|
سوريا غير المتطابقة مع ذاتها
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1024 - 2004 / 11 / 21 - 12:23
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
من بين الأحزاب السياسية في سوريا، وحده الحزب الشيوعي السوري ينسب نفسه إلى الكيان السوري المعاصر، فيما تخلو أسماء الأحزاب الأخرى من أية إشارة البتة إلى اسم البلد في أسمائها، أو تلحق بها عبارة ظرفية: "... في سوريا". وهي عبارة أقرب إلى شرح وتوضيح لاسم الحزب منها إلى عنصر مكون لهويته أو ممتزج بها: جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، حزب الاتحاد الاشتراكي العربي في سوريا، حزب العمال الثوري العربي في سوريا، وهكذا. ويبدو كل من هذه الأحزاب فرعا لحزب مركزي أُم (سواء كان المركز قاراً في بلد محدد أو لم يكن)، وقد كانت كذلك في الأصل فعلا. وتدل عبارة "في سوريا" على عرضية العلاقة بين ماهية الحزب، كما يعبر عنها اسمه، وبين المكان الذي صادف أن وجد فيه. يعكس غياب النسبة إلى سوريا في أسماء الأحزاب هامشية الكيان السوري الحديث في عقائدها ووعي اعضائها وتوقعات قواعدها الاجتماعية. وهذا شأن يتجاوز، على أرجح ما نقدر، إيديولوجيات الأحزاب والثقافة السياسية السورية ليتصل بالملابسات التاريخية لتكون الدولة السورية الحديثة إثر الحرب العالمية الأولى. لا مجال للتوسع في هذه النقطة هنا، لكن دلالتها التي لا جدال فيها أن الكيان السوري لا يكاد يكون موضع تفكر سياسي ولا تماه ثقافي ومعنوي من قبل أكثرية السوريين. وفي هذه الحيثية يشارك حتى الحزب الشيوعي السوري رغم اسمه. فكلمة السوري في اسمه علامة تمييز له عن نظيره اللبناني او العراقي او الفرنسي ... وليست علامة تمييز عن حزب البعث السوري او الحزب الناصري السوري مثلا. فالهوية مقيمة في كلمة شيوعي لا في كلمة سوري. وكان من اللافت أنه حين انقسم الحزب الأم في بداية السبعينات من القرن السابق كان التيار الأقل اعتقادية والأكثر سياسية (الحزب الشيوعي – المكتب السياسي) عروبيا وليس سوروياً. وحين تكون تنظيم شيوعي معارض للسلطة البعثية في أواسط السبعينات (رابطة ثم حزب العمل الشيوعي) كان نقده للقومية يحيل إلى الأممية لا إلى السورية. ولم تكن السورية والموقف منها محور استقطاب او سبب انشقاق اي من الأحزاب السورية في أي يوم من الأيام. من الوجهة الإيديولوجية ثمة في سوريا أحزاب شيوعية وقومية وإسلامية، وتتفرع عنها الأحزاب السياسية مثنى مثنى على الأقل: واحد في السلطة، وواحد في المعارضة "التقليدية"، وإن وجد ثالث او رابع ففي كنف جبهة السلطة أيضا. والأحزاب القومية هي قومية عربية وقومية كردية وقومية سورية. وكلمة سوريا في اسم الحزب القومي السوري تحيل إلى سوريا الكبرى التي تتخطى سوريا الحالية وبلاد الشام كلها (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين) لتشمل العراق والكويت وشبه جزيرة سيناء ومناطق واسعة من جنوب تركيا الحالية وقبرص وبعض شمال السعودية الحالية. ويبلغ إنكار السورية درجته القصوى عند التيار القومي العربي الذي يتكون من تيارين فرعيين، بعثي وناصري، ينضوي تحت اسم كل منهما عدد من الأحزاب. ففي الإيديولوجية البعثية، سوريا هي "القطر العربي السوري"، وهي تشكل جزءا من كل اكبر هو "الوطن العربي". ولا تبدو الصورة المأمولة لدولة الوحدة العربية مختلفة في شيء عن دولة "قطرية" مكبرة: الأقطار أشبه بالمحافظات السورية في دولة شديدة المركزية يقطنها شعب عربي واحد. والإيديولوجية الناصرية السورية أقرب إلى نظيرتها البعثية، الماهوية والعقائدية، منها إلى أفكار جمال عبد الناصر المكتسبة وذات الأسس الاستراتيجية وتجربته السياسية في العمل العربي العام. الأحزاب الكردية أحزاب قومية بدروها تتطلع إلى كردستان الكبرى التي تحتل في وعيها موقعا شبيها بموقع الوطن العربي الموحد في الوعي القومي العربي. توحد بين الطرفين ما يمكن تسميتها قومية الوطن المجزأ وما يرتبط بها من وعي شقي. وبالمثل ليست السورية عنصرا أساسيا في تكوين ووعي الإسلاميين السوريين بما هم كذلك. فالمفهوم المركزي لدى هؤلاء هو الأمة الإسلامية كمجال حضاري (العالم الإسلامي) أو كأمة هدى (أمة المؤمنين). والواقع أن الأحزاب القومية (العربية والسورية والكردية) وحدها هي التي لم تكن تعترف بشرعية الكيان السوري، أما الإيديولوجيتين الإسلامية والشيوعية فلم تكونا مهتمتين بكونه شرعيا او غير شرعي لأن فلسفتهما السياسية تقلل من قيمة هذا المعيار وتغرق الواقع السياسي (السوري والعربي .. والعالمي) في لاشرعية أكثر جذرية وعمقا. باختصار لا أحزاب سورية في سوريا. سوريا ودساتيرها قد يقول معترض إن الإيديولوجيات لا تصنع الواقع ولا هي مرايا عاكسة بأمانة لصورته؛ ومن النادر أن يتطابق الوعي الذاتي للأحزاب والفاعلين السياسيين مع العمليات والبنى الواقعية التي ينخرطون فيها؛ وليس من الضروري أن تكون الأحزاب السورية سورية إيديولوجيا حتى تكون سورية سياسيا؛ فممارستها الواقعية تستند إلى سوريا كوحدة عمل، وفي الغالب ايضا كوحدة تحليل. وقد يضيف إن الصورة أعلاه سكونية تغفل تغيرات أكيدة ومتسارعة. بل لعل تاريخ بضع السنوات الأخيرة سيقرأ يوما بوصفه تاريخ اعتراف يزداد انسجاما بالحقيقة السورية الواقعة. ربما. لكن لا يزال تبدل النظرة دون إعادة النظر في الثابت الإيديولوجي الذي يخضع الواقع السوري المعاش لواقع أكثر حقيقية منها سوف يتحقق يوما. إذ هناك فرق بين التسليم الواقعي بالكيان السوري بوصفه واقعا نضطر إلى التعايش معه اضطرارا ريثما ينصرم ويتحقق الواقع الحقيقي، القومي (العربي أو "السوري" أو الكردي) أو الأممي (الإسلامي او الشيوعي). إننا سوريون بالفعل، لكن السورية تبدو واقعا جزئيا، مصطنعا، زائفا، سطحيا، عابرا، خفيفا، اضطراريا؛ والكيان السوري ليس موضع تماه إيجابي ولا تدبر سياسي (ليس هناك مفهوم للمصلحة القومية السورية) ولا إطار تراكم معرفي ومعنوي لسكان البلاد. القضية الجديرة بالاهتمام، على كل حال، ليست افتقار سوريا إلى أحزاب وتيارات إيديولوجية سورية إلا بقدر ما إن الافتقار هذا يمثل فجوة بين الواقع الذي نعيش فيه وبين وعينا له. وهو ما يهدد بأن تبقى الوطنية السورية عنوانا بلا مضمون، ويفقد العمل الديمقراطي حاضنته الطبيعية. خلال بضع السنوات الأخيرة ومع عودة أجواء النقاش والسجال إلى الحياة السورية العامة يرصد المتابع حضورا متزايدا للسورية. وواضح ان التنظيمات الجديدة سورية تكوينيا، ويتراوح موقفها من العروبة بين اللامبالاة وبين العداء غير المكبوح. وفي حدود علمنا لم يجر نقد منهجي جاد للعروبة في سوريا ولم يكتب تاريخها. وبالمثل ليس هناك تنظير مقنع للسورية أو حتى طرح منسجم لمسألة الوطنية السورية وعلاقتها بكل من العروبة والتكوينات الإثنية والدنية والطائفية في البلد. ونجد لدى بعضها نَفَسا سورويا متطرفا موضوعا في تقابل إقصائي مع العروبة (السوروية ليست تعبيرا انتقاصيا من حيث المبدأ. إنها نسبة إلى السورية، وهذه نسبة إلى سوريا. وقد تحمل شحنة تبخييسة في صيغها المذهبية النزاعة إلى الإطلاق أو غير الدستورية كما سنقول بعد قليل). وتبدو السوروية المتطرفة أقرب إلى نزعة قومية مقلوبة منها إلى وطنية حية يمكن أن يلتقي عليها السوريون. ويبدو لنا أن الفارق المهم ليس بين الوطنية السورية والوطنية (القومية) العربية بل بين الوطنية الدستورية (سورية او عربية) وبين الوطنية المطلقة (سورية أو عربية أيضا). ولا تكون الوطنية دستورية من تلقاء ذاتها، تعترف فورا بحقوق الأفراد وتضمن حقوق الأقليات. وهي لا تنضبط بدستور إلا بفعل تعاقدي لا ينبع منها تلقائيا. وليس ثمة ما يسوغ لنا الاعتقاد بان الوطنية السورية دستورية بطبيعتها والوطنية العربية لا دستورية بطبيعتها. لكن لا شك ان ملابسات ميلاد الوطنية العربية في حمأة الكفاح ضد الاستعمار وبدلالة مواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين قد أضعف العنصر الدستوري فيها وأضفى عليها طابعها اعتقاديا وماهويا. ولعله ينبغي ألا يغيب عن بالنا أن العروبة المطلقة التي لا تزال تهيمن في مجالات التعليم والإعلام والثقافة بلورتها الإيديولوجية البعثية في سياق تاريخي معقد ومتعدد الوجوه: الصراع الإيديولوجي مع الشيوعية ومع الناصرية؛ صراع الأجنحة الداخلي على السلطة (القوميين والقطريين)؛ مواجهات مخفقة مع إسرائيل؛ تنافس بلا ضوابط مع الدول العربية الأخرى بما فيها المركز البعثي السابق في العراق؛ ومن بينها أيضا تغذية نزعة تمركز اثني عربية مضادة للأقليات، وتفيد في الحد من فرص بروز معارضة ديمقراطية (شوفينية)؛ ولعل الأهم بينها سياق تجريم الانشقاق الداخلي وتمويه الحيازة دون الوطنية للسلطة. كان منظور العروبة المطلقة يرى ان سوريا قطر من اقطار الأمة العربية. لعلنا اليوم أميل إلى اعتبار العروبة عنصر من عناصر الوطنية السورية. هذا هو محتوى الانعطافة الفكرية التي يجدر بالفكر السياسي في سوريا أن ينكب عليها، والتي يمكن أن تمنحه صلابة وسدادا تنقصانه اليوم بجلاء. ومن أهم المزالق التي يفترض ان تجتنبها هذه الانعطافة المأمولة ما قد نسميه السورية المطلقة او السوروية أو "السوريانية"، أو أيضا النزعة القومية الطفولية التي يمكن أن تكرر، لكن على مقاس اصغر، بعض النزعات الرومانسية للفكرة القومية العربية. والمزلق الآخر للسورية هو وهم الالتحاق بالغرب في طوره الكولونيالي المتجدد مع العداء للعروبة الاستقلالية المناهضة للامبريالية. ولا شك ان تصورنا للعروبة سيختلف مع إعادة الاعتبار للتعدد المكبوت للوطنية السورية. نفضل أن نسمي التصور المستهدف العروبة الدستورية.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حلفاء ضد التحليل: التبريريون والتشريريون في معركة الإرهاب
-
أجهزة أمن اكثر = أمن اقل؛ والعكس بالعكس
-
موت آخر المحاربين
-
مشاركة في انتخاب الرئيس الأميركي!
-
اي مستقبل لبلادنا دون الخط الثالث؟ 2 من 2
-
أي مستقبل لبلادنا دون الخط الثالث؟ 1 من 2
-
إصلاح حزب البعث والإصلاح السياسي في سوريا
-
حول الطريق الثالث ... مرة ثالثة
-
اسحقوهم بتناسب، وحطموهم برفق، واقتلوهم بلطف!
-
الاستقطاب والاختيار: حول مفهوم السياسة 2 من 2
-
الاستقطاب والضعف : حول الخط الثالث مجددا 1 من 2
-
ماضي الخط الثالث ومستقبله في سوريا
-
مذهب الضربات الوقائية والعقلانية في النظام العالمي
-
فليستقل مدير عام مؤسسة الاتصالات!
-
الجامعات الأسيرة صورة عامة للحال الجامعية السورية
-
على أثر العاديين ...في شاتيلا
-
في ذكرى اعتقال رياض سيف: احتجاج على شركتي الخليوي
-
ما العمل إن لم يكن لمفاوضة الطالبان ومقاتلي الشيشان بديل؟
-
نظام الهيمنة وإصلاح العلاقة السورية اللبنانية
-
السوريون والمسالة اللبنانية: أسرار الصمت
المزيد.....
-
Xiaomi تروّج لساعتها الجديدة
-
خبير مصري يفجر مفاجأة عن حصة مصر المحجوزة في سد النهضة بعد ت
...
-
رئيس مجلس النواب الليبي يرحب بتجديد مهمة البعثة الأممية ويشد
...
-
مصر.. حقيقة إلغاء شرط الحج لمن سبق له أداء الفريضة
-
عبد الملك الحوثي يعلق على -خطة الجنرالات- الإسرائيلية في غزة
...
-
وزير الخارجية الأوكراني يكشف ما طلبه الغرب من زيلينسكي قبل ب
...
-
مخاطر تقلبات الضغط الجوي
-
-حزب الله- اللبناني ينشر ملخصا ميدانيا وتفصيلا دقيقا للوضع ف
...
-
محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بته
...
-
-شبهات فساد وتهرب ضريبي وعسكرة-.. النفط العراقي تحت هيمنة ا
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|