|
صرخة بعث لفاروق جويدة
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 3339 - 2011 / 4 / 17 - 06:05
المحور:
الادب والفن
كنت أظنّ بأن فن الحنين للوطن ووصف الاغتراب، والاشتياق لتراب الوطن، خاصٌ بأدبنا العربي في عصر الجمود، حين قُسِّمتْ الدولةُ العباسية إلى دويلات، بدءا بالقرن التاسع الميلادي وحتى بدايات القرن العشرين، وكنت أظنّ أيضا بأن بكاء الأوطان ازدهر بعد انتهاء الحكم الإسلامي في الأندلس، وكنتُ أعتقد بأن هذا الفن مقصور على الفلسطينيين وحدهم، لما لاقوه من ظلم واضطهاد وتشرد ونفي ! غير أنني أدركت بأن مفهوم المنفى لم يعد قاصرا على طرد الفلسطينيين من أرضهم، ولم يعد مرتبطا بالتاريخ والاستعمار في نهاية القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، فأصبح ( الاغتراب في الأوطان) سمة أدبية عربية، تعكس ألم المبدعين والمتفوقين ، ممن قهرهم حكامهم، واضطهدهم مجتمعهم ، وفشلوا في التواصل مع محيطهم بحيث صار المبدعون كمَّاً زائدا عن الحاجة ، وغدوا يهددون منظومة حكام الديكتاتوريات العرب، وصاروا يُحسون بالقهر والاغتراب، ويتمنون أن يقضوا حياتهم خارج أوطانهم، وأمسى النفيُ والاغترابُ في الأدب العربي فنا شائعا بين أدبائنا ونقادنا، فنا شعبيا مقروءا، يُعبِّرُ عن القهر والإحباط. أعادتني قصيدة فاروق جويدة(كم عشتُ أسألُ أين وجهُ بلادي؟) إلى قصة المبدع الكبير غسان كنفاني ( رجال في الشمس) لا لتشابه القصيدة والقصة في مضامينهما فقط، ولكن لأن المُبدعَيْنِ الكبيرين سارا في طريق الآلام الإبداعي نفسه، فغسان اختار أن يقتل أمل ثلاثة فلسطينيين مقهورين مشردين في صهريج حافلة، ليهربوا من عراق البؤس إلى كويت الحُلًم. أما فاروق جويدة فقد قتَلَ أبطالَه في البحر، وهم يركبونه هربا من الظلم في مصر إلى الحلم في أوروبا! ولمسلسل طريق الآلام الأدبي، الذي سار فيه أدباؤنا بفعل ديكتاتورية الحكام، خطوات بدأت بهجاء الحكام كما فعل الشاعرُ دعبل الخزاعي، فقد هجا الخليفةَ المعتصم الذي فرَّطَ في بلاده وشعبه واستعان بالغرباء، وهو ثامنُ الخلفاء ،حكمتْ عليه أبياتُه الثلاثة بالقتل: ملوك بني العباس في الكتب سبعة... ولم تأتنا عن ثامن لهمُ كتبُ كذاك أهل الكهف في الكهف سبعة... كرامٌ إذا عُدوا وثامنهم كلبُ وإني لأعلي كلبهم عنك رفعـــــــةً... لأنك ذو ذَنْب، وليس له ذنبُ ومن أجزاءِ مسلسل طريق الآلام الأدبي، البكاءُ والنواحُ على الواقع الأليم، ، كما فعل الشاعر أبو البقاء الرُندي الأندلسي في القرن الثالث عشر الميلادي حين ناح على الأندلس الضائعة قائلا: لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ... فلا يُغرَّ بطيبِ العيش إنسانُ بالأمس كانوا ملوكا في منازلهم... واليومَ همُ في بلادِ الغربِ عُبدانُ إذن فالهجاءُ والبكاءُ على أوطان العرب في الشعر جاءا كفنٍ بديلٍ عن (البكاء على الأطلال) غير أن البكاءَ القديمَ على الأطلال كان غزلا ولوعة، أما البكاءُ على الأوطان فهو قهرٌ وألمٌ دفين! ها هو فاروق جويدة، المعاصرُ لنا يهجو ويبكي ويتحسر في قصيدة رائعة، قالها للشباب الذين فضَّلوا الموتَ في وحشة البحر على البقاء في زنزانة القهر : كم عشتُ أسأل أين وجهُ بلادي؟... أين النخيلُ وأين دفءُ الوادي؟ لا شيءَ يبدو في السماءَ أمامنا... غيرُ الظلامِ وصورةُ الجلاّدِ إنه الشاب العربي ، الذي لم يعد يرى في وطنه سوى الظلام وصورة الطغاة من الحكام، ممن أصبحتْ صورُهم أكبرَ بكثيرٍ من صور الوطن، فهم مغتصبو شرف الأوطان، فأوطانُهم تحملُ أجنَّتهم سِفَاحا، انتشر فيها الفسادُ والإفسادُ ،واستولى اللصوصُ والقوَّادون عليها، حتى هجرتها طيورُها الصادحةُ يقول: هذي بلاد تاجرتْ في أرضها... وتفرَّقتْ شِيَعاً بكل مَزادِ في كل ركنٍ من ربوع بلادي... تبدو أمامي صورةُ الجلادِ لَمَحُوه من زمنٍ يُضاجع أرضَها... حملتْ سِفاحا فاستباح الوادي ما عاد فيها ضوءُ نجمٍ شاردٍ... ما عاد فيها صوتُ طيرٍٍ شادي وطنٌ بخيلٌ باعني في غفلةٍٍ... حتى اشترتْهُ عصابةُُ الإفساد كل الحكاية أنها ضاقت بنا...واستسلمتْ للصِّ والقواد ولم يُنه المبدع قصيدة ، طريق الآلام قبل أن يلقي آخر فلاشٍ في جعبة الشاعر، يضيء به وجه الطاغية الضاحك على آلام شعبه وصورة الشباب الحالمين الطامحين، وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة في البحر،الطاغيةُ المنتعش بعذاباتهم وآلامهم، وبكائهم، فيختم قصيدته بلازمة مفجعة ، وصرخة يأس أليمة فيقول عنه: قد كان يضحكُ والعصابةُ حولََهُ...وعلى امتدادِ النهرِ، يبكي الوادي وصرختُ والكلماتُ تهربُ من فمي...هذي بلادٌ لم تَعُدْ كبلادي إن صرخة الشعر، ليست كصرخة الموت، بل هي صرخة البعث والنشوء والولادة من جديد!
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
غسيل العار
-
الفئران وصاروخ القبة الحديدية
-
من دُرر المُبدعات
-
من قتل الملك داود
-
اغتيالات تكنلوجية
-
من يوميات مكتوم
-
ما سرُّ عبقرية محمود درويش؟
-
مرض القهر التراكمي
-
المستبدون في كتاب محظور
-
كاوبوي إسرائيل
-
هل سيصمد مفاعل ديمونا للزلازل؟
-
ألفية صراع الأعراق
-
من مقامات الحاكم بأمره
-
ذكرياتي مع العقيد
-
قانون حنين زعبي وعزمي بشارة
-
حكام بعقود
-
تحليل إسرائيلي 2011/2/12
-
أركاننا وأركانهم
-
بكائية على أطلال الإعلام
-
أمراء التطهير العرقي
المزيد.....
-
في عيد التلفزيون العراقي... ذاكرة وطن تُبَثّ بالصوت والصورة
-
شارك في -ربيع قرطبة وملوك الطوائف-، ماذا نعرف عن الفنان المغ
...
-
اللغة الروسية في متناول العرب
-
فلسطين تتصدر ترشيحات جوائز النقاد للأفلام العربية في دورتها
...
-
عُمان تعيد رسم المشهد الثقافي والإعلامي للأطفال
-
محمد نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية يع
...
-
-الحب والخبز- لآسيا عبد الهادي.. مرآة لحياة الفلسطينيين بعد
...
-
بريطانيا تحقق في تصريحات فرقة -راب- ايرلندية حيّت حماس وحزب
...
-
كيف مات هتلر فعلاً؟ روسيا تنشر وثائق -اللحظات الأخيرة-: ما ا
...
-
إرث لا يقدر بثمن.. نهب المتحف الجيولوجي السوداني
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|