهناك مواطنون ممنوعون من الجنسية حتى الآن في بلاد تدعي الديموقراطية والتقدم ,وأحزاب تدعي العصمة الأبدية وتلغي باقي الهياكل والأحزاب,وتقزمها وتعلبها في توابيت وأطر هلامية وخالية من أي تأثير,وهناك إثنيات مغمورة بأغطية القومية,وطوائف ممنوعة من التمتع بحقوقها والتعبير عن نفسها,ولا مجال هنا لتقييمها مطلقا من أية وجهة نظر ولكنها موجودة على الأرض, وهناك أسماء قدرية بعينها تحتكر الحياة بكل تنوعها, وحياة سياسية مؤجلة ومعطلة كليا . هذه الظواهر البدائية اختفت تماما من كل دساتير العالم المتحضر وأصبح همها الوحيد رفاهية المواطن ,وأمنه ,ومستقبله ومستقبل أطفاله ,وأما دعوات التشهير ,والتمييز العنصري وادعاء العصمة والعظمة لمجرد الانتماء لهذا التيار أو تلك القبيلة أو الجنسية أو الحزب أو التيار وإلى آخر ماهنالك من دعوات شوفينية متطرفة سوداء فإنها تحمل معها بذور الانفجار والحروب والاقتتال , أكثر مما تحمل من بذور الأمن والسلام لأحد على الإطلاق.ويستحي الآخرون من طرحها وممارستها,وهناك قوانين تحرمها وتجرمها بآن واحد.فهل يحرم إنسان من كافة حقوقه لذنب لم يقترفه لمجرد انتمائه ,وهل يكتسب كل الميزات والإعفاءات والتسهيلات لأنه حمل هذا اللقب أو ذاك من الألقاب وبغض النظر عن إمكانياته الذاتية والشخصية لتصبح جواز سفر ومرور له إلى عالم السياسة والاقتصاد والمجتمع والبزنس والمال وما شابه ذلك,وهذا ما هو حاصل وبكل أسف هذه الأيام؟
فرصة سانحة بقوة أمام الرئيس الجديد لتفعيل هذا المبدأ الهام الذي اختفى من حياتنا ,وبغض النظر عن اعتبارات التحزب العمياء .ولنمعن في هذه الأمثلة التي حدثت وتحدث في الدول التي وصلت مرحلة متقدمة من التقدم ونكران الذات القومية ,والطائفية ,والإثنية أمام مبدأ المواطنة الأسمى التي هي الحصن الحصين للجميع,والمعيار الأسمى في النهاية.ولا شك سيكون هناك آراء غاضبة ورافضة ومتشنجة ,كما سيكون هناك آراء متفهمة ومتقبلة وإيجابية.وعلى كل فهي تجارب محكومة بما تركته من آثار أكثر من تقييم ميكانيكيتها وآليتها التي حدثت بها,وفي كل الأحوال هي موجودة على الأرض ولا مجال إلا النظر إليها,ونكرانها حماقة ومكابرة. فلقد حكم ستالين الجيورجي روسيا الشيوعية, وكان الكاثوليكي جون كينيدي رئيس أمريكا ذات الأغلبية البروتستانتية رغم أن كثيرين لا يولون أهمية لهذا الشيء,وكان رالف نادر اللبناني الأصل مرشحا رئاسيا لأمريكا امبراطورية العالم المعاصر,كما كان كارلوس منعم السوري الأصل رئيسا للأرجنتين وهو ابن المهاجر القادم من وراء المحيطات,كما كان الياباني الأصل ألبرتو فيجوموري رئيسا للبيرو,وبغض النظر عن النهاية التي آل إليه وضعه,وهناك الكثير من الوزراء والبرلمانيين المسلمين والعرب في قلب المجالس والوزارات الأوروبية,ولكل مواطن يحمل الجنسية الحق في الترشيح والانتخاب وممارسة كافة حقوقه السياسية المعلنة والتي يحترمها ويكفلها الدستور الذي يسهر الجميع على تطبيقه, لا الدساتير التي وجدت للتعديل فقط حين اللزوم,ولا أحد يتذكرها إلا في الانتخابات الرئاسية.وكل ذلك لايمنع من أن يخدم الإنسان البلاد التي ينتسب لها بكل إخلاص وشرف وأمانة.وهناك الكثير من الأسماء التي تبزغ في سماء أمريكا الساسية اليوم من أصول مختلفة ربما تبدو الإفريقية أبرزها,أما أوروبا فحدث ولا حرج,ولا حاجة للتذكير أن أمريكا هي الأعظم والأقوى الآن.ولا ننسى بالطبع أن الكثيرين ممن سطع نجمهم في التاريخ العربي والإسلامي عسكريا,وعلميا ,وثقافيا ,ودينيا كانوا من الدول االتي انضوت تحت راية الإسلام الذي خرج من الجزيرة العربية.
إن الاختباء وراء الدعوات المختلفة لم تحم دولا كثيرة من الاندثار والفناء والسقوط المدوي الكارثي المجلجل,وبقيت الأوطان حضنا يجمع كافة الأطياف المتنوعة التي تشكل هذا النسيج الإنساني الرائع ,والمتفاعل الذي أنتج الحضارات ,وسطر الملاحم الإبداعية الكبرى التي يذكرها الإنسان بكل فخر واعتزاز.ولم تكن العبقرية الإنسانية, والفكر الإنساني,والحضارة الإنسانية حكرا على قوم أو دين أو عرق بعينه ومن يحمل مؤهلات الحضارة والمدنية هو الوحيد القادر على إنتاجها.
التجربة موجودة على الأرض ,ولا مجال لنكرانها أو رفضها ,وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان. وهي فرصة سانحة وطيبة أمام الرئيس العراقي الجديد لتأكيد وتكريس مبدأ المواطنة الأسمى أولا بعيدا عن كل اعتبار آخر ومهما كان الواقع مرا, وأليما , وجعله مثالا يحتذى ,ويدفن معه كل مقولات الانعزال والتقوقع والانزواء تحت مختلف الرايات الهشة ,ومهما كانت الصعوبات المؤقتة والتحديات التي سيجعلها التوجه الصحيح والسليم والممارسة الحسنة في حكم النسيان.وأن مواطنا عراقيا يحتل المنصب الأأول في العراق وليس شيئا آخر .وهي في النهاية انتصار لمبدأ المواطنة المنعة, والحصن والقوة الحقيقية للأوطان.وفي عالم العولمة والاندماج ,وانهيار الحدود والجدران تتماهى البنى القديمة وتذوب في بوتقة واحدة اسمها الإنسان :
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟