أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - نافذ الشاعر - ميرزا غلام أحمد (1)















المزيد.....



ميرزا غلام أحمد (1)


نافذ الشاعر

الحوار المتمدن-العدد: 3856 - 2012 / 9 / 20 - 19:44
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


مولده:
ولد ميرزا غلام أحمد في قرية قاديان من أعمال البنجاب في الهند سنة 1835م، كما تقول المصادر القاديانية. لكن خصوم القاديانيين يقولون إنه ولد عام 1939م[1]. وعلى ما يبدو أن هذا التاريخ أخذ بطريق الاستنباط، وليس من طريق تصريح الميرزا نفسه، حيث يقول عن نفسه أنه كان يبلغ السابعة عشرة من عمره يوم نشبت ثورة الهند الكبرى، ومن المعلوم أن ثورة الهند الكبرى نشبت عام 1857م. وينحدر الميرزا من أسرة فارسية هاجرت إلى الهند إبان الدولة المغولية. وقد حضر أجداده من سمرقند واستوطنوا في البنجاب حيث اقتطع لهم الإمبراطور المغولي "بابر" عدداً من القرى والضياع.
ولما تراجع نفوذ الدولة المغولية، وقعت منطقة (البنجاب) تحت قبضة السيخ .. وفي تلك الفترة، كانت بريطانيا قد بدأت حملتها في الهند. وما لبث أن امتد حكمها إلى البنجاب وأدى ذلك إلى نوع من التحسن في أحوال المسلمين نتيجة رفع ظلم واضطهاد السيخ عنهم..
وكان جده الكبير (الميرزا كل محمد)، صاحب قرى وأملاك، وصاحب إمارة في نجاب، وقد خسرها جده (الميرزا عطا محمد)، في حرب دارت بينه وبين السكة، الذين استولوا على (بنجاب) في فجر القرن التاسع عشر، وبقيت له خمس قرى من هذا التراث الكبير.
وتلقى مبادئ العلم، وقرأ الكتب المتوسطة في المنطق والحكمة، والعلوم الدينية والأدبية، وتوظف في محكمة حاكم المديرية في مدينة سيالكوت..
ونقل عنه الاشتغال بالعبادات والمجاهدات ومواصلة الصيام شهورا، وجلس في خلوة (أربعين) في هوشياربور سنة 1886م، ومكث فيها عشرين يوما، ومنعه انحراف صحته وضعفه من مواصلة المجاهدات.
وتزوج بامرأتين الأولى سنة 1852م، ورزق منها ولدين أحدهما ميرزا سلطان أحمد، والآخر ميرزا فضل احمد، وطلق هذه الزوجة عام 1884م، وتزوج بعد ذلك عام 1891م وقد ولدت له سائر أولاده.. وتوفي في الساعة العاشرة والنصف من صباح يوم الثلاثاء، في السادس والعشرين من مايو سنة 1908م، ونقلت جثته إلى (قاديان) حيث دفن في المقبرة التي سماها بمقبرة الجنة[2].

كتبه وأسلوبه:
كتب الميرزا الكثير من الكتب بالعربية والفارسية والأردية، ولكن الملاحظ على كتبه العربية أنها تسير على نفس الصياغة البلاغية التي تشبه كتابات الحريري في مقاماته، وإن كان يملك حصيلة لغوية كبيرة لا يملكها كثير من أبناء العربية الأقحاح. وقد أوتي من البلاغة واللسان العربي الفصيح درجة عالية لا يبلغها إلا الأقلون.. لكن الملاحظ على كتبه التي كتبها باللغة العربية خلوها من المباحث العقلية العميقة التي تتسم بها كتبه المترجمة عن الفارسية والأردية..
وكثيرا ما يحاكي القرآن في أسلوبه وخصوصا في الوزن ونهاية الآيات، والمخاطبة بضمير العظمة. ولا يوجد أديب اختص بفنون القول وأساليب البلاغة يحاكي القرآن في كتابته وأسلوبه، لأن أسلوبه سيكون ركيكا ثقيل الدم في هذه المحاكاة، حيث إن بلاغة القرآن لا تتعدى لغيرها.

ولو جئنا إلى أي صفحة من كتب الميرزا العربية لاتضح لنا هذا الأسلوب جليا، ونأخذ مثالا على ذلك هذا النص من كتاب "الخطبة الإلهامية" الذي يقول فيه: "فتوبوا إلى بارئكم، وتعالوا إلى ما أقول لكم، كما بدأكم تعودون. وأبلغوا الأمر إلى ملوككم إن استطعتم، وكونوا أنصار الله لعلكم ترحمون. وما من قضية أصر عليها أهل الأرض إلا قضيت في آخر الأمر في السماء، وتلك سنة لا تبديل لها أيها الظالمون. وما كان الله ليذر الحق وأهله حتى يميز الخبيث من الطيب، فما لكم لا تبصرون"[3]

فهذه المحاكاة لأسلوب القرآن- إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الميرزا قد أوتي البراعة الفائقة في تقمص أي أسلوب والنسج على منواله، بسهولة ويسر، وأمثال هؤلاء المقلدون لا يكونون مبدعين في أساليبهم، وإنما يبقون أسرى الصنعة والتكلف..

لكن للميرزا مقالات متفرقة جُمعت في كتب، ومن يقرأها يعجب للبلاغة المتدفقة والعبارات الرصينة العالية التي كتبت بها. ومن أمثال ذلك مقاله في مدح صديقه الحكيم نور الدين، أو مقاله الذي يتحدث فيه عن ملابسات خطبته لمحمدي بيكم، أو رسالته الموجهة إلى الملكة البريطانية "فيكتوريا" يدعوها إلى الإسلام .. وقد جمعها في كتابه التبليغ الذي نشره عام 1893م، فهذا الكتاب يختلف في الأسلوب عن أسلوب كتبه الأخرى، وربما هذا ما دفع خصومه أن يقولوا إن هذه المقالات ليست من كتابته، إنما كتبها له بعض أدباء العرب، لكنهم لم يقيموا الدليل على هذه الدعوة!

ومن الأمثلة على ذلك بعض كلماته التي جاءت في رسالته إلى الملكة فيكتوريا حيث يقول في رسالة طويلة: "أيتها المليكة المكرمة.. إني فكرت في نفسي في كمالاتك، فوجدتك حاذقة، يمر رأيك في شعاب المعضلات مر السحاب، وتزف مداركك في الغامضات كزف العقاب، ولك يد طولى في استنباط الدقائق، ومآثر غراء في تفتيش الحقائق، وأنت بفضل الله من الذين يُصيبون في استقراء المسالك ولا يخطون.. أنت يا مليكة تستشفين كل جوهر نقي، وتستنبطين دقائق المعضلة بفكر دقيق وذهن ذكي، وإن لك في هذه اللياقة مآثر حلوة المذاق، مليحة السياق، ويحمدك المحمودون.. أيتها المليكة الجليلة.. أعجبني أنك مع كمال فضلك، وعلمك وفراستك، تنكرين لدين الإسلام، ولا تمعنين فيه بالعيون التي تمعنين بها في الأمور العظام.. قد رأيت في ليل دجى، والآن لاحت الشمس، فمالك لا ترين في الضحى؟.."[4]
أما كتبه المنقولة إلى العربية فهي تمتاز بعمق الفكرة ودقة النظر وسلاسة التعبير، وغالبيتها تسير على نفس الأسلوب، إلا أن الملاحظ أن كتابه "سفينة نوح" يسير على نفس نمط كتابه "فلسفة تعاليم الإسلام". ولا شك أن كتابه "سفينة نوح" متمم لكتابه فلسفة تعاليم الإسلام، ولعله كتب من نفس المسودة التي كتب منها الكتاب الأول، مع أن الفرق بين نشر الكتابين 6 سنوات. وأعتقد أن الكتابين كانا في الأصل كتاب واحد، لكن الضرورة اقتضت نشر الكتاب الأول في ذلك الحين، على أن يؤخر نشر الكتاب الثاني بعد تنقيحه وزيادة بعض الإضافات التي تقتضيها الظروف المستجدة.

ومن الملاحظ على كتابه "سفينة نوح" إكثار الميرزا من التذكير بأنه هو المسيح الموعود على عكس كتاب فلسفة تعاليم الإسلام!
وكتاب "سفينة نوح" عبارة عن مبحث طويل في موضوع واحد متشعب، لذا فقد خلا من العناوين والوقفات، وهو كتاب أشبه بسيرة ذاتية لفكر الميرزا ممزوجة ببعض الذكريات القديمة؛ حيث يعول فيه على الماضي كثيرا، فيذكر بعض الإلهامات التي كان قد تلقاها من ثلاثين عاما وذكرها في كتابه براهين أحمدية، فيشرحها ويحاول أن يؤولها على الواقع الذي يعيشه في الوقت الحالي.

كذلك يقوم بتسجيل بعض الذكريات حول محاكمته أمام القاضي الانجليزي داغلس الذي يشبهه ببيلاطوس الروماني القاضي إلي أسلم المسيح عليه السلام إلى اليهود ليصلبوه!
وأجمل ما في الكتاب مبحث قيم عن الفرق بين القرآن والسنة والحديث، ومعيار الحكم على الأحاديث النبوية وكيفية التوفيق بين الأحاديث المتعارضة.

أما كتابه "فلسفة تعاليم الإسلام" فهو من أجمل ما كتب الميرزا موضحا وشارحا لفلسفة الأخلاق، وتعاليم القرآن، ومعنى الوحي، وإثبات البعث والحساب.. وهو عبارة عن محاضرة ألقيت بالأردية في مؤتمر الأديان الذي انعقد في الهند عام 1896م.. ولو لم ينشغل فكر الميرزا في تأليف الكتب الذي تثبت أنه مسيح آخر الزمان، وجعل كل كتبه على شاكلة هذا الكتاب، لقدم للمسلمين زادا فكريا وفلسفيا يجعله بحق من فلاسفة الإسلام العظام..!

أما كتابه "سر الخلافة" فهو دفاع مؤثر عن الصحابة وخصوصا أبا بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، وذلك ردا على الشيعة الذين يسبون أبا بكر وعمر، وهو كتاب يمتاز بسلاسة العبارة وقوة الحجة، وصدق العاطفة..

أما كتابه "حمامة البشرى"، فهو من أكثر كتبه توازنا ووسطية من ناحية الشكل والمضمون، فمن ناحية الشكل فإن الميرزا لم يحاك القرآن في أسلوب كتابته مثلما فعل في كتبه الأخرى وعلى وجه الخصوص كتاب "الخطبة الإلهامية".
وكتاب "حمامة البشرى" كتب بأسلوب عربي رصين وبعبارات جزلة رشيقة متدفقة من ناحية الشكل. أما من ناحية المضمون فهو كتاب معتدل في دعوته لا يصطدم كثيرا مع العقائد الإسلامية.

أما كتابه "إعجاز المسيح" فقد نشره عام 1901م، ليبين الميرزا فيه بعض معجزاته الدالة على صدقه، ومعجزته هنا هي تفسير سورة الفاتحة كما يقول. وعند مراجعة هذا الكتاب نجد شدة تكلف الميرزا وليه عنق الآيات ليثبت أنها تشير إلى مبعثه وزمنه، وتعجب من شدة التكلف والتنطع في هذا التفسير الذي يتشابه مع تفسيرات الصوفية. كما أنه ليس في هذا الكتاب ما يدل على نبوغ أو عبقرية، وعبارات هذا الكتاب ليست كلها على نسق واحد من البلاغة، وأكثر أجزاء الكتاب بلاغة مقدمته المتدفقة، ولهذا نعتقد أن هذا الكتاب لم يكتب في زمن واحد، وإنما هو عبارة عن مقالات متفرقة وأفكار متناثرة تم جمعها من مسودات قديمة وإخراجها في سورة كتاب.

وقد سبق للميرزا أن نشر كتابا يتضمن تفسير الفاتحة قبل هذا الكتاب بحوالي ثماني سنوات في عام 1893، بعنوان "كرامات الصادقين". ومن يتصفح هذين الكتابين يدرك مدى التغير الذي أصاب فكر الميرزا، وأول هذه التغيرات تغير اسم الكتاب من "كرامات الصادقين" إلى "إعجاز المسيح"، فالميرزا كان يغلب عليه التواضع، حيث يعتبر نفسه مجرد رجل صادق أعطاه الله كرامة لصدقه، وهذه الكرامة هي تعلم العربية الفصيحة والقدرة على تفسير آيات القرآن الكريم.

أما بعد ذلك فقد تغير الحال فتحول من مجرد رجل مؤمن له كرامات، إلى نبي له معجزات، وعند النظر إلى تفسير الفاتحة في كتابه الأول "كرامات الصادقين" يتبين لنا بلاغة الميرزا وعنايته بما يكتب في تفسير الفاتحة، ونجده يسير في تفسيره على منهج المحققين، ويبتعد عن الغلو والشطط في تفسيره، وهو تفسير يشبه إلى حد بعيد تفسيرات الصوفية ويستعير بعض رموزهم وإشاراتهم، وهو تفسير معتدل لا يخلو من الفائدة على أي حال. أما تفسيره الثاني في كتابه "إعجاز المسيح" فهو تفسير يميل إلى الشطط والغلو ولي أعناق الآيات ليستخرج منها الإشارات التي تشير إلى مبعثه، وهو تفسير لا يمكن لقارئ منصف أن يسلم به أو يركن إليه، وأغلب الظن أن الشيخ رشيد رضا، يقصد هذا التفسير الثاني عندما قال: "وهو تَفْسِير فِي غَايَةِ السَّخَفِ يَدَّعِي أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَهُ، فَجَعَلَهَا مُبَشِّرَةً بِظُهُورِهِ، وَبِأَنَّهُ هُوَ مَسِيحُ هَذِهِ الْأُمَّةِ[5] .

والعجيب أنه يقول عن هذا التفسير: "وإني رأيت مبشرة في ليلة الثلاثاء، إذ دعوت الله أن يجعله معجزة للعلماء، ودعوت أن لا يقدر على مثله أحد من الأدباء، ولا يعطى لهم قدرة على الإنشاء، فأجيب دعائي، في تلك الليلة المباركة من حضرة الكبرياء، وبشرني ربي وقال: منعه مانع من السماء، ففهمت أنه يشير إلى أن العدا لا يقدرون عليه، ولا يأتون بمثله ولا كصفتيه، وكانت البشارة من الله المنان، في العشر الأواخر من رمضان"[6]

أما كتابه حقيقة الوحي، فهو عبارة عن سيرة ذاتية، بل إن هذا من أكثر الكتب الذي يلقي الضوء على حياته الخاصة ، وكأنه يدون مذكراته الخاصة..
وهو يتحدث في هذا الكتاب بكلام جميل عن ضرورة الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويرد على بعض القائلين أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ليس ضروريا لدخول الجنة، وإنما يكفي توحيد الله فقط؟

أما الوحي من وجهة نظر المؤلف فهو ينقسم إلى ثلاث حالات:
الحالة الأولى: كان قديما بعض الناس يلجئون إلى الاستخارة عندما يقصدون أمرا من الأمور، بأن يقوموا بفتح المصحف على أي صفحة ثم يقرأ أول آية يقع بصره عليها، ثم يعمل وفق هذه الآية، مثلما يروى أن الحجاج الثقفي أراد مرة ذلك ففتح المصحف فكانت أول آية وقع بصره عليها: "واستفتحوا فخاب كل جبار عنيد"!

الحالة الثانية: وهي أرقى وأتم من الحالة الأولى وهي أن بعض الناس عندما يسألون عن شيء من الأشياء يجيبون بواسطة آية من القرآن، كما ورد في بعض الأخبار أن بعض النساء عندما كن يسألن عن أي أمر من الأمور فيجبن عن ذلك بآية قرآنية، وهكذا..

الحالة الثالثة: فهي أتم الحالات وهي ما كانت تحدث مع مؤلف كتاب حقيقة الوحي، وهي أنه عندما كان يمر بمشكلات يومية ولا يعرف سبل الخروج من هذه المشكلات، تنبثق من نفسه وترد على ذهنه فجأة آية من القرآن الكريم، أو شطرين من آيتين في آية واحدة، فيكون فيها الجواب أو الحل لهذه المشكلة.. وقد أشار إلى هذه الحالة بما رواه عن جعفر رضي الله عنه أنه كان يقول لقد قرأت كتاب الله حتى جرى على لساني وحيا"
فهكذا نرى الحالة الأولى حالة خارجية تماما ليست نابعة من النفس إنما يلجا الشخص إلى أن يوجدها في نفسه من شيء خارجي وقد تصيب وقد تخطيء مثلما حدث مع الحجاج..
أما الحالة الثانية فهي حالة واعية تماما ولا دخل فيها للمصادفة حيث يبحث الشخص في ذاكرته عن آية تناسب الموقف الذي يمر به..
أما الحالة الثالثة فهي حالة إلهامية تماما ترد على النفس دون انتظار وهذه احتمالات صدقها تكون كبيرة جدا..

النبوة والنبوءات والمخاطبات عند ميرزا غلام أحمد

مفهوم النبوة عند الميرزا غلام أحمد:
يختلف مفهوم النبوة لدى ميرزا غلام أحمد عن مفهوم النبوة لدى عامة المسلمين، فقد جاء الميرزا بمفهوم خاص لا يتفق مع ما تعارف عليه المسلمون، فالنبي لدى الأحمدية ينقسم إلى قسمين: نبي تشريعي ونبي غير تشريعي، ويضرب مثالا على النبي التشريعي بموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.. أما الأنبياء غير التشريعيين، فهم كأنبياء بني إسرائيل الذين بعثوا بعد موسى عليه السلام، لإصلاح عقائد بني إسرائيل وتذكيرهم بتعاليم التوراة، وهم يشبهون العلماء المجددين في الإسلام، الذين يبعثون على رأس كل مائة عام، لتجديد الشريعة وإصلاح العقيدة، لذلك فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل". وعلى هذا، فإن الميرزا يعتبر نفسه نبيا غير تشريعي كأنبياء بني إسرائيل، الذين جاءوا بعد موسى عليه السلام، لتجديد الشريعة وإصلاح العقيدة، قياسا على تاريخ بني إسرائيل، فكما أن عيسى جاء بعد موسى، بأكثر من ألف عام، لبيان التوراة وإصلاح ما فسد من العقيدة، فكذلك جاء الميرزا بعد أكثر من ألف عام من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لتجديد شريعة المسلمين وإصلاح عقيدتهم، ولذلك فهو يعتبر نفسه عيسى ابن مريم الذي جاءت الإشارات إلى نزوله آخر الزمان.

وينفي ميرزا غلام أحمد بشدة في كتاب "حمامة البشرى" من بدايته وحتى خاتمته أنه ادعى النبوة ويصف من يزعم ذلك بأنه مفتر كذاب، فيقول: "ولو جوزنا ظهور نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لجوزنا انفتاح باب وحي النبوة بعد تغليقها وهذا خلف كما لا يخفى على المسلمين، وكيف يجيء نبي بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم، وقد انقطع الوحي بعد وفاته وختم الله به النبيين"[7]

ويقول أيضا: "وقالوا إن هذا الرجل يدعي النبوة! والله يعلم أن قولهم هذا كذب بحت لا يمازجه شيء من الصدق ولا أصل له، وما نحتوه إلا ليهيجوا الناس على التكفير والسب واللعن والطعن، وينهضوهم للعناد والفساد ويفرقوا بين المؤمنين.. ولا تظن يا أخي أني قلت كلمة فيه رائحة ادعاء النبوة كما فهم المتهورون في إيماني وعرضي، بل كل ما قلت إنما قلته تبيانا لمعارف القرآن ودقائقه وإنما الأعمال بالنيات، ومعاذ الله أن ادعي النبوة بعد ما جعل الله نبينا وسيدنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين"[8]

ويقول في موضع آخر:"ومن اعتراضات المكفرين أنهم قالوا أن هذا الرجل ادعى النبوة وقال إني من النبيين. أما الجواب فاعلم يا أخي أني ما ادعيت النبوة وما قلت لهم أني نبي، ولكن تعجلوا وأخطأوا في فهم قولي وما فكروا حق الفكر، بل اجترؤوا على نحت بهتان مبين. وما قلت للناس إلا ما كتبت في كتبي من أنني "محدث" ويكلمني الله كما يكلم المحدثين.. وما كان لي أن أدعي النبوة وأخرج من الإسلام وألحق بالكافرين، وإنني لا أصدق إلهاما من إلهاماتي إلا بعد أن أعرضه على كتاب الله، وأعلم أنه كل ما يخالف القرآن فهو كذب وإلحاد وزندقة.. فكيف أدعي النبوة وأنا من المسلمين؟"[9]

وبعد أن أعلن الميرزا للناس أن ألله خاطبه قائلا: "إنك عيسى بن مريم" أصبح على قناعة كبيرة بأن روح عيسى عليه السلام حلت في جسده. فكان لابد من حل يوفق بين كونه المسيح الموعود وبين كونه ليس نبي كعيسى عليه السلام.. وفرارا من القول بأنه نبي كعيسى بن مريم، قال: "ليس المراد بنزول عيسى في آخر الزمان نزول عيسى النبي؛ لأن عيسى قد مات ولن ينزل ثانية، وإنما المقصود مجيء رجل شبيه بعيسى في التقى والصلاح وليس في النبوة. فأنا لست نبيا وإنما "محدث" ..ومقام التحديث أشد تشبها بمقام النبوة، فالمحدث نبي بالقوة لا بالفعل، ولو لم يكن باب النبوة قد سد لكان المحدث نبيا بالفعل، لأن المحدث نبي، بالنظر إلى استعداده الباطني، وكمالات النبوة جميعها مخفية ومضمرة فيه، وما حبس ظهورها وخروجها إلى الفعل إلا انسداد باب النبوة، وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: لو كان بعدي نبي لكان عمر، وما قال هذا إلا بناء على أن عمر كان محدثا. ومادة النبوة وبذرتها موجودة في التحديث، ولكن الله لم يشأ أن يخرجها من حيز القوة إلى حيز الفعل، فكأن النبوة شجرة مثمرة بالغة حد الكمال، والتحديث كمثل البذرة يوجد فيها بالقوة كل ما يوجد في الشجرة بالفعل"[10].

وعلى هذا نجد قول الميرزا بأنه محدث وليس نبي كان في مرحلة باكرة من دعوته، عندما نشر كتابه "حمامة البشرى" عام 1893م، وجميع كتبه التي تم نشرها قبل عام 1900م، فيقول في كتابه "مرآة كمالات الإسلام" الذي نشره عام 1893م: "لست بنبي ولكني محدث وكليم الله لأجدد دين المصطفى، وقد بعثني على رأس المائة وعلمني من لدنه علوم الهدى"[11] ويقول في كتابه التبليغ الذي نشره عام 1893م: "ما كان الله أن يرسل نبيا بعد نبينا خاتم النبيين، وما كان أن يحدث سلسلة النبوة ثانيا بعد انقطاعها"[12]

ويقول في كتابه "سر الخلافة" الذي نشره عام 1895م: "ووالله إني لا أدعي النبوة، ولا أجاوز الملة، ولا أغترف إلا من فضالة خاتم النبيين، وأؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله.. وأصلي واستقبل القبلة فلم تكفرونني؟ ألا تخافون الله رب العالمين"[13] ويقول في موضع آخر: "وعزوتم إلى ادعاء النبوة، وما خشيتم الله عند هذه الفرية، وما كنتم خائفين"[14]

أما الأعوام التالية فقد شهدت تغيرا حاسما في فكر القاديانية، وبدأت عقائدهم تتمايز وتتبلور وتنضج سريعا وكأنها في سباق مع الزمن، فأصبحت أكثر وضوحا وانفصالا، وأصبح هناك إمكانية أن يجيء نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، بشرط أن يكون من أمته وتابعا لشريعته، فيقول في كتابه "مواهب الرحمن" الذي تم نشره بعد هذا الكتاب بحوالي تسع سنوات في عام 1903م: "ونعني بختم النبوة ختم كمالاتها على نبينا الذي هو أفضل رسل الله وأنبيائه. ونعتقد أنه لا نبي بعده إلا الذي هو من أمته ومن أكمل أتباعه.. ومن ادعى النبوة من هذه الأمة، وما اعتقد بأنه ربي من سيدنا محمد خير البرية، وان القرآن خاتم الشريعة- فقد ألحق نفسه بالكفرة الفجرة.. فإنه لا نبي لنا من دون نبينا المجتبى"[15]

ويقول في كتابه "سفينة نوح" الذي تم نشره 1902م: "اهدنا الصراط المستقيم، صراط الين أنعمت عليهم.. فهذا الدعاء يتضمن الإنباء بأن المسلمين سيكون منهم فريق يرث تراث الأنبياء الأولين، ويحظى بنعمة الرسالة والنبوة، لصدقه وصفاته"[16]
بل إنه يفضل نفسه على عيسى عليه السلام فيقول: "وأقسم بالله الذي نفسي بيده، لو كان المسيح في زمني هذا لما استطاع أصلا ما أستطيع أنا أن أعمله، ولا أمكنه أبدا أن يُري تلك الآيات التي انبلجت على يدي، وإني وجدت فضل الله علي أكثر مما كان عليه"[17]

بل إنه في كتابه (حقيقة الوحي) الذي تم نشره سنة 1904 يعتبر نفسه مظهر كل الأنبياء فيقول: "أنا آدم، أنا نوح، أنا إسحاق، أنا يعقوب، أنا إسماعيل، أنا موسى، أنا داود، أنا عيسى، أنا محمد رسول الله بصورة ظلية، فقد سماني الله في هذا الكتاب بالأسماء المذكورة كلها.. فلابد أن يوجد في نفسي شأن كل نبي"[18]

ويقول في كتابه الخطبة الإلهامية: "ما كان لنبي أن يأتي بعد خاتم النبيين، إلا الذي جعل وارثه من أمته، وأعطي من اسمه وهويته، ويعلمه العالمون"[19]

ويقول أيضا: "فهناك رأى الله أن وقت البعث قد أتى، ووقت الموت بلغ المنتهى، فأرسل رسوله كما جرت سنته في قرون أولى، ليحيي الموتى، وكان وعدا مفعولا من رب الورى، فذلك هو المسيح خاتم الخلفاء، ووارث الأنبياء، والإمام المنتظر من حضرة الكبرياء، وآدم الذي بدأ الله منه مرة ثانية سلسلة الأحياء.."[20]

لكن يبدو أن حقيقة إدعاء النبوة من أكثر الحقائق التي كانت تؤرق الميرزا وتحيره وتسبب له الحرج أمام المسلمين، لذلك فقد راح يخفف من وقعها ويلطف من آثارها حتى لا تصطدم بوعي المسلمين؛ فيقول في كتابه حقيقة الوحي: "ولا يغيبن عن البال أن كثيرا من الناس ينخدعون لدى سماع كلمة "نبي!" في دعواي، ظانين وكأنني قد ادعيت تلك النبوة التي نالها الأنبياء في الأزمنة الخالية بشكل مباشر. إنهم على خطأ في هذا الظن.! أنا لم أدع بذلك قط. بل، تدليلا على كمال الفيوض الروحانية للنبي صلى الله عليه وسلم، قد وهبت لي الحكمة الإلهية هذه المرتبة، حيث أوصلتني إلى درجة النبوة ببركة فيوضه صلى الله عليه وسلم، وإن نبوتي ظل لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم وليست نبوة أصلية"[21]

ويزيد الأمر توضيحا وتبسيطا بقوله: "المراد بنبوتي تلك المكالمات والمخاطبات الإلهية الكثيرة والمشتملة على أنباء الغيب، لا أكثر من ذلك ولا أقل. ولكل أن يصطلح من المصطلحات ما يشاء.. فهذا مصطلح إلهي أطلقه عز وجل على كثرة المكالمة والمخاطبة التي تحتوي على أخبار غيبية كثيرة، واللعنة على من يدعي النبوة متخليا عن فيض النبي صلى الله عليه وسلم"[22] ثم يقول:".. فالنزاع ليس إلا نزاعا لفظيا، فلا تستعجلوا يا أهل الفطنة والعقل، ولعنة الله على من ادعى خلاف ذلك مثقال ذرة، ومعها لعنة الناس والملائكة.."[23]

لذلك نرى أن مفهوم النبوة عند الميرزا لا تخرج عن مفهوم التحديث، كما صرح بذلك عن نفسه، وهي تؤدي ما يؤديه المحدث، في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قَدْ كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ مِنْهُمْ فَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ"[24]

لكن لماذا لم يقتصر الميرزا على وصف نفسه بأنه محدث فقط، وتجنب الزوبعة التي أثارها بأنه نبي، فلماذا لجأ إلى هذه المنطقة المحذور الاقتراب منها ووضع نفسه فيها، وكان بمقدوره أن يتجنبها ولا يدخلها أصلا؟
وهل يمكن أن نعتبر ميشيل نوستراداموس المولود في فرنسا عام 1503م، بهذا المفهوم، هل يمكن أن نعتبره نبيا؟ وسيأتي الحديث بالتفصيل عن ميشيل نوستراداموس بعد قليل!

المخاطبات الإلهية:
المخاطبات الإلهية هي بعض العبارات التي ترد على خاطر الإنسان فجأة، من دون مقدمات بلسان بعض الناس الذين يعرفهم أو لا يعرفهم، ويكون الإنسان عند ورودها في حالة يقظة، أو بين اليقظة والنوم غالبا، وقد تكون تلك المخاطبات بالعامية أو الفصحى أو بأي لغة أخرى يعرفها المخاطب، وقد لا يعرفها في أحيان نادرة. وهذه المخاطبات لا يهتم بها أحد غالبا، ولا يلقي لها بالا، بل لا يتذكرها إلا عند تحقق وقوعها، كما يتذكر أحدنا الحلم الباهت في ساعة تحققه فقط، ومن الناس من يكثر على ذهنه ورود مثل تلك المخاطبات، ومنهم من لا تأتيه إلا في أحيان نادرة، وإن جاءته هذه المخاطبات على ندرتها، فإنه لا يلقي لها بالا ولا يصيخ لها سمعا، وهذه المخاطبات شأنها شأن كثير من الأحلام قد تتحقق وقد لا تتحقق، وهي بحاجة إلى تأويل وتفسير، وقد يخطأ الإنسان في تأويلها، فيؤولها على عكس المقصود تماما، ولذلك لا يمكن التعويل عليها، أو التسليم بها كأنها وحي السماء.

ويطلق علماء النفس على تلك المخاطبات- متى زادت عن حد الاعتدال- اسم "الهلاوس السمعية". والحق إن المخاطبات تختلف عن الهلاوس السمعية، بأن المخاطبات تصدق وتتحقق في أغلب الأحيان، أما الهلاوس السمعية فهي كأضغاث الأحلام يصعب تفسيرها ويقل تحققها.
والميرزا يفرق بين وحي القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم وبين الوحي الذي يتلقاه بقوله: "ألا لعنة الله على الذين يقولون إنا نأتي بمثل القرآن، إنه معجزة لا يأتي بمثله أحد من الإنس والجان، وإنه جمع معارف ومحاسن لا يجمعها الإنسان، بل إنه وحي ليس كمثله غيره وإن كان بعده وحي آخر من الرحمن، فإن لله تجليات في إيحائه، وإنه ما تجلى من قبل ولا يتجلى من بعد كمثل تجليه لخاتم أنبيائه، وليس شأن وحي الأولياء كمثل شأن وحي الفرقان.. فمثل القرآن وغير القرآن كمثل رؤيا رآها ملك عادل رفيع الهمة كامل الفهم والقياس، ورأى هذه الرؤيا بعينها رجل آخر قليل الفهم قليل الهمة ومن عامة الناس، فلا شك أن رؤيا الملك ورؤيا هذا الرجل- وإن كانت واحدة غير مميزة في ظاهر الحالات- ليست بواحدة عند عارف تعبير الرؤيا وذي الحصات، بل لرؤيا الملك العادل تعبير أعلى وأرفع وأعم وأنفع، وهي للناس كلهم خير ومع ذلك أصح وألمع. أما رؤيا الرجل الذي هو من أدنى الناس، فلا يتخلص في أكثر صورها من الالتباس بل من الأدناس، ثم مع ذلك لا تجاوز أثرها من الأبناء أو شرذمة من الأحباء"[25]

وهذه المخاطبات كانت كثيرة الورود على الميرزا، خصوصا في أوائل دعوته وبواكير حياته، وكانت تصدق غالبا، ولكن عند تقدمه في العمر قلت وكانت لا تصدق، إلا بتأويلات بعيدة متكلفة.

ومن أمثلة المخاطبات التي خوطب بها الميرزا ولم تتحقق أنه بشر بأنه يعيش لأكثر من ثمانين عاما، ولكنه لم يعش سوى 74 عاما فقط، فيقول: "فبشرنا ربنا بثمانين سنة من العمر أو هو أكثر"[26]

وكذلك نبوءته عن زواجه بـ(محمدي بيكم) ابنة خاله فقال: "قد أنبأني الله أن كريمة الميرزا أحمد بيك الكبرى، ستدخل في زواجك، وأن أهلها سيعادونك ويمنعونها منك، ويجتهدون ألا تتحقق ذلك، ولكن الله سيحقق وعده ويمنحها لك بكرا كانت أو ثيبا، ويزيل العراقيل وينجز هذا العمل، ولا راد لما قضى الله"[27]
وقال: "وكذلك يموت بعلها الذي يصير زوجها إلى حولين وستة أشهر، قضاء من الله"[28]
وقال إن الله قد أوحى إليه: "فبشرى لك في النكاح، الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، إنا زوجناكها، لا مبدل لكلمات الله، وإنا رادوها إليك، إن ربك فعال لما يريد، فضل من لدنا ليكون آية للناظرين"[29]

ولكن أهلها رفضوا أن يزوجوها له وزوجوها لرجل آخر، عاش معها طويلا إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى.

وأحيانا كثيرة يخطأ الشخص في فهم وتأويل تلك المخاطبات، فيؤولها على العكس منها تماما، وهذا ما حدث مع الميرزا في تفسيره لسورة الفاتحة فقال: "ودعوت الله أن لا يقدر على مثله أحد من الأدباء، ولا يعطى لهم قدرة على الإنشاء، فأجيب دعائي، في تلك الليلة المباركة من حضرة الكبرياء، وبشرني ربي وقال: منعه مانع من السماء، ففهمت أنه يشير إلى أن العدا لا يقدرون عليه، ولا يأتون بمثله ولا كصفتيه، وكانت البشارة من الله المنان، في العشر الأواخر من رمضان"[30]

وبيت القصيد أنه خوطب بهذه الجملة: " منعه مانع من السماء" ففسر الميرزا هذه الجملة بأن المخالفين للميرزا سوف يمنعهم الله من القدرة على تأليف مثله، وهذا خطأ لأن كل من ينظر إلى تفسير الميرزا لهذه السورة بعين الإنصاف والحياد يدرك أنه تفسير متهافت، لا يمكن التسليم به وتقبله، فكان معنى الجملة التي تلقاها الميرزا "منعه مانع من السماء" هي: أن الله الذي في السماء منع تحقق دعاءك الذي دعوته وطلبك الذي طلبته، ولم يجعل تفسيرك معجزة لا يقدر على مثلها أحد من الأدباء، ولا يأتي بمثله الأعداء.

وكذلك نبوءته عن الشيخ رشيد رضا التي يقول فيها: "سيهزم فلا يرى. نبأ من الله الذي يعلم السر وأخفى"[31].
وقد ذكرها رشيد رضا في تفسيره بقوله: "وَظَهَرَ فِي الْهِنْدِ رَجُلٌ ادَّعَى أَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ الْمَوْعُودُ، وَقَدْ أَرْسَلَ قَبْلَ مَوْتِهِ ِلَيَّ ْكِتَابَ تفسير الفاتحة، وَغَيْرَهُ مِنْ كُتُبِهِ الَّتِي يَدْعُو بِهَا إِلَى نَفْسِهِ ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ فِي (الْمَنَارِ) فَهَجَانِي فِي كِتَابٍ آخَرَ، وَتَوَعَّدَنِي بِقَوْلِهِ عَنِّي: "سَيُهْزَمُ فَلَا يُرَى" وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا وَحْيٍ جَاءَهُ مِنَ اللهِ، جَلَّ وَعَلَا. وَقَدْ كَانَ هُوَ الَّذِي انْهَزَمَ وَمَاتَ. وتَفْسِيرِ الفاتحة كِتَابٌ فِي غَايَةِ السَّخَفِ، يَدَّعِي أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ لَهُ، مُبَشِّرَةً بِظُهُورِهِ ، وَبِأَنَّهُ هُوَ مَسِيحُ هَذِهِ الْأُمَّةِ"[32]

وأحيانا يقع في التناقض في تأوله لبعض الأمور يقول في موضع: "المراد بالحلتين المهرودتين أو الرداء الأصفر هي العلة، وقد جاء في الحديث أن المسيح ينزل وعليه رداءان أصفران، وهذا شأني، فإني أعاني علتين إحداهما في مقدم جسمي وهو الدوار الشديد الذي أخر به على الأرض ويضعف دوران الدم في القلب وأخاف به على نفسي، والعلة الثانية في أسفل الجسم وهي كثرة البول"[33]

أما في كتابه الخطبة الإلهامية فيفسر الرداءين تفسيرا آخر فيقول: "فجئت في الحلتين المهرودتين المصبغتين بصبغ الجلال وصبغ الجمال، وأعطيت صفة الإفناء والإحياء من الرب الفعال، فأما الجلال- الذي أعطيت- فهو أثر لبروزي العيسوي من الله ذي الجلال.. وأما الجمال- الذي أعطيت- فهو أثر لبروزي الأحمدي من الله ذي اللطف والنوال، لأعيد به صلاح التوحيد المفقود من الألسن والقلوب والأقوال والأفعال، وأقيم به أمر التدين والانتحال"[34]

أما المخاطبات التي تحققت فمن أمثلتها البشرى له بأنه سيولد له غلام، يمتاز بقدرات ذهنية وعقلية عالية، وقد تحققت هذه النبوءة بان ولد له غلام أسماه بشير الدين محمود، وقد كان هذا الغلام بحق صاحب نظرة عميقة، وباع طويل في التفسير، وقد تولى قيادة الجماعة الأحمدية وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وكتب تفسيرا كاملا للقرآن الكريم، ينم عن عمق في الفهم ونفاذ في البصيرة.. وقد جاء في هذه النبوءة التي نشرت عام 1886: "بشرى لك فإن صبيا وجيها طاهرا سوف يوهب لك، وإن غلاما زكيا يكون من صلبك ومن ذريتك ونسلك.. اسمه عمنوئيل وبشير، لقد أوتي روحا مقدسة.. وسيكون ذكيا بشكل خارق وفهيما وحليم القلب، وسوف يمتلئ بالعلوم الظاهرة والباطنة.."[35]

ومما لا شك فيه أن الميرزا كان رجلا كثير المخاطبات وترد على ذهنه كثير من هذه الواردات، لكن هذه التنبؤات ليست دليلا على وحي السماء ولنا في التاريخ خير شاهد. فمن المعلوم أن "بوذا" كان رجلا ملهما كثير المخاطبات كما هو معلوم من سيرته، ومع ذلك لم يكن بوذا نبيا ولم يهتم بالحديث عن الإله أصلا، ولم يشغل نفسه بالكلام عنه إثباتا أن إنكارا، وتحاشى كل ما يتصل بالبحوث اللاهوتية وما وراء الطبيعة، ومن اجل ذلك اتجه براهمة عصره إلى وصمه بالإلحاد.[36]

ومن المعلوم أيضا أن الأرض التي تكثر فيها القلاقل والفتن يكثر فيها المتنبئون، وهذا ما حدث في جزيرة العرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كثر قبل بعثته المتنبئون سواء من العرب أو اليهود، وكانت تصدق كثير من تنبؤاتهم بالرغم من أنهم لم يكونوا على حق في كل ما قالوه، والتنبؤات شيء يختص بالغيب ولها قانون غيبي لا يعلمه إلا الله، وهذا شيء يصعب على العلم الإحاطة. والتنبؤات غالبا ما تكون من البيئة المحيطة، وغالبا ما يكون الوحي من عين الحياة المضطربة التي يعيش فيها المتنبئون..

إن العقل ليعجز عن أن يصل إلى نتيجة ترضي القلب وتريح النفس، ويقف عاجزا مقصوص الجناح، مثلما يعجز الإنسان على أن يعبر البحر بغير سفينة، أو يطير في الجو بغير طائرة. وليس في إمكان أي فطن ألمعي أن يحل معادلة رياضية بدون أن يكون له علم بالأعداد والحساب، وليس في إمكان من لا يعرف الحروف الهجائية في لغة من اللغات أن يقرأ سطرا واحدا من هذه اللغة مهما كان ذكاؤه وعبقريته، ومهما كد وجد، ومهما استخدم العقل والعلة والقياس.. كذلك يستحيل على العقل الإجابة عن هذه الأسئلة الخطيرة؛ لأن الإنسان لا يعرف مبادئها وأولوياتها، ولا تقبل القياس والتقدير، لأن قوة العقل ودائرة عمله ضيقة محدودة، فله نطاق لا يتعداه، مثل القوة الحسية في الإنسان لها دوائر ومجالات لا تتجاوزها؛ فحاسة البصر تلتقط ألافا من المبصرات، ولكنها لا تستطيع أن تسمع صوتا واحدا، وكذلك الحواس الأخرى..

كذلك العقل بالرغم من أن مجاله أفسح، ودائرته أوسع من هذه الحواس إلا أنه محدود، لا يتعدى طوره، وكما قال ابن خلدون: "العقل ميزان صحيح وأحكامه يقينية، ولكن لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والنبوة والميعاد وحقائق الصفات الإلهية، فمثاله كمن طمع أن يوزن الجبال بميزان الذهب، وهذا لا يدل على أن ميزان الذهب غير صادق".

وفطرة الإنسان مجبولة على تعظيم الإنسان الذي تصدق تنبؤاته، وهذا واقع مشاهد في كل الملل والنحل وعلى مدار التاريخ، فأتباع كل دين يعظمون المتنبئ الذي يرتشف من الغيب وهذا واقع مشاهد لدى البوذيين واليهود والنصارى وغيرهم.. ولكن بالرغم من كل ذلك فإن الروحانية العالية، والتنبؤات الصادقة، ليست دليلا على صدق الإنسان في كل الأمور التي يدعيها.. وهذا ما جاءت إليه الإشارة في القرآن الكريم في شأن السامري:{قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}(طه96). ومعنى هذه الآية أن السامري قبض قبضة، وحثا حثوة من كوة الغيب التي يقبض منها الرسل، ولكن السامري لم ينتفع بهذه القبضة الغيبية الروحانية، وإنما نبذها واستغلها في معصية الله وفي تشييد الجاه لنفسه وأهله.

لذا فإن في الديانة الهندوسية والبوذية تنبؤات، وفي الديانة المسيحية تنبؤات، وفي الديانة اليهودية تنبؤات.. لكن هذه التنبؤات لا تخرج عن البيئة المحيطة بهم ولا عن واقعهم السياسي، وتبقى في إطار ثقافتهم وفي إطار ديانتهم ومعتقداتهم لا يتجاوزنها إلى ما وراء من ذلك.

نبوءات الميرزا:

1-الخسوف والكسوف:
لقد ساق الميرزا الكثير من الأدلة على صدقه، منها على سبيل المثال الخسوف والكسوف الذي حدث في رمضان، تصديقا للحديث الشريف: "إِنَّ لِمَهْدِينَا آيَتَيْنِ لَمْ تَكُونَا مُنْذُ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ؛ يَنْكَسِفُ الْقَمَرُ لأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ وَتَنْكَسِفُ الشَّمْسُ في النِّصْفِ مِنْهُ، وَلَمْ تَكُونَا مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ"[37].

وأجاب خصوم الأحمدية عن هذا الحديث بأنه ضعيف لضعف في السند، ولتعارض في المتن مع حديث صحيح يقول: " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَادْعُوا اللَّهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا"[38]

لكن الضعف في سند الحديث أو التعارض في متنه غير كاف للرد على هذه الحجة، فكيف خطر لهذا الذي قام بتلفيق الحديث قبل دعوة الميرزا بمئات السنين، كيف خطر له أن يلفق هذا الحديث الذي أتفق فيه حدوث الخسوف والكسوف في رمضان عام 1894م، وما الذي سيكسبه ملفق هذا الحديث في حق شخص لا يعرفه، ولو عرفه فكيف سيجزم أن القمر والشمس سوف ينكسفان في رمضان؟
كذلك لماذا لم يجتمع كسوف القمر وخسوف الشمس في سنة من السنين أو في شهر من الشهور إلا أثناء دعوة الميرزا؟
ومن ناحية أخرى فإن هناك الكثير من الحجج التي تقوم إزاء هذه الحجة مثل؛ أن الحديث يقول: "يَنْكَسِفُ الْقَمَرُ لأَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ وَتَنْكَسِفُ الشَّمْسُ في النِّصْفِ مِنْهُ" يعني ينكسف القمر في أول ليلة من رمضان، وتنكسف الشمس في نصف رمضان، لكن يصعب الآن معرفة ما حدث بالضبط من مصدر موثوق، لأن الميرزا غلام أحمد في بيانه لهذه الحجة ومناقشته لها، يدخلنا في دوامة من الجدل والتفسيرات، وفي نهاية الأمر لا نخرج بشيء يطمئن له القلب في حقيقة ما حدث بالضبط. فالمصادر الأحمدية تقول أن ما حدث "هو كسوف القمر في 13 رمضان، وكسوف الشمس في 28 رمضان"[39]

لكن العجيب أن الميرزا في كلامه يكاد ينفي هذا التفسير تارة ويكاد يؤكده تارة أخرى فيقول: "وذكر بعض المتأخرين أن القمر ينخسف في الثالث عشر من ليلة رمضان، والشمس في السابع والعشرين، ولا منافاة بينه وبين ما روى الدار قطني إلا قليلا عند المتفكرين"[40]

ولا أدري ماذا يقصد بقوله (وذكر بعض المتأخرين)!. ثم يعود فيقول: "فالتأويل الصحيح والمعنى الحق الصريح أن المراد من خسوف أول ليلة رمضان؛ أن ينخسف القمر في ليلة أولى من ليال ثلاث يكمل نور القمر فيها، وتعرف بأيام البيض"[41]

ثم يوحي كلامه أن خسوف الشمس تم في نهار اليوم التالي لخسوف القمر، يعني حدث كسوف القمر ليلا، ثم حدث كسوف الشمس نهارا في اليوم التالي فيقول: "بل المراد من قوله وتنكسف الشمس في النصف منه أن يظهر كسوف الشمس منصفا أيام الانكساف، ولا يجاوز نصف النهار من يوم ثان.. فكما قدر الله انخساف القمر في أول ليلة من أيام الخسوف، كذلك قدر انكساف الشمس في نصف من أيام الكسوف، ووقع كما قدر كما أخبر خير المخبرين"[42]

ثم يذكر كلاما ينفي هذا الكلام فيقول: "فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الأنام أن الشمس تنكسف عند ظهور المهدي في النصف من هذه الأيام، يعني الثامن والعشرين قبل نصف النهار، وكذلك ظهر كما لا يخفى على أولي الأبصار"[43]

ثم يطرح معان أخرى لهذا الحديث، فيقول: "أن قوله (وتنكسف الشمس في النصف منه) قد يدل على نصف الشهر، وقد يدل (النصف) على التوسط بين أيام الخسوف الثلاثة. وكذلك قوله (ينكسف القمر لأول ليلة) قد يدل على أول الليل في أي ليلة، وقد يدل على أول ليلة من ليال الخسوف وهي ليلة 13، فيقول: "ثم اعلم يا ذا العينين أن لفظ النصف ذو معنيين، فكما أن لفظ الأول يدل على أول وقت الليلة بالمعنى المعروف، ومع ذلك على ليلة أولى من أيام الخسوف.. فكذلك لفظ النصف يدل على نصف ثان من نصفي الشهر الموصوف، ومع ذلك على وقت منصف لأيام الكسوف، وهو أول نصفي النهار في الثامن والعشرين"[44]
وعلى هذا لابد من تعديل صيغة الحديث كي يوافق ما حدث كأن نقول: "ينكسف القمر في أول ليلة من ليال القمر في رمضان، وتنكسف الشمس بعد مرور نصف شهر على كسوف القمر" وذلك على اعتبار أن أول ليال القمر هي 13، 14، 15 حيث يكون القمر مكتملا من الشهر العربي..

ومهما يكن ما حدث بالضبط يبقى هذا الدليل يشوبه الضعف من ناحية أن هذا الدليل من المفترض أن الميرزا قد أشار إليه قبل حدوثه بزمن طويل أو قصير، لا أن يشير إليه بعد حدوثه، كأن يقول مثلا: "إن من دلائل صدقي أنه سوف ينكسف القمر وتنخسف الشمس في يوم كذا بعد عدة شهور من الآن.. أو على الأقل أن يقول بعد خسوف القمر؛ أن الشمس سوف تنكسف بعد خمسة عشرا يوما من الآن!"
وهذا لم يحدث حسب إطلاعي على المصادر القاديانية، إنما أخبر الميرزا عن هذا الأمر بعد حدوثه. ولذلك تبقى هذه الحجة ظنية الدلالة وليست قطعية الدلالة.

2-وباء الطاعون:
وباء الطاعون الذي اجتاح منطقة البنجاب من الأدلة القوية التي يطرحها الأحمديون على صدق دعوة الميرز؛ حيث أشار إليه الميرزا إشارات صريحة وغير صريحة قبل حدوثه، وجعل الطاعون آية على صدقه من خلال ثلاثة أمور ذكرها كالتالي:
الأول: نبأ أشعته قبل ظهور الطاعون وسيله، وقبل أن يجلب برجله وخيله، فأغار الطاعون على الهند كالصعلوك، وأقام الحشر ودك الناس كل الدكوك.
الثاني: وعد الله تكفلنا ووعد العصمة، والأمر بترك التطعيم والرجوع إلى حضرة العزة، ولذلك أطعت الأمر ووقفت موقف العبيد وما كان أن آنف من أمر الرب المجيد.
الثالث: عيث الطاعون في بعض العلماء من الأعداء، وقد ذكرته ولا حاجة إلى إعادة الأنباء.[45]

ومن هذه الإشارات أيضا قوله: "إن الله نفث في روعي أن هذا الخسوف والكسوف في رمضان آيتان مخوِّفتان لقوم اتبعوا الشيطان، وآثروا الظلم والطغيان، وهيّجوا الفتن وأحبّوا الافتنان، وما كانوا منتهين.. فيتأذّنُ الله لئن استغفَروا ليغفِرَنّ لهم ويُرِي المنَّ والإحسانَ، ولئن أبَوا فإن العذاب قد حان"[46] ويقول: "..وحاصل الكلام أن الخسوف والكسوف آيتان مخوّفتان، وإذا اجتمعا فهو تهديد شديد من الرحمن، وإشارةٌ إلى أن العذاب قد تقرّر وأُكِّدَ من الله لأهل العدوان.."[47]

وقد فهم الأحمديون من كلام الميرزا السابق أنه يشير إلى وباء الطاعون الذي انتشر عقب الخسوف والكسوف بحوالي أربعة سنين في منطقة البنجاب..
لكن هناك إشارة صريحة إلى الطاعون في كلام الميرزا حيث يقول: "وهناك خطب آخر عظيم، حملني على ذكره ما يجيش في صدري من عاطفة الرحمة، وإني لأعلم أنه سيسخر منه ويستهزأ به من لا خلاق له من الروحانية. بيد أن الواجب يقضي على أن أعلنه شفقة على بني الإنسان، وذلك أنني اليوم الأحد الذي هو السادس من شهر فبراير سنة 1898م، رأيت أن ملائكة الله تغرس في بقاع عديدة من بنجاب أغراسا سوداء دميمة الأشكال قصيرة القامات منظرها مريع مكرب للغاية، فسألت بعض هؤلاء الزارعين: ما هذه الأشجار؟ فقالوا: إنها أشجار الطاعون الذي عن قريب يتفشى في هذه البلاد!. وقد اشتبه علي موعده الذي حدده؛ أفي الشتاء القادم أو في الشتاء التالي؟ لكن راعني ما أريت من المظاهر المرهبة.."[48]

لقد أورد الميرزا تلك النبوءة في مقدمة كتابه "أيام الصلح" الذي نشره عام 1899م[49]..
لكنها علي أي حال تبقى مجرد رؤيا منامية يرى أمثالها كثير من المؤمنين وغير المؤمنين، وتتحقق أمثال هذه الرؤى برغم من أن رائيها لا يكون مؤمنا، كما حدث مع فرعون موسى، وعزيز مصر..

لكن الشيء اللافت في نبوءته عن الطاعون هو ما جاء بعد ذلك حيث صرح الميرزا أنه تلقى بعض المخاطبات الإلهية مثل:
1-إني أحافظ كل من في الدار إلا الذين علو من استكبار.
2-الأمراض تشاع والنفوس تضاع.
3-لولا الإكرام لهلك المقام.

ونتيجة لهذه المخاطبات رفض الميرزا التطعيم ضد الطاعون وتعرض لانتقادات واسعة في الهند وخارجها وكان من هؤلاء المنتقدين مصطفى باشا كامل، صاحب جريدة اللواء المصرية فقال: "وردت إلينا نشرة باللغة الانكليزية متضمنة آراء الذي ظهر في بعض البلاد الهندية، وادعى النبوة وادعى أنه هو عيسى.. وزعم أن التطعيم ليس بمفيد للناس"[50]

وقد توفي مصطفى كامل في نفس العام الذي توفي فيه الميرزا وزعم بعض الأحمديين أنه توفي بالطاعون بالرغم من تلقيه التطعيم وهذه آية أخرى على صدق الميرزا!
لكن الواقع لا يؤيد هذا الزعم حيث لم يذكر احد أن مصطفى باشا كامل أصيب بالطاعون. وقد رثاه شوقي بقوله:
المشـــرقــــان علــيك ينتحــبان .. قاصـيهـما في مــأتم والـــداني
يتســاءلون أبــالسلال قضيــت .. أم بالقلب أم هل مت بالسرطان؟
الله يشهــد أن موتــك بالحــــجا .. والجـــد والإقـــدام والعرفـــان
دقـــات قلــب المــرء قائــلة لـه .. إن الحيـــــاة دقائـــق وثـــواني

لكن السؤال هنا: كيف أدرك الميرزا انتشار الطاعون قبل انتشاره؟
من المعلوم أن وباء الطاعون انتشر عام 1855م، في منطقة شرق أسيا، وقد استطاع الكسندر يرسين عام 1894م، أن يحدد العامل المسبب لمرض الطاعون، هو بكتيريا عصوية موجودة في أجسام الفئران..
وقد وفد الطاعون إلى بومباي في عام 1896م، بواسطة سفينة تجارية من هونج كونج، وكان أول تشخيص له على يد طبيب هندي يمارس الطب الغربي اسمه فيجاس[51]. وقد استمرت موجة الطاعون في الهند من عام 1896 – 1918م، كما يذكر المؤرخون لتاريخ المرض والطب في الهند البريطانية.[52]

لذلك لم يأت وباء الطاعون فجأة وإنما بدأ ينتشر في القارة الآسيوية قبل نبأ الميرزا بحوالي أربعين عاما، وانتشر في بومباي قبل نبوءة الميرزا بسنتين، وكان الكل في ترقب وحذر وخوف من انتشاره أو الإصابة به، ولا بد أن الميرزا كان يتوقع اجتياح هذا الوباء لمنطقة البنجاب يوما ما، وخصوصا بعد ظهور آية الكسوف والخسوف الذي ذكرت بعض الأحاديث أنها دليل على اقتراب العذاب؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" إِن الشَّمْس وَالْقَمَر آيتان من آيَات الله لَا ينكسفان لمَوْت أحد وَلَكِن الله تَعَالَى يخوف بهما عباده"[53] واستنادا لهذا الحديث فهم الميرزا أن العذاب لابد أن يأتي بعد ظهور الخسوف والكسوف.

وأما سبب رفضه التطعيم؛ وذلك لأن التطعيم كان قد عرف حديثا وكانت له آثار جانبية قاتلة حيث مات بسبب التطعيم الكثير من الناس كما يقول الميرزا نفسه: "فأعلم أن في أرضنا هذه قرية يقال لها (ملكووال) اتفق أن عملة التطعيم وافوا أهلها مع حزب من الرجال، ودعوهم إلى هذا العمل بالرفق والاحتيال، فقيض القدر لتتبيرهم وتدميرهم أنهم حضروا تلك العملة، وكانوا تسعة عشر نفرا.. فدخل سم التطعيم في عروقهم صهر أكبادهم، وأذاب فؤادهم، وأترعت من الموت كأسُهم، فأصبحوا في دارهم جاثمين"[54] ويقول عن التطعيم أيضا: "ولكن أكثر الناس ليسوا له بمطمئنين، بما رأوا من موت تسعة عشر وأناسا آخرين"[55]
هذا ما ترويه المصادر الأحمدية إلا أن رواية "دافيد أرنولد"، مؤرخ تاريخ المرض في الهند البريطانية تختلف عن هذه الرواية قليلا، حيث يروي تلك الحادثة بقوله "وكانت هناك شائعات بان "أطباء الطاعون" إنما هم في الحقيقة يسممون الناس، حيث حدث في 30 أكتوبر 1902م، في قرية (ملكووال) أن أصيب بالتيتانوس تسعة وعشرون ممن طعموا، ثم ماتوا، ولا ريب أن حادثة التيتانوس هذه كانت محرجة إلى حد كبير، ليس فحسب لحكومة البنجاب بل وأيضا لحكومة الهند"[56]

إذن من هذه التصريحات يتبين لنا أنه كان يموت كثير من الناس بسبب التطعيم؛ لأنه على ما يبدو أن العلماء الذين اكتشفوا التطعيم كانوا يريدون معرفة مدى نجاعته في القضاء على الطاعون قبل أن يتم اعتماده رسميا، وهذا ما حدث بالفعل حيث ذكر الميرزا أسماء كثير من الأشخاص ماتوا بسبب التطعيم. وكذلك نشر (ج. بينبرج) كبير الأطباء في بومباي "أن كفاءة الطعم الواقي لم تثبت بعد، وأكد أن الحساء الذي يتم زرع فاكسين الطاعون فيه كان مصدره من لحم البقر أو الخنازير"[57]

أما الراويات التي تقول بأن وباء الطاعون كان يصيب غير الأحمديين ولا يصيب الأحمديين، فلا نستطيع التثبت منها من خلال مصادر محايدة مع الأسف الشديد، إلا أن السيد زين العابدين ولي الله، وهو أحمدي، يذكر أنه "مات رجل من الأحمديين كان يسكن في حارة المجوس وكان قد أُمر بترك المكان ولكن لم يمهله الأجل فكان طعمة للطاعون"[58]

كذلك يذكر الميرزا نفسه في مكتوبات أحمدية: "..ودخل الطاعون حتى وفي بيتنا، فابتليت "غوثان" فأخرجناها من البيت كما أخرجنا الأستاذ محمد دين، لأنه أيضا مرض.. واليوم ابتليت امرأة أخرى جاءت من الدلهي وكانت نازلة عندنا"[59]
ومن المعلوم أنه الصعب التثبت من معتقد الميت، أو حتى الاهتمام بما يدين به أثناء انتشار موجة الذعر واجتياح أمثال تلك الأوبئة الفتاكة التي تفتك بالناس أكثر مما تفتك بهم القنابل والحروب..

ومع الأسف الشديد ومع هذا الاهتمام الكبير بالطاعون في كتابات الميرزا وأنصاره من بعده، فإن خصوم الأحمديين صمتوا عن مناقشة وباء الطاعون كمناقشتهم للأدلة الأخرى، فلم نجد لهذا الوباء أي اهتمام يذكر في كتبهم ودراستهم عند مناقشتهم دعوى الميرزا، فكان هذا الصمت بمثابة إقرار اتخذه الأحمديون كدليل لهم على صدق دعوة الميرزا..

وبدلا من ذلك تركز خصوم القاديانيين في مناقشة سبب موت الميرزا حيث ذكرت كل المراجع أنه مات بالكوليرا استنادا لشهادة من حضر موت الميرزا من القاديانيين المقربين، حيث ذكر صهره "مير ناصر نواب" ما حدث في كتابه "حياة ناصر": " في الليلة التي شعر فيها حضرته بالمرض كنت قد تركت مكاني وذهبت إلى الفراش للنوم. وتم إيقاظي عندما أحس هو بألم حاد جداً. وعندما وصلت إلى حضرته ورأيت حالته خاطبني قائلاً: "سيد مير، أنا أصبت بوباء الكوليرا"، وبعدما قال هذا لا أعتقد أنه نطق بأية كلمة مفهومة، وظلت هذه حاله حتى الساعة العاشرة صباحاً من اليوم التالي حيث مات"[60]

وكذلك ذكر بشير الدين محمود نجل الميرزا ما حدث في كتابه سيرة المهدي: "إن حضرة المسيح الموعود كان في حالة جيدة تماماً بتاريخ 25-5-1908م، في تلك الليلة وبعد صلاة العشاء رجعت إلى البيت فوجدته يجلس على السرير مع الوالدة الموقرة ويتناول معها وجبة من الطعام.. وفي الجزء الأخير من تلك الليلة قريباً من الصبح تم إيقاظي، أو ربما أكون قد استيقظت بنفسي من مشي الناس حولي ومن كلامهم. بعدها شاهدت المسيح الموعود عليه السلام، وكان مريضاً جداً ويعاني من الإسهال. وكانت حالته غير مستقرة وكان الأطباء والناس من حوله مشغولين بعدة أشياء في كل النواحي. لكن حالته ظلت حرجة واستمرت كذلك حتى طلوع الصباح. وعندما طلع الضوء سأل حضرة المسيح الموعود إن كان وقت الصلاة قد حان، ثم قام بالتيمم وهو في فراشه عن طريق الضرب بيديه، ثم بدأ بالصلاة وهو ممدد في سريره لكنه ما لبث أن أصيب بنوبة إغماء فلم يتمكن من متابعة الصلاة. وبعد فترة سأل مرة أخرى إن كانت صلاة الصبح قد حانت، فأجابوه بأنها قد حانت فشرع بالصلاة مرة أخرى، لكنني لا أذكر إن كان قد استطاع أن يكملها أم لا. في هذه الأثناء كان في حالة كرب شديد وعدم راحة. و في الساعة الثامنة أو الثامنة والنصف صباحاً سأله الطبيب أن يحدد الألم الذي يعاني منه لكنه لم يستطع أن يجيبه، لذلك تم إعطاءه قلماً وورقة فحاول أن يكتب شيئاً وبالكاد استطاع أن يكتب كلمتين أو أربع كلمات ثم ما لبث أن بدأ القلم ينزلق على الورقة بسبب ضعفه الشديد. ثم تمدد مرة أخرى على السرير. و في الساعة التاسعة صباحاً أصبحت حالة حضرته أكثر سوءاً و انتابته حالة من الغرغرة، و لم يكن للغرغرة صوت و لكن كل نفس من أنفاسه كان ينحبس لفترة ثم يخرج.. و في هذا الوقت كان الدكتور محمد حسين شاه اللاهوري قد أعطاه جرعة من الدواء، وهي عبارة عن رذاذ من الدواء على صدره قرب الحلمة لأن ذلك الجزء من بدنه كان منتفخاً قليلاً، لكن مع ذلك لم نلمس أي تحسن. ثم ما لبثت الغرغرة أن استمرت و صارت فترات انقطاع النفس أطول إلى أن أخذ في النهاية نفساً طويلاً وبعدها انتقلت روحه إلى الرفيق الأعلى"[61]

فهنا دليل قوي باعتراف الميرزا نفسه أنه أصيب بالكوليرا، لأن هذه الأعراض هي نفس أعراض الكوليرا، والأهم من ذلك ليست أعراض الكوليرا، فربما تكون هذه الأعراض تتشابه مع أعراض الدوسنتاريا أو ربما ما أصيب به دوسنتاريا وليست كوليرا.. لكن الأهم من هذا كله هو قول الميرزا نفسه أنه أصيب بالهيضة الوبائية أو الكوليرا، ولم تمهله هذه الإصابة سوي ليلة ومات في صباح اليوم التالي.

وربما يتم التسامح مع هذه الإصابة أيضا حيث أن هذه الأمراض تصيب الجميع دون استثناء سواء من المؤمنين وغير المؤمنين، ولا ينجو منها احد، وليست الإصابة بالكوليرا دليلا قويا يبين كذب الميرزا أو ادعائه.. إنما الأهم من ذلك كله هو دعاء الميرزا على نفسه الذي أعلنه في الجرائد أنه إن كان كاذبا أن يصاب بالكوليرا ويموت في اقرب وقت.. وهذا الأمر لا يوجد له تبرير وكل تبرير يقال لا ريب سوف يكون ضعيفا ولا ينهض أمام قوته أي دليل!
وهذا ما سنناقشه بتفصيل أكثر في الجزء الثاني عند كلامنا عن المباهلة التي دارت بين الميرزا غلام احمد وثناء الله الأمرتسري..



#نافذ_الشاعر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في بلاد الحرمين (4)
- في بلاد الحرمين (3)
- مفهوم النسخ في القرآن
- في بلاد الحرمين (2)
- في بلاد الحرمين (1)
- خلق القرآن
- شقراء لرجل أحدب (نقد)
- مفهوم ليلة القدر
- رواية ستائر العتمة (نقد)
- كيف نشأت القصة القصيرة
- انفجار (قصة قصيرة)
- إسقاط الشخصية على الآيات القرآنية
- فيلم (ما تيجي نرقص)
- مفهوم الشعر والسحر
- عصر الردة الطبية
- العمر الزمني والعمر البيولوجي
- قراءة في قصص الكاتبة حوا سكاس
- هل يترقى الإنسان روحيا مع الزمن؟
- في الأزهر
- ما كان خلف الطريق (نقد)


المزيد.....




- فيديو كلاب ضالة في مدرج مطار.. الجزائر أم العراق؟
- الناتو يقرر تزويد أوكرانيا بمزيد من أنظمة الدفاع الجوي
- طهران: لا أضرار عقب الهجوم الإسرائيلي
- آبل تسحب تطبيقات من متجرها الافتراضي بناء على طلب من السلطات ...
- RT ترصد الدمار الذي طال مستشفى الأمل
- نجم فرنسا يأفل في إفريقيا
- البيت الأبيض: توريدات الأسلحة لأوكرانيا ستستأنف فورا بعد مصا ...
- إشكال كبير بين لبنانيين وسوريين في بيروت والجيش اللبناني يتد ...
- تونس.. الزيارة السنوية لكنيس الغريبة في جربة ستكون محدودة بس ...
- مصر.. شقيقتان تحتالان على 1000 فتاة والمبالغ تصل إلى 300 ملي ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - نافذ الشاعر - ميرزا غلام أحمد (1)