أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - من ذا يمكنه أن يعدَّ الحنين؟














المزيد.....

من ذا يمكنه أن يعدَّ الحنين؟


خالد جمعة
شاعر ـ كاتب للأطفال

(Khaled Juma)


الحوار المتمدن-العدد: 3656 - 2012 / 3 / 3 - 23:09
المحور: الادب والفن
    


يومها، كنتُ في الثلاثين، للمرة الأولى، أرى الغيمَ تحتي لا فوقي، والطائرةُ تخمشُ الهواءَ قطعةً قطعةً، وتبدو كأنّها وحشٌ بطيء لا يسير، الغيمُ متشابهٌ وأنا منفعِلٌ كطفلٍ يذهبُ إلى الغابةِ التي سمعَ عنها في الحكايات، هذه أوروبا، أمستردام، وستندورب، أوترخت، روتردام، ماسترخت، خاودا [بلدة تنتج الجبن ويسميها أهل غزة جودة]، دان هاخ [لاهاي] آخن، كولون، هامبورغ، يا الله، كل هذا الجمال يختبئ في محفظة العالم، ونحن في غزة نرى البحر مزركشاً بالجنودِ وألوانِهِم الغامقة، كل شيء هنا سهل وجميل، وفي غزة الرّملةُ تأخذُ إذناً كي تتحركَ مع الريح، والموجُ يستأذن ليعلو، في غزة كل شيء بإذن، أما هنا، فكل شيء سهل وكل شيء جميل.

بعد أسبوع، فقدت المباني دهشتها، والأنهار كذلك، وفقدتُ دهشتي نكايةً بها، وصارت الأشجار مجردَ أشجارٍ، وشاهدتُ ما يكفي من المتاحفِ لأقارنها بصور الصور التي رأيتها من قبل، وأخذت أوروبا تذهبُ إلى العادي في عينيَّ، وذهَبَتْ مضيفتي إلى مقابلة عمل فبقيت وحدي يوماً كاملاً، مشيتُ إلى أن لم تعد بقدميّ طاقةٌ على خطوة واحدة أخرى، فجلستُ على مقهى يقع مثل كل مقاهي أمستردام على فرع نهرٍ جوار جسر صغير، وبدأت غزة تهطل على الهواء كفيلم سينما ثلاثي الأبعاد.

شجرة الكينا التي حفظتُها غيباً قبل أن يقصّوها من الحكاية، حضرتْ بهيةً خضراء، ومعبّأةً بالذكرياتِ حدَّ التخمةِ، حضرَ أبي وهو يزرعُ الحبقَ في مترٍ مربّعٍ أمامَ البيت، أمي وهي تصنعُ المفتولَ لأن ابن عمي قادم من عمان، طقوسُ زواج إحدى أخواتي، المخيّمُ بما عليه وما عليه، شارعُ [الهدد]، كما كنا نسميه، بيتنا الذي أزالتهُ إسرائيلُ من المكان ولم تنجح في محاولة إزالته من الذاكرة، أصدقائي الجميليون، الموتى والأحياء، كلُّهم حضروا في سنتمترٍ مربَّعٍ واحدٍ من الهواء الْمُنَقَّى بتقنيّةٍ عالية، وأحسستُ بالحنين، هذا الحنينُ الذي يأكلُ قلبَنا دون أن نعرفَ لماذا يحدث، ومن أين يأتي، وكيف يرفعُ حرارتنا، الحنين ابن كلبٍ لئيم، يعوي فينا، يعوي علينا، فنقلِّدُهُ ونعوي، لكنّ عواءنا لا يشبه عواءهُ، فهوَ سيّدٌ ونحنُ نأتمرُ بما يرى، وقتما يرى.

ذهبتُ إلى مكانٍ لبيع الشموع، كانت المرة الأولى في حياتي التي أرى مكاناً يبيع شموعاً وحدها، اشتريت كل ما تمكنت من حمله من الشموع، الشموع فكرةٌ ماكرة، ففي كل البلاد، الشمع هو الشمع، قديماً وحديثاً، الشمع هو الشمع، لا يعرف الطبقات، ولا الثقافات، الشمع هو الشمع، وعندما لاحظ الضابط في مطار القاهرة كمية الشمع في حقيبتي المتواضعة، علَّقَ بالمصرية: إيه يا عم، إنت حتنوَّر غزة كلها؟ وفي الحقيقة، أن الشمع كان الشيء الوحيد الذي رأيته في هولندا لا يختلف عن شبيهه في غزة.

خطوتُ خطوةً واحدةً خارجَ المعبر في اتجاه رفح، وبكيت دمعةً واحدةً لا غير، نزلت رغماً عن كل مزاعمي، وكأنني غائب لألف سنة، رأيت كل شيء من جديد، تأملتُ امرأةً عجوزاً بثوبٍ فلسطيني قديم، كدتُ أعدّ الغرزات واحدةً واحدة، لولا أن نهاية كُمّ الثوبِ اختلطت بتطريزاتها مع عروقِ يدِ السيدة الفلسطينية بامتياز، فالتبس الأمر عليّ فأوقفت العد، فغزة لا تُعدُّ، يختلطُ فيها التطريزُ بالعروق، كما البحرُ لا يُعدُّ، لا شيء في غزة يمكنُ عدّه، كما الحنين، فمن ذا يمكنه أن يعدَّ الحنين؟

لم يكن عشق المدينةِ يوماً خياراً، أعرفُ أن االكثيرين [يظنون] أنهم يكرهونها، لا أحد يكره غزة عدا إسرائيل، نحن نكره ما يحدث في غزة، فلا أحد يحب الظلم وانقطاع الكهرباء والمحروقات، لا أحد يحب نظاماً تعليمياً جامداً ولا شوارع لا تعرف كيف تستقبل الشتاء، لا أحد يحب مستشفىً لا يمكنه احتواء مرضاه، لكن هذا ما يحدث في غزة، وليست غزة، غزة أبعد من مدينة، وأكثر علواً من فكرةِ مظلومٍ يقاومُ ظلماً، غزة أوسع من مساحتها بمليون سنةٍ من ضوء، غزة التي لا تعطي لعشاقها خياراً ثانياً، ما زالت أمام البحر، قلبها دافئ، حزنها هادئ، تكزُّ على أسنانها كما نكزُّ على أسناننا، وتنتظر.

الثالث من آذار 2012



#خالد_جمعة (هاشتاغ)       Khaled_Juma#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خضر عدنان، رجل مقابل دولة
- ما زلتُ على عتبةِ البيتِ
- رؤيا مجدليّة أو خيالاتها آخر الفجرِ قبل الصليب
- كان ياما كان، بلد جوات دكان
- [ريتّا] وزجاجةُ الفَرَحْ قصة للأطفال
- قال لي
- قطعةُ حلوى في آخرِ الحكايةِ
- خائفة من الحرب
- رَغَد في الغابة المجنونة قصة للأطفال
- تحتَ نافذةٍ مُغلقةْ
- إذا كان الشعب الفلسطيني مُختَرَعَاً... فمن أنا؟
- ليس هذه المرة قصة قصيرة
- قالت البنت الحزينة قصة قصيرة
- الثورات العربية، ماذا بعد رحيل الأنظمة؟
- حين يكونُ الفنُّ محرِّضاً فاعلاً
- رأيت ولم أكن هناك
- غزة، المكان الغلطْ في الزمان الغلط
- قُرُنْفُلةٌ بيضاءْ قصة قصيرة
- ما الحبُّ؟
- كلامُ الغريبْ... كلامٌ للغريب


المزيد.....




- المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب ...
- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد جمعة - من ذا يمكنه أن يعدَّ الحنين؟