أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - رجل تحت الأنقاض















المزيد.....


رجل تحت الأنقاض


رياض خليل

الحوار المتمدن-العدد: 3484 - 2011 / 9 / 12 - 18:05
المحور: الادب والفن
    


رجل تحت الأنقاض
قصة قصيرة : من مجموعة : القرش والأسماك ، الصادرة عن دار الحوار باللاذقية عام 1995 ، القصة السابعة
شعرت برأسي كالطبل ، وبثقل جسدي كالجبل ، كان الألم ينخر عظامي ومفاصلي ، ينبض بقسوة في أعضائي ، شيء ما يضغط بشدة فوق صدري، يكاد يخنقني . أتنفس بصعوبة ، كأن الهواء الذي يدخل رئتي غير كاف . تساءلت: من أين لي كل هذا؟ ماذا حصل لي؟ .
فتحت عيني ، كان الظلام قاسيا كالألم الذي يجثم في جسدي ، " أين أنا؟ " حاولت أن أتحرك . لسعني الألم ، دب الخوف في قلبي وشراييني ، ممزوجا بالدهشة والذهول . تسلطت علي أفكار وظنون مرعبة . حاولت دحضها .. طردها . تحركت مرة ثانية ، غالبت ألمي ، رحت أسعى لتعديل وضعيتي ، فأتمكن من الجلوس ، اصطدم جسدي بكتل وأشياء صلبة . تلمستها . كانت أصابعي متيبسة , وكانت الأشياء صلبة .. باردة .. رطبة ، تحسستها مرارا ، وأدركت أنها من حجر أو إسمنت أو ماشابه .
كانت بصيرتي أقوى من الظلام المستبد . بصيرتي أشعة ماتحت أو مافوق الحمراء ، لاأدري أيهما الأصح ، التي تذيب الظلام ، وركام العتمة عن الأشياء . بصيرتي أو حدسي كضوء كشاف ، أو كامير سحرية ، تعرض علي الاحتمالات المختلفة ، إنها مجهزة بكمبيوتر متطور جدا ، يحسب .. يحلل .. يستنتج ... و... يقرر .
حاولت أن أنهض . اصطدم رأسي بالأشياء الصلبة المشبعة بالعتمة . حركت جسمي لأتخذ وضعية جلوس أكثر راحة ,كان رأسي يضج بضربات مشوشة ، والألم يتمدد في خلايا جسمي المنهك ، والعتمة تغرق عيني بسواد يتراكم ، ويتكثف ، والخوف يدوي في دمي وأعصابي . تأكدت بعد تأمل أنني لست داخل تابوت ، لأن ملمس الخشب غير ملمس الحجر . وتساءلت:هل أنا في القبر؟ عصف الهلع في داخلي .. حاملا أسئلة قاتمة : متى قضيت ؟ كيف فارقت ؟ هل أنا ميت؟ .
تذكرت حكايات كانت تتردد عن أناس إغمي عليهم ، وتوقفت نبضات قلوبهم ، وتنفسهم لثوان لحظة فحصهم ، واعتقدوا خطأ إنهم ماتوا ، ووضعوا في توابيت ، وشيعوا إلى القبر ، ثم دبت الحياة في أجسامهم ، وعادت إليهم الروح وهم داخل توابيتهم ، وتم إنقاذهم في اللحظة الأخيرة ، التي كانوا يفتحون فيها التابوت , أهي خرافات ؟ أوهام؟ إشاعات؟ هل حدث لي شيء من هذا القبيل؟ هل اعتقدوا خطأ أنني توفيت ، ونقلوا جثتي إلى هذا القبر المرعب ؟ هاأنذا حي يرزق ، أسمع نبضي ، خفقات قلبي ، أتحرك ، أتألم ، أفكر ، أتذكر ، إذا .. إذا أنا حي .. حيّ .. حيّّ ...
بكيت رغما عني ، دموعي حارقة ، تكوي وجنتي الباردتين ، لكنها بنفس الوقت توقد عزيمتي وتشبثي بالحياة ، وأملي الذي يكاد ينطفئ تحت رماد الألم واليأس والعتمة . تساءلت عن مصيري الطريف الذي لايصدق ؟ الحياة داخل القبر قصيرة مهما طالت ، إنها قصيرة للغاية إذا ماقيست بالحياة خارج القبر ، ربما ساعات .. وبأحسن الأحوال أيام ، ولتكن أسابيع حتى ، ثم أنتهي ، أودع الحياة الجميلة ، أفارقها جوعا وعطشا وخوفا وألما .... انتظارا ؟ المهم أنها النهاية المحتومة ، الموت البطيء .. التدريجي ، سأنطفئ كالشمعة أو الجمرة ، سأتلاشى كليا : أنا وأفكاري وعواطفي وذاكرتي وآلامي ، سأنقرض كحشرة ،وربما لن يعلم أحد بقصتي المأساوية الحزينة ، آه... ليت الآخرين .. أي أحد .. يسمعني ... لو بالمصادفة يكتشفني أحدهم وينقذني من محنتي ، لو يقرأ إنسان ما أفكاري وخواطري ، لو أستطيع أن أنقل أ و أخبر شخصا ما بمعاناتي الأخيرة ، ليتمكن من إعلام من يهمه الأمر ؟
الأمل يتضاءل مع مرور الوقت ، يتلاشى في خضم اليأس والقنوط المتعاصف في كل خلية من جسدي المنهار ، ومع ذلك لازلت أتمسل برمق من الأمل الأخير ، أتمنى الحياة لفترة أطول ، أن أستمر وأرى أحبائي .. أصدقائي لآخر مرة وأودعهم ، أن أكمل رسالتي في الحياة ، والتي قد لاتكتمل مهما عشت . كنت مقتنعا باستمرار أن لدي الكثير مما لم أفعله بعد ، ولم أجد الفرصة لفعله قط . مما علي قوله ، وتذكرت من هم بحاجة لوجودي وحياتي أكثر من حاجتي إليها شخصيا : الأولاد .. الزوجة .. الأقرباء.. الأصدقاء.. وآخرون .. وآخرون ....
أسئلة تئز في رأسي كالنحل ، قرارات تدب في ذهني كالنمل ، يجب أن أعيش .. أن أعود إلى الحياة ، وأخرج من هذا القبر اللعين الضيق ، ليت أحبائي يدركون مصيبتي ، يشكون بموتي ، يرفضونه ، يفتحون قبري ، ويتأكدوا من أني لم أمت ، أنني مازلت حيا أرزق ، قادرا على الحياة ، وأن خطأ ما جعلهم يظنون أنني مت . . فينقذوني ، وأخرج لأغوص في الضوء والفضاء وأشم الهواء الحر ، أطير ، أتنفس ملء رئتي ، أقف ، أعدو ، ألعب ، أصرخ ، لوأنهم يفعلون إذن لصعقوا من هول المفاجأة ، وتجمدت عيونهم وألسنتهم ، سيبكون من شدة الفرح والصدمة ، ويعانقونني بحنان جارف .
2
كانت رغبتي في الحياة تضغط علي ، تغذي الأمل ، وتمدني بنسغ القوة والتوهج ، تولد في جسدي طاقات خيالية خارقة ، كان عقلي كالآلة يعمل .. ويعمل بلا توقف . تساءلت: لماذا أتألم ؟ تحسست أعضائي ، رحت أجسها ، أدركت أن ثمة جروحا ودما متخثرا ، واستنتجت: إنه ليس ألم الموت أو الإغماء ، ولا حتى سكتة قلبية عابرة ، لماذا أتألم ؟ ومم؟ لابد أنه حدث شيء ما ! ربما صدمتني سيارة ، لا.. هذا مستبعد ، أو أنني سقطت من ارتفاع ما ! أو ضربني أحدهم على نافوخي ! تحريت ذاكرتي وتفحصتها قدر المستطاع ، قلبت أوراقها .. هوامشها ، لم أعثر على برهان أو أجوبة أو أدلة ، أو أسباب لكل افتراضاتي ، التي سرعان ماتبخرت من رأسي . ماسبب كل هذه الآلام في رأسي؟
قطع علي شريط خيالي وذاكرتي وقع أقدام ، كان الصوت ضعيفا جدا ، كأنه آت من بعيد ، أو من وراء جدران وحواجز لاحصر لها . أذناي كالرادار ، تلتقطان الذبذبات .. وترددات وقع الأقدام ، كنت أحس أنني قادر على سماع دبيب النمل ، كانت حواسي تتجمع وتتبأر باتجاه واحد ، اتجاه حاسة السمع ، وقع مكتوم لأقدام تقترب ، تكاد تكون فوق قبري ، أو ربما قريبا جدا منه . صرخت بكل ماأوتيت من قوة ، كان صراخي متواصلا ممطوطا كعواء الثعالب والذئاب ، وكان وقع الأقدام يغيب .. يتلاشى كذرة في أعماق بحر من الصمت القاتم . أحسست بدوار ، ثم بنعاس يثقل رأسي ، ووجدتني غارقا في نوم رخو ، كان نومي شفيفا .. متقطعا .. مكتظا بالكوابيس والرؤى المزعجة ، كلوحة تختلط فيها الخطوط والألوان والأشكال والصور المتنافرة ، كان نومي يشبه الزلزال الذي كنت ضحيته . هاأنذا أتذكر .. أكاد ألمس الحقيقة ، أنا لست ميتا ، بل حي ، طمرت تحت الأنقاض . لست داخل أي قبر ، بل داخل فجوة شكلتها الأنقاض زنزانة لي ، حظي كان أفضل من سواي ، ممن ماتوا نتيجة الانهيار وسقوط الأجسام عليهم مباشرة . لقد ساعدني القدر ونجوت بأعجوبة ، ولازلت حيا ، إذن ماذا علي فعله حتى أخرج من تحت ركام الأنقاض ، التي لاأعلم شيئا عن كميتها وحجمها ، أدركت بعد تأمل أن مكاني ليس بأفضل كثيرا من القبر الذي توهمت نفسي فيه ، وأيقنت أنه سواء بالنسبة لي لو كنت في قبر أو في الفجوة التي تشبه القبر أو الزنزانة أو الشرنقة ، لقد حكم علي بالموت داخل تلك الفجوة ، حكم على بالموت البطيء عذابا متدرجا ، ليتني كنت حبيسا في سجن عادي ، كنت سأحيا لفترة أطول ، أطول بكثير ، وكنت سأحصل على الماء والطعام والفراش ، ويزورني أحبائي الذين يفتقدونني ، وكنت سأفيد من وقتي : أعمل ، أقرأ ، أتواصل مع سواي من السجناء ، استقبل الزوار . آه .. ماأجملك أيها السجن العادي ! ماأرحبك ..! أنت الحرية .. الجنة .. الحياة .
تبأ لهذا القبر اللعين ، الذي صنعه الزلزال ، وصنع معه وبه قبري ، الذي هو أسوأ من قبور الموتى ، قبري يضم حيا ، حيا لايحسده الموتى على حياته التي تضمحل كما يضمحل الضياء بعد الغروب ، وستنطفئ كجمرة تحت الرماج المتراكم ، ماأقسى هذا المصير الأكثر سوادا من تلك العتمة ! التي تنغرس في عيني ولحمي ! ماأفظع أن تفقد الرجاء .. الأمل ..! ولو للحظات ..! أو لثوان معدودات ! الموت ذاته أهون من ذلك . أهون من انتظار الموت . أهون من هذا الهلع الذي تتفجر حممه في صدرك ، فيحرقك ببطئ ، يشويك ببطء .
جثم النعاس من جديد .. وأثقل رأسي . نمت . استيقظت مرارا ، وكنت كلما استيقظت .. أتأمل الزمن الهارب مني ، الزمن ، ذلك الكائن غير المرئي حتى في أشد اللحظات توهجا .. كيف أراه داخل عتمة القبر ، وقساوة الصمت المطبق ، وبرودة الأسمنت المسلح ، الذي يحاصرني بشراسة ووحشية . كم مضى علي هكذا؟ كم سيمضي ؟ لأول مرة أشعر بانعدام التوزيع الافتراضي الشائع للزمن : ماضي .. حاضر .. مستقبل ؟! هنا .. لاجدوى من هكذا تصنيف ، لشخص مثلي وفي مثل وضعي الاستثنائي ، شخص لاهو حي ، ولاهو ميت . الوقت .. التاريخ هنا مجرد كلمات فارغة لامعنى لها ، إنها لغة الأحياء الذين يتحركون بحرية ، وسط الضوء والهواء الحر والمكان والزمان اللامحدودين . مفاهيم لامعنى لها بالنسبة لكل الكائنات سوى البشر .. البشر الأحياء الأحرار وحسب ، مفاهيم عبثية في نهاية المطاف ؛ حتى لمن افترضوها ، لأنهم لايختلفون كثيرا عن الجمادات والنباتات وسائر الكائنات الحية وغير الحية . هاأنذا الآن أخرج من مفهوم الزمن .. لاأنتمي له ، لاالأن ولا لاحقا ، ربما لن أعود إلى الحياة والتاريخ والجغرافيا ، بل سأفنى وأتحول كأية حشرة ، سأتحول إلى نفاية ، إلى كومة عظام مهترئة .. بالية . أوه .. ليتني أستطيع أن أوصل أفكاري العبثية هذه للآخرين قبل أن أموت . "سارتر " مات ، شبع موتا ، ولكني أحسده ، لأنه حقق أمنيته في إيصال أفكاره على نطاق واسع . " سارتر" فيلسوف" ، أما أنا ، ولاسيما الآن ، أنا لست سوى بعوضة ، حشرة لايعرفها أحد ، وليس لها تاريخ .. ولاأثر ، لاأحد يدرك مايدور في ذهني الآن ، ماأكتشفه من حقائق ، ماأجربه من معاناة ، وما أعيشه من عبثية .
اختلطت أفكاري بالعتمة و الصمت والرطوبة والإسمنت المسلح . كانت أفكاري تخترقها ، تتوهج كنجوم فضية ، كشهب تومض وتنطفئ خلال لحظات . تجمعت أحاسيسي مرة أخرى لتصب في مجرى السمع ، كنت أتصيد أضعف الترددات الصوتية ، كانت تتوهج .. تلتمع داخل العتمة والصمت ، أذناي تلتقطانها ، هاهي تقترب .. تشتد .. تتوضح . نبضات ضوئية تشبه الترددات الصوتية بدأت تشع في عتمة رأسي ودماغي الكثيفة . أصغي بجميع حواسي ، أحلل الصوت ، أوشك أن أتعرف على ماهيته ، يكاد يكون مألوفا ، كان من النوع الذي يشبه تفتح الورد ، ورقص الضوء ،وارتعاش الفرح والحب والأمل ، الصوت مألوف ، إنه من النوع الذي أعشقه ، أهيم بسحره : مطر .. ! مطر ..! نعم ، إنه المطر ، يهطل ، ينهمر ، تنقض قطراته كالعصافير ، مطر! ثم .. يدوي ويهزم الرعد أيما هزيم ، صوته يخترق الأنقاض والألواح والحجارة وأعمدة الأسمنت المسلح المتراكمة فوقي .. بل حولي ، الركام .. الأنقاض .. كلها ترتجف من صوت الرعد المجلجل المهيب ، من موسيقاه الأسطورية الجبارة ، الرعد يخترقني صوته الكاسح ، صوته الذي يجتاح كل ذرة من لحمي ودمي وأعصابي .. آلامي وخوفي وعتمتي هربت كلها جزعا من ذلك الصوت ، الرعد يوقظ عزيمتي . لتستحيل النبضات الضوئية في رأسي إلى نجوم وأقمار .. لاتفتأ تتوهج ، تفتت العتمة والصمت والرطوبة في جسدي ومن حولي ، تدفئ قبري . هاهو وزني الثقيل كجبل يصبح أخف من الريشة . وتتملكني قوة خارقة ، فأتذكر " شمشوم" الجبار ، وكيف هدم الهيكل ، والمطر لايتوقف ، والبرق والرعد والريح العاصفة تعلن الحرب . المطر يشتد انهماره غزيرا عنيفا ، والرعد يزأر ، يبوح بإيقاعاته عن مكنونات قلبه العاشق ، كل شيء يوحي بأن القيامة حانت وبدأت ، أسمع صوت البوق : إنه إسرافيل ينفخ فيه إيذانا بالقيامة ، إنه الصور العظيم يعلن الميعاد ، يزلزل الأرض ومافيها وماعليها . المطر ، أعشق صوت المطر ، رقصته المائية ، أعشق أناشيد الرعد الهادرة ، ماأجمل هذه الطقوس الحافلة بالنشوة والحب والعطاء والفرح الخالص ! أتوحد بها .. بجمالها وسحرها ، أتفهم أسرارها ، وأدرك سداها ، ماأروع أن تستسلم لفتنتها وروعتها : برق .. رعد .. مطر .. ورياح جامحة .. مطر .. مطر.....
قطرات من الماء تلامس وجهي ، صدق المطر ، الماء يتسرب عبر ركام الأنقاض ، هل من تفسير آخر؟ قطرات الماء هي البرهان ، القطرات تنقر وجهي كعصافير برية جائعة ، تتتابع ، تتكاثر ، تبلل وجهي وبقية أنحاء جسدي .
حضرتني فكرة ، ربما اكتشفت مخرجا للنجاة .. للتخلص ، والخروج من تحت الأنقاض الثقيلة القاسية ، والمطر لايزال ينهمر ، والقطرات تتوالى .. تتكاثر .. تتسارع .. تتصل كالخيوط المائية ، لتشكل مساقط ، إذا ثمة ثقب .. بل ربما ثقوب ، ثقب واحد يكفي ، ليكن ضيقا كخرم الإبرة .. لايهم . لابد أن يتسع تدريجيا ، ولكن لماذا لاأساهم في توسعته ؟ لماذا لاأساعد الماء .. بل المطر في توسعة الثقب بكل طاقتي وقوتي وإمكانياتي ، فيتحول إلى نفق يفضي بي إلى الأرض المكشوفة ، تحت قبة السماء الزرقاء الصافية والرحبة ، في الفضاء اللامتناهي . تشبثت بفكرتي ، امتطيتها أملا .. حلما , قررت عبور الثقب ، رحت أعالجه بما املك من وسائل متاحة: أسناني .. أظافري .. نتف الأنقاض المتناثرة حولي " سأصنع من خرم الإبرة نفقا ، سأعبره ، وأحيا ، وأعود ، وأفاجئ الناس والأحباء بانبعاثي وميلادي الجديد ، وسأروي لهم قصة حياتي تحت الأنقاض . أنهم بالتأكيد الآن يفتقدونني ، يتحسرون على غيابي ، يذرفون الدموع ، كم سيفرحون حينما سأفاجئهم بخروجي حيا من تحت الأنقاض ، بعودتي من العالم الآخر .
رحت أحفر ، بعد أن تلمست مكان الثقب ، وعثرت عليه ، كانت أصابع كفي تبصر وتحدد وتعمل . تابعت محاولاتي ، والرعد يجلجل ، والمطر ينهمر مدرارا ، خيط الماء صار ثخينا ، لكزني العطش بعصاه ، تذكرت أهمية الماء للحياة والاستمرار ، بدأت أستجمع الماء من الخيط الساقط فوقي بكفي ، وشربت حتى ارتويت . أناخ التعب من جديد على تفاصيل جسدي : اللحم والعظم . وسرى النعاس في أوصالي كالمخدر ، سقطت فريسة لنوم عميق متصل .. كنت مطمئنا ، وأنا أبتسم ، لأنني أيقنت ببصيرتي التي تشبه الكاميرا المزودة بكمبيوتر متطور للغاية ، وب" فلاش" مبهر ، أيقنت أنني سوف أستيقظ على معطيات جديدة ، ومناخ مختلف ، وآمال ترفرف كالعصافير البرية .
أفقت ، شعرت بالنبضات الضوئية والنجوم والأقمار تعج في جسدي وقبري ، تبعث فيه نوعا آخر من الحياة والقوة والنشاط . فتحت عيني ، عانقهما شعاع ذهبي اللون ، تسلل من الثقب ، أخذت ذراته تلتمع ، تتلألأ ، تغمز ، تبتسم ، تتراقص ، تفكك جبال الظلام الثقيلة من حولي وداخل عيني . أخذت العصافير البرية ترفرف ، تزقزق في أعماقي . شعرت بزرقة السماء تسكنني . أدركت أن المطر قد توقف ، وأن الجو قد صفا وصحا وهدأ ، وأن العاصفة قد رحلت ، والرعد لم يعد يجلجل أو يزأر ، فيهز أسماع الإسمنت المسلح المتراكم فوقي وحولي . العاصفة رحلت بعد أن غيرت الكثير بالنسبة لي . أعادت لي ماأخذه الزلزال ، وطبعت على جبيني قبلة ، رحلت العاصفة بعد أن بعثتني ، وردت إلي الروح ، روح الأمل والحياة الجديدة خارج تلك الأنقاض المبعثرة والفوضوية .
أحسست بالشعاع كأنه طوفان من الضوء يغرق قبري وجسدي ، كان يعادل بالنسبة لي ملايين الشموس والنجوم والأقمار ، تذكرت خيط الماء ، وعلاقته بخيط الضوء الذي يحرق العتمة ، وتذكرت " شمشوم" الجبار مرة ثانية ، تذكرت قوته الخارقة ،وهدم الهيكل ، فانتفضت كجني أو مارد ، نهضت ، بدأت عملي مجددا ، مصمما على تدمير " قمقمي" السحري ، وأخذت أحفر ، أنكش ، أفتت الإسمنت المحيط بالثقب ، أنا أقوى من السحر والسحرة ، أقوى من " شمشوم" و" عنترة" و" هرقل" ، أقوى من قطرات الماء التي تفتت الصخر ، وتابعت أحفر جدران الإسمنت والعتمة والصمت واليأس ، واظبت ، راهنت على الزمن وتراكم القوة ، راهنت على المنطق الجدلي ، وتابعت بلا هوادة ، إلى أن انبثق شعاع ثان ... ثم ثالث ... فحزمة مركزة من الأشعة الضوئية المشعشعة اللامعة الناصعة ، المحملة بالدفء والحرارة .. وأنا أتابع كقطرات الماء التي تفتت الصخر ......
كنت أرتاح بين وقت وآخر ، وأتابع ، واتسع الثقب لمرور الحزم الضوئية البيضاء ، وأدركت معنى الزمن من جديد ، أستطيع الآن أن أحدده ، آمنت مجددا بالزمن ، كان ا لوقت مابين الصباح والضحى ، وأدركت الجدوى من الزمن ، وأهمية تصنيفه : ماضي ..حاضر..مستقبل .. تاريخ ، الزمن بمطلقيته ومحدوديته معا .
تناهت إلى سمعي أصوات متداخلة .. مختلطة .. أخذت تتسع كالثقب .. تتضخم كحزم الضوء البيضاء ، الأصوات تقترب ، أكاد أميزها ، إنها أصوات كائنات ومخلوقات حية ، بعضها بشري ، آدمي ، تشبه صوتي ، فرأيتني أصرخ ، أنادي تلقائيا ، بفعل الغريزة ، عسى أن يسمعني أحدهم فيغيثني ، يقدم لي المعونة ، يساعدني ، ينتشلني ، ينقذني ، ونسيت أني " شمشوم" ،ونسيت القوة الخارقة ا لتي تسكنني ، أحسست أن " شمشوم" وقوته موجودان خارجا ، لا داخل قبري . وتنامت جلبة الأصوات ، اقتربت ، وصرخت ، صرخت صراخا متواصلا ، وماإن توقفت حتى سمعت صراخ امرأة ، يبدو أنها جفلت من صراخي فصرخت هي الأخرى كردة فعل ، أو حسب نظرية :" بافلوف" فعل منعكس شرطي . ثم هدأت برهة ، واستدركت نفسها ،وتماسكت ، ثم نادت : من ؟ أين أنت؟ من الذي يصرخ؟ وأجيبها : أنا .. أنا هنا أتسمعينني ؟ ويبدو أنها كانت تلاحق الصوت: صوتي .. بحثا عن مكاني ، وتدور وتبحث وتفتش وتقترب من مصدر الصوت : صوتي المستغيث ، إلى أن اهتدت إليه أخيرا ، راحت تنظر باستغراب حولها وفوقها وتحتها ، وتسأل عن مكاني ، أجبتها : أنا هنا .. تحتك تماما ، وسألت وهي لاتراني : هل أنت عفريت؟ أجبتها : لا .. وسألت: هل أنت من الجن ؟ أم من الإنس؟ قلت: إنس .. إنس .. والله العظيم إنس .. النجدة .. النجدة .. أغيثوني .. أنقذوني .. ساعدوني ، وهتفت المرأة ببلاهة وعصبية : وماذا تفعل هنا ؟ ماذا تريد أيها المغفل؟ أجبتها بغضب ورجاء: أنا رجل تحت الأنقاض ياسيدتي ، وماأزال حيا يرزق ، ساعديني أرجوك ، وإلا فسأموت . ردت بقرف وغباء وفجور: أنت رجل تحت الأنقاض؟ وماذا أفعل بك ؟ أيها الشقي ! أنت كذاب .. غشاش .. قلت : صدقيني .. قالت: أريد رجلا فوق الأنقاض لاتحتها أيها " الأزعر" وكيف لك عين تتحرش بي ؟ وقبل أن أطلق من فمي وابلا من السباب والشتائم ، كانت سيارة فخمة قد أقلتها ، ومضت بها بعيدا ..
فكرت بكلامها المأفون ! وتذكرت كم كنت أمقت العيش فوق الأنقاض ، كما أمقت العيش تحتها الآن ، كنت أود أن أحيا دائما خارج الأنقاض : لاتحتها .. ولافوقها .
ومرت امرأة أخرى ، وتكرر المشهد ، ولكن هذه هددتني باستدعاء الشرطة الأخلاقية ، وضحكت وبكيت وضحكت وبكيت حتى كدت أطق وأنفجر .
ومرت نسوة .. ورجال ، تجاهلوني جميعا ، ووصفوني بالعته والجنون والوقاحة ، كانوا ينظرون إلي بازدراء وتحد ، شتموني ، هددوني ، نعتوني بإبليس ، وشمتوا بي : خرجك .. الله لايقيمك .. الخ .
تألمت وتألمت . كان حجم ألمي أكبر بكثير مما كنت أعانيه تحت الأنقاض ، مادفعني إلى التفكير في البقاء حيث أنا ، بالموت في تلك الحفرة المعزولة عن كل هؤلاء البؤساء ، بعيدا عن الحياة مع هؤلاء فوق أوتحت الأنقاض ، فكرت أن أواجه قدري وأخرج من العبث الأسود القاتل تماما .. لولا أن صياح صبية يلهون ويعبثون قد قطع علي يأسي .
كان الأطفال يهرجون ويمرجون .. يتصايحون ، فصرخت ملء حنجرتي وبطني مستغيثا مستنجدا ، كانت غريزة البقاء نقطة ضعفي ، تدفعني رغما عني للصراخ وطلب المعونة والإنقاذ ، كانت الغريزة تزيح كل مايمكن أن يقف في وجهها من أفكار . أحسست أن الصبية قد سمعوا صوت صراخي ، وهرعوا ملهوفين يبحثون عن مصدر الصراخ : وعاودت الصراخ كي يهتدوا لمكاني ، ما مكنهم من تحديد مكاني بالفعل ، كانوا متحمسين والفضول والبراءة تحركهم لعمل مابوسعهم من أجلي ، بعضهم بكى تعاطفا ، وانهمك ا لبعض الآخر بالبحث في كيفية انتشالي من تحت وبين الأنقاض . كانوا يسمعون صوتي ، يفهمون مأساتي ولغتي ، أحسست بتواصل عميق معهم ، تواصل ينطلق من الفطرة ا لإنسانية ، وربما القطيعية الطبيعية في مثل هكذا حال ، لم يتمكن كل منا من رؤية الآخر ، ومع ذلك كانوا قد اهتدوا للثقب من الأعلى ، سارعوا إلى إحضار ماتيسر من أدوات مرمية في المساحة المحيطة ، عثروا على أشياء .. ربما قطع أو أسياخ حديدية ، راحوا يحفرون ويحفرون بحذر وحيطة ، كي لايؤذوني ، كأنهم رجال ناضجون مسؤولون أخلاقيون . وكان الثقب يتسع ويتسع ، إلى أن تحول إلى فتحة ، ثم إلى نفق ضيق ، يتسع لمرور شخص بحجمي عبره ، نبشوا ، أزاحو العوائق والعوالق ، وكبرت الفتحة /النفق .. اتسعت ، واتسع فرحي ، ونبت لي جناحان قويان ، وامتلأت حواسي بمناقير العصافير البرية وهي تطلق زقزقاتها وتغريدها سيمفونية للحياة البكر، غمرتني بالغبطة ، وتمنيت لو كنت طفلا ، وتمنيت أن أكون عبدا للعصافير والأجنحة الملونة والزقزقات الموسيقية التي شكلت فيما بينها مهرجانا .. ولوحات لايحس بجمالها ونكهتها غير الذين عانوا مثلي . إنه عيد ميلادي الجديد ، الذي أنساني كل شيء ، إلا اللحظة التي اتسعت للزمن والكون والحياة .



#رياض_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إنها سيدة محترمة : قصة قصيرة
- كوني فأكون: شعر
- سوسن وعيد الأم
- القرش والأسماك
- ابتسامات دعد
- المفترسان
- الولادة الأخيرة : قصة قصيرة
- موجة عابرة في سطح صقيل
- ولكن غدا لم يأت
- جريمة في ملف النمرود: قصة قصيرة
- الولادة: قصة قصيرة
- ستعودين:قصيدة
- المتقمصة: قصة قصيرة من مجموعة الريح تقرع الباب 1976
- يحدث هذا حبا : قصة قصيرة
- عيّودا: قصة قصيرة
- ماوراء هموم امرؤ القيس
- لماذا رجعت إلى الحزن
- ثم أعيدك حلما
- الشراع الأسود: قصة قصيرة
- قصيدة - سورة القلق


المزيد.....




- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني
- وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على ...
- البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل ...
- الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - رجل تحت الأنقاض