الحكمة الإلهية داء العقل العربي

عبد المجيد إسماعيل الشهاوي

الحوار المتمدن-العدد: 3887 - 2012 / 10 / 21 - 04:58
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

منذ قديم الزمان يظن العقل العربي أن الحكمة من السماء وليست في الأرض، ما يجعله طوال آلاف السنين شاخصاً ببصره جهة عالم الغيب طالباً العلم هناك، متغافلاً عن النظر في ذاته أو دراسة ما تحت قدميه؛ بينما لو أنه قد حاول أن يعلم ذاته ويدرس ما حوله لتغير يقيناً مسار ومحتوى التاريخ العربي، ولما وصل العقل العربي هذا المستوى العالي من الجمود والركود والرجعية والتشبث بالماضي والتغني بأمجاد قدمائه مقارنة بغيره من العقول حول العالم، التي يعيش عالة على ثمار ومنتجات بحوثها وعلومها. يظن العقل العربي مخطئاً أن الحكمة موجودة جاهزة كاملة منذ الأزل، من صنع وفي علم وحفظ آلهة تعددت أسمائها وصفاتها. من ثم تصبح الوظيفة والغاية الأمثل وربما الوحيدة للإنسان في الحياة على وجه الأرض هي السعي بحثاً وراء هذه الحكمة الإلهية، المحفوظة في نص من نص مقدس، وفي حديث عن حديث عن حديث صحيح ومتفق ومجمع عليه، وفي تأويل من تأويل، وتفسير من تفسير لذات النصوص الأزلية الخالدة المحتوية المعرفة الكاملة في دائرة متصلة تنتهي بالباحث إلى حيثما بدأ، من دون أن تنتج أي معرفة جديدة على الإطلاق.

معجزة إلهية تكشف عن بعض الحكمة والعلم والمعرفة لرسول أو نبي أو ولي من أولياء الإله الصالحين، لتشخص نحوه قلوب وعيون وعقول العرب في مساعي دءوب لاقتباس قبس من نور الحكمة الإلهية عبر هذا الوسيط البشري المصطفى. مثل هذه النظرة الغيبية الاتكالية للحكمة والمعرفة والعلم أصابت العقل العربي منذ القدم بداء البلادة والكسل واعتاد على أن لا يتعب نفسه في جمع وخلق وإنشاء وتطبيق ونشر المعرفة طبقة فوق الأخرى في بناء لا ينتهي، ببساطة لأنه مؤمن بسذاجة مضحكة أن العلم محفوظ كاملاً منذ الأزل في نصوص إلهية لا تزيد ولا تنقص معانيها، ولا حتى حروفها، بمرور الأزمان وتغير الأماكن. على أساس هذا الاعتقاد الأسطوري الأبله في أصل وطبيعة العملية المعرفية، كلما صادف العقل العربي مشكلة كبيرة أو صغيرة لا يحاول أن يتعب نفسه في دراستها من جوانبها المختلفة كما هي موجودة بالفعل في الواقع ويحاول أن يبحث لها عن حلول جديدة ومبتكرة؛ لكنه يكتفي بسلبية مقيتة بالنكوص إلى الماضي والتفتيش في نصوص قديمة، فيما بين السطور وفي الآيات والأحاديث، للاهتداء إلى حل قديم قد أكل عليه الدهر وشرب حتى بال.

على سبيل المثال، لا يزال جزء كبير ومؤثر من العقل العربي يؤمن بكون الحل الأمثل لردع جريمة السرقة اليوم كما من آلاف السنين الماضية هو قطع يد السارق. إذا سألته كيف توصلت إلى ذلك، سوف يسارع إلى الاستشهاد بنص من هنا وآخر من هناك، وحديث من هنا وآخر من هناك، وفتوى من هنا وأخرى من هناك وواقعة من هنا وأخرى من هناك، تثبت وتبرهن جميعها أن هذا كان نفس العقاب المتبع لردع هذه الجريمة في تلك الأزمان والأماكن البعيدة. وهذا البرهان، من وجهة نظره، كافي لوحده وفي حد ذاته لإثبات أن قطع اليد هو فعلاً الحل الأمثل، من دون حتى النظر في الجريمة نفسها أو في أثر مثل هذه العقوبة على الجاني والمجتمع الذي يعيش فيه. هي نفس طريقة الكهنة والفقهاء ورجال الدين لبلوغ المعرفة طوال آلاف السنين الماضية، عبر التفتيش عنها بين سطور النصوص المقدسة من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النظر تحت أقدامهم في طبيعة المشكلة نفسها؛ ما هي أسبابها ونتائجها، وهل توجد طرق أخرى أكثر فعالية في الوقاية منها مقارنة بما كان شائعاً في عصور سابقة؟ هل من الأنفع أن تجري دراسة وتجربة مقارنة بين نتائج تلك العقوبة القديمة وبين نتائج عقوبات أخرى معاصرة مطبقة في أماكن أخرى أو مبتكرة لم تختبر بعد ثم في ضوء النتائج تتحدد العقوبة الأفضل؟ دائماً العائق الأكبر أمام أن يؤمن العقل العربي بنسبية وبشرية الحكمة والمعرفة والعلوم وضرورة المحاولة والتجربة والخطأ كأدوات ومنهجية لإنشاء ومراكمة وتطوير العلم والمعرفة هو يقينه الكاذب أن المعرفة موجودة كاملة بالفعل في نصوص محفوظة، وما عليه إلا أن يحسن قراءة وتفسير وتأويل تلك النصوص ليحصل على ما يريد.

ثمة عقلان عربيان مصريان يجسدان تلك العقلية النصية الغيبية وساعدا ولا يزالان مع آخرين في ترسيخها أكثر، الطيب الفيلسوف مصطفى محمود (1921- 2009) وصاحب الدكتوراه في علوم الأرض زغلول النجار (1933- ....). يتضح من كل كتابات وأحاديث هذين المفكرين العربيين أن الحكمة والعلوم، حتى الحديثة والتي لا تزال لم تكتشف بعد، موجودة منذ الأزل في كتاب إلهي محفوظ، وكل الاكتشافات قديماً وحديثاً ومستقبلاً هي مجرد تأكيد وتدليل لوجود وصواب وأزلية الحكمة الإلهية. في قول آخر، الإنسان لم، ولا ولن، يبتكر أو يكتشف أو يخترع شيء جديد على الإطلاق، ببساطة لأن كل شيء موجود كامل بالفعل منذ الأزل. هذه هي أيضاً كارثة معرفية أزلية لا يزال العقل العربي لا يعرف، ولا يريد أن يعرف، طريق الخروج منها إلى عالم الحكمة والعلوم النسبية البشرية التجريبية.

#عبد_المجيد_إسماعيل_الشهاوي (هاشتاغ)      

---

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل