عصام سحمراني
(Essam Sahmarani)
الحوار المتمدن-العدد: 3330 - 2011 / 4 / 8 - 16:11
المحور:
الصحافة والاعلام
بالقرب من الحدود التركية، وعلى بعد سبعة وأربعين كيلومتراً شمالي غرب مدينة حلب، كانت ساعة الصباح الأولى في سوق أعزاز الرئيسي قد أزفت مع مشهد الجزارين يذبحون، والتجار يهمّون بفتح دكاكينهم، وبائعي اللبن يطوفون به في أرجاء الزقاق العابق برائحة الفول، تكتسب جاذبية إضافية وهي تخترق باقي روائح المكان.
يختلف المشهد تماماً في الطريق إلى حلب من لبنان عبر الخط الممتد من العريضة الساحلية الحدودية إلى حمص وحماه وإدلب. يبدأ الصباح بسكب ألوانه فوق الضباب الممتد، فتطفو المنازل القليلة المتناثرة على جهتي الطريق وكأنّها سفن عالقة وسط أمواج راكدة، وتنتصب الشجيرات كآلهة دخان تنفث من أكعابها أكواماً من الترحال، تقاوم سطوته أشجار السرو الممتدة لكيلومترات مع الطريق، فتبدو وهي تميل بأغصانها المتماسكة نحو المدينة الشهباء كعاشق مشتاق لضمّ محبوبته.
مع زيارتك الأولى إلى المدينة فإنّ يوماً واحداً لن يكفي أبداً للتعرّف بها عن كثب. وليس الأمر مرتبطاً بآثارها التاريخية من قلعة ومقامات دينية، أو منشآتها الحديثة من استاد رياضي وفنادق فخمة افتتح بعضها حديثاً، بل هو مرتبط أكثر بالتعرّف بأهلها، ورصد زوارها، والتأقلم مع عاداتها، وتذوّق طعامها وشرابها وحلوياتها.
لا تختلف حلب عن مدن عربية مشرقية أخرى في طرقاتها ومبانيها، فميدان سعد الله الجابري يجد مثيلاً له في الشام وبيروت، وبعض الطرقات تشبه حتى في اتجاه السير والمحلات والمنشآت الموجودة فيها طرقات في مدن أخرى، لا بل إنّ أحدها يشكّل نسخة شبه كاملة عن "طلعة النويري" في بيروت. وكذلك لا تختلف حالة الأسواق الضيقة المماثلة لأسواق الشام وصيدا وصور مع اعتبار المساحات المتباينة لتلك الأسواق والبضائع المتوفرة في كلّ منها. أما الإختلاف الأبرز في شوارع حلب، فهي شرطة السير التي تنتشر بشكل كبير للغاية، في شكل يبدو أنّه يؤدّي الدور المطلوب، حيث لا نشهد في المدينة ازدحاماً كازدحام العاصمتين السورية واللبنانية، رغم أنّ السيارات والمشاة هنا يفوقون في أحيان كثيرة ما ومن في الشام وبيروت عدداً.
أمّا السمة الأبرز في شوارع حلب وأسواقها فهي الشوارب للرجال والحجاب للنساء. أمّا الشوارب فتظهر على وجه رجال الشرطة ببذلاتهم السوداء، وأصحاب المحلات وعمالها، والموظفين المتنقلين على الطرقات ببذلاتهم الرمادية والكحلية وربطات عنقهم، وسائقي سيارات التاكسي، والقرويين والبدو الآتين إلى المدينة بحطاتهم وعقالاتهم ودشاديشهم، وتمتد حتى إلى تلامذة المدارس الذين لم يمرروا شفرة بعد فوقها. أما من يحلق شاربيه في حلب فهو على الأرجح من أرمن المدينة أو سيّاحها إذا كان حليق الوجه بالكامل، أما إذا كان حليق الشارب دون اللحية فهو من الإسلاميين في غالب الأحيان. والأمر مماثل كذلك بالنسبة للحجاب الذي يتوحد معظم الأحيان في الشكل حيث غطاء الرأس أبيض والرداء كحلي.
وبالحديث عن طرقات المدينة، فإنّ أمراً غير مفهوم يواجهك فيها هو نوع من الجنون أو المس المتواصل لدى سائقي التاكسي بسياراتهم الصغيرة الصفراء. ينطلق السائق ولا يرى أحداً سواه على الطريق إذا حصل على راكب ما، وعند أحد التقاطعات قد ينتظر المترجلون الأغراب لدقائق كي يتمكنوا من المرور إلى الجهة الأخرى بعكس أبناء حلب الذين اعتادوا الأمر واعتمدوا استراتيجيات خاصة له، رغم أنّ أحد رجال الدين قرب القلعة كاد يذهب ضحية لسيارة تاكسي بعدما سمح شرطي متوقف لسائق السيارة بالمرور بعكس السير بالتزامن مع قطع الشيخ للشارع.. وحصل خير. ولا مثيل لهؤلاء السائقين سوى أولئك الموجودين على خط الضاحية الجنوبية لبيروت وهم يقودون ميكروباصاتهم مع بعض الإختلافات دوماً، فسائقو حلب مهما كبرت أو صغرت سياراتهم لا غنى لديهم عن صوت فيروز يثير لدى الراكب حالة عشق متجددة مع مدينته النائمة على تاريخ مجيد، والمتيقظة بنشاط أهلها الإقتصادي اليومي.
خارج المدينة وإلى الغرب منها طريق طويلة توصلك إلى أعزاز وهي المدينة التي تشكل قضاء لحوالي مئتي قرية ومزرعة، بينها "كفر كلبين" التي يقول عبدو إنّها ليست موجودة على الخريطة لكنّها موجودة في المعجم! عبدو قاد بنا سيارته برفقة محمد وأبو حمدو وكلّهم من شبّان القرية. وكانت لنا رحلة عودة إلى حلب، بعد الفطور المنزلي المؤلف من البيض المقلي بلحم الغنم، ولبن وجبن الغنم، ومربّيات الكرز والورد، والخضار الطازجة، والشاي... والمدعّم بالإضافة إلى خبز المنطقة بـ"الخبز السياحي".
وفي رحلة العودة يوضح الشبّان أموراً خافية لا يدركها أيّ زائر، كوجود قريتين شيعيتين قرب أعزاز هما "الزهراء ونبل" اللتين تحظيان باهتمام كبير من الزوار الإيرانيين، ويتآلف سكانهما مع باقي السكان في مشهد وحدوي، حيث يؤكد لنا أحد الشبّان أنّهم مدعوون إلى عرس في الزهراء بعد أيام قليلة لشاب صديق. مشهد الوحدة ينسحب كذلك على الأكراد في المدينة وحولها وصولاً إلى عفرين حيث يؤكّد الشبّان أنّ أيّ مشاكل لا تحصل بين العرب والكرد، أو بين الأمن المركزي والأحزاب الكردية في هذه المناطق، بعكس ما هو حاصل في مناطق سوريّة أخرى كالقامشلي.
الطريق بحدّ ذاتها بين أعزاز وحلب لا وجود فيها لقرى من الجوانب لكنّك تشاهد لوحات لها ليتضح أنّها سهول ومزارع تابعة للقرى. سهول واسعة للغاية تمتدّ أبعد من البصر وتزرع غالباً بالبقوليات والفستق الحلبي والزيتون. ولا تقطع تلك السهول سوى قاعدة عسكرية سوريّة تظهر طائراتها المقاتلة والمروحية ومدافعها قريبة للغاية. وكذلك يقطع الطريق بعض البلدات القريبة من حلب كحريتان التي كان فيها مشهد صباحي لرئيس مخفر، فتح قميص بذلته بالكامل ووقف بالفانلة الظاهرة، وهو يحمل كوب شاي، ويعطي الأوامر لعامل يشطف أدراج المخفر.
رحلة العودة إلى لبنان تمتدّ لسبع ساعات كما الوصول إلى حلب، وليست الطريق الطويلة السبب الوحيد بل مشكلة المراكز الحدودية من الطرفين، التي تؤخر المواطنين السوريين واللبنانيين، وكذلك الإستراحات التي تعتمدها شركات النقل. ويشكو المواطنون السوريون من أمن عام بلادهم الذي يتقاضى رسم خروج من كلّ سوري آتٍ إلى لبنان بقيمة ستمئة ليرة أي حوالي 13 دولارا. أما بالنسبة للإستراحات فلا بدّ من نصيحة لكلّ مسافر هي أنّ الإستراحة الوحيدة الجيّدة على الطريق الممتدة من العبّودية إلى حلب والتي تمّ اختبارها في الرحلة هي استراحة حمص، أمّا استراحتا العريضة السورية والمنية اللبنانية فالأفضل عدم التوقف عندهما إلاّ في الضرورات، ولا يجب على المسافر أن ينسى وضع النقود المعدنية السورية في جيبه حيث أنّ كلفة استخدام الحمام تتراوح بين 15 و25 ليرة بين المحطات!
ومع توديع حلب تبقى ذكرى سياسية لها في البال ربما هي أشدّ ما يواجهك غرابة في نهارها الطويل وبردها المتدثر بأشعة الشمس. ذكرى لبناء واحد ليس كقلعة المدينة الشهيرة، ولا كمقام النبي زكريا ولا حتى كاستادها الرياضي الكبير. هو بناء يقع تجاه المستديرة التي تتوسط المنطقة المسماة "ورا الجامع" أي جامع النبي زكريا، ويفاجئك بضمّه داخل طبقاته مراكز لسبعة أحزاب سورية تظهر، على وجهه، لوحاتها معاً! الشكل بطبيعة الحال غير مألوف أبداً لبنانياً، فتخيّل أن يكون حزبان لبنانيان متناقضا الأيديولوجية في مبنى واحد.. غريب فعلاً!! تطلق اللوحة المنتصبة أسفل المبنى على الأحزاب صفة "الوطنية" وتتعدد لوحات الأحزاب على امتداد الطابقين الأول والثاني ونجد فيها: حركة الإشتراكيين العرب، والحزب الشيوعي السوري، وحزب الإتحاد الإشتراكي العربي، والحزب السوري القومي الإجتماعي، والحزب الوحدوي الإشتراكي الديمقراطي، وحزب العهد الوطني، وحزب الوحدويين الإشتراكيين. لا وجود إذاً لإحدى لوحات حزب البعث العربي الإشتراكي الحاكم، لكن وفي صفة رمزية تعكس الواقع تبرز وسط كل اللوحات صورة كبيرة للغاية للرئيس السوري بشار الأسد تعطي انطباعاً للأحزاب والمواطنين، على حدّ سواء، أنّ الجميع تحت رعاية النظام... وعيونه التي لا تنام.
#عصام_سحمراني (هاشتاغ)
Essam_Sahmarani#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟