في مفهوم التواضع

خالد الصلعي

الحوار المتمدن-العدد: 3932 - 2012 / 12 / 5 - 08:20
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

في مفهوم التواضع
______________
1_ مقاربة عامة
___________

التواضع شيمة من شيم الانسان المتحضر ، وهو قيمة عالية وراقية ، قليلون ، بل ونادرون من بحثوا في قيمة التواضع ووقد أجمع كل من تناولوا هذه الموضوعة بكونها خصلة لا يتحلى بها الا الكبار والعظماء . فنحن عند قراءتنا لموضوعة التواضع ومحاولة مقاربتها معرفيا لا نعثر الا على مفاهيم وتعريفات شائعة وعامة ، مثل التواضع من مكارم الأخلاق ، وهو ما يجعل التعريف عاما وملتبسا ، وقد يقرنونه بمن خصه الله سبحانه دون غيره بمكارم الأخلاق ونبلها ، أو بصحابته الكرام ، مما يجعلنا نتوه في فراغات معيشية تعبر عنها سلوكاتنا اليومية. وهو ما أقحم العالم العربي خاصة في خرائط مفهومية معقدة وهشة ، وجعلنا نتوه في شأن مرددي ما تواتر عن الرسول وما جاء به القرآن الكريم ، الى درجة أن حياتنا دخلت في طور من التشويه المعرفي يندى له جبين العلم والمعرفة . والسبب هو كوننا ما زلنا نتتلمذ بمنهج العنعنة ، أو عن طريق الترجمة ، ولم نعقد صلحا بعد مع الذات للبحث عن تعريفات تؤصلها عقولنا ، وتؤسسها بحوثنا ، وتنضدها معايشاتنا ، وتنقحها تجاربنا .
والتواضع سلوك عظيم ونهج مخصب وثري ، انه المؤشر الواضح على نضج الذات الانسانية ،واستيعائها لقدراتها وقدرات الآخر ، وهو أيضا علامة على رجاحة العقل وفسحةالنفس وقوة الروح . اذ لا يتواضع الا الكبار العظام وقد استطاع الشاعر العربي القديم أن يجمل لنا احدى أهم خصائص ومميزات التواضع في بيت راق وعظيم :
ملأى السنابل تنحني بتواضع ......والفارغات رؤوسهن شوامخ
وهو تصوير فني راق باستعارة مكنية بديعة ،وبلغة شعرية راقية في بساطتها ، لكنها تجمل مفهوم التواضع بمحموله الثقيل ، وبثمره الوافر ، فوجه الشبه هنا بين الانسان المتواضع والسنبلة المثقلة بحبات القمح ، هو الوفرة والخصوبة . كما أن حكمة لقمان عالجت موضوعة التواضع من زاوية أخرى حين يقول : يابني تواضع للحق تكن أعقل الناس ،والحق هنا في مفهومه الشامل وليس في احالته الحصرية ، فالحق هنا ليس هو الواحد الأحد ، بقدر ما يحيل على الفعل والقول والوجود ، لأن أعقل الناس هنا تقيد المعنى وتفتحه .
بينما نعثر عند الامام الشافعي على مقاربة أخرى للتواضع اذ يقول : لا ترفع سعرك فيردك الله إلى قيمتك .ألم تر أن من طأطأ رأسه للسقف أظله وأكنه , وأن من تمادى برأسه شجه السقف .
وهو تمثيل بليغ لاحدى أهم خصائص التواضع ، حيث يجعل صاحبه دائما سالما معافى ، لأنه يختزل في ذاته جُنة الوقاية ووشاح السلامة ،دون أن يضطر المتواضع الى تشريح مفهوم التواضع وتحليله والوقوف على جميع ايجابياته التي يستحيل حصرها .
وفي قولة منسوبة لعروة بن الورد يقول فيها :
التواضع أحد مصائد الشرف، وكل نعمة محسود عليها إلا التواضع.
وهنا نلمح هذا البعد الذكي الذي استطاع به هذا الشاعر الجاهلي أن يستخرجه من سلوك التواضع ما دام أن نفس الانسان معجونة بالكبر كما قال أحدهم ,
ونحن اذا ما تمادينا في تعقبنا لما قيل في مفهوم وموضوعة التواضع لن نخلص منه ، فليس هناك مفهوم_حسب معلوماتي المتواضعة _ ينفتح على ما يسمح به مفهوم التواضع من مقاربات ومعالجات ، لأنه من منظورنا مفهوم جوهري لا يتعرفه ويتقربه الا من بلغ درجات عليا من الحكمة والتبصر والمعرفة بحقائق الكون والانسان والمجتمع والحضارة ,
وأول المبادئ التي نستخلصها مما سبق ان التواضع قيمة انسانية عليا لا تترسخ الا في الأرواح السامية ، فالتواضع شأن روحي ولا علاقة له بما هو مادي ، وهو تحليق أرضي بأجنحة خفية غير ظاهرة ، انه شهوة الروح للأعالي وهي تعايش السفلي وتتعايش معه ، انه بعبارة أدق هناءة الروح في جسد استقر على أس متين لا تزحزحه رياح العوارض الأرضية التافهة .
التواضع هو تجذر الانسانية بكل معانيها الراقية ، ومن مبدأ التجذر هذا ينطلق المتواضع عبر سلوكاته التي تتجسد في مستوايات عديدة وتنوعة ،كتلك التي مرت بنا سابقا .
وسوف نجد فيما سيأتي من بحث عجائب التواضع ، ونوعية المتواضعين .

#خالد_الصلعي (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل