نافذ الشاعر
الحوار المتمدن-العدد: 4004 - 2013 / 2 / 15 - 10:27
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ليس المقصود "بأهل الكتاب" اليهود والنصارى فقط، وإنما يقصد بهم كل من وهب موهبة العلم والإبداع، هذه الميزة الربانية والنعمة الإلهية، لأن القرآن الكريم عندما يشير إلى اليهود والنصارى يسميهم يهود أو نصارى، ولا يسميهم أهل كتاب فقط..
ويختلف مصطلح اليهود والنصارى عن مصطلح أهل الكتاب، فكل اليهود والنصارى أهل كتاب، وليس كل أهل كتاب يهود أو نصارى؛ لأن مصطلح أهل الكتاب أشمل من مصطلح اليهود والنصارى، فهو شامل لكل زمان ومكان يوجد فيه علماء الشرائع والأديان والكتاب والأدباء الذين يحفظون المتون والنصوص النظرية.. أما مصطلح اليهود والنصارى في القرآن الكريم فهو يشير إلى اليهود والنصارى دون غيرهم..
والكتاب أو أهل الكتاب، في القرآن الكريم معناها القدرة على التأليف والكتابة والإبداع، وهذه القدرة تعتبر سمة نفسية وغريزة فطرية توجد في بعض النفوس دون بعض، وهذه السمة أيضا هي أولى السمات التي توجد في نفوس الأنبياء والرسل حتى ولو كانوا أميين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، فهي سمة ربانية ونفحة إلهية نزلت من روح الله عز وجل كما قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}غافر2.
والنبي لابد أن تجتمع في نفسه عدة سمات مشتركة هي: (الكتاب والحكم والنبوة). أما غير الأنبياء من الحكماء والعلماء والأولياء فلا تتوفر فيهم إلا صفة واحدة أو صفتان هي صفة الكتاب والحكم، أو الحكمة. فكل نبي لابد أن تكون لديه صفة الكتاب والحكم والنبوة، وليس كل كاتب عنده صفة الحكم أو النبوة، لأن صفة الكتاب بمفردها يمكن أن تدخلها الشبهة والشهوة ويلتبس فيها الشيطان، وتصبح سلاحا ضد النبوة والأنبياء.. ومن الملاحظ أن الحروف المقطعة يليها دائما ذكر الكتاب، للدلالة على أن صفة "الكتاب" أو الإبداع عبارة عن ظاهرة نظرية تختص بالحرف والبيان فقط، وأن الإبداع والتأليف لابد أن يبدأ من تعلم هذه الحروف؛ لأنها السبيل إلى موهبة الكتابة والإبداع. ومهما ارتقى الكاتب أو الأديب في سلم الأدب فلن يصل إلى مرتبة النبوة أو مصاف الأنبياء. وإلى هذا جاءت الإشارة بقوله تعالى:{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}العنكبوت48
وفي هذا دليل على أن هذه الملكة نزلت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم بغير تعلم ولا اكتساب، وإنما من الله مباشرة بدون أن يتعلم على يد معلم رصف الكلمات وتنميق العبارات، ولا فنون الخطابة والبلاغة..
أما صفة الحكم والنبوة فيستحيل أن تنقلب إلى صفة شيطانية، بل يستحيل على الشيطان أن يقترب منها أو يؤثر في مسارها وإشعاعاتها، لأن إشعاعاتها ربانية فطرية، يفوح منها عبق الريح الإلهية، كما تفوح الريح المعطرة الطيبة من المسك والريحان.
والكمال يتم في وجود هذه الصفات الثلاثة مجتمعة: الكتاب، والحكم، والنبوة.. وهذه الصفات لا تجتمع ثلاثتها إلا في الرسل والأنبياء فقط، ويجب على كل من أوتي الكتاب والحكم أن يستلهم النبوة ويستهدي الشريعة وإلا انقلب إلى شيطان رجيم، وكان على ضلال عظيم.. وعلى هذا نجد كل نبي لابد أن يكون لديه نصيب من الحكمة والكتاب، وليس كل من لديه نصيب من "الحكمة والكتاب" لابد أن يكون لديه نبوة.. ومن يكن لديه نصيب من الحكمة والكتاب، ويأبى أن يستلهم النبوة فهو على ضلال عظيم، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ}(النساء/44).
أما صفة الكتاب التي يقصد بها القدرة على التأليف والكتابة والإبداع وفهم الأحكام النظرية.. فهي نفحة طيبة من روح عز وجل، ولكنها قابلة للعطب والفساد على عكس الحكم والنبوة، ويتمثل فسادها في فساد الكاتب والمؤلف الذي أوتي نصيبا من الكتاب. ومن أوتي نصيب من "الكتاب" يطلق عليه اسم: مؤلف أو كاتب أو أديب.. ويبدأ الفساد يتسرب إلى نفس الكاتب عندما ينساق مع هواه، ويشتري بهذه الموهبة ثمنا قليلا، ويبيعها بثمن بخس دراهم معدودة، أو يستبد برأيه ويركبه الغرور والشطط، ويقول غير ما يفعل، ويظن أن قوله الحق الذي لا مرية فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حتى ليكاد أن يقول للناس بشكل ضمني أو صريح كونوا عبادا لي من دون الله!
وتلك الخصال المذمومة يستحيل أن تخطر ببال الأنبياء كما قال عز وجل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}آل عمران79 وهذا فرق جوهري بين الكاتب والنبي.
وهذا يتضح مثاله في العلماء الذين جاءوا باكتشافات ثورية غيرت مجرى التاريخ، كاكتشاف الذرة والهندسة الوراثية وقوانين الفضاء وغيرها، واستحقوا على اكتشافاتهم جوائز نوبل وأكثر من جوائز نوبل.. ولكنهم باعوا هذه الموهبة بثمن بخس دراهم معدودة، وكانت اكتشافاتهم تلك وبالا على البشرية جمعاء.. هؤلاء العلماء الأفذاذ في مجال الاكتشافات العلمية، أشبه بالأنبياء في مجال الاكتشافات العقائدية، لأن الأنبياء أتوا لأقوامهم في مجال الإلهيات، بأكثر مما أتى به العلماء في مجال الكونيات..
وقد أشار القرآن الكريم إلى انحراف العلماء وفسادهم، لأنهم موكلون إلى أنفسهم لم يتكفل الله بحفظهم كما تكفل بحفظ الأنبياء، وأقرب مثل لذلك السامري في قوله تعالى: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ؟ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)(طه 96).
فقوله تعالى: (بصرت بما لم يبصروا به) معناه أن بعض الناس قد يبصروا أشياء لا يبصرها غيرهم، ويكتشفوا أمور لا يكتشفها سواهم.. وقوله تعالى (فقبضت قبضة من أثر الرسول) معناها أن بعض الأفذاذ من الناس الذين رزقوا موهبة خاصة، يقبضون بعض القبضات النورانية، ويغترفون بعض العلوم الإلهية من ذات الكوة التي يغترف منها الأنبياء، ولكنهم مع ذلك لا ينتفعون بهذه القبضة وينبذونها وراءهم ظهريا..
أما صفة الكتاب في نفس النبي، ونفوس الأنبياء الآخرين، فجاءت إليها الإشارة بقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا}الكهف1
وفرق جوهري آخر بين الكاتب والنبي أن الكتاب والمؤلفين كثيرا ما يختلفون بين بعضهم البعض، فيقع التشاحن والتباغض والتحاسد والتدابر والنقد والتجريح، وكلما جاءت أمة لعنت أختها، على عكس الرسل والأنبياء التي تسعى أرواحهم إلى التلاقي والانصهار كما تتلاقى أغصان الشجرة الواحدة، وتجدهم ينجذبون إلى بعضهم البعض كما تنجذب برادة الحديد إلى المغناطيس. وهذا ما أشار إليه عز وجل:{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}آل عمران81
وعلى هذا فصفة "الكتاب" قد تنحرف عن مسارها الصحيح، فينطفئ نور الكتاب في نفس صاحبه، وبدلا من أن يكون الكتاب بينا ينير الطريق، يصبح سببا لإلقاء العراقيل في طريق المؤمنين، وإلى هذا جاءت الإشارة بقوله تعالى:{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }فاطر32. وهذا دليل على أن صفة الإبداع (الكتاب) قد أورثت بعض المصطفين من عباد الله، فمنهم من كان ظالما لنفسه لم يشكر نعمة الكتابة والقراءة والإبداع، ولم يرعها حق رعايتها، وإنما استغلها في غير محلها ولم يقم بها كما أراد الله له أن يقوم، وآثر السلامة على الخطر، والدعة على المشقة والتعب.
لذلك لابد لمن أوتي نصيب من الكتاب أن يجاهد نفسه ويطوع هواه ليعمل بهذا الكتاب ويحول النظر إلى عمل، والقول إلى فعل، والفكر إلى سلوك. ولكن هذا الأمر لا يتم ببساطة ويسر وإنما يحتاج إلى جهد جهيد، وعمل جاد دءوب، وهذا ما جاءت إليه الإشارة بقوله تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً }مريم12، وفي هذا دليل على أن يحيي عليه السلام، قد أوتي الحكم قبل الكتاب، أي أنه كان يعيش في تجارب ومحن منذ الصغر، اجتازها بجدارة حتى صفت نفسه وخلصت روحه.. وفي هذا دليل على أن يحيي عليه السلام- كان يبدو على ظاهره القوة، وكان في تعبيره عنف وشدة وبعدا عن المهادنة والمماراة. ولكن هذه الشدة لم تكن تعبر عن طبيعة ملتوية أو عن عقدة نفسية؛ لأن هذه الشدة كانت في محلها لم تصبغ كل حياته، لأنه كان مع أبويه حنونا عطوفا{وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً}(مريم/13).
لذلك عندما يتحدث القرآن الكريم عن الأنبياء لا يخصهم بالكتاب وحده، وإنما يخصهم بالحكم والنبوة بالإضافة إلى الكتاب، كقوله تعالى في شان عيسى عليه السلام: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ}المائدة110 وقوله تعالى:{أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}الأنعام89
#نافذ_الشاعر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟