أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - ابتسامات دعد















المزيد.....


ابتسامات دعد


رياض خليل

الحوار المتمدن-العدد: 3479 - 2011 / 9 / 7 - 11:40
المحور: الادب والفن
    


1
ابتسامات دعد
قصة قصيرة من مجموعة :" القرش والأسماك" الصادرة عن دار الحوار للنشر والتوزيع باللاذقية ، عام 1995 ، الثالثة

.... صاحب القبر الذي أنام فيه ، لا أستطيع التهرب منه ، لأنه جاري ، يسكن في نفس البناية ذات الأدوار المتعددة والقبو ، وكلها ملكه . شيدت البناية بعيدا عن أي إشراف هندسي ، لذلك تفتقر إلى الحد الأدنى للتنظيم والتناسق ، إنها بعبارة عامية " مفشكلة " وتبدو وكأنها ماتزال على الهيكل ، أو كما يقال بلغة السوق: " على العظم " ، ولم يجر إكساؤها إلا جزئيا . تقع البناية في حيّ من الأحياء المغضوب عليها من قبل البلديات ، وهو يفتقر إلى كل عناصر التنظيم والتناسق والخدمات الأساسية ، إنه يشبه متاهة ، ويعبر عن الفوضى بعماراته وسكانه . ركام من المنازل المتلاصقة والمتداخلة والمترابطة بأزقة ضيقة ومتعرجة وبائسة مثل سكانها من الطبقة الدنيا . . والذين يعانون من انقطاع الماء والكهرباء والهاتف والخدمات جلها . شكل الحي يعبر عن شكل سكانه . إنه هارب من المدينة ، أو مهرب ، مطرود أو مطارد ، ملفوظ من المدينة . هنا تجد الموظفين والحرفيين والعاطلين عن العمل والمجرمين يمتهنون الحياة السفلى التي لاتمت بصلة للحياة المعلنة ، الموشاة بالأكاذيب البراقة والغش والأقنعة والشكليات المفروضة ، الحياة السفلى المهربه تجد فيها كل مايمكن أن تجده في السوق السوداء من ممنوعات ومحظورات بالتواطؤ مع السوق البيضاء وسماسرتها المتأنقين . هنا يتراكم ذوو الدخل المحدود : أي الشحاذون ، هنا في هذا الحي المسلخ يعيش الناس كالخراف ، تحت رحمة ملاك البيوت وأصحاب الدكاكين والمحلات وأنواع المتطفلين والدجالين والمحتالين وأصحاب السوابق والمرتزقة من السوقة والرعاع ، إنهم الجيش الذي لاغنى للأثرياء ومدعو الأخلاق عنهم ، إنهم مورد رزقهم غير الحلال بأية حال . هنا في هذه الفوضى المرعبة ، فوضى الحياة النتنة ، هنا أعيش ميتا ، وأموت حيا كل لحظة ، داخل تلك الغابة البشرية الملوثة ، ولكنها ليست كالغابة في شيء ، حيث لاأثر للأشجار والخضرة والورود والطيور ، لاأثر للسماء الزرقاء ولا للآفاق . هنا سجن رث ينحشر فيه السجناء والسجانون معا ، ولايجدون فيه وقتا للتفكير بالشمس والقمر والنجوم ، لقد استبدلوها بالذهب والفضة والكريستال .. منذ زمن سحيق . لقد نسوا أسماءها وملامحها تماما .
في تلك الغابة الإسمنتية .. كان لي قبر يناسب حجمي وقامتي وقوّتي المالية التافهة ، وكنت لاأجد متسعا من الوقت للتفكير بعيدا عن الغابة الأسمنتية ، وشروط ومقومات البقاء فيها ، ذلك لأن ماأتقاضاه شهريا لايفي بتلك الشروط والمتطلبات ، حتى الحد الأدنى لتكاليف المعيشة الضرورية لاأستطيع تغطيته ، مع أني متعلم .. ومتنوّر .. وأدرك معنى سوء التغذية ونتائجه الوخيمة ، التي ستستجر تكاليف طبية لاحقا . مع ذلك كنت أعطي الأولوية لمالك المأوى الذي استأجرته لأنام فيه ، ولأهرب فيه من الضغوط الخارجية التي لاتحتمل ، كنت أضع الأجرة الشهرية للمأوى في رأس قائمة الالتزامات التي لايمكنني حذفها أو تأجيلها ، لئلا يطردني مالكه وأتشرد في الأزقة وأنام على الأرصفة أو في الحدائق العامة ، وأتعرض للمفاجآت غير السارة .
كنت لاأملك سوى بعض الحاجيات الخاصة البسيطة ، ومن ضمنها كتب وأوراق وقرطاسية . صاحب الملك جاري في نفس العمارة التي يمتلكها ويستثمرها ، ويعتاش من ريعها وريع دكاكينها في الطابق الأرضي المشرف على الطريق العام . جاري كان يلح بالضغط علي ، وبالمنّة ، ويذكرني أن الأجرة قليلة ، وبأنه يستطيع الحصول على أجرة أعلى وأفضل ، وأن من واجبي رفع الأجرة الشهرية بعض الشيء ، وكنت أكرهه وأحسده واحتقره ، ولاأظهر له هذا ، كنت أهادنه وأجامله وأنافق وأتقنع سلوكا متناقضا مع الحقيقة والواقع الذي يعتمل في أعماقي . كنت أتمنى أن أواجهه لولا أنني جبان وضعيف . كان وجهي في وجهه ليل نهار ، ولامهرب من رؤيته المقززة . هكذا كنت أقتطع القسم الأكبر من راتبي الذي لايعيل دجاجة ، وأعطيه لأبي سامر : صاحب الزنزانة التي أجرها لي في القبو . كان أبو سامر أحيانا يثني علي ويمتدح دقتي وتقيدي بمواعيد الدفع ، وكان يمتدح سلوكي وأخلاقي كما يفعل المعلم مع تلاميذه ، كان يقول:" ياهكذا المستأجر .. يابلا " و" أنت أول مستأجر لايتخلف عن دفع الأجرة ، ولا يأكل على قرشا واحدا .. ياأستاذ أنت أكيد ابن عالم وناس ، واسم على مسمى: درويش ، فعلا أنت درويش ياأستاذ درويش ، " . ولكنه كان يقول شيئا مختلفا في الظهر ، كان يحب النميمة والثرثرة وتصيد الأسرار ، كانت أفعاله عكس أقواله تماما . إنه ماكر كالثعلب ، بل هو أشد مكرا ، ولم أكن أتوقع منه أن يأكلني لحما ويرميني عظما في يوم من الأيام ، لأنني بلا لحم ولاعظم أساسا ، ولاأشكل إغراء ودسما لأبي سامر.
بدأ أبو سامر يتقرب مني ، ومن الملفت أنه أخذ يعاملني معاملة خاصة ، صار لي حظوة عنده ، وما جعلني أحس بذلك هو – كما أخبرني – أنه أوصى زوجته أم سامر وابنته دع دبي خيرا ، وشرعتا تعتنيان بالغرفة ترتيبا وتنظيفا كل يوم ، وأحيانا تحضران لي وجبة من الطعام الشهي الذي تجيدان طبخه ، والغني بالدسم والبروتينات التي كثيرا ماكانت تنقصني
2
، وقد ألحوا علي أن يغسلوا ثيابي في غسالتهم الآلية الحديثة . وأكثر من هذا .. شرعت دعد تقدم لي الابتسامات مجانا ، وكانت تلك الابتسامات تشفعها نظرات موحية وضبابية ، فيها الكثير من الإقبال والصد معا . كانت دعد طالبة في الصف الأول الثانوي ، وهي صبية لعوب ومخادعة ، إنها كتاب تصعب قراءته وفهمه . ولكن الشيء الوحيد الواضح عند دعد هو بريق عينيها الذي يشي بالعاصفة التي تجتاحها من الداخل ، وتعبرعن شراهة واضحة ، وجوع كافر ، وظمأ حارق . وأدركت أنها لاتجد في وجهها سواي لتجرب معه حظها ، وتخوض تجربتها المسكونة بالخوف والتردد والغموض .
ورأيتني مجبرا على المسايرة ، والمعاملة بالمثل ، وتقديم خدماتي ثمنا لخدماتهم لي . رحت أقدم لدعد الدروس الخصوصية بلا مقابل . وخلال ذلك كانت دعد تستغل الفرصة تلو الأخرى لاختبار أنوثتها معي ، تلك الأنوثة التي استيقظت في قلبها مبكرا . وكانت لاترى بي " أي بالاستاذ" درويش أي شيء آخر سوى الذكورة ، وكنت : أنا الاستاذ درويش أعلم كل شيء ، وأتحفظ ، على تصرفاتها المراهقة وغير المسؤولة ولا الناضجة ، وكنت أعلم أن الذكورة لاتساوي فلسا واحدا في سوق العواطف والعلاقات بين الجنسين في أيامنا هذه . ومع ذلك كنت أحس بلذة عارمة في كل مرة ألتقي بها ، وأنظر في وجهها الشهي ، لم لا؟ ألا أشعر أنا الآخر بالمتعة حينما أكون جائعا وأرى منظر " الشاورما" وأشم رائحتها الزكية ، أو " الكبة " أو حتى " الفلافل" الساخنة ؟ ألا يحق أن أمتع نفسي بمنظرها المغري ، ورائحتها الفواحة ؟ وهذا أضعف الإيمان ؟ وبالمجان ؟ أحس بالسعادة ، كلما جلست دعد إلى جانبي ، و هي تتصرف كطالبة مشاغبة وماكرة ومداورة ، إنها حسناء فاتنة ، وعندما يحين موعد الدرس ، تأتيني بثياب أنيقة ومغرية ، وكأنها ذاهبة لحفلة أو سهرة ، وهو ما يبوح بمرادها ومساعيها الأنثوية الملحة . كنت أنظر إليها كما أنظر لرغيف ساخن وطازج ، ولقاء فتاة في مثل جمالها حظ لايتأتى لغيره من الشباب ، ولكني : أنا الاستاذ درويش أم أنو ولو مرة أن أمد يدي إلى ذلك الرغيف أو ألمسه رغم إغراءاته وجاذبيته القوية ، كنت أحسب حسابا لأسوأ الاحتمالات ، وكنت أخشى الخيبة جراء الرفض المحتمل ، لأسباب عديدة . كنت أكتفي بهذا القدر من التواصل الناقص ، قانعا بما قسمه لي القضاء والقدر، راضيا بالنعمة الزهيدة : وهي أن أراها باستمرار ، لقد تعودت على رؤيتها ولقائها وشم رائحتها الزكية ، أدمنت إطلالتها وسحر جمالها ، وابتساماتها : دعد التي صارت بقعة الضوء الوحيدة التي تغمر عيني الحالمتين . وتسكن بحيرة أعماقي الساكنة الداكنة الزرقة .
كثير مااضررت للعيش بالعجز والاستدانة .. لأتحاشى سوء التغذية ، وكنت أدقق حساباتي وأعتصرها بصرامة بسبب قلة مواردي وقدراتي المالية الشحيحة ، التي هي أدنى من متطلبات الحياة المتجددة والمتطورة بلا هوادة ، ولم أستطع الخروج من هذه الحلقة المفرغة والعبثية ، التي تتسع كبقعة الزيت ، ليس ثمة تناسب ولا تطابق بين ماأجنيه أو أحصله وبين احتياجاتي المتزايدة ، كانت حالتي تشبه حالة البلدان المتخلفة التي تدخل غالبا في تناسب عكسي مع البلدان المتطورة ، فالأولى تزداد فقرا ومديونية ، والثانية عكسها تماما , وما من أفق ولامخرج لي من تلك الحالة المزرية ، ليس لدي حل ، ولاأملك عصا موسى ، إنها الحلقة المفرغة التي يتحدث عنها علماء الاقتصاد المجانين ، مجانين لأنهم لايملكون وصفات سحرية ولاحلولا ، نظريات .. والمحصلة صفر على اليسار ...
في الزقاق الذي يشبه سردابا .. يترصدني أكثر من دائن : السمان ، البقال ، المطعم الشعبي ، الذي يبيع الحمص والفول المدمس والفتات .. وبعض الأصدقاء والجيران والمعارف . . وغيرهم وغيرهم . كل هؤلاء ضاقوا ذرعا بي ، وهم يتذمرون ويشتكون من تهربي من سداد ديوني ، ومنهم من توقف عن تقديم خدماته لي بالدين بحجة أنه تضخم كثيرا وتراكم إلى الحد الذي أثار مخاوفهم ، وأحسوا أن حجمي المالي لايعادل حجم الدين المترتب على عاتقي ، وأخذوا يلغطون .. ويتهامسون حول خطر إفلاسي ، وحول البحث عن مخرج يضمن استرداد أموالهم المتراكمة كالجبال فوق كاهلي الهش . كنت أدرك أنهم على حق ، وبنفس الوقت حمقى ، لأنهم يقرضون رجلا ميتا من الناحية المالية ، أو هو على وشك الموت ، كان عليهم أن يعطوه بلا مقابل : هبة .. حسنة لوجه الله ، أو فليجيبوني: الله يبعتلك ...وهذا الحل تكرهه البلدان المتطورة ،ولاتأخذ به بشكل جدي وكاف حتى الآن ، ولو تحدثت لدائنيّ عن علم الاقتصاد ومبادئه ، ومنها مبدأ جدولة الديون وإلغاؤها أو الإعفاء من قسم منها ، لما فهموا شيئا مما أتفوه به ، ماذا أقول لهم ؟ كيف أقنعهم؟ وأبسط لهم المسألة ؟ أنا مفلس . أنوء بجبل من الديون . أغرق . أنا ميّت ماليا . ويجب أن يفهم الدائنون أن ديونهم هي الأخرى ميتة بسبب موت المدين ، وأن لاذمة مالية لي في ال"بورصة" ، والسجلات ، وأنني بت عديم القيمة والفائدة بالنسبة للدائنين ، الذين كانوا يتزايدون كتزايد سكان العالم الثالث .
الدائنون بدأوا يفقدون صوابهم وصبرهم ، أخذوا يعترضونني في كل مكان ومناسبة ، يمطرونني بمطالباتهم وتهديداتهم وإساءاتهم التي لاشفقة فيها ولارحمة . لم أعد أستطيع التملص منهم رغم محاولاتي المتكررة واليائسة ، وصرت أحسب ألف حساب قبل الخروج من زنزانتي , والعودة إليها , عبر السرداب الذي يغص بالدائنين من كل شكل ولون ، صرت
3
أحس بالقلق والخوف والذل ، أخجل من رفع رأسي عاليا ، وصرت أحس بالزقاق الضيق كأنه أفعى هائلة الحجم عملاقة تفحّ في وجهي ، وتفغر مطلقة لسانها الطويل المتعدد الرؤوس ، في مسعى عدواني هجومي لافتراسي والتهامي لحما وعظما . اسودت الدنيا في عيني .. لولا ومضات كهرطيسية تنتشلني وتنقذني في اللحظة المناسبة ، ومضات تأتيني من ابتسامات دعد في كل مرة أخرج أو أعود فيها إلى جحري ، الذي بدأت أراه ملاذي وجنتي الفسيحة ، والسياج الذي يحميني من أخطار المتربصين . كانت دعد تمنحني ابتساماتها المضيئات من خلف نافذة غرفتها المشرفة على الزقاق , وكانت ابتساماتها تضخ فيّ الأمل والرجاء ومسحة من الطمأنينة والهدوء والفرح والتفاؤل ، فأحلم ، وأفكر بالحل ، بطريقة تخرجني من خضم الدين والدائنين ، وبتصفير حسابي السلبي ومديونيتي المقيتة . أحلم بوضع إشارة مساواة بين صفتي كمدين وصفتي كدائن ، كي أنتقل من الصفر السلبي إلى الصفر الإيجابي ، ومن ثم الارتقاء إلى مافوق خط الفقر، الذي أعمل للوصول إليه لأتمكن من رؤية الأشجار والورود والعصافير والسماء الصافية الزرقاء ، لأتمكن من الإقامة في بيت تدخله الشمس والقمر والنجوم ، وتدخله دعد أيضا .
بدأت الديون تتجسس علي ، ترصد تحركاتي ، تتآمر علي ، تخطط لانتزاع كل مايمكن انتزاعه مني ، ومن المقتنيات البسيطة الموجودة في قبري ، وانتابتني هواجس مرعبة : هل يفكرون أن يصادروا أعضائي وجسدي؟ ويبيعونها في سوق تجارة الأعضاء البشرية ؟ ليستردوا أموالهم ومستحقاتهم ؟ لم لا؟ لاشيء مستبعد هذه الأيام ، ارتعدت خوفا ، وأنا أتلمس أعضائي . أنا بحاجة لها كلها ، يدي .. ساقي .. عيني .. لساني .. أذني .. أنفي .. كليتي ؟؟ لاأستطيع الاستغناء عن أي من هذه الأعضاء بأي مقابل ، الموت فقرا أفضل من العيش منفصلا عن أعضائي .. بل عن أي عضو من أعضائي . وخاصة قلبي ! قلبي الذي صار منزلا .. بل جنّة لدعد .. دعد التي ترقص في داخلها امرأة فتية طازجة كرغيف الخبز الساخن ، حارة كالشاي الأحمر ، متوهجة كالليرة الذهبية ، دعد الغيمة الماطرة والربيع المتحفز .
لن أسمح لأي دائن بمصادرة أعضائي ، ولكن كيف؟ كيف أقاومهم لو حاولوا؟ هم كثيرون كالحصى ، كعدد شعر الرأس ، كعدد النجوم ، وهم مسلحون أيضا ، مسلحون بكل شيء ، وأنا أعزل ! سيهزمونني لاشك ، سيهرسونني بأقدامهم ، وسوف يؤثر المشهد المأساوي على دعد المسكينة ، وقد تذرف الدمع ، وربما تقتل نفسها حزنا وألما على نهايتي المأساوية المرعبة ، لم لا؟ وأنا فتى أحلامها ، بل فارس أحلامها الذي لايملك الحصان الأبيض والصداق المحمل بصناديق وكنوز الملك سليمان أو قارون أو حتى بيل غيتز ، لن ترضى دعد بهذا المصير التراجيدي وأنا تجربتها العاطفية الأولى ؟! أولم يقل الشاعر: " مالحب إلا للحبيب الأول" ؟ دعد لن تحتمل الحياة بدوني ، لذا علي أن أجد مخرجا بل مهربا لي ولها : لنا معا ؟ إذا مالعمل؟ هل أطير؟ لاأملك ريشا ولا أجنحة . هل أهرب؟ كيف؟ وإلى أين؟ وماذا بعد الهروب؟ ها .. إنها الحلقة المفرغة دائما ، مصير مغلق ، نفق مسدود ومظلم ، ولم يعد اختبائي في جحري مجديا ، لو اعتصمت في داخله ، وهو الذي كان دائما حصني الوحيد غير المنيع .. قلعتي .. مملكتي التي لايدخلها نور الشمس .. فكيف سيدخلها هؤلاء الدائنون الأوباش ..البرابرة؟ دعد ستؤمن لي الطعام .. بل وكل الحاجيات .. ريثما ينتهي الحصار ويفشل ، ومابعد الضيق إلا الفرج .
راح الدائنون يتساءلون عن غيابي يوميا ، ويعبرون عن قلقهم وخوفهم على ديونهم ، خلعوا وجوههم البشرية ، تحولوا إلى حيوانات مفترسة تتصيدني . تكمن . تتربص . تتحين الفرص للقبض علي . يفتشون عني في غابة الاسمنت المسلح الرمادي الداكن ، في شعابها الملتوية وزواريبها . وخطر لي لو أنني كنت دائنا ولو لمرة واحدة في حياتي ، قبل أن أقضي وأغادر هذه الحياة الميتة . أحسست بالعقم .. أنني شجرة يابسة .. ورأيتهم يندفعون باتجاهي ، حاملين نصالا وبلطات حادة ، تلمست جذعي .. أغصاني اليابسة ، واستنتجت أنهم يودون أن يقطعوني إربا .. أن يتحصلون علي على الرغم من كوني شجرة يابسة ، يريدونني حطبا وخشبا ونشارة .... وهلعت من منظرهم الوحشي بعد أن خلعوا أقنعتهم ورموها بعيدا ، ولامهرب لي منهم .
أخذ الدائنون يتوافدون ويتجمعون عند عمارة أبي سامر ، حيث أقطن ، كل يوم .. وفي أوقات متعددة من النهار ، بل وأحيانا مساء وفي الليل . مما شكل ضغطا وإزعاجا للجيران من سكان العمارة ، ومنهم أبو سامر : صاحبها ومالكها ، الذي ضاق ذرعا بما يجري ، بعد أن فشل مرارا في ثنيهم عن عزمهم وتصميمهم على محاصرتي . حاول أن يلعب دور الوسيط بينهم وبيني ، وفشل ، أخذ ينحي باللائمة على ، ويعاتبني مرارا : " الناس يتجمعون أمام العمارة .. أمام بيتي بسببك ، هذا يحرجني ، ويثير غضبي ، أنا عندي بنت صبية كما تعلم ، وتجمع الناس عند بيتي بهذه الطريقة يثير الشبهات والقيل والقال .. إنه عرضي وشرفي ، أصبحا عرضة للخطر ، أرجوك ياأستاذ درويش أن تقدر موقفي ، إنك تدخلني في المشاكل ووجع الراس مع هؤلاء الناس ، أم تريدني أن أتشاجر معهم ؟ أكثر من مرة كدت أتشاجر معهم لولا تدخل أولاد الحلال الذين فضوا المشكلة . هل يرضيك أن تشوه سمعة أختك ؟ أوليست دعد مثل أختك؟ الناس يتجمعون
4
حول بيتنا ، وبحجة المطالبة بالدين يتحرشون بابنتي : أختك دعد ، وينشرون الإشاعات المغرضة عنها . لم أعد أطيق هذا الوضع . لم أعد أحتمل ياأستاذ .. وفهمت قصده جيدا ، ومع ذلك قالها بصراحة ب" المشرمحي " : " دبّر راسك ياأستاذ الله يخليك ، وفضها سيرة " واستطرد: يعني يجب أن تترك الغرفة بأسرع مايمكن . رجوته: " هل أهون عليك ؟ هل تقبل أن يلتهمني الدائنون وأنت تتفرج ؟ أجاب: " سأكفلك يومين .. وهي فرصة كافية لتدبر راسك وتهرب من وجوههم . قلت: " إلى أين؟ " . قال: " بلاد الله واسعة ، لاتيأس من رحمة الله . معك يومان لاغير ولا ساعة زيادة ، قلت: ودعد؟ وهنا بادر مستغربا : " دعد؟ وما شأن دعد بك وبالموضوع ؟ " ثم تمتم كلاما لم أدرك مغزاه . وشكرته على مساعدته لي . ووعدته أن أرد له الجميل يوما ، وأعطيته عنوان عملي ، على أن يبقى ذلك سرا بيننا ، ووعدته أن أزوره في مقبل الأيام ، حين سأحقق حلمي ، وأتحول إلى دائن . واتفقنا على تنفيذ الخطة في الليل .
تمكنت بمساعدة أبي سامر وزوجته وابنته أن أهرب تحت عباءة الليل ، بعد أن قدمت لي أم سامر ثياب امرأة متحجبة ، ارتديتها ، ودعتهم ، واختطفت نظرة من دعد قبل أن أخرج من البيت فالعمارة فالزقاق ، وتابعت حتى خرجت من غابة الإسمنت كلها . وتوغلت في بلاد الله " الواسعة" ، ولم أحمل معي أشياء ثمينة سوى ابتسامات دعد التي تشبه الدولارات والشيكات والليرات الذهبية ... و.. قصص ألف ليلة وليلة ...
ومر زمن طويل .. نسيت خلاله كل ماحدث ، إلا ابتسامات دعد المثيرة ، المتشبثة في ذاكرتي ..
وشاءت المصادفات أن نلتقي : أنا ودعد . فوجئت بها تعترضني ، وتقف قبالتي ، وفوجئت أكثر عندما لم أعثر في ثغرها وعينيها على تلك الابتسامات التي عودتني عليها سابقا . سألتها بلهفة : ماهذه المصادفة الجميلة؟ أجابتني بلهجة خالية من الود والحياء : ليست مصادفة ، بل مقصودة . استغربت ودهشت كيف عرفت عنواني الجديد ، ولكنني تذكرت أنني تركت لأبيها العنوان . توجست من لهجتها الغريبة ، وانعكس هذا على تعابير وجهي ، حاولت تلطيف الجو ، فتصنعت الابتسام ، وشكرتها على بادرتها اللطيفة ، قلت: كنت أؤمن دائما أن الدنيا ماتزال بخير ، ولو خليت لخربت . وسألتني: لم أفهم ماذا تقصد بكلامك ؟ . قلت : أقصد أنني كنت أثق بك يادعد ، وبأنك كنت دائما بالنسبة لي ذلك الخير .. والشعاع .. والحب الذي يمنحني القوة والقدرة على الحياة والاستمرار .. قاطعتني ساخرة : كفى .. كفى .. لاوقت لدي لمثل هذه الثرثرة الفارغة . صعقت وصدمت . لم أصدق ماأسمع ، وقبل أن أتفوه بحرف واحد ، حسمت الموقف بالتساؤل: ألم تنهض من تحت الديون بعد ياسيد ؟ وفكرت : " ياسيد! .. كانت تناديني أستاذ .. وكنت أتوقع أن تناديني : ياحبيبي ! " . وذكرتها موحيا : " ليس بعد ياحبيبتي .." . غضبت وانفعلت وخاب أملها ، وفاجأتني بقولها: جئتك مطالبة بدين قديم . وسألتها: دين؟ ... قديم ؟ ثم ختمت بالعبارة التالية: " جئتك مطالبة بابتساماتي ياأخ درويش " ...........
انتهت



#رياض_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المفترسان
- الولادة الأخيرة : قصة قصيرة
- موجة عابرة في سطح صقيل
- ولكن غدا لم يأت
- جريمة في ملف النمرود: قصة قصيرة
- الولادة: قصة قصيرة
- ستعودين:قصيدة
- المتقمصة: قصة قصيرة من مجموعة الريح تقرع الباب 1976
- يحدث هذا حبا : قصة قصيرة
- عيّودا: قصة قصيرة
- ماوراء هموم امرؤ القيس
- لماذا رجعت إلى الحزن
- ثم أعيدك حلما
- الشراع الأسود: قصة قصيرة
- قصيدة - سورة القلق
- شعر: قصيدة لرياض خليل
- المزبلة
- العلمانية وصراع الأديان
- صفقة وهم : قصة قصيرة
- قادم من جحيمي : شعر


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض خليل - ابتسامات دعد