أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : مَزهر 8















المزيد.....

الأولى والآخرة : مَزهر 8


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3102 - 2010 / 8 / 22 - 08:58
المحور: الادب والفن
    





" ميخائيل، ميخائيل. انهض، بالله عليكَ "
هكذا كنتُ أردّدُ، بينما يَدي تهزّ صديقي، المُستغرق في فجّ عميق من سباته. عيناهُ، المَمهورتان بختم النوم ، ما لبثتا أن تفتحتا على نظرَة مُتسائلة، جَزعَة. وميّزَ شخصي، أخيراً، بفضل نور المَسْرجة، الشحيح؛ المسرجة، التي سبق ووضعها الخادمُ في خدمتي قبل انصرافه. وكانَ هذا قد تعهّد بدَوره إيقاظي، لكي أتناول طعام السّحور؛ ثمة، في قاعَة الطعام. بيْدَ أني كنتُ، عندئذ، على صَحْوَة بيّنة إثرَ انجلاء الحلم؛ كذلك، كنتُ قد تفكّرتُ جيّداً في تأويله.
" علينا أن نهرَع، من فورنا، إلى منزل الأفندي "، خاطبتُ ميخائيل بصوت كالهمس حالما استقامَ بجذعه في الفراش. ثمّ استأنفتُ القولَ " ما دامتْ نرجس مُصرّة على دفن صديقتها في بيت القنوات، فإننا الآنَ في الوقت المُناسب. ففي هذه الساعة، التي تعقب الإمساك وصلاة الفجر، يكونُ الخلقُ نياماً جميعاًً. فلن يتسنّ للزعيم، أبداً، أن يَعرف بالأمر ". وَضع ميخائيل كفه على جبيني، في حرَكة مألوفة؛ تفصحُ عن رَيبته بكوني مَحموماً. ففي ليلة الأمس، أيضاً، كانَ قد اشتبَه بشيء من علامات الهذيان، المُرتسمَة على ملامحي تأثراً بخبر مقتل شمس.
" أرجّحُ أن تكونَ قد أفقتَ، مُبلبلاً، إثر حلم أو كابوس "، قالها مُشفقا. ولما وافقته بهز رأسي، فإنه تساءلَ مُنزعجاً: " ألم تجدَ، يا عزيزي، وقتا أنسبَ للتفوّه بمثل ذلك الاقتراح، الطائش؟ ". إلا أني رأيتُ أن أصحّحَ التعبيرَ: " بل هيَ رؤيا، صدّقني. وثمّة أسباب، ولا غرو، تجيز لي حَملَ ذلكَ على أخفاف الواقع ". علامات الاهتمام، بدَتْ إذاك على قسمات طبيبنا؛ هوَ المُهتمّ بالأحلام والعليم بتفاسيرها، فضلاً عن معرفته، الراسخة، بأمور الأنجم والأفلاك. فاستطردتُ عندئذ أحثّ همّته: " اعلم إذاً، يا صديقي، أني رأيتُ مؤخراً أكثرَ من منام؛ وكلها تكرّرُ المَشهد نفسه: مَنظرة على شكل قبّة مَرفوعة على أعمدَة أربعة، مُرخمَة. وهذا العددُ يتمثل دوماً برموز أو فتيات. وفي إحدى تلك الرؤى، سمعتُ هاتفاً يُنبئني بأنّ القبّة هيَ عرشُ السرّ، الأعظم "
" عرش السرّ الأعظم..؟ "، ردّدَ ميخائيلُ ثمّ أردَفَ مُستفهماً " أهوَ سرّ الكناش أم سرّ الجرائم، ربما ؟ ".

عند ذلك، رُحتُ أقصّ على صديقي تفاصيل ما رأيته في حُلم الليلة، علاوة على ما سبق من رؤى، مُشابهة. وكانَ ميخائيل مُطرقا، ينصتُ إليّ بانتباه. فلما سكتّ رفعَ هوَ رأسه عن نظرة امتعاض، فقال باقتضاب: " ربما هيَ رؤى، حقا ". إلا أنه أضافَ بشيء من السخريَة " إني مُتسامحٌ معكَ، في أمر إزعاجي. ولكنني، من ناحيَة أخرى، لن أشارككَ في تنكيد إغفاءة الآخرين، لخاطر حلم أو رؤيا أو سمّه ما شئتَ. فلتعُد إلى فراشكَ، يا عزيزي، فإنّ الأمرَ لا يَستدعي العجَلة ". بيْدَ أنّ ميخائيل، على دَهشتي، أخلدَ بعدئذ للتأمّل لا للنوم. إذاك، أدركتُ أنه بدأ بمُشاركتي هاجس التساؤل ذاته: لمَ رفضَ الزعيمُ ليلة أمس، بإصرار وغضب، أمرَ دفن شمس في حديقة منزله، واصفاً ذلكَ بالجنون والتجديف..؟

في قاعَة الطعام، رأيتني وحيداً بمُقابل الطاولة، المَرصوف فوقها أطباقُ طعام السّحور، المُنوّعة والوَفيرة. عندئذ تذكرتُ مَنامَ الليلة، وما تخلله من وليمَة، ماجنة، كانَ المُضيفُ نجمَها. فاستغفرتُ الله على الفور: " إنه حلمٌ شيطانيّ، ولا رَيْب "، قلتُ في نفسي. وإذ كنتُ على مَظنة بأنّ البكَ على عَهده غير المُبالي بأيّ فرض، فإني تساءلتُ بالمُقابل عما إذا كانَ الضيف، الزعيم، قد تمكنَ من نيل شيء من القوت ثمة في حجرَته.
في المصلى، أيضاً، كنتُ على حال من الوحدَة، مُستغرب: " إنّ رّجلنا، الجريحَ، هوَ من نوع أولئك الناس، الذين يُصرّونَ على أداء الفرض في المصلى أو المسجد، ومَهما يَكن الظرفُ "، خاطبتُ نفسي مُجدّداً. داخل المكان، الطاهر، كانَ الجوّ بارداً جداً. فما أن أنهيتُ الصلاة، حتى وَجدتني أشدّ على نفسي الإزارَ، الصوفيّ، ثمّ أغادر المصلى مُسرعاً. خارجاً، بدَتْ السّحب الرماديّة، المُتكاثفة، المتحرّكة بفعل هبوب الرّيح، كما لو أنها تشكّلُ وَجهَ الشيخ الثلجيّ، الوَشيك القدوم.

" تعالَ، يا رَجلَ الثلج. تعالَ، لكي تجلّلَ بنصاعتكَ يَوْمَنا هذا، الأسْوَد "
رفعتُ ندائي إلى السّماء، هذه المرّة. نعم. كانَ بودّي، كما هيَ العادَة، الإفضاء بأحزاني في حَضرَة الخالق؛ ثمة، في بيته الطاهر. إلا أنّ البردَ مَنعني، في آخر المَطاف. على ذلك، مَضيتُ أتمشى خللَ باحَة الحوش السماويّة، الكبرى، التي يَهمي عليها أشباحٌ مَقرورَة لأشجار الحمضيات، الخالدَة الخضرَة. قدّام مَدخل القصر، الخامدَة أنوار مشاعله، إذا بشبح آخر، آدميّ، يتطاولُ من غمرَة العتمَة: " تقبّل الله، يا جنابَ الزعيم "، خاطبني الرّجلُ بنبرَة احترام. ولما اقتربتُ منه، عرفتُ فيه أحدَ الحراس. وإذ عرفني هذا بدَوره، فإنه أردَفَ مُعتذراً " العفو، يا آغا، لقد شبّه لي أنكم الزعيم. فإنّ جنابه كانَ هنا، قبيلَ سويعة أو نحوَها "
" هنا، في هذا المكان؟ "، هتفتُ فيه مُستغرباً. ثمّ استدركتُ بتهكّم " لقد شبّه إليكَ، في تلك الحالة أيضاً. فالزعيمَ جريحٌ، لم يتعافَ بعدُ.. ". وعليّ كان أن أعودَ إلى المُنقلب، الأول، فأتلبثُ مُنبهتاً على أثر تأكيد الرّجل: " لقد كلّمته بنفسي، يا سيّدي. وكانَ يهمّ بالتوجّه إلى المسجد، المُجاور، كي يؤدي فرضَ صلاة الفجر ".

" إنّ أمرَ الكشف عن السرّ، مَرهونٌ باجتياس أرضَ المَقام، الياسَميني "
قلتُ للطبيب بتصميم، ثمّ استدرَكتُ " ولأنّ الزعيمَ، بنفسه، سبقنا إلى هناك منذ وقت قصير ". وكنتُ قد رَجعَتُ على أدراجي لحجرَة ميخائيل، مُتيقناً أنّ النومَ جفاهُ بعدما سبقَ وشغل بحديثي. وإذ لم يُخب ظني عندئذ ، فما كانَ من سوى مُكاشفة الصديق بريبتي في مَسلك الزعيم مُعيداً على مَسمعه ما كانَ قد جرى عند مَدخل القصر . فما أن أنصتَ إليّ، حتى بانَ الشكّ في عينيْه: " ماذا تقول؟ أيُمكن لرجل وَجيه، في مَقام كبير الأعيان، الإتيان بحماقة كهذه. كما أن جرحَهُ طريّ بعدُ والليلُ، فوقَ ذلك، شديدُ البرودة "، قالها وقد أدركَ مَرمى كلامي. ثمّ أعقبَ بنبرَة الاستياء ذاتها " من المُحتمل، فعلاً، أنّ داع ما دفعَ الزعيم إلى ارتياد المَسجد لكي يُصلّي هناك. فلمَ علينا الجزم، بأنه ذهبَ إلى بيته القديم؟ "
" لأني أعرفُ، يقيناً، أنه لا يفعل ذلك إذا كانَ ثمة مصلى في المنزل؛ بله وهوَ الجريح "
" ولكن، ليسَ في مصلى شخص مثل القاروط؛ شخص مُلحد، في نظر الزعيم "
" ولكن، ها هوَ الفجرُ قد انبلجَ الآنَ. فما علينا سوى وضع الظنّ في ميزان اليقين، فنذهب بدَورنا إلى ذلك المَكان "
" إلى أين..؟ "، قاطعني ميخائيل نافخاً بقنوط. إذاك، رأيتُ أنه من الأجدى أن أعمُد إلى المُداورَة: " مهلاً، يا صديقي. لقد أنبأتكَ أمس بأمر ورقة الكناش، المَفقودَة. وكنتَ أنتَ قد نهيتني عن الاستعانة بالعشّاب، العجوز، بما أنه ربيبُ هذا القصر. حسنٌ، إنّ ذهابنا لمنزل عبد اللطيف أفندي، والحالة تلك، سيحققُ لنا أكثر من غايَة. ولا تنسَ جنازة صديقتنا، المَرحومة المُشرفة، وضرورة أن نكونَ هناك قبل الآخرين لتقديم المُساعدَة، المُمكنة ". وكما أملتُ، سكتَ ميخائيل عندئذ عن الجواب. لقد غلبَته حُجتي، ولا غرو.

حال خروجنا من القصر، فإنّ بابَهُ قد استفتحَ باتفاق، غريب.
إذ وفيما كنا نهمّ بركوب الكرّوسة، كانَ الشاملي يُقبل من الناحيَة الأخرى، المُفضيَة إلى المَدينة القديمَة. وبما أنّ الوقتَ كانَ على مَشارف الفجر، فإنّ القادمَ أبدى نوعاً من الدهشة ما أن لمَحنا. ثمّ ما عتمَ أن أحنى رأسه بتحيّة، مُقتضبَة. إلا أننا هُرعنا نحوَه، بُغيَة الاطمئنان على عافيَته: " أرجو أن تكون بحال أفضل، يا سيّدي "، قلتُ له بودّ. ثمّ استللتُ لمحَة من هندامه المُعتاد، والمُعزز بعباءة من وَبَر الجَمل، الخشن. ولاحظتُ أنّ كمّ العباءة، الأيمن، كانَ فارغاً؛ بالنظر إلى إخفائه تلكَ اليَد، المُصابَة من أعلاها.
ميخائيل، كونه طبيباً، فإنه لم يَتهاوَن في أمر مُعاتبَة مَريضه. فخاطبَ الشاملي بنبرَة صارمَة: " ما كانَ يَجوز لكَ، أيها الزعيم، مُغادرَة حجرَتك في مثل هذا الطقس. إنّ جرحَكَ طريّ ما يفتأ، ومن المُمكن لا قدّر الله أن يَلتهبَ بسهولة ". أبدى الرّجلُ التفهّمَ بحرَكة، طريفة، من يَده اليُسرى المَرفوعة إلى رأسه. إلا أنه ما لبثَ أن التفتَ نحوي، مُستفهماً ما إذا كنتُ في سبيلي إلى القلعة. عندئذ كانت عيناهُ، العميقتا القرار، تشعان ببارق خفيّ من الغيظ والسّخط.
" بل إننا في الطريق إلى منزل الأفندي، للقيام بواجب المُشرفة، رحمها الله "، أجبته بعبارات مُشتتة، هاربَة. وفيما كنا نستودعُ حضرَته، بادرَ هوَ للقول على غرّة: " إنّ الجثمانَ سيُدفن ثمة، في الصالحيّة؛ في تربَة مَولانا، قدّس سرّه ". وكانَ بودّي السؤال عن كيفيّة مَعرفته بالأمر؛ ولكنني أمسكتُ لساني: فإنّ رجلاً وَجيهاً، بمَقام كبير الأعيان ـ بحَسَب وَصف ميخائيل ـ لا يجوز التساؤل عن مَصادر أخباره.. ولا حتى عن الأمكنة، التي من المُمكن أن يَرتادَها في صباح مُثلج؛ هوَ الجريحُ، غير المُعافى بعدُ.

" عليكَ بالانعطاف نحوَ جهة القنوات، أيها الحوذيّ "
خاطبَ ميخائيلُ العجوزَ، على حين فجأة، فيما كانت العربَة تسعى في درب السوَيْقة. دونما حاجة منه للمُساءلة، أومأ الحوذيّ برأسه علامَة على الإذعان. أما من جهتي، فإني توجّهتُ لرفيقي مُستفهماً باستغراب: " باسم الله، عليك. ماذا دَهى، يا رَجل، لكي تتخلى عن عنادك؟ "
" إذا كنتُ قد تقمّصتُ صفة رأسكَ، الكرديّ، فها أنا ذا أتبرأ منها بسرعَة "، أجابَ بلهجَة جَذلة. بيْدَ أنه كانَ سريعاً، من ناحيَة أخرى، في الانكفاء إلى لهجته المألوفة، الجدّية: " أعترفُ، يا صديقي، بأنكَ كنتَ على حقّ في ريبَتكَ: إنّ هيئة الزعيم، الخارجيّة، كانت تدلّ على أنه قضى للتوّ عملاً ما، صعباً. وأعتقدُ أيضاً، أنه قبلَ ذلكَ كانَ قد تدرّجَ مشياً إلى مدرسَة الحديث، القريبة، ومن هناك إلى منزله في القنوات "
" قصدَكَ، أن يكونَ قد استعملَ، مُجدّداً، ذلكَ الممرّ السرّي؟ "
" ليسَ بالضرورة، طالما أنّ الظروف تغيّرتْ. ومن السهل عليه ولا غرو أن يأمرَ أحد الحوذيين، العاملين بتصرّف المَدرسة، أن يوصله إلى المكان الذي يُريده "
" ولكن، ماذا كانَ شغلُ الشاملي ثمّة؛ في منزله، المَهجور؟ "
" هذا، يا صاح، ما أودّ أن أسبرَ غوْرَهُ "، أجابني بغموض. ليسَ في تلك اللحظة، بل فيما بعد، شئتُ التعقيبَ على جملته الفائتة، المُلغزة، بجُملة أخرى لا تقلّ إلغازاً. وعلى كلّ حال، فإذ كانَ فعلُ " سَبَرَ "، في العربيّة، مُرادفٌ لفعل " نقّبََ "، فإني تفكّرتُ إذاك بماهيّة الفكرَة التي كانت آنذاك تراودُ ذهنَ صديقي.

" كلّ مَدَد، إن هوَ إلا بَدل من حقيقة صاحبه "
ندّتْ عني بصَوت مُنخفض، طالما أضحينا داخل منزل الشاملي. وكنتُ أعقبُ على مَشهدَ القبّة، المُتبدّي عن فرب لعيوننا. ليسَ حَسْب مَظهر هذه العمارَة، هوَ ما أنبتْ عنه الرؤى، المُتواترَة، التي عادَتني في الآونة الأخيرَة؛ بل وأيضاً ما تضمّه في داخلها. إنما يَتعيّنُ عليّ، أولاً، وَصف عَمارة القبّة بجملتيْن لا غير. إنها كما علمنا دقيقة الحجم، مَبنيّة من الحجَر المُلبّس بقطع الفسيفساء. علاوة على أعمدتها الرخاميّة، الأربعة، المُتوسّطة الطول: وعلى ذلك فإنّ مُصمّم قبّة المَقام، أو صاحب فكرتها، أرادَها أن تشبه، كثيراً أو قليلاً، قبّة بيت المال في الجامع الأمويّ.
" ولكن، أيّ مَقام هذا؛ وهوَ الخالي من أيّ ضريح؟ "، استطردتّ هامساً. وما كانَ ثمّة داع، للحقّ، في كلّ الحيطة والحَذر، المُحكّم مسلكنا هنا؛ في هذا المَنزل المَهجور. فإنّ ناطور الوَقف ( هل أضحى للمَكان، وقفٌ فعلاً؟ )، الذي خصّصتْ له المَنظرة، ما كانَ من المُحتمل أن يأتي إلى عمله في هكذا جوّ مُتجهّم، قارص البرودَة.
" بلى، يا صديقي، كانت ثمّة جثة مَدفونة تحت هذه القبّة "، أجابني ميخائيل بُعيدَ مهلة تفكير وَجيزة. حدّقتُ في عينيْه مَندهشاً، مُتسائلاً، فما كانَ منه إلا الإشارَة بيَده إلى المَكان، المَطلوب. نعم. كانَ ثمّة خلخلة في الأرض المُستويّة، المُخضوضرَة، وكأنما عُبثَ فيها حديثا. فضلاً عن ذلك، فإنّ حفنات قليلة من التراب كانت مُتناثرَة خلل الحشائش، مما يَدلّ على أنّ أحدهم أرادَ إخفاء ما كانَ من عَبثه، المَوصوف.
" ليتنا أحضرنا رَفش ومَعول، لكنا نقبنا هنا عن الجثة "، قلتُ بأسف. فردّ عليّ صديقي مُتبسّماً بتهكّم: " لا بأس، يا عزيزي. إنّ من حَضرَ في بهرة السّحر، لكي يُنقب الأرض تحت هذه القبّة، لا يُمكن أن يكونَ ساذجاً لدرجَة تركه الجثة في مَكانها "
" أأنتَ تعني، أنّ الزعيمَ خشيَ أن تركبَ ابنته نرجسُ رأسَها، فيَكتشف الخلق عند ذلك حقيقة أنّ الابنة الأخرى مَدفونة هنا، فتبطل قدسيّتها ؟
" هذا سببٌ وَجيهٌ، بلا شكّ. إنّ إيمان المسلمين بعقيدَة " الغائب "، يبدو وقد انقلبَ من الرجال إلى النساء؛ فصار هناك " الغائبة "، أيضاً "، قالها ميخائيل برصانة ودونما نيّة ما، مُبطنة.

" ولكن، ما هذا؟ "
هتفتُ بذهول، وأنا أقلبّ بينَ أصابعي خاتماً مُنمنماً. وكنتُ قبل قليل قد جَرَفتُ بوساطة عود صغير تلك الأتربَة، المُتخلّلة حشائش أرضيّة المَقام، مما أدى على ما يبدو إلى انبثاق هذا الشيء، الثمين. تشديدي على المُفردَة الأخيرَة، مَبعثه تفحّصي للخاتم عن قرب؛ حيث تبيّنَ أنّ جسمَه من معدَن الذهب فيما رأسه من العقيق. فما أن حدّقتُ ثانيَة ً في الجوهرة المُشكّلة فصّ الخاتم، حتى لفتني شكلُ نجمَة من الماس منقوشاً ثمّة، ولا يكادُ يبين لدقته.
" أقسمُ بالسموات العُلى، أنّ هذا الخاتمَ كانَ يُزيّنُ إصبع ياسمينة حتى يوم اختفائها، أبداً "، قلتُ لميخائيل وأنا أعرضُ لناظرَيْه ذلك الغرَض. تناولَه من يَدي، ثمّ راحَ بدَوره يتأملُ الفصّ والنقش: " أجل، إني أرى شكلَ زهرَة الياسمين، مُرقشة بالماس ولا رَيْب "
" إنّ أختها أيضاً ، كما أتذكرُ جيّداً، تتزيّن بخاتم مُماثل عليه نقش زهرَة النرجس "
" لأن كانَ هذا خاتم ياسمينة، حقا؛ فإنّ صاحبته، بالتالي، لا يُمكن أن تكونَ جثة مُتفحّمَة ـ كما يُعتقد لحدّ الآن "، قالها ببطء. عندئذ، شئتُ العودَة إلى حكايَة الرؤيا. إلا أنّ ميخائيل، فجأة، أجازَ لنفسه بترَ كلامي في شيء من التوبيخ: " دَعْ عنكَ هذا، يا آغا. إنّ من يُريد أن يَصلَ إلى حقيقة تمتّ للواقع، مثل قضيّة الجرائم تلك، فعليه أن يقفَ على أرض الواقع لا على أرض الخرافة ". وكأني به، كما فكّرتُ بخجل، كانَ يَهمز من قناة فشلي في اكتشاف القاتل، المَجهول. بيْدَ أني تجاهلتُ الوَخزَ، مُتوجّهاً إليه بالقول: " حَسَنٌ. فهل لديكَ تفسير ما، لهذه المَعميّة الجديدة؟ ". فوَضع صديقي يََدَهُ على كتفي بمودّة، ثمّ أجابَ كالمُعتذر: " لا عليكَ، يا صاح. إننا نجتهدُ، فنخطأ أو نصيب ". وأضاف فيما كانَ ما يفتأ يُحدّق بالخاتم: " إنّ ياسمينة، على الأرجح، قتلتْ بيَد المُجرم نفسه، المَجهول. أما جثتها، فيمكن العثور عليها بوساطة التنقيب في الحديقة وأخذ أقوال المُشتبهين؛ ومنهم صاحبنا، ناطور المنزل "، نطقها وكأنما ليُذكرني بحقيقة ما كنتُ لأعيها بعدُ: وهيَ كوني قد أصبحتُ من أهل القلعة، بصفة باشكاتب أوّل؛ أو مَكتوبي أفندي ـ كما سيُطلق عليّ لاحقا باللغة العثمانيّة.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأولى والآخرة : مَزهر 7
- الأولى والآخرة : مَزهر 6
- الأولى والآخرة : مَزهر 5
- الأولى والآخرة : مَزهر 4
- الأولى والآخرة : مَزهر 3
- الأولى والآخرة : مَزهر 2
- الأولى والآخرة : مَزهر
- الفصل السادس : مَجمر 11
- الفصل السادس : مَجمر 10
- الفصل السادس : مَجمر 9
- الفصل السادس : مَجمر 8
- الفصل السادس : مَجمر 7
- الفصل السادس : مَجمر 6
- الفصل السادس : مَجمر 5
- الفصل السادس : مَجمر 4
- الفصل السادس : مَجمر 3
- الفصل السادس : مَجمر 2
- الفصل السادس : مَجمر
- الرواية : مَطهر 9
- الرواية : مَطهر 8


المزيد.....




- المهرجان الدولي للشعر الرضوي باللغة العربية يختتم أعماله
- -مقصلة رقمية-.. حملة عالمية لحظر المشاهير على المنصات الاجتم ...
- معرض الدوحة للكتاب.. أروقة مليئة بالكتب وباقة واسعة من الفعا ...
- -الحياة والحب والإيمان-.. رواية جديدة للكاتب الروسي أوليغ رو ...
- مصر.. أزمة تضرب الوسط الفني بسبب روجينا
- “شو سار عند الدكتور يا لولو”.. استقبل الان تردد قناة وناسة ا ...
- حل لغز مكان رسم دافنشي للموناليزا
- مهرجان كان السينمائي يطلق نسخته الـ77 -في عالم هش يشهد الفن ...
- مترجمة باللغة العربية… مسلسل صلاح الدين الحلقة 24 Selahaddin ...
- بعد الحكم عليه بالجلد والسجن.. المخرج الإيراني محمد رسولوف ي ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الأولى والآخرة : مَزهر 8