أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - الولادة الأخيرة : قصة قصيرة















المزيد.....

الولادة الأخيرة : قصة قصيرة


رياض خليل

الحوار المتمدن-العدد: 3476 - 2011 / 9 / 3 - 00:20
المحور: الادب والفن
    


قصة قصيرة من مجموعة " الريح تقرع الباب" الصادرة عام 1976 بدمشق ، القصة التاسعة والأخيرة في المجموعة .
العراء يبتلع الخيمة المنكفئة على بؤسها تحت البرد والمطر .
كان صامتا ، يحدق في الرماد ، يفتش في الأرجاء الغائبة عن جبينه الضائع في وحول العجز والمرارة .
مرة أخرى وهو يغرق في بحر متأرجح بين الذاكرة والخيال ، عرف أن الطرق التي سلكها حتى الآن كانت مزورة . اعترضت تصوراته صرخة الطفل ، أجفلته ، سببت له إزعاجا عابرا ، إلا أنه ابتسم في الحال ، وامتلأت الخيمة بطيور الرضى الملونة ، وفوانيس الطمأنينة المضيئة ، كان طفله الذي رأى النور منذ أيام .. هو الوحيد الذي سلم من الموت .
كان يحب الأطفال ، ويحلم بدزينة منهم ، ويرى في هذا الأمر ضرورة وواجبا من أجل الحرب والكرامة .
استمر الطفل يصرخ ، والريح تصدر أنينا كوحش مجروح . هز جسد زوجته النائمة ، فهي تستطيع التفاهم مع طفله جيدا . استيقظت مرهقة الحركة . مرت لحظات قليلة ، تراجع خلالها الصراخ ، وساد الصمت الخيمة ، إلا من بعض التأوهات والأصوات المبهمة ، التي كان يطلقها الطفل بين فترة وأخرى .
أحس أنها تبكي وتشهق بمرارة ويأس . كاد يشاركها عفويا ، لكنه تذكر رجولته . كانت أعماقه هو الآخر تفلت غمغمات لم يستطع ترجمتها ، أو الربط بينها . إلا أنه كان يرتجف إزاء أصدائها الجنائزية ، التي تشبه إلى حد كبير ماكان يكتنفه من مشاعر وأحاسيس غائمة سوداوية في تلك الأيام التي كانت تسبق وقوع الحوادث الفاجعة . مد كفه الخشنة إلى وجه زوجته المبلل بالدمع .. اعترض مواسيا :
- حسبك .. مابه؟... ماذا هناك ؟
- إنني خائفة عليه
- ممّ؟ .. لاتتوهمي ياامرأة .. ودعي القلق جانبا
- يجب أن تجلب له الدواء باكرا
- حسنا .. أعدك .. نامي الآن
استقر الهدوء من جديد في بطن الخيمة . " غدا سأذهب إلى المدينة وأعود حاملا الدواء " .
تدفقت في رأسه طوابير من الصور ، لابد أن تتغير الفصول والأيام . سينادونه باسم ابنه . عندما تذكر أنه حلم من قبل بما يشبه ذلك .. ارتعش خوفا وقلقا . كانت أحلامه تحترق بغتة أمام ناظريه . وهاهي الآن نفس المشاعر الغائمة ، نفس الألوان تراوده .. قاسية الملامح ، تزكم أنفه بروائح الدم والجروح المتعفنة ، التي صبغت الليل والمطر والبرد ، حتى امتلأت الخيمة باللحم المحروق .
اختلج اليأس في صدره ، هل يستطيع أن يحلم بالحقل .. والبيت .. وشغب الأطفال؟ تقلب في فراشه ممزق الخواطر.. مشتت الحواس . عليه أن يستيقظ باكرا ، لكنه لايحس بالنعاس ، الأرق ينهكه ، يغمض جفنيه محاولا الهروب من أحلامه وكوابيسه الثقيلة ، وصورة شقيقه تلح على خياله .. وتتوهج في ذاكرته : " كان بطلا مشهودا له بالشجاعة والإقدام ، وكان ذكيا .. مثقفا أيضا " . أذكر حتى الآن جملته التي كثيرا ماكان يرددها : " الإعصار إرادة الحركة " و" السر أمام عينيك .. بل وفي داخلك " . كنت ألتقط تلك العبارات ، أحفظها ، وكثيرا ما تراودني وتحتل أذني وقلبي . لكن شقيقي مضى .. ولن يعود ، ولو تحدثت عنه الصحف والإذاعات كثيرا .. سأسمي طفلي باسمه إكراما لذكراه ومحبته التي لن تزول ، سأربي طفلي ليغدو مثله في يوم من الأيام .....
المطر والريح كانا قد تحولا إلى عاصفة ثلجية ، وكانت تباشير الفجر ، وبياض الثلج ، والريح الباردة ، تتسلل جميعها عبر الشقوق العتيقة إلى داخل الخيمة .
ماإن تخدر جفناه ،واستسلما لإغفاءة قصيرة ، حتى أيقظه صراخ الطفل المرعب ، إلا أنه لم يشطر هذه المرة لإيقاظ أمه التي راحت تهزه برفق ، وتضمه إلى صدرها الحنون ، فيما استسلمت حلمة ثديها بوداعة وحب لثغر الطفل الجائع .
كانت الشمس تتمرغ بأحضان الأفق المتورد ، راحت أصابع الأم تتحرش بوجه زوجها النائم ، فنهض ، قبلها ، وبعد برهة مضى مسرعا إلى المدينة .
في الطريق .. كان الثلج يغطي كل شيء .. والصباح صاف .. مغسول . الشمس تسطع بقسوة ، وتنعكس عن صفحة الثلج الناصعة . راح يرقب آثار خطواته في الثلج مبتهجا .. ردد : " إذا أثلجت .. أفرجت " .
بدأت المدينة تغرق في الضجة ، تتدحرج هاوية في حضيض العبث واللامبالاة . وجوه لاتحصى ، كائنات مختلفة . وعلى الرغم من الزحمة الخانقة ، كان يحس بالعزلة والغربة ، وعلى الرغم من الضجيج المتزايد ،كان يحس بالصمت المطبق .. الشامل .. دبت في أوصاله المشاعر الموحشة ، وهو يسمع في داخل تلك الضجة الخرساء .. يسمع صراخ طفله المدوي .. يخترق الزحمة والضجيج .. ويرتسم على صفحة الثلج البيضاء الناصعة . لم يعد يرى شيئا سوى طفله ، لم يعد يسمع سوى صرخته وسط المشهد المركب والمعقد . لم يسقط ، لأن شابا من أبناء المخيم ، كان قد تلقاه بين ذراعيه ، وحمله إلى محل صغير لبيع العصير . أفاق ببطء ، كانت كف الشاب القوية تقدم له كأسا من العصير ، تبادلا النظرات ، شرب العصير وهو جالس على كرسي داخل المحل ، شكره . كان الشاب ابن المخيم يرتدي ثيابا مموهة .
استعاد حيويته ، مضى إلى أقرب صيدلية لإحضار الدواء لابنه ، وكان يحلم .. يستذكر راحة زوجته الناعمة وهي تلامس وجنته القاسية ، وتذكر أنفاس الطفل المفعمة بنكهة الحليب تزكم أنفه . سارع خطواته .. شعر وكأن شيئا يدفعه من الخلف ، ويحثه على المضي نحو الهدف .
خرج من الصيدلية وبيده كيس الدواء ينظر إليه ، وكأنه يود أن يتأكد من وجوده وحصوله عليه ، عبر الشوارع بشغف .. لم يحس بشيء من حوله ، وكأن المدينة خالية إلا منه .. ومن أحلامة وذاكرته . أسرع عائدا ..
فوجئ لدى وصوله بهرج ومرج .. وامتلأت عيناه بمشاهد النيران والوحل وسيارات الإسعاف ، أنه المخيم : يصرخ .. يتألم .. يحتج .. بحث عن مكان خيمته ولم يعثر عليها .. ولا على الخيم المجاورة .. وصدمته مشاهد النقالات الإسعافية تخرج من السيارات فارغة ، وتعود ملآنة ، تذكر أحلامه ، أحس بها تحترق مجددا أمام ناظريه ..ضغط بيده على كيس الدواء ، وتابع على غير هدى يتمتم وينادي بصوت خافت باسم زوجته وطفله . تعثرت قدماه بكتلة ما وهو يسير ، وسقط فوق الكتلة .. قبل أن يتبين لاحقا أنها كانت كتلة طفله وزوجته المتفحمتين .. وقد اختلط لحمها كالعجين .
الطين ينزف دما أسود ، وذاكرته سوداء ، ولم يعد يسمع سوى صرخة طفله ، ولم يعد يرى غير وجه طفله ، ولم يعد يشم سوى نكهة الحليب في أنفاسه الحارة . وفجأة تذكر البذة المموهة التي يرتديها الشاب الذي أسعفه وقدم له العصير .. ثم أحس بكل ماحوله مبرقعا ومموها كالبذة ...
غابت الجلبة .. ليبدأ التوهج .. ولم يمض وقت طويل ، ليستعيد طفله وزوجته ........... حيث في ليلة حالكة .. سمع دوي انفجار هائل في الجهة المقابلة .. كان الانفجار عنيفا .. ارتعدت له فرائص الصخر .



#رياض_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موجة عابرة في سطح صقيل
- ولكن غدا لم يأت
- جريمة في ملف النمرود: قصة قصيرة
- الولادة: قصة قصيرة
- ستعودين:قصيدة
- المتقمصة: قصة قصيرة من مجموعة الريح تقرع الباب 1976
- يحدث هذا حبا : قصة قصيرة
- عيّودا: قصة قصيرة
- ماوراء هموم امرؤ القيس
- لماذا رجعت إلى الحزن
- ثم أعيدك حلما
- الشراع الأسود: قصة قصيرة
- قصيدة - سورة القلق
- شعر: قصيدة لرياض خليل
- المزبلة
- العلمانية وصراع الأديان
- صفقة وهم : قصة قصيرة
- قادم من جحيمي : شعر
- إهداء : شعر
- مدارات التحول : شعر


المزيد.....




- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - الولادة الأخيرة : قصة قصيرة