أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - إرنست بيالار، العابر المقيم في جمال متحفه















المزيد.....

إرنست بيالار، العابر المقيم في جمال متحفه


يوسف ليمود

الحوار المتمدن-العدد: 3140 - 2010 / 9 / 30 - 14:57
المحور: الادب والفن
    


هل كانت وجوه تماثيل جياكوميتي في الاحتفالية الكبيرة التي أقامها متحف بيالار، قبل عام، لهذا الفنان السويسري الأصل، هي ما أثارني وقتها لكتابة السطور التالية التي تلخص حياة صاحب المتحف، ارنست بيالار، في كبسولة واحد من نصوصي القصيرة "مقاطع في حيز العابر"، بسبب تشابه وجه ذلك الرجل مع وجوه تماثيل ذلك الفنان، أم كان نوعا من حدس لاقتراب رحيله؟ ما أذكره أنني خرجت من المعرض لأدخن سيجارة في حديقة المتحف المتماوجة، منتشيا بالمنظر المترامي الخضرة الذي يقطع امتداده في البعيد تل جبلي منتصب على بدايات أرض ألمانيا، فسجلت السطور التالية تحت عنوان "آدم": بدأ، كما يقولون، من الصفر. لم يكن فنانا في الفن لكن في حياته كما أرادها. طارد بيكاسو، ماتيس، براك، جياكوميتي، روتكو، ليجيه، إرنست، كلى، ميرو... ليقتني أعمالهم. خلّدته الفوتوغرافيا جنبهم في مراسمهم. أنشأ متحفاً رقيق البناء والخطوط وسط جنة خضراء، يحمل اسمه: بيالار. في أسفاره، ورغم الثراء، كان ينزل فنادق الدرجة الثالثة. عنده حق، لم التبذير وفي العالم من لا يجد الرغيف؟ رأيته مرة على العشب جنب زوجته: آدم وحواء. ماتت هي قبل شهور وتركته ينزلق في الثمانين على كرسي له عجل. ولأنه لم ينجب لا قابيل ولا هابيل، وهب المدينة جنته – المتحف. يستعد الآن لمقابلة الرب عارياً ونحيفاً بوجهٍ ملأته الحفر والأخاديد كتماثيل جياكوميتي التي أفنى عمره معها وفيها. هل تكون خطيئته أمام الله أنه آمن بالفن وحده؟".

السؤال الأخير ربما له معنى في سياق ذلك النص القصير، لكنه هنا، وتحديدا أمام الموت، يتلاشي مثل هذا السؤال في عجز العقل، وتبقي حقيقة واحدة: أن رجلا ما كان حيا فعّالا ومحركا للأشياء، والآن لم يعد له وجود، بل صارت الأشياء التي صنعها وحركها يوما هي ما تحرك ذكراه، إلى حين، طال أمده في القرون والأحقاب أم قصر! إرنست بيالار الآن لم يعد سوى متحفا، كما جياكوميتي لم يعد سوى تماثيله الساكنة حيزا من فضاء ذلك المتحف. "متحف بيالار"، أيّ هاتين الكلمتين: المتحف أم الرجل، أصبح السورَ الحجري الأحمر رقيق الخطوط الذي يصفّي سقفه الزجاجي الضوء من حواشيه الباهرة وينشره في محاريب انسانية الأبعاد وفضاءات تحتضن الفن وصانعيه في جلالٍ ورقّة؟ لا شك أن العابر يجد راحته في المكان أو في الشيء الذي بذل فيه حياته وروحه، خصوصا حين يكون المكان أو الشيء تجسيدا للجمال، ولما كان هذا الرجل عاشقا وطامحا للجمال، وليس من صنّاعه بحكم مواهبه، فقد كنت محقا في تسميتي إياه: فنانَ حياته كما أرادها.

ولد بيالار في مدينة بازل شمال سويسرا في 1921، ومع مطلع الأربعينيات، درس التجارة وتاريخ الفن، وعمل، جزئيا، في محل لبيع الكتب القديمة والمطبوعات والرسوم، ثم حصل على محل الكتب ذاك، من صاحبه أوسكار شلوس في 1945، وأقام فيه معرضا للرسوم والمطبوعات اليابانية، وأتبعه بآخر لفن التصوير الفرنسي، وكانت هذه هي البداية لسلسلة معارض منتظمة بلغت الثلاثمئة معرضا، بؤرة اهتمامها الأساسي كانت النتاج الفني الحديث، تصويرا ونحتا، من سيزان، مونيه، بيكاسو، ماتيس، ليجي، ميرو، دوبوفي، موندريان، براك، كلى، جياكوميتي. هذه الأسماء، شكلت المجموعة الرئيسية التي جمعها بيالار، خلال أكثر من خمسين سنة من الترحال والزيارات والصداقات الحميمة مع بعض أصحابها، كبيكاسو وماتيس وبراك، وجياكوميتي خصوصا، الذي تعتبر مجموعته عند بيالار من أهم المجموعات الفنية في العالم، قيمةً وكمّا. أصبح بيالار مؤسسةً، مركزها بيت جميل تميل عتبته مع إحدى حارات الحي القديم في قلب مدينة بازل، يعرض فيها أعمال أشهر الأسماء في سجل الفن الحديث، حتى ضاق المكان، على تعدد غرفه وطبقاته، بما لم يرد أن يبيعه، وما لم يستطع بيعه من مقتنياته الفنية، فكان التفكير في مأوى كبير لها، بيت يخدم الفن ويكون بدوره قطعة فن، وليس مجرد مبنى تبرر محتوياتُه الفنية شبحَه المنتصب، فكان في النهاية متحف بيالار.


المتحف

منذ بداية التسعينيات بدأ سعي الرجل في إيجاد مكان مناسب لمشروعه الحلم، فاستقدم المعماري الإيطالي الشهير رينزو بيانو، أحد مصممي مركز جورج بومبيدو في باريس، ليعاين شريطا ريفيا من الأرض في قرية ريهين، الواقعة على الحدود الجنوبية الغربية لألمانيا، تنتصب عليه فيللا مبنية في القرن الثامن عشر، فكان تصور بيانو المبدئي مبنىً يخدم المجموعة الفنية وليس العكس. تصميم محايد غير عنيف الحضور، لكن، في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل حضوره الجمالي المرهف الخطوط. بعد مباركة المدينة المشروعَ ومساهمتها فيه بالأرض وبعض المال والتسهيلات، أصبحت هذه القرية التي، حتى عام 1997، تاريخ افتتاح المتحف، لم يكن يحمل الترام الواصل بينها وبين مدينة بازل في خمس وعشرين دقيقة، سوى السكان المترددين بشكل يومي بين القرية والمدينة، أصبحت أحد أكثر بؤرات الزيارة لأي سائح يزور بازل، بل إن البعض يأتي خصيصا لرؤية المبنى وما يحتويه من أعمال فنية يبلغ عددها 230 عملا لأهم فناني القرن العشرين، من الأوروبيين المذكورين أعلاه وغيرهم، إلى أعلام الفن الأمريكي المعاصر وسواهم، إلى جانب مجموعة كبيرة من أهم ما أنتجته القرائح البدائية لفنون افريقيا واندونيسيا والإقيانوس، من تماثيل طوطمية وأقنعة من خشب وقش وعاج... معروضة في وقارِ غرفٍ صُممت خصيصا لتناسبها، روحا وهيكلا.

استفاد رينزو بيانو برهافته المعمارية من انحدار أرض المكان المحصورة بين الشارع الرئيسي للقرية، حيث شريط الترام، وبين الحقول الخضراء المترامية أمام سفح التل الألماني، فجعل جانب المبنى المطل على الشارع حائطا ممتدا لا يزيد ارتفاعه عن ثلاثة أمتار، بلا نوافذ، مكسوا بحجر السماقي الأحمر المجلوب من محاجر باتاجونيا بالأرجنتين، وخالقا بجمال نِسبته، طولا وارتفاعا ولونا وملمسا، نوعا من موسيقى بصرية بسيطة ورائقة. في الجهة المنخفضة المقابلة، ترتفع الحوائط الزجاجية الهائلة، من أدنى نقطة في مستوى الأرض بارتفاع ثمانية أمتار تقريبا، خالقةً تفاعلا رقيقا بين الأعمال الفنية والطبيعة الخضراء المترامية في الخارج، التي لا يصل من أزيزها الأثيري إلى الداخل سوى ضوؤها المحسوب وصورتها كلوحة حية، كما أن إحدى الغرف التي صُممت خصيصا للوحة "زنابق الماء" لمونيه، والتي يبلغ عرضها تسعة أمتار في ارتفاع مترين، تطل عبر الحائط الزجاجي، على بحيرة صناعية صغيرة زرع فيها نفس النوع من الزنابق، فأصبحت اللوحة في الداخل، والطبيعة في الخارج، كأنهما شيئا واحدا مشبّعا بالنور العميق والسكينة.

اثنان وعشرون غرفة فسيحة الأبعاد متنوعة النسب، يضمها المتحف بين حوائطة الحجرية والزجاجية، رُوعيت في حساباتها أشكال أعمال المجموعة الفنية وأحجامها، يظللها سقف زجاجي عظيم هو مصدر الضوء الأساسي خلال النهار، وفي حالة عدم كفاية الضوء، هناك ثلاثة أنظمة للضوء الصناعي تُستمد طاقتها من عملية تبريد مياه الآبار الجوفية الموجودة بالمنطقة. تملأ المجموعة الفنية الثابته ثلثي المتحف تقريبا، أما الثلث الأخير، مخصص للمعارض الكبيرة التي تقام تباعا بمعدل أربع أو خمس معارض في السنة، والتي يُراعى في أفكارها وجود رابط أو علاقة حيوية بينها وبين المجموعة، بين الثابت والمتحرك. أما أرضية المتحف، فمن خشب البلوط الفرنسي ذي اللون الناعم المحايد. هذه التفاعلات الشفافة بين الأرضية، بخامتها ولونها، والسقف، بزجاجة غير الشفاف تماما، والحوائط المجردة من أي بروزات أو نتوءات تكنيكية، تخلق نوعا من حضور جمالي محايد، أو من حضور جمالي غائب، لو جاز التعبير، فلا طغيان لهذا الحضور على الأعمال، ولا بروزا فجا للأعمال في فضاء المساحات، إنه بكلمة، حالة من الكمال الفني الناتج عن ذكاء وحساسية.

الحديقة الشتوية المحيطة بالمبنى من جانبه الزجاجي الخلفي هي في ذاتها متحف مفتوح على رقة الطبيعة ورقّة الأعمال النحتية التي، برؤية إحدى مراوح كالدر الحديدية الضخمة التي يدوّرها الهواء، ندرك أنها اختيرت بعناية لهذا التفاعل الهامس بين الفن والطبيعة، وقد كان بيالار حريصا على هذه العلاقة في إنجازاته العامة كما في حياته الخاصة. توصّل الحديقة عبر ممراتها الملتوية، بأحجارها وأزهارها، إلى الفيللا القديمة التي تحولت الطبقة الأرضية منها مطعما، وأصبحت طبقتها العليا مكاتب إدارة المتحف، حيث الموظفون يعملون في نشاط وحب وكأن البيت بيتهم، وكأن بيالار كان أباً أو أخاً كبيرا لهم. كان بالأحرى صديقا لهم، هذا ما يؤكده لي صديقي المغربي، الذي يعمل كفرد أمن بسيط داخل القاعات. كلما حكى لي عن ذلك الرجل الذي رحل، أدرك أنه سيظل مقيما في ذاكراتهم، مثلما هو مقيم في فراغ متحفه، كتمثال غير مرئي بين تماثيل فنانه الأثير، البرتو جياكوميتي.



#يوسف_ليمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفن المصري في الستينيات والسبعينيات ج 3 .. السوريالية هناك ...
- الفن المصري الحديث في الستينيات والسبعينيات (2)
- حدود فان جوخ بين الوعي والخرافة
- رحيل اللباد صاحب -كشكول الرسام-
- عن الثقافة في مصر: شجرة البؤس وأزهار الخشخاش المسروقة
- الفن المصري الحديث في الستينيات والسبعينيات، إلى أين كان، وإ ...
- جان ميشيل باسكيا .. فنه أم موته المبكر صنع أسطورته؟
- سبنسر تونيك .. كما نبي يقود أمته عرايا يوم الحشر
- عن النقد والفن في مصر .. حوار
- هيلموت نيوتن .. الفن رغماً عن أنف ما يصوره الفنان
- مان راي .. أنامل الفنان على أوتار الجسد وظلاله
- من ثقب الكاميرا: حقيقة الجسد أم وهم خياله؟
- تجربة رانيا الحكيم بين الحركية والغنائية في معرض بالقاهرة
- نينار اسبر .. جسدها آلة تعزف عليها قناعاتها
- يوسف نبيل .. الجسد مثقوبا بوجوده
- حمدي عطية وخريطة الجسد
- دينا الغريب .. وردة الرغبة في حقل جسم ملتبس
- عاصم شرف .. الواقع معكوساً في مرايا الرقص
- روح مصر كما يفهمها ثلاثة فنانين عيناً وقلباً
- سمر دياب .. أجساد مفتتة في سوريالية الوجود


المزيد.....




- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - يوسف ليمود - إرنست بيالار، العابر المقيم في جمال متحفه