|
قصيدة حنين عمر
حمودي عبد محسن
الحوار المتمدن-العدد: 3454 - 2011 / 8 / 12 - 08:44
المحور:
الادب والفن
هذه القصيدة ـ تغريبة نهرين ـ للسيدة حنين عمر المنشورة في الحوار المتمدن فيها أسرار ، وفيها أيضا غموض ، وكلما غصت في أسرارها ، أجد أسرارا أخرى ، مما ارتأيت أن أتبع التفكيك في بنيتها مثلما يفعل البنيويون الذين لا أطيق مفاهيمهم ، لا بل وتزعجني حينما يطردون النغمة من القصيدة ، ويجردونها من دماء الحياة ، ونبضها ، ولا يبقون فيها سوى هيكلها العظمي ، وأنا لا أريد أن أرتكب هذه الجريمة بحق القصيدة التي شدتني إليها نغمتها المتناسقة المتسقة والتي تضرب أوتارها على صدري ، لذلك اتصلت بصديقي الكارثة ، أقول الكارثة لأن لديه مفاهيم متحجرة ، وذات جمود عقائدي ، خاصة فيما يتعلق بالمرأة المبدعة ، غير أنه من حفظة الشعر ، وبارع في اللغة العربية ، والبلاغة ، وأحيانا ما أغلق سماعة التليفون بوجهه حينما يحتدم النقاش ، وأنا أردد : تطور المجتمع يرتهن بتطور المرأة . أما هو أيضا أحيانا ما يغلق سماعة التليفون بوجهي ، ثم يكرر: ماركسي... فهو لا يطيق القصيدة الحرة ، ويعتبرها استعمار غربي ضد اللغة العربية ، واستعمار ضد الشعر العربي الأصيل بوحدة الوزن ووحدة القافية . لقد ترعرعنا سوية في أزقة النجف ، وتعلقنا بالشعر ورددناه وتبارينا في القول والأعراب ، لكن بمرور الزمن اخترت أنا طريقا آخر بعد أن درست في كلية الفقه ، فأصبحت مار كيسيا ، ودرست الجيولوجيا ، وانغمرت بالسياسة لأساهم كطليعي في بناء مجتمع خال من الاستغلال أي : وطن حر وشعب سعيد لم أستطع أن احقق شيئا لوطني مع الطلائع الكونية ، بل صار وطننا خراب يقوده جهلة لا يهمهم سوى النهب ، ودفع البلاد إلى القرون الوسطى بلباس الدين . الآن اتصلت به ، وقد توقعت أن يغلق سماعة التليفون بوجهي لأنني قبل فترة غلقت سماعة التليفون بوجهه منطلقا من قانون حمورابي ـ السن بالسن والعين بالعين ـ لكنه راح يسمعني معريات ثم روميات ، ففرحت كثيرا ، إذ ما علي إلا أن أسأله بصوت ضئيل : ـ ما المقصود بتغريبة نهرين ؟! صمت لحظة ، ثم قال بتأنيب : ـ من أين جئتني بهذه الكلمات ؟! فرحت أمهد له بكلمات رقيقة متجنبا ثورته وغضبه خاصة وقد تذكرت فجأة ، إنه كان من عشاق نضالات جميلة بوحير ، فقلت له بحدة : ـ اسمع ... إنها شاعرة جزائرية . كنت أسمع أنفاسه وهو يسحبها بعمق ، ثم قال بخفوت : ـ وما علاقة الجزائرية بدجلة والفرات ؟! فلم أتمالك نفسي ، فانفجرت بوجهه : ـ وما علاقة صحراء العرب بأنهار من عسل ؟! فلم أسمع سوى رنين التليفون ، فأغلقت السماعة وعدت إلى لسان العرب ، إذ لم يبق أمامي إلا أن أقتنع أن تغريبة تعني : نفي الرجل عن موطنه ، ليصبح غريبا في موطن آخر . هكذا ألغيت كثيرا من المعاني للتغريب ـ مثلما قالت العرب القدامى عن الأبيض والأسود ، ووضعت شيئا آخر في ذهني وهو ـ تغريب النهرين ـ ثم لربما زادتهما الشاعرة بتاء التأنيث لتترنم بالأوتار ولتنبعث النغمة الحلوة الجميلة . توقفت عند المقطع الثالث من القصيدة : ( نهرين من ضوء الحنان ) ، فتساءلت مع نفسي : قد تقصد بهما القمر والشمس . لأن العرب غالبا ما تقول القمرين ، وأخيرا راودني هذا البيت : ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها """""""""""" شمس الضحى وأبو أسحق والقمر أما في المقطع الثامن فتقول : ( مغزولا على نول الزمان ) ، فبحثت عن كلمة نول ، وربما قصدت ـ نوال ـ وهو الجود ، الخير ، العطاء ، النصيب ، الصواب ، أي ما ينال ، ومصدرها نال ، لكن ما ارتباطها بالغزل ، وها أنا أتذكر أن نول ـ هي تلك الآلة الخشبية التي كان النجفيين ينسجون عليها أجمل العباءات العربية ، والتي كان والدي يتلفع ظهره بها . ها قد وجدت شيئا آخر إذ أن الدموع تتكرر في خمسة مقاطع ، وهي مدرارا تهطل مثل مطر فهي مرة دليل الطريق لئلا يتيه المرء في الدروب ، ومرة تفيض الوسادة منها كالطوفان ، ومرة تأسف لتقاسمها بدمعتين ، ومرة قد تكون هناك حاجة إلى وسادة أخرى للفيضان ، لكن هناك سؤال روحاني ورد في القصيدة ( فهل في دمعك المسكوب بعض من دمي ؟ ) . فهذا السؤال عن اختلاط الدموع بالدماء لا يجمعهما اللون على الإطلاق فالدموع صافية ولونها يختلف عن لون الدم الأحمر ، وإنما ما يجمعهم شيئان : أولا : الدفء . ثانيا : الجريان ، فالدم يجري داخل الجسد ، وخروجه يعني الموت ، أما الدموع فلابد أن تجري إلى الخارج لأنه طريقها الوحيد لتجسد الحزن ، وهنا نرى جمالية هذا البيت الذي حملت إليه حنين اقترابها : لو شئت أن أبكي دما لبكيته """"""""""""" عليه ولكن ساحة الصبر أوسع غير أن هناك قول شاعر آخر لم يذرف دمعا حتى لو مرر أنامله على جفونه ، وعصرها فلم يخرج دمعا ، لانغمار أحاسيسه في أبعاد أخرى من العمق والذهول ، فهو يقول : فلم يبق مني الشوق غير تفكري"""""""""" فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا فجأة رن جرس التليفون ، فنهضت متثاقلا ، خاشيا أن يكون صديقي الكارثة ليفجر بركان سجال قد يؤدي هذه المرة إلى قطيعة بيننا ربما تدوم إلى زمن سقوط الثلج ، والليالي الطويلة المظلمة في برد الشتاء التي اعتكف فيها في كهفي المعلق في الطابق الثاني لعمارة من ثلاثة طوابق ، من يدري ... وقد تدوم القطيعة إلى الربيع أو سنة كاملة . رفعت مقبض السماعة ، ورددت بامتعاض : ـ ألو ...ألو ... لم أسمع إلا رنين التليفون ، فنظرت إلى شاشة التليفون الصغيرة ، فكان رقم تليفونه ، فاتصلت به مباشرة ، وقد انتابني غيظ من تصرفه الذي اعتدت عليه مرارا وتكرارا ، لم يعطني فرصة لأبدأ الكلام معه ، بل أخذ يقول بيتا من الشعر للشريف الرضي : دع من دموعك بعد البين للدمن """"""""" غدا لدارهم واليوم للظعن ثم تلاه بيت آخر للبحتري : أبكيكما دمعا ولو أني على """""""""" قدر الجوى أبكي بكيتكما دما ثم قال بحزم : ـ مع السلامة . عندئذ أدركت إنه بحث عن القصيدة في الحوار المتمدن ، وقرأها من خلا ترديده لبيتين من الشعر فيهما ذكر للدموع والدم ، ثمة إنه يعرف أنني من قراء الحوار المتمدن ، وذلك لم يكن بالنسبة له أية صعوبة في العثور على القصيدة خاصة وقد ذكرت له عنوانها ، وإن الشاعرة جزائرية ، تعجبت لهذه القفزة المباغتة التي حدثت له ، وأنا أردد القول المشهور : ما بال عينيك دمعها لا يرقأ . ثم رحت أجيش بعيني ما بين التضاد واللقاء في القصيدة كالبياض والسواد ، إذ أولي دائما أهمية للتشبيه في القصيدة ، وأولي أهمية أيضا لشبه التشبيه كالسماء والأرض ، والقلة والكثرة كدمعتين ودموع مثلما ورد في القصيدة . فجأة توقفت عند مقطع : ( فالوحدة الزرقاء أبرد من سكاكين الألم ) ، إذ اللون الأزرق رمز له عند الكثير من الكنائس الأوربية بالقدسية فلذلك كانت لوحات مريم العذراء ذات رداء أزرق أما في القرآن الكريم فتمت الإشارة إلى يوم الحشر ـ يومئذ زرقا ـ وقد يكونوا يحشرون وعيونهم زرقاء أو المراد ذكره وجوههم زرقاء . فقد حيرني المقطع الذي سبقه ، وهو دعوة رجولية : ( سيري بعطرك للسماء ) ، فهل المراد به رداء مريم العذراء أو رداء آخر ، لا سيما كان الشعر العربي يشبه السماء كأديم بزرقتها الصافية ، فالشاعر آنذاك يشبه السماء ببساط أزرق تزخرفها نجوم مؤتلفة متفرقة متلألئة ، ومثال القول : وكأن أجرام النجوم لوامعا """"""""" درر نثرت على بساط أزرق ثم رجعت إلى كتاب احتفظت به منذ صبايا ، استطعت الحصول عليه أثناء عودتي إلى مدينتي النجف بعد فراق دام أكثر من خمسة وثلاثين عاما ، فجلبته معي إلى منفاي مع كتب أخرى ، تصفحته لأنه أفضل كتاب يعالج مواضيع التشبيه ، فأذهلني بلاغة التشبيه في الإيجاز عند الشاعر حين يقول: يا شبيه البدر حسنا """"""" وضياء ومنالا وشبيه الغصن لينا """""""" وقواما واعتدالا أنت مثل الدرر لونا """""" ونسيما وملالا
هكذا كنت أدمدم مع نفسي في قصيدة ـ تغريبة نهرين ـ لما فيها من صور متعددة ، وإيقاع جرس برنة هموم ولواعج وجد ، إذ كانت عندي تنتقل من مقصد إلى آخر ، لا بل تنتقل من سر غرض إلى سر آخر ، وأنا أفكك أسرارها التي لا أريد أن أبوح بها ، سأحتفظ بها لنفسي ، فليس اعتباطا أن يتردد على ألسنة النجفيين : ـ أن للشعراء أسرار .
حمودي عبد محسن 12 / 8 / 2011
#حمودي_عبد_محسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لهيب الغضب
-
نبتة الخلود
-
حور العين
-
بغداد في بكاء
-
كولالة في سفر تكوين
-
انشودة مأتم الفراق
-
غضب العرب
-
ليلة غريبة جدا
-
ساحة التحرير
-
البنفسج الأخير
-
بحث ماركسي جديد لعالم اليوم
-
وشاح حبيبتي
-
افتراق
-
بغداد
-
سوسنة بيضاء
-
سيدتي
-
بستان رودس
-
أنا أنتظر حكمك
-
ليلة الثلاثاء
-
قصيدة البؤس
المزيد.....
-
“العيال هتطير من الفرحة” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024
...
-
مسابقة جديدة للسينما التجريبية بمهرجان كان في دورته الـ77
-
المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي: إسرائيل تعامل الفنانين كإرهاب
...
-
نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط
...
-
تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
-
السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
-
فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف
...
-
بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ
...
-
مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
-
روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|