أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - قبل إسقاط الصنم















المزيد.....


قبل إسقاط الصنم


يوسف ليمود

الحوار المتمدن-العدد: 3278 - 2011 / 2 / 15 - 20:15
المحور: الادب والفن
    


الديناصور
في الشعوب حيوانات هاجعة، تحتمل ما يضغط ويدوس عليها طويلا، لكنها تفور فجأة كالطبيعة، كالبراكين والأعاصير الكاسحة. هذه الحقيقة لم أقرأها في كتاب أو أسمعها من أحد، لكني رأيتها تخرج وليدة أمام عيني يوم الثلاثاء 25 يناير، رغم أن عمرها من عمر الشعوب والانسان. القراءة عن حقيقة ما في كتاب شيء ورؤيتها تولد في الواقع شيء آخر. لمّا رأيت كيف أفاق الجمل التونسي من رقاده، ونفض عن نفسه اليد الباردة التي أذلّته طويلا، استبشرت خيرا لفكرة انتقال عدوى النور والحرية مثلما تنتقل عدوى الانفلونزات التي حصروا حياتنا في دائرتها، واستعملوها في تهديدنا ومص الباقي من دم في أجسادنا المرهقة. أقنعت نفسي أن ظرف مصر أكثر تعقيدا وأن ديناصورها سيأخذ وقتا أطول من الجمل التونسي لكي يفيق وينفض عن نفسه غبار الذل ويطلق صيحته المرعبة التي ستهز أرض القارة وما جاورها من جغرافيا مخنوقة بأصابع الموت الباردة. نهض الديناصور بأسرع مما توقع أي خبير أو مراقب، ذلك لأن في الطبيعة الحيوانية شيئا غامضا لا يمكن التنبؤ به أو تقنينه أو تعليبه معلوماتيا وتداوله في سوق الورق.

الصنم
تأخذ الرموز قيمتها، فنيا أو معنويا، من مدى بلاغتها في الاختزال. الدمية الكبيرة المعلقة من رقبتها في واحد من أعمدة إشارات المرور في قلب ميدان التحرير بالقاهرة، صُنعت من قماش محشو قطنا. إنها كلمة شعب. حُكم شعب على حاكمه الطاغية. حساب وقيامة. هذه الدمية المصنوعة بعفوية وعلى عجل، تقول الصنم أكثر مما تعنى اللعبة، وإن كانت لفكرة اللعبة دلالة هنا أيضا وكأنها تريد أن تقول: "هذا الديكتاتور ليس أكثر من كاريكاتور، الآن جاء دورنا لنذيقه، ولو رمزيا، شيئا من علقم حياتنا التي أطعمَنا إياه". والقطن، هذا الحشو الداخلي، ليس سوى ثلاثين عاما من نزيف رئوي حاد لشعب من ملايين العائشين في الفقر والمرض والذل، وأجيال من شباب ضائع بلا مستقبل ولا عمل، وأكاد أقول بلا تعليم، رغم الجامعات والشهادات. ثلاثون عاما نهب وسرقة جرّدت أرض مصر من خيرها المعروف منذ العهد القديم. مِن حجب للنور ونشر ثقافة الظلام عبر كل قنوات الخفافيش، سواء تلك التي تتخفى في اللحية وبخور المقدس، أو التي تسمي نفسها "ثقافة" وهي في الأصل خيانة للثقافة كما هي خيانة للفن، وتضليل ولعق حذاء السلطة، في سلم طويل، يلعق من يقف على الدرجات السفلى حذاء من يقف على الدرجة التي تعلوه... وينتهى بحذاء الصنم الكبير، المعلّق، أخيرا، من رقبته في ميدان التحرير، بلا حذاء، وبلا عزاء.

25 يناير
رغم إصابتي لمدة أسبوعين بنزلة شُعبية حادة، لم أستطع الالتزام بنصيحة الطبيب بالراحة التامة والنوم بينما يستيقظ الشعب من رقاد طويل في هبة غضبه المباركة يوم الثلاثاء 25 يناير. ورغم أنني أعيش في الخارج منذ عشرين سنة وأحمل الجنسية السويسرية، ما كنت لأفوّت على نفسي فرصة التوحد مع الشعور الجمعي الرائع لشعب قُهر وسُلب وأُهين كثيرا وطويلا، في قول كلمته عالية مزلزلة لكل كيان جبان متسلط على مقدرات هذا الشعب وهذه الأرض. كفنان ومثقف، يتابع بألم وبيأس، ما حدث وما يحدث في الثقافة المصرية من تخريب منهجي مدروس، خلال الثلاثين سنة الأخيرة، لا لشيء إلا لتفريغ العقول والهبوط بالذوق العام إلى أقصى درجات الانحطاط والتدني لكي يرتع الفساد والقبح بلا ضابط ولا رقيب، إذا كنت رأيت الثقافة وقد خانت أمانتها كثقافة وارتضت أن تكون كلبا من كلاب السلطة، فماذا يتبقى لكي لا أخرج وأهتف مع باقي المسحوقين من شعب كريم المعدن يقول: "كفاية، إرحلوا!". كم كان جميلا أن أرى كافة طوائف وطبقات الشعب فيما يشبه عودة الروح وفيما يذكّر بـ "عودة الروح"، ولمن لا يعرف ما أقصد، يعد إلى توفيق الحكيم وثورة 1919، وإن كانت مقارنة هذا الظرف بذاك مشينة ومخجلة، فوقتها كنا نقاوم طغيانا أجنبيا، بينما اليوم الطاغي منا. رأيت شبابا يوزعون المأكولات الخفيفة والمياه المعدنية على الجموع، رأيت ذراع المسلم في إبط المسيحي في محاولة لاختراق الحاجز الأمني، رأيت فتيانا وفتيات تبرق عيونهم بقوة الحياة والذكاء والأمل، رأيت شجعانا وأبطالا وكثيرا من الصور المبهجة المبشرة. هذه بداية النهاية لعصر طويل من الظلام في بلد كان مصدر النور والحضارة.

الكراهية المسيلة للدموع
كم كان الجبن واضحا في المتاريس البشرية من رجال الأمن وسياراتهم المصفحة التي دهست وقتلت المتظاهرين الأبرياء في مناظر وحشية على كوبري قصر النيل وفي ميدان التحرير، ناهيك عن السيارات التي لم تحمل أرقاما والتي، بسرعة وحيوانية مسعورة، كانت تحصد الجموع المسالمة، في أبشع منظر يمكن للعقل أن يتخيله. كراهية لا قاع لها من قِبل فئة حقيرة استعبدت الشعب وامتصت دمه وأخيرا تسحقه في الظهيرة، بلا أدنى خجل أو حياء، وعلى مرأى من العالم أجمع. قنابل الدخان التي أمطرونا بها كانت أكثر من بشعة، بسبب من كثافتها وروح الكراهية والانتقامية التي كانت تفوح منها، ناهيك عن انتهاء صلاحيتها، كما أذاع البعض وأكد آخرون. كان هدير الثلاثاء رائعا ومروعا. ثورة، بكل معاني الكلمة، مقدسة، لأنها صرخة حيوان، والحيوانات طاهرة لا تكذب. كان الوحش الجبان يمطرنا بالغاز والدخان والرصاص الحي، بينما ديناصور الشعب يمسح دموعه بالخل والبصل والكوكاكولا، يسعل طويلا ويتقيأ في شارع جانبي، ثم يلملم أعضاءه من جديد ويحاول اقتحام الميدان، يدا بيد، وكتفا في كتف، فيتراجع الجبناء وتتساقط تحصيناتهم شارعا شارعا، ليمدد الديناصور أطرافه وتخيم صرخته على ميدان التحرير في نهاية الليل بعد ملحمة من النار والحديد والدموع الكثيرة، دموع الفرح باقتراب الفجر الجديد.

كلاب النظام
الروائية الصديقة منى برنس، التي جاءت إلى مقهى "زهرة البستان"، حيث كنت جالسا مع بعض الأصدقاء المثقفين والفنانين، مضروبة بعنف ومتماسكة ببطولة في نفس الوقت. في اليوم التالي سوف تكتب: "في حوالي السادسة ونصف مساء يوم الاربعاء 26 يناير 2011، انضممت انا وأصدقاء وآخرين لا أعرفهم الى مسيرة سلمية احتجاجية في منطقة وسط المدينة، في شارع قصر النيل. وكان المتظاهرون يسيرون بكل ادب من شارع الي اخر في محاولة للهرب و تجنب قوات الامن المركزي الذين بدوا في حيرة وارتباك حول كيفية محاصرتنا وتفريقنا، خاصة بعدما توجهنا الى شارع الشواربي. كنت انا والمجموعة التي معي في الخلف، ومن امامنا وخلفنا ضباط الأمن يتكلمون في أجهزتهم اللاسلكية، وسمعناهم يقولون ما مفاده أنهم لا يعرفون كيف يحاصروننا. استمررنا في السير بشجاعة ودون خوف، و انضم الينا الكثير من الشباب والبنات من الشوارع الجانبية والمحلات، وكنا نردد "ارحل" و "الشعب يريد اسقاط النظام"، لم نعتد على منشآت أو سيارات ولم نهاجم أحدا. كنا نسير وسط الشوارع دون أن نمنع مرور السيارات وإن كنا أبطأنا سيرها باتجاه شارع 26 يوليو. ثم ظهرت قوات الأمن المركزي من الأمام والخلف وبدأت تجري نحونا بقوة، فجرينا متفرقين محاولين الاحتماء بالمحلات. وفجأة بدأ بلطجية الأمن ووزارة الداخلية الذين يرتدون ملابس مدنية في القبض العشوائي علي الشباب والبنات وضربهم بقوة. رأيتهم يقبضون على شاب كان يسير أمامي لم يفعل أي شيء سوى الهتاف مثلنا، دفعوه بأحذيتهم وألقوا به إلي الأرض وانهالوا عليه ضربا وركلا ولكما حتى أغمي عليه. اعترضت على ما يفعلون وصرخت فيهم ألا يتصرفوا مثل الحيوانات وأنهم ليسوا رجالا وليسوا بني آدمين، فاندفع نحوي 4 أو 5 رجال ضخام الحجم وجروني من شعري، ضربوني علي وجهي، أخذوا يضربونني بعنف ويركلونني ثم ألقوا بي إلى الأرض بجانب الشاب الذي فقد وعيه وهم يقولون "طب يللا حصليه يا بنت القحبة".  فرد آخر "مرة قحبة"، واستمروا في ضربي وركلي بضع دقائق ويدوسون علي رأسي وجسدي بأحذيتهم حتى سال الدم من فمي وهم يسبونني بأقذر السباب والصفات، إلى أن سكت ولم أستطع الكلام. ثم جرجروني وهم ما يزالون يركلونني ويسبونني إلى شارع 26 يوليو ثم ألقوا بي في واحد من تلك الميكروباصات التي لا تحمل لوحة أرقام. وفعلوا نفس الشيء مع شباب آخرين وألقوا بهم الى داخل نفس السيارة، من بينهم الشاب الذي كنت أدافع عنه وفقد وعيه. وفي اثناء محاولتهم حشري داخل السيارة، كانوا يتحرشون بي جنسيا، ويحاولون تعريتي، واحد أمسكني من صدري، والآخر من وسطي وشخص آخر أمسكني من أسفل ظهري ثم دفعوني إلى الداخل. كان هناك نحو 5 أو 6 شاب وربما أكثر داخل السيارة. حاولت الاتصال بأصدقاء بشكل هامس وبعيد عن أعين الأمن لكنهم رأوني. سحبوني من داخل الميكروباص وأمروني بالنزول وهم يسبونني وفي نفس الوقت يسدون باب السيارة "بتكلمي مين يا بنت ...." وخطفوا مني التلفون المحمول بالقوة ثم شدوني خارج السيارة وألقوا بي إلى الأسفلت. رغم الألم سوف استمر في الاحتجاج".

جمعة الغضب
في كل أفعالهم يبرهن الأغبياء على غبائهم. هذه موهبة لا تجود بها الطبيعة إلا على أبنائها الفاسدين، فما بالنا بنظام فاحت منه روائح النتن ربع قرن ونيفاً؟ كان القرار الغبي والخبيث والذي هو من الجبن بحيث لم يفصح عمن اتخذه، بسحب قوات الشرطة عصر الجمعة 28 يناير، غبيا وحقيرا بكل المقاييس. كشفت هذه الواقعة عن ذهنية عدو ليس دمه من دم الشعب، وإن كان وُلد على هذه الأرض فهو بلا شك لا يستحق أن يُدفن في هذه الأرض. بدا واضحا أنه نظام يعاني سكرات ترنحه الأخيرة ويستخدم كل ما في يده وخياله من أساليب، مهما بلغت حقارتها، لإنقاذ ما يمكن له أن ينقذه من نفسه الضالة المذعورة العمياء. كان فعلا ترويعيا لنشر الذعر، على طريقة "الإناء ينضح بما فيه". ستنتشر أعمال البلطجة في كل مكان، وبالتالي السرقة والنهب والخطف وتصفية الحسابات وفتح أبواب السجون لهروب من فيها يعيثون في الظلام انتقاما فتنقسم الناس التي خرجت تحمي بيوتها وشوارعها بالسيوف والسكاكين، ينقسمون على أنفسهم فينقلب منهم الذي كان معارضا أمس فيصير مؤيدا اليوم لأن الأمس كان أمانا واليوم انعدم الأمان، إلى آخره من ضغوط كالتأخر في دفع الأجور الشهرية، ناهيك عن إجبار حيتان رجال الأعمال المقربين موظفيهم للتظاهر المضاد بنعم لمبارك، في التجهيز لنوع من حرب أهلية يكون منعها شيء واحد: بقاء النظام. لكن الغضب هذه المرة كان مليونيا، هزّ الديناصور كل أعضائه وأوردته وشرايينه نبضاً. كان القلب ميدانَ التحرير، والعاطفة كانت الغضب.

غباء إضافي
نسي المتخبطون في عماهم أن الثورة شيء حتمي في الطبيعة نفسها، لا في الانسان فقط، أو في الكائنات الحية عموما. الإنسان يتمرد ويثور حتى على نفسه، والطيور والبهائم وكل الكائنات تتمرد على سلطة الأب والأم بالانفصال ومواجهة الحياة بعواء منفرد. لكن النكتة هي أنهم نسوا أن كل ثورات العالم القديم قامت قبل أن تكون هناك اتصالات، بل حتى قبل أن تُخترع الكتابة، فيالعبقرية الغباء حين قطعوا الانترنت مدة سبعة أيام، وعطلوا شبكات الموبايل لأربعة أيام تقريبا!

أربعاء الشؤم
الأربعاء، الثاني من فبراير بدأ بنذر شؤم استشعرتها في الهواء. كنت قد عبرت ميدان التحرير صباحا، وتعجبت من تجمّع ما يقرب من خمسين شخصا يهتفون بالروح والدم فداءً لمبارك، تعجبت، لكني قلت إن هذا من طبيعة الأمور. مشيت طويلا في طريقي إلى حي الدقي لأطمئن على بنات أخي (أربع بنات جامعيات وأمهن قابعات وحدهن في البيت)، وكانت صدمتي كبيرة حين وجدتهن غارقات في مشاهدة قناة التليفزيون المصرية وكأنهن في صلاة. انتابني الفزع، وحين طلبت منهن تغيير القناة التي تتفنن في الأكاذيب المريعة التي لا يصدقها نصف عاقل، إذا بي وكأني وسط مظاهرة تأييد لما أنا ضده. هذه قماشة الوعي الذي نسجوها وأسدلوها كالكفن على عقول العامة، والآن يراهنون على هؤلاء العامة، كما راهن هتلر على أطفاله "شباب هتلر" في ساعات سقوطه الأخيرة. لم أحتمل الهواء الثقيل وغادرت. عدت إلى ميدان التحرير، كان الهواء يزداد فسادا بتعالي صراخ الكلاب المأجورة التي تضاعفت أعدادها. حدست شؤما ورائحة دم. عدت إلى البيت الذي يبعد من ميدان التحرير عشر دقائق مشيا، للغداء وبعض الراحة، وإذا بالأخبار عن حرب جاهلية بالأحصنة والجمال والسيوف تحصد المسالمين العزل المعتصمين في الميدان. بات أبناء مصر ذوي الوعي تلك الليلة بأياديهم على قلوبهم رعبا من حدوث مذبحة في الفجر، ينقضّ فيها الهمج المجرمون السفلة، الذي استأجرهم النظام ودفع لهم ودفعهم دفعا، على الورود البريئة، أبناء وبنات مصر حاملي نور الفجر في أرواحهم وعيونهم، ويصفّونهم في حمام دم، ببرود دم.

ورود من جنائن مصر
ـ الشاب رمضان حسن قرني، حاصل على بكالوريوس تجارة، جاء إلى القاهرة صحبة حوالي خمسين متظاهرا من قرية الميمون بالواسطة ـ بني سويف. لم تُخْفِ الضمادة الكبيرة، التي غطت نصف جبهته إلى أنفه، وداعة نظرته وبراءة وجهه. انتحيت به جانبا، رغم الرذاذ المتساقط، وتركته يحكي تفاصيل ما حدث وكيف أنه عصر الأربعاء، وبعد تعالي الهتاف الموالي للنظام، فوجئ مع الجميع بقبيلة همجية من الجمال والخيول يمتطيها بلطجية مدججين بالسيوف والعصي والهراوات تقتحم الميدان مثيرة الرعب والغبار، حتى إذا استوعب المعتصمون الصدمة، بدأوا في الدفاع عن أنفسهم ببسالة أنستهم الخوف من حيوانية الهجوم غير المتكافئ. بسرعة، نظم أبطال الميدان أنفسهم، فكان ثمة من يخلع بلاط الرصيف، وثمة من يكسره قطعا صغيرة ويوصله إلى من هم في خط النار، وإذا بأطباء الميدان يحملون من يقع غارقا في دم رأسه أو أطرافه، وإذا بالأبطال يأسرون أربعة أحصنة وجملٍا تم تسليمهم إلى عساكر الجيش المرابطة بدباباتهم على الشوارع التي تصب في الميدان. اختفت الخيول والجمال بعد ساعتين تقزّمت فيها قوة المأجورين وعزيمتهم أمام صمود المعتصمين بالطاقة والشجاعة والإصرار على مواصلة التحدي حتى الموت أو رحيل النظام. وبدأت حرب الحجارة. كر وفر. أصيب رمضان بحجر بين عينيه جعله يترنح من الصدمة، فأمسك بكتف رفيق بجانبه كي لا يقع، فحملوه إلى المستشفى الميداني الذي هو مسجد، وخاطوا له الجرح بأربع غرز. عاد مباشرة إلى جمع الحجارة وتوصيلها لرفاقة حيث لم يسمح له الجرح بقذفها. ثم بدأ نزيف الجرح، فعاد ثانية للطبيب الذي قال إنه يلزمه غرزة أخرى، غير أن أعداد المصابين الذين كانوا يتساقطون بالمئات وينتظرون دورهم، جعل رمضان يتخلى عن فكرة الغرزة الخامسة ويعود إلى خط النار بقوة وإصرار لم يعهدهما في نفسه قبل ذلك أبدا، كما يقول. كان يتناوب الراحة والكر والفر، حتى غلبه النعاس فنام لا يدري أين ولا كيف، ثم استيقظ على آذان الفجر، فبحث عمن يصلي معه. في النهاية أخبرني رمضان بأنه الآن يتمنى عدم رحيل الرئيس، لكي يستمتع أكثر بهذا الشعور العظيم بأنه يعيش أجمل أيام عمره التي لن ينساها، والتي سيحكيها لأبنائه، وسيقرأ علامتها كلُّ من ينظر الجرحَ الذي بصم جبهته بكرامة الشعب.
ـ سلمى الطرزي، مخرجة أفلام تسجيلية شابة. جاءت وحدها لتعسكر في الميدان. التقت أخاها الأصغر الذي يعمل مدرب غطس في البحر الأحمر. كان أخوها نائما على الأرض الرطبة، ملفوفا ببطانية تحت الرذاذ. لم أره مذ كان طفلا في السادسة تقريبا، حين غادرت مصر قبل عشرين سنة وكنت صديق الأسرة. لم تمانع سلمى في ذكر اسمها، لكنها طلبت عدم ذكر اسم اخيها، لأنها ليس من حقها أن تقرر له في غيابه. هذا هو نوع الوعي وألمعية الجيل الجدير بهذا المخاض والفجر الوليد. سلمى الآن تتحرك وسط ثلاثين من الأصدقاء الجدد الذين تعرفت عليهم في الميدان، أو الذين تعرفهم من قبل والتقت بهم صدفة مثلما التقت بأخيها. ما حكته لي لم يختلف كثيرا عن رواية رمضان، قالت: الجميع جُرِح. رمونا بالطوب وقنابل المولوتوف وبالرصاص الحي والرشاشات، سقط منا 15 شهيدا تقريبا، واستطاعت القوات الشعبية أن تصادر كميات كبيرة من الأسلحة البيضاء... لم يكن هناك وقت للخوف، كل حماقاتهم وأفعالهم الغبية كانت في صالحنا، زاداتنا قوة.
ـ عبد الله اسماعيل حسن، في السنة الأولى الثانوية، جاء من الزقازيق بالشرقية مع أخيه الأكبر، في مظاهرة تحركت من بلدتهم لتنضم إلى المظاهرة المليونية. كان عبد الله يجمع زجاجات المياه الفارغه ويملأها ليسعف بها المصابين والعطشى، كان العرق غزيرا وممزوجا بالدماء، على جميع الوجوه تقريبا.

الخميس 3 فبراير
حكت لي صديقة فرنسية تعيش منذ خمسة وثلاثين عاما في القاهرة التي تعرفها أكثر من أي مصري، وتعشقها مثل كل مصري، أنها خرجت بكاميرتها عصر الخميس ومشت أسفل كوبري أكتوبر من ناحية الزمالك، وأنها انتبهت لوجود جماعة تسيطر على الشارع خمّنت أنهم شرطة سرية، لفظاظة منظرهم وطريقة تحركاتهم المريبة. فجأة توقف تاكسي بجوارها مباشرة وصرخ فيها السائق أنْ ليس من حقها التصوير، وفي أثناء الجدل مع سائق التاكسي، أسرعت إليها امرأة فضحت سرعة حركاتها المدربة كونها ضابط عمليات خاصة متخفية في ملابس مدنية، وبسرعة الوميض انتزعت الكاميرا من يد صديقتي بيد، والبسبور من جيبها باليد الأخرى. وفي أقل من نصف دقيقة وجدت صديقتي نفسها محاطة بمجموعة بلطجية يحاولون حشرها داخل تاكسي، لولا أن جاءت سيارة أخرى ووقفت في انتظار أن يفسح التاكسي الطريق لها، فأسرعت صديقتي إلى داخل السيارة وترجّت صاحبها العجوز الذي كان بصحبة امرأة كبيرة السن في الخلف، أن يُسرع لينقذها من محاولة الخطف هذه، غير أن الرجل كان من البرود والجبن بحيث لم يتحرك وحاول أن يقنعها بعدم خطورة الموقف، إلى أن نجحت المرأة الضابط في أن تدخل إلى السيارة، في هذه اللحظة برقت في ذهن الصديقة فكرة الاتصال بصاحب البيت الذي تسكن فيه وهو لواء سابق، ونجحت هذه الحيلة في بث الخوف في نفوس هذه العصابة حين سمعوا لفظ "لواء"، فأمرت المرأة الضابط صاحب السيارة بالتحرك وإنزالها في أي مكان أمام نادي الجزيرة، وخرجت من السيارة دون أن تُعيد الكاميرا أو البسبور للصديقة التي نسيت أمرهما تماما في غمرة البحث عن ثقب خلاص من رعب تلك الدقائق. في المساء شاهدت الصديقة على قناة "فرانس 24" الفرنسية، (تُبَثّ بثلاث لغات من بينها العربية التي انقطع إرسالها تماما منذ اليوم الأول من الأحداث)، صحفيا فرنسيا اختُطف لمدة 36 ساعة من الضرب والإهانة والبصاق وتغمية الأعين بأمشوطة وإلقائهم على الأرض كأسرى حرب، لتصويرهم للتليفزيون المصري على أنهم جواسيس وعملاء للخارج يشعلون الفتنة في البلد الأمين.
قصة مشابهة حدثت للصديق الفنان الفوتوغرافي حمدي رضا الذي اتهم أنه إيراني زوّر بطاقة هوية مصرية. كذلك الصديق الفنان أشرف رسلان الذي سِيق إلى إلى أحد مراكز البلطجية، فجُرّد من بطاقة هويته وكارنيه عضويته الخاص بنقابة التشكيليين وضُرب باللكمات في أنفه، غير أن أحد ضباط الجيش، الذين لم يعرف أحد أبدا ما دورهم حقا أو مع من كانوا يقفون في ذلك اليوم، الاثنين 31 يناير، توّسم فيه الرقة فتركه يمشي بوعد ألا يفتح فمه بما رأى لأيّ كان.
أما أنا، جاء مالك البيت الذي أؤجر فيه مرسمي بعابدين مساء الخميس 3 فبراير، مع حوالي سبعة بلطجية أرادوا معرفة من أنا وماذا أفعل هنا ودخلوا بحجة البحث عن شخص غريب دخل المنزل، نظروا في كل الزوايا والحمام، ولما نزلوا سمعت أحدهم على السلم يقول: "بس هو كان دايما بيمشي بشعر طويل، اشمعنى حلق النهارده؟". كنت قد حلقت صباح ذلك اليوم كي أقلل من فرص فضولهم واحتكاكهم بي التي شعرت بخطرها المتزايد.

روح مصر
وسط هذه الملحمة التي يكتبها بأرواحهم وعزيمتهم شباب وناس مصر الواعين الواعدين، تظهر روح المصري الطيب البسيط في براءة وجمال شعبي يدحضان كل شبهات الفتنة الطائفية التي كان ينسج قماشتها النظام كفنا لهذا البلد العريق، البريء من كل نقطة دم لوّثت كنيسة أو مسجدا. الطرفة التالية تحكي عن هذه الروح، روح مصر:
الشاعر والمترجم بشير السباعي كان يقف مع صديقة له في ميدان طلعت حرب، فإذا برجل ملتحٍ يقترب منهما مادّا يده بالسلام الحار والوجه المفتوح على ابتسامة عريضة: "أهلا أهلا يا أخي، كلنا واحد، كلنا أبناء إبراهيم وسارة!". ظن الرجل الطيب أنهما مسيحيّان بسبب سفور وجه صديقة الشاعر. هل هناك روح أجمل من هذه؟ روح شعب يستيقظ ويقول لمن حرمه النور: ارحل!

يوسف ليمود



#يوسف_ليمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيتي بيدج: نملة الذات وكهرباء الجسد الزائدة
- عن الحب والقتل وجدار جمجمة معتمة
- آنا مندييتا: الأرض حدساً لجسدها، الأرض حقلاً لفنها
- كارولي شنيمان وبهجة اللحم
- مارينا أبراموفيتش: روح العالم في جسد الفنان
- البرفورمانس فناً والجسد هويةً
- فن فاروق حسني مَن يخاطب وأين يقف؟
- إرنست بيالار، العابر المقيم في جمال متحفه
- الفن المصري في الستينيات والسبعينيات ج 3 .. السوريالية هناك ...
- الفن المصري الحديث في الستينيات والسبعينيات (2)
- حدود فان جوخ بين الوعي والخرافة
- رحيل اللباد صاحب -كشكول الرسام-
- عن الثقافة في مصر: شجرة البؤس وأزهار الخشخاش المسروقة
- الفن المصري الحديث في الستينيات والسبعينيات، إلى أين كان، وإ ...
- جان ميشيل باسكيا .. فنه أم موته المبكر صنع أسطورته؟
- سبنسر تونيك .. كما نبي يقود أمته عرايا يوم الحشر
- عن النقد والفن في مصر .. حوار
- هيلموت نيوتن .. الفن رغماً عن أنف ما يصوره الفنان
- مان راي .. أنامل الفنان على أوتار الجسد وظلاله
- من ثقب الكاميرا: حقيقة الجسد أم وهم خياله؟


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - قبل إسقاط الصنم