|
بلزاك: الروايةُ والثورةُ (3 - 4)
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 4009 - 2013 / 2 / 20 - 09:30
المحور:
الادب والفن
لقد هُزمت الثورةُ الفرنسية بعد تقلبات حكم الجمهوريين المتصارعين وهم اليعاقبة والجيرونديين، أي فئتا البرجوازية الصغيرة اليسارية واليمينية، حيث لم تصعدْ بعدْ البرجوازية الكبيرة التي تحتاج لوقت من أجل التراكم الصناعي الواسع، فيأتي نابليون ويُجري تحولات ولكن حروبه تقود للهزيمة وعودة المَلكية. هنا يبدأ عهدٌ جديد للرأسمالية التي تتغلغلُ في المجتمع وهي مهزومةٌ سياسياً ومنتصرةٌ اقتصادياً، وبلزاك يعرضُ هذه التحولات في العمق. أدواتُ تحليلِ بلزاك الروائية والفكرية متضافرة، فهو يصورُ مشهديات دقيقة، منسوجة مع الشخصيات والأحداث والأمكنة ذات الدور التوظيفي. ومن مواد حياته الخاصة، ومن عذاب أخته مع زوجها وموتها الفاجع، ومن دخوله في السوق وفشله التجاري فيه، فيجسدُ اللغةَ الاقتصاديةَ البضاعية ودور رأس المال الجدلي، البنائي من جهة والاستغلالي من جهة أخرى، عبر جزئياتٍ وبُنى مشهدية صغيرة لا تتوجه للسيرورة الكلية للمجتمع الرأسمالي، بل لقطاعاتٍ فيه مقطوعة عن سياقه العام، فبلزاك لا يعمم بل يصف ويحلل جزئياً. بلزاك ليس صاحب رؤية نقدية فكرية مدروسة بل لديه تحليلات ووجهة نظر حصل عليها عبر التجربة في أثناء تجارته الفاشلة. لقد خبر بقوة البضاعة والمال وكل الورق المجسد للعلاقات السلعية وأثمانها. في البدء يغدو مشهده الروائي الافتتاحي لوحاتٍ للمكان، حيث يقوم بالدخول ووصف البيت الخاص منتزعاً سماته الأكثر وضوحاً وعمقاً، وهي التي تعكس حياة شخوصه. فالعتمة والتهالك والانغلاق كلها سمات تعكس صاحب هذا البيت الثري صاحب الكروم، البخيل، القروي. في روايته (أوجيني غرانده) يجثم عند موقع المنزل كمهندس أثري فنان: إلى جانب البيت المتداعي المرضوم الجدران حيث خلّدَ الحِرفيلا زخارفَ أدواته، يرتفعُ قصرُ أحدِ النبلاء، حيث لاتزال تُرى على القوس الحجرية لبابهِ بعض معالم شعاراته التي حطمتها الثوراتُ المختلفةُ التي هزّت البلادَ من العام 1890(أوجيني غرانده، وزارة الثقافة السورية، ص8). وهو يقفُ مطولاً عند المنزلِ والريف وصاحبِ البيتِ البرجوازي منتجِ النبيذ، موضحاً علاقته بالثورة وكيف صعدَ معها واستفاد منها، لكنه في زمنِ عودةِ المَلَكيةِ وهزيمةِ الثورة تجمدتْ مكانةُ صاحب الكروم السياسية فانطلق في جمع الثرواتِ بكل طريقة وعبر تقتيرٍ شديد على أهله، ويبدو ذلك في وصف المنزل التمهيدي. يتتبع بلزاك هذا النمو السردي ويتدخلُ فيه على شكلِ راوٍ مهيمن عارفٍ بكل شيء عن شخوصه وعالمهم، وهو يصعّدُ بناءَهُ الفني عبر متابعة الشخوص التي تظهر تدريجياً على مسرح الحدث المتصاعد، فصانعُ البراميل النبيذيةِ السابق جزءٌ من مشهد الريف الفرنسي حيث يرتعدُ الكرّامون من مخاطر صباحات ممطرة، لكن (الصراع مستمر بين السماء والمصالح الأرضية). وفيما كان الكّرامُ يخسرُ سياسياً كان يحصدُ مواريث كبيرة، وتعيش ابنته وزوجته في ضنك شديد، أما الخادمة (فحكمَ عليها من واقع خبرته كبراميلي على مدى قوتها الجسمية، وضمنَ الاستفادة المرجوة من مخلوقةٍ أنثى كأنها فُصلتْ على نموذج هرقل). تنامتْ تفاصيلُ العلاقات التي تكشفُ هذا البرجوازي في مرحلة التراكم وكيف تكونُ الوجباتُ شحيحةً، والملابس قديمة، والأهل في مَعزلٍ عن الحفلات والصرف، فيما يتكدسلا الذهبُ في الغرفة الخلفية السرية المعزولة عن الغرف الأخرى. ويجري هجومُ العائلات الريفية على خطف الفتاة ابنته والرغبة في الزواج بها والاستيلاء على كل الثروة المخبأة، لكن البراميلي كرانده يبحثُ لها عن عريس صاحب ملايين، مستثمراً دوافع هذه العلاقات. المؤلف الراوي بلزاك هو كاتب بحث كذلك، فالروايةُ لديه ليست قصةً عادية، بل هي بحثٌ تشريحي تجسيدي، ومن هنا يعنونُ الروايةَ ب(دراسة طبائع)، و(مشاهد من حياة المقاطعات)، ومشاهد المقاطعات مخصصة للريف، أي للرأسمالية الريفية المتخلفة في وعيها وعاداتها ولكنها شديدة الحرص على الذهب، وبؤرةُ هذه الأبحاثِ السردية هي شخوصٌ تجاريةٌ في ميدان أعمالها وإنتاجها، فتأتي مشاهدٌ وصفية للمكان، تكوّنُ الأرضَ الموضوعية الجغرافية، ثم تتصاعدُ عمليةُ التحليلِ نحو المهن الرأسمالية، وذلك عبرَ دقائق الحياة الاقتصادية، فيرينا الساردُ المباشرُ هنا كيف يكوّنُ الكرامُ كرانده ثروتَه عبر حركة الأحداث، من حساباتٍ دقيقة لانتاجِ الكروم وتصريفه، واستغلال كل مادة في الربح: (كما اتفق السيدُ غرانده مع السباخين من مستأجري أرضه أن يؤمنوا لبيته البقول، بينما يجني من بستانه كميات وافرة من الفاكهة تكفيه ويبيع قسماً كبيراً، وكان حطب تدفئته يقطع من أسيجته...)، ص.17 وهكذا فإنه يستغلُ كلَ مادة حوله. لكن هذه جوانب صغيرة غير العمليات المالية الكبيرة. هذا التحليلُ المادي للعيش لا ينفصلُ عن تطويرِ الحبكة الروائية، فهي ليست عروضاً تقريرية، بل دراسة سردية، فواقع البيت الثري في كنوزهِ المتوارية يصطدمُ بحركةِ الحياة العنيفة، فالابنةُ الجميلة التي تعيشُ العزلةَ وشظف الحياة، ترى فجأةً شارل ابنَ عمها الجميلَ القادمَ من باريس الأناقة والرهافة والمذهولَ الفزعَ من حياةِ الريف وخنِ عمهِ الكئيب العتيق، والمستغربَ من إرسال أبيه له إلى هذا المكان. لكن خيوطَ إنزالهِ التي تمت بمغزلِ الروائي أدت إلى صدماتٍ عنيفة فأبوه أرسله بعد أن أفلسَ وقررَ الانتحار ونفذَهُ وقبل ذلك أعطاهُ رسالةً للعم من أجل أن يعتني بشارل في هذه المحنة! حبكةٌ مُصاغةٌ بحيل، لكن التناقضَ في بيتِ الكرام يتفجر، والابنةُ المعزولةُ عن الحياة تحبُ ابنَ عمها وتساعده وتصيبُ أباها بشلل نظراً لمطالبها المادية المروِّعة التي تضربُ الاكتنازَ الرأسمالي الطويل! حبكةٌ ظلت هنا في النماذج الفردية المعزولة المتخلفة عن الحياة الاجتماعية الثورية في العاصمة باريس، ولكن الرومانسيةُ دخلت من النافذة الواقعية وقام المؤلف بخلق علاقة غرامية غريبة، ومع هذا فالدراسة والحبكة تقدمان خليةً من المجتمع الرأسمالي الفرنسي في حقبةِ المَلكيةِ العائدة التي ستكون في أكثر زمنه، مما يدعو الروائي للتدخل عامة وشرح رؤيته الناقدة للشح والتبذير وكل ما يعيق الفرح كذلك من أجل (رأسمالية أخلاقية). وهذا التركيز على الشخصية المحورية وعلى صفات معينة فيها وربطها بتطور الاقتصاد سيكون هو طريقه الإبداعي الواسع الرئيسي الحافل بالنماذج والتجارب. البرجوازي الصغير يصعد عبر تراكم رأس المال الذي يعضلا عليه بأسنانه ولكنه يعود مرة أخرى لجحيمه بتحطم رأس المال.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفاشيةُ الإيرانيةُ وذيولُها
-
هل يمكنُ إصلاحُ رأسمالية الدولة؟!
-
شكري بلعيد.. اغتيالٌ يكشفُ أزمة (2-2)
-
شكري بلعيد اغتيالٌ يكشفُ أزمة (1-2)
-
تركي الحمد والقراءةُ التقليديةُ
-
مرحلةٌ جديدةٌ من التغيير
-
بلزاك: الروايةُ والثورةُ (2- 2)
-
بلزاك: الروايةُ والثورةُ (1-2)
-
التوصيفُ الطبيعي للربيع العربي
-
تسريحُ العمالِ ومسئوليةُ الانتهازيين السياسيين
-
أسباب تمكن الحركات الطائفية من الاختراق
-
تصادمُ المذاهبِ المُسيّسة
-
مشكلاتُ عمالِ الريف
-
ثورةٌ مع مَن وضد مَن؟
-
الجمهوريةُ والمَلكيةُ عربياً
-
الأشكالُ السياسيةُ والتطور الصناعي
-
الجمهورية والرأسمالية
-
إسحاق يعقوب الشيخ وحلمُ شعب (4-4)
-
إسحاق يعقوب الشيخ وحلمُ شعبٍ (3)
-
ديمقراطيةٌ متدرجةٌ في الخليج
المزيد.....
-
سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات ال
...
-
الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
-
من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام
...
-
دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-.
...
-
-سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر
...
-
البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة)
...
-
تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
-
المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز
...
-
طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه
...
-
بوتين يمنح عازف كمان وقائد أوركسترا روسيا مشهورا لقب -بطل ال
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|