|
الأشجار الحامضة لصيف مخاوفنا الأمومي
نصيف الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 3093 - 2010 / 8 / 13 - 15:34
المحور:
الادب والفن
1
معلقة ً ترفرفُ تحت شمس الرغبة ، فروج نسائنا فوق حبال الغسيل والرجال في الحرب يحرثون في نسيم موتهم . مياه الأمطار تسقطُ متفسخة على زروعنا المنطفئة ، وأبواب السنبلة موصدة في رماد الظهيرة . نريدُ اشارات حركة نستنشقُ فيها عطور الزمن . لغة تسافرُ عصافيرها في دخان تلعثماتنا ، وفي تصدعات رؤوسنا تحت ظلال أشجار تفاح الضواحي . الغرف تسيلُ من شدّة القصف والانفجارات ، ونحنُ نخفي الهمسات في انعطافة كل قنبلة . المصاطب مهجورة ومتهدمة في المتنزهات ، ولا شيء يتحرك تحت اللمعان الأسود للأقمار في المدينة . تهدمات حياة بلا نبض ، نملأها كل يوم بانصاتٍ يضغطُ على جثة الصباح المثقبة .
2
يومىء ماضييّ في الحركات العليلة لذكرى القتلى ، ورداءة الطقس لا تعينني هذا اليوم على تذكر الأشياء التي أضعتها في وقوفي على فوهة البركان . سنوات طويلة أتتبعُ خيط موتي من أجل الوصول الى صخرة الحاضر ، وأعرفُ أن أنظمة فصول عديدة تمّحي تحت التكسرات الحادّة للزمان . ظل سقوط يشحذ نفسه على شرفات أحلامي ، ويحاصرني في نومي المفتوح على القبر . سلالم كثيرة صعدتها في ضوء الفجر ولم أصل الى لغط الثمرة ولا الى صمت الموسيقى . كل أهداف حياتي تتمهلُ في الترنحات الطويلة للماضي ، ولا نسمة تنبضُ تحت غطاء اللحظة الراهنة . أمام أشجار مهدمة تكتم أنفاسها أفاعي الذاكرة الهائمة بين الحجارة والاغماضة ، أوسد مرثيتي في عطش العندليب ورقصته المترنحة ، وتستبسلُ صرخة موتي في الريح المتعاظمة ، أكثر شراسة من غصن يتدحرجُ في الصفصافة المأتمية للرعد .
3
كنتُ أشربُ من بئر حين هجم عليّ ايل الافلاس . في حانة بأربيل تعجُ بالجنود والمهربين جاءت إليّ صبية تبيع السجاير أعطيتها غيمة زرقاء ومشطّتُ شعرها . الى الآن لم تكبر الصبية ولم تتشرد الغيمة . ملايين البشر يترنمون في الليل النائم فوق جباههم ويخافون العاصفة في السماء المريضة . أريد الآن أن أحطم شعورهم بالوحشة ، لكنني أسير رمال صحراء طويلة من الحزن والخسارة ، وترتعش غصون آمالي مستعرة في اللهب الحاقد لجروح أيامي المشققة . أريد أن أسحب البحر الى فجر الأحلام ، حتى يدوم جمال الانسان في أشرعة الكواكب ، وفي ممالح موته المقفرة . في ضجيج الرائحة المحلولة للوردة ، وفي ضوء القنديل الخفيف للدمعة ، محاطاً برأفة الحبَ الحارّة ، أتقدمُ صوب موتي حاملاً معي مبخرة الله ومصبّات الأنهار . قرابين حياة عشتها بوثبات كبيرة ما بين الكثبان الرملية لجروحي والخلجان المجهولة لأسماك المدفعية في سنوات الحرب .
4
رجلٌ كحولي ينفخُ في أصفار حياته تحت الشمس المظلمة ويعصبُ رأسه تكريماً لألغاز الصدقات . يلزمنا الواجب الآن أن نبطل التمييز العنصري ، ونوقظ الموتى من أجل مساعدة الحشرات في ايجاد طرائق عيش أكثر جدوى . كل تهديد بالسلاح ، يجب أن يتراجع . الينابيع مأهولة بفراشات تموت معصومة عن العطش . لا ميزان للايمان ، والموت يستدعينا ويتواطأ مع النجوم فوق مستنقعات محنتنا ، من أجل أن لا نذهب الى تغنجات شجرة الدفلى الحانية أنفاسها على دخان المجد الهادىء لملاحم أسلافنا وتناغمات طقوسهم في ملح المدارات . أشياء كثيرة نسمّيها في لغتنا الهيروغليفية لحظة الاحتضار ، لكننا ننسى أن ننتزع اشاراتها حين يخضرّ الوادي الذي غابت فيه أسلحة أولئك الأسلاف . لا أحد منّا يتكهن الآن عن المعادلات التي تطرد الغيلان في الجزر المرجانية لنومنا ، والنمور لا تروّض في أرض الشعب الذي ضربته الصاعقة .
5
ليس من طبعي الغدر بأحدٍ ما . لحظات صمتي تنتصبُ سلالم طويلة ، وتنسيني التفريق بين العرس والجريمة . في الضفاف التي عبرتها صعوداً الى فخاخ أعدائي ، رأيت ذلك السم الذي يحطم جمال الروح البشرية ، وتخليتُ عن الحقد ووعظته بمحاذاة حانة تنفتحُ على المتحف العجائبي للطبيعة . لا يجرؤ الحبّ على تبادل الملامح ، ولا يصبغ النظرات حين تمرّ التوابيت من أمام بوّابة حلم النائم ، والتنويمة الخفيفة للثمرة ، توّسع لنا ليل الشجرة وتمنحنا فرصة الصعود الى أعالي الصاعقة . في داخل كل انسان فص ثوم مريض ، ويتوجب دائماً ازاحة الفأس من فم المتكلم .
6
المنتحرون والكحوليون يفشون أسراراً تغفرها لهم الملائكة ، وأعصابهم التي تتلوى في العالم الفارغ من الأوكسجين ، تسقطُ فوقها قناديل البحر الميتة . أن تكون منتحراً ، يعني انك ستحيا في القفزات الصريحة التي تصوّرها الشمس ، وتحرّض التنفسات المتعاقبة على الهيجان الدائم في بلاد الأقلية . أيّاً كان فعل الموت نتحلقُ بعيون نصف مفتوحة ، ونحملقُ في الهواء الفائر لجثة الميت ، وأفكارنا العصابية تتهدمُ مثل منزل الحلزون ، حين يتدحرج الفراغ ويُسقط فوق فضائلنا أقنعته المصابة بالهوامش . التقوى والاخلاقيات التي يتبجح بها الانسان ، هي ما يجعله أكثر تعصباً في أن يموت ميتة مختارة وجميلة .
7
ننسى في قنصنا للخنازير البرية في المستنقعات المليئة بالقصب ، نعومة لغات دفنّاها تحت غلال السنة الماضية ، ونعددُ مناقب موتانا في التجمعات الكبيرة للأعياد ، بمنأى عن ارثهم المخزي . كلّ مولود لنا يزاحم الجثث التي نتركها منتصبة في العراء ، ومدائحنا البطولية تفرغُ الوردة من عبيرها . هل لنا أن نستعيد لحظات تأملنا القديمة أمام زئير أسد مناجم الفحم التي أضعنا فيها شارات نصرنا القرمزية ؟ حياتنا تتشكل بخفّة وقورة ، لكنها تتهدم في شغب الدعسوقات وفي سعينا للنوم تحت الأشجار الحامضة لصيف مخاوفنا الأمومي . الأفاعي تبدل جلودها في الظلمة المؤنسة ، غير مكترثة لميزان الفصول ونحنُ ننتظر الأسرى في مرافىء لا رياح فيها تدفىء طفولة الثمار .
8
حين كنّا في السجن ، كانت المذنبات الرحيمة تظللُ صيفنا بأشجار الخيزران ، وكانت الملائكة تعالج التورمات وتدفنُ آثار القنابل العنقودية في البراري . ما لا نستطيع كتمانه الآن ويضيّق علينا الخناق ، هو هذا الألم من الموت الجماعي للشعب ، والتدمير المنظم والفاشي للثقافة والتاريخ والطبيعة . نريدُ من البروق والرعود التي ادخرها بدر شاكر السيّاب في وديان العراق ، أن تحنو على سهرنا في التوحشات الكبيرة للكراهية ، وأن تطلق سهامها المصلصلة صوب من شرّعوا القتل والخراب ، وأضاعوا البوصلة . الأحقاد الحرارية لمشرعينا وحكّامنا اللصوص تحت رايات ميليشياتهم الواطئة ، أضاعت المآثر الجميلة لعروس الزمان .
* شاعر من العراق يقيم في السويد
#نصيف_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أشجار الدفن العالية
-
حوار مع نصيف الناصري { وكالة كردستان للانباء( آكانيوز ) }
-
تحطمات هائلة
-
تعهدات ملزمة
-
مخططات للحفاظ على القانون
-
الحبّ . الزمن
-
بلدي السويد
-
ايمان الحيوانات
-
الصيرورة المتعاقبة لمرايا التاريخ
-
مقدمات في الكلام الجسماني عند أهل البصرة
-
طقس ختان القنبلة النووية
-
مدينة الفيل
-
قداس جنائزي الى السيدة الشفيعة
-
الشواطىء المهدمة للزمن
-
النوم الأبدي
-
تجربة مع الموت
-
كتاب { العودة الى الهاوية } في الشعر العربي الراهن
-
مجموعة { في ضوء السنبلة المعدة للقربان }
-
مجموعة { نار عظيمة تحمي الياقوت }
-
مجموعة { الأمل . أضداده . خيّاط الموت . نار الأبدية }
المزيد.....
-
منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في
...
-
مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري
...
-
شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا
...
-
تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O
...
-
مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم
...
-
تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
-
فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى
...
-
بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين
...
-
ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
-
فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|