أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نصيف الناصري - تجربة مع الموت















المزيد.....



تجربة مع الموت


نصيف الناصري

الحوار المتمدن-العدد: 2924 - 2010 / 2 / 22 - 23:22
المحور: الادب والفن
    


تجربة نصيف الناصري الشعرية ..

كتابات عنه . شهادات . متابعات . حوارات معه .

اعداد وتحرير : نصيف الناصري


المحتوى


1 – كتابات

1 – محمد مظلوم { الغجري المحارب وظلاله البدوية }
2 – مازن المعموري { ايقونة نصيف الناصري . السؤال الفلسفي للشعر }
3 – وديع العبيدي { لزوميات نصيف الناصري }
4 – باسم الأنصار { الخطبة الشعرية }
5 – عبد الكريم كاظم { نصيف الناصري صانع حرائق }
6 – عبد الكريم كاظم { كهنوتية نصيف الناصري وعصيانه الشعري }
7 – علي حسن الفواز { نصيف الناصري . الروح الباسلة وصناعة الحرائق }
8 – اسامة العقيلي { السرد وهيمنة التجربة . دراسة لنص نصيف الناصري }
9 – هادي الحسيني { أرض الشاعر الخضراء تذرف دموع الموت }
10 – علي حسن الفواز { سيولة الكتابة عند اغواءات الحنين }
11 – مهدي الشمسي { المتواليات الهندسية والعددية في عوعوات نصيف الناصري }


2 – شهادات

1 – حميد المختار { الشعر العراقي والصعلكة }
2 – كَولاله نوري { من حوار معها }
3 - منذر عبد الحرّ { الشاعر نصيف الناصري وقصيدة أدونيس }
4 – بلاسم الضاحي { نصيف الناصري . ما بقي منه في خزانة الذاكرة }
5 – خضير ميري { الغجري }
6 – عوّاد علي { حماقة ماركيز . من فصل من رواية }
7 – د . يوسف اسكندر { الثمانينيون في شهادة متأخرة }
8 – د . جواد سماري { صعاليك بغداد والموت على الأرصفة }


3 – اهداءات

1 – عبد القادر الجنابي { الشعر العراقي }
2 – واصف شنون { نصيف الناصري }
3 – واصف شنون { السرعة القصوى }
4 – ستار موزان { أحمر يعلو قباب الذهب }


4 – حوارات


1 – ما يعوز شعرنا هو الأفكار العميقة
حوار : أجراه مازن المعموري
2 – طموحي الدائم هو أن انجز القليل الذي يتحقق فيه الابداع الحقيقي
حوار : أجراه خضير الزيدي
3 – صعقة الشعر جاءتني عبر اكتشاف الموت
حوار : أجراه عادل كمال
4 – كيف يتسنى لنا التسلل بهدوء من الأفق المعتم للعالم ؟
حوار : أجراه عبد الكريم العامري



نصيف الناصري
سيرة أدبية ..

ولد نصيف الناصري عام 1960 في الناصرية . أجبر على الدخول خوف السجن الى مركز لمحو الأمية وتعليم الكبار عام 1975 – 1976 { الحملة الشاملة لمحو الأمية } في مدرسة الجبل الأخضر بالثورة { بغداد } وتم منحه شهادة يقرأ ويكتب .. أمضى الخدمة العسكرية الالزامية 1979 – 1991 بصفة جندي مشاة . أصدر عام 1986 . 4 مجموعات شعرية بخط اليد وبطريقة التصوير بالدفلوب ضّمها مجلد حمل عنوان { جهشات } أصدر عام 1996 مجموعته { أرض خضراء مثل أبواب السنة } على نفقة المرحوم عبد الوهاب البياتي عن الدار المؤوسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت . أصدر عام 1997 كراس { قبر في الذاكرة } على نفقة الشاعر والفنان ناصر مؤنس عن دار مخطوطات – هولندا . أصدر عام 2007 مجموعته { في ضوء السنبلة المعدة للقربان } عن دار بابل . دمشق . منشورات المركز الثقافي العربي السويسري . أصدر في مواقع الانترنت : ايلاف . الكاتب العراقي . عراق الكلمة . بيت الشعر العراقي . جهة الشعر . الحوار المتمدن . آبسو . عراقيون . مجموعاته . 1- { ولاء الى جان دمو } . 2- { أشياء ما بعد الموت } . 3- { الأمل . أضداده . خيّاط الموت . نار الأبدية } . 4- { نار عظيمة تحمي الياقوت } . 5 – { كتاب الحكمة الغجرية } . وأصدر سيرة بعنوان { معرفة أساسية : الحرب . الشعر . الحب . الموت } وكتاب { صوت سنبلة قمح لم تولد } وكتاب { خديعة السنبلة . في شؤون اللحظة الراهنة } وكتاب { الأنهار الكبيرة المتعرجة . ردّات واندفاعات الشعر العراقي } وكتاب { العودة الى الهاوية . في الشعر العربي الراهن } . يقيم في السويد منذ عام 1998 ومتفرغ للكتابة .



1 - كتابات


محمد مظلوم

الغجري المحارب وظلاله البدوية * .


عندما يصف نصيف الناصري نفسه ب { الغجري } في احدى قصائد ديوانه { أرض خضراء مثل أبواب السنة } 1 فانه يقدم ذلك الوصف في سياق فني من أجل التعبير عن طبيعة القصيدة لديه ، قصيدة مشاكسة / مثيرة ، ملونة لا تعرف حدوداً بينها وبين أيّة قصيدة أخرى ، أو كتابة أخرى . لكنه وهو الذي اختار لنفسه نموذج { الغجري } للافتراق داخل مشهد { الجيل البدوي } فهو في الواقع لا يبتعد كثيراً عن مجمل المشهد ، حتى وهو يضع على رأسه عصّابة حمراء ويمشي عاري النصف الأعلى ، وهو كذلك ، لا يستطيع الفكاك لا من نموذجه الجماعي { البدوي } ولا من نموذجه الشخصي { الغجري } حتى حين يلبس قصائده أحياناً ربطة عنق ويجلسهما – باسترخاء – في مكان لامع ويجبرنا على التعامل بجدية ورزانة حقيقيتين . فذلك مما يصعب تسويغه مع صدوره عن غجري تليد ، فقصيدة الناصري عندما تظهر بمظهر غير { الغجري } فهي ليست مشاكسة لا بالمعنى المعروف عن المشاكسة عموماً ولا بالمعنى الذي عرفت به قصائد الناصري نفسه عموماً ، غير أن هذا لا يمنع من وجود مشاكسة ضامرة – ان جاز التعبير – في قصيدتيه المنشورتين في جريدة { المنتدى العراقي . دمشق ، العدد الثالث . شباط 1997 } اللتين تنطويان على مفارقات داخلية باطنة ، بعد أن كانت قصيدته ذات مفارقة جارحة ولغة كوميدية سوداء . انه يكتب هنا قصيدة فعلاً ولكنها ليست قصيدة الومضة ولا قصيدة اللعبة الخفيَّة للكلمات بل تتماسك قصيدته بدءاً ومنتهى ، وإن تخللتها بعض الزوائد في ما بين البداية والنهاية . تبدأ قصيدة { الحياة سنبلة } هكذا :

{ ما مِن فجر ، ما مِن أملٍ }
وتنتهي :
{ الحياة سنبلةٌ فارغةٌ } .

انها قصيدة التأمل إذن ، من الفجر الى فراغ السنبلة . من النفي اللغوي المركب ، الى تعريف الحياة بحامل سلبي ، واذا كان نص الصائح يحتفي باللغة حدّ الذهاب الى الكلام أحياناً ، فأن الناصري يتخلى – بوعي – عن ملاحقة اللغة ويذهب الى ممرّ أخر حيث التجربة القاسية مع الموت . على أن هذا لم يعصم القصيدتين من التجريد أو الصور غير العضوية داخلهما :

{ السنبلة وحدها تعرف كلام الأنهار }
{ موتنا العطري يتسكع فوق مداخن ليل العالم }
{ ألمحها في الكأس / القبلات العميقة المطوَّقة بالأنفاس المنمحية }
{ لا شيء يصعد في الثلج لا العظم / لا الحجر }

أو الوقوع أحياناً في الاستعارات الجاهزة من قبيل : { صمت القبور / ضروع الصيف / النوافذ الذهبية / نار الرغبة } . قصيدتا الناصري ، تقومان على استثمار ضمير الجماعة ، وهو ما اقترن بالقصائد والنصوص الطويلة لدى أغلب شعراء الثمانينات في العراق ، أما الناصري فيختار شيئاً آخر هذه المرة ، اذ يفرغ ضمير الجماعة من ضجيجه المرافق عادة للنفس الطويل ، ليقدم قصائد هادئة تقوم على الصورة الهادئة ولا تهتم كثيراً بالصورة البلاغية عالية النبرة ، جملته تستفيد من من استرخاء الجملة المترجمة الوافدة دون أن تتخلى عن جوانية الجملة العربية المؤصلة . هاتان القصيدتان المكتوبتان بعد ديوان الشاعر الأول المطبوع { أرض خضراء مثل أبواب السنة } المؤسسة العربية للدراسات والنشر . بيروت 1996 وبعد عدة مخطوطات تجريبية ، مثلتا برأيي مفصلاً في تجربة الشاعر القلقة على الدوام والباحثة عن أمكنتها المؤقتة غجرية كصتحبها ، حيث محاولة الانتقال بين مقترحات تعبيرية متعددة لكتابة النص ، وهي سمة تبرز لدى العديد من شعراء جيله ممن خرجوا من الكابوس الطويل ليتعرفوا على أجسادهم ويكتبوا حياتهم بصياغات أكثر حرية وتنوعاً . لكن نص الناصري في هذا الانتقال هو { الغجري الأكبر } تجربة ونصاً وهو تجسيد مركب لطبيعة شخصيته ، وتمثيل لروح البدوي التي تسكنه ، اذ ثمة غارات ، والتقاطات سريعة وتحرك بخفة وتحول بلا توقيتات في المزاج والتوجه ، وعلى الصعيد النصي . فالفسيفساء الشعرية للكثير من نصوص الناصري تصلح أن تكون نموذجاً ، للتدليل على قدرة نصه على الترحيب بنصوص الآخرين داخله ، انه لا يخفي مصادره الشعرية ، بل يقدِّم مقترحه للنص الوافد الذي يدخل بيته ولا يخرج منه ، إلاّ بملامح جديدة ، لا يمكن مع تجربة الناصري التمسك بفلكلور { السرقة الشعرية } ولا بمفهوم { التناص } ولا حتى وقوع الحافر على الحافر . فعندما تجد داخل نص الناصري نصاً أو مقطعاً من نص لشاعر آخر يصرخ أعيدوني الى مكاني ، ولو حرَّرت هذا النص فعلاً ستجد مكانه حزيناً داخل قصيدة الناصري ، وفي الوقت نفسه لن يعرف طريق العودة من حيث أتى ولن يعرف مكانه في قصائد الآخرين . انها فسيفساء تتداخل فيها المرجعيات ، فلا حدود لديه بين شاعر فرنسي أو انكلو سكسوني أو حتى لاتيني ، فهو { غجري ؤ حتى في الاغارة على سكونية الجملة الشعرية لدى الشعراء وقابليتها على الانتهاك والدخول في طاعة النص الجديد ، ستجد جملة من سان جون بيرس وهي تسخر من نفسها في قصيدة الناصري ، وأخرى من ميشيل ديغي وثالثة من ايف بونفوا ، وينتقل الى امريكا اللاتينية ليداعب اوكتافيو باث بحريته المشروطة في امكنة أخرى ، ويحضر فيليب لاركن / ألن غينسبرغ في حدائق يعبث بها الناصري بدراجته وصوت داخل حسن أو سعدي الحلي يصدح في مقدمتها ، هكذا فهو { نصيف بن ثجيل بن عاجل بن رجي بن جسّام بن رديني بن ثويري } الى آخر السلالة التي لا يتردد عن ايرادها ، مستفهماً بخبث { الغجري } عن صلته بها . قدرة نصيف على استيعاب نصوص الآخرين ، تماثل قدرته على انكار سلالته باستمرار ، وهي سمة له وليست مأخذاً عليه كما اعتقد ، انها سمة لا تصلح إلاّ له ، ولو كانت لسواه لما كانت ستبدو كذلك ، قد يبدو مهماً التذكير بأنه صاحب الكولاجات الشعرية ، منذ أوائل الثمانينات ، تأثراً بالمدارس الشعرية أو عبثاً باقليدية الذائقة الشعرية السائدة ، لنتذكر انه في أكثر من مناسبة وكنت شاهد عيان عليها . كان يعيد نسخ قصيدة { انا باز } لسان جون بيرس أو { هذا هو اسمي } لأدونيس ويعرض كل منهما على نقاد وشعراء مهتمين بالآداب العربية والأجنبية ويطلب آراءهم على انها قصائده فيحصل منهم على النصح اللازم لشاعر جديد ، بل انه في واحدة من أقصى تعبيرات السخرية قدم بنوع من التهكم قصيدة مخطوطة لشاعرها الأصلي على انها قصيدة له ، فما كان من ذلك الشاعر وهو { سامي مهدي } إلاّ أن كتب بعد مرور مدة على تلك الحادثة ، مقالاً عن تأثر الآخرين به تحت عنوان { انهم يسرقون القصائد } فأورد نماذج لكل من عدنان الصائغ ورعد عبد القادر ، ولم يشر لأسم الناصري ولا لسخريته لكنه اكتفى بوثفه أحدهم . وسط هذه النصوص الوافدة أو بالأحرى المستنبتة في أرض الناصري الشعرية المفتوحة من كل الجهات ، تجد بناء واضحاً وموضوعاً لا تكاد تنفصل عنه هذه الجمل . يصبح المبنى صورة المعنى فعلاً :


{ كافافي الذي كان يتسكع مثلي في شوارع عمّان ، حيّاني وقرأ لي
قصيدته " المدينة " . قلاُ : في كل المدن يسطع الخراب القديم للانسام }
{ آهس ، يا رفائيل البرتي
لماذا لا تبدو غابتك الضائعة شبيهة باخفاقاتنا ؟ }
{ ينبغي أن أحيّي ستار كاووش وهو في غرفته المليئة بالسيارات
ورجال المرور ، يرسم صورة لسلفادور دالي بشاربه الشبيه بشارب
ميشيل عفلق .
ينبغي أن أحييك يا ابراهيم البهرزي وأنت تقرأ قصائدك للصعاليك
والأطفال والأشجار المثمرة .
ينبغي أن أحيّي أحمد يعقوب وصديقته وهما يطاردان الحمام فوق
جدارية فائق حسن .
ينبغي أن أحييك يا حسب الشيخ جعفر وأنت تصرع أسداً هصوراً
عند منعطف في شارع " السعدون " .
ينبغي أن احييك يا ماجد السامرائي وأنت لم تنشر لي قصيدة في جريدة
الجمهورية من عام 1980 الى عام 1993 بحجة انني حمار وليس شاعراً .
ينبغي أن أحييك يا كزار حنتوش لأن قلامات ـظافرك أكثر بريقاً من شعر الحرب .
ينبغي أن احيي جان دمو وحسن النوّاب لأنهما يلجآن الى المحارم دائماً 2 .


هذه التحيات الطويلة ، سخرية سوداء كما يتضح ، وهي سرد متصل لكنه لا يجسد تمام تجربة { الناصري الغجري } فحين نقرأ الى جانب هذا السرد المقاطع الشذرية التي تعد الوجه الآخر لشعر الحكمة في التراث العربي من قبيل :


{ العيش في الحبّ يدمرّ صرامته }
أو { تسلك الثمرة في ازهارها
سلوك الشرارة في اللامعنى }
أو { تنزف الشجرة أنهاراً }


حين نقرأ مثل هذه العبارات نكتشف أن غجرية نصيف الناصري هي ليست مجرد اعلان الانفصال عن حلف الجماعة أو كتلة الزمرة داخل الجماعة ، لا عن فكرة الوطن ولا عن طبقات المجتمع فحسب ، انها انفصال متوالد دائماً . بمعنى انه منشطر ومتفاعل بهذا الانشطار حتى يغدو انفصالاً مستمراً مع حلفه مع نفسه ، مع نصه ومع حياته التي يغالي أحياناً في انكارها .

1 – نصيف الناصري . { أرض خضراء مثل ابواب السنة } المؤسسة العربية للراسات والنشر بيروت 1996
2 – نصيف الناصري { في ضوء السنبلة المعدة للقربان } دار بابل دمشق 2007

* من كتاب محمد مظلوم { حطب ابراهيم أو الجيل البدوي } فصل { المتاهة من الداخل . تطبيقات }



مازن المعموري


ايقونة نصيف الناصري :

الخطاب الفلسفي للشعر





حين يصبح الكلام ازاحة المتكلم ، فواصل انكسارات الرؤية الفلسفية لفهم الوجود ، حينما ندرك انوجادنا حيثما أصبحت اللغة مغامرة . الانعتاق منه واليه على السواء لمنح الخطاب الشعري أدواته المتعالية أبداً وبلا تردد ، ليس ممكناً عند ذلك الوصول الى أيّ شيء دون ذلك الانوجاد في فضاء اللغة حيث يمنحنا نصيف الناصري آفاق لا متناهية للتيه .. ولكن أيّ تيه ذلك الذي يصبح شاهداً على امتلاكنا لحظة حاسمة لدخول عالمه المتواطىء مع العدم وأقنعته الملتهبة :

لماذا يتمدد الكون في كل لحظة الى ما لانهاية ؟
هل يتحول الانسان إلى نجمة بعد الموت ؟
لماذا تعجز كلما اتقدت شرارة الفكر ، عن الافصاح الكلمة ؟
اذا أردنا الهروب من العودة الى الحياة
ينبغي أن نترك { الموجود _ يوجد }
هل تخضرّ ماهية الأشياء في ليل السر الذي ينفتح على الرياح التي تبعثر قرابيننا ؟

هل يعتقد ان منح الفرصة سيكون ممتعاً أكثر لهذا الموجود حين نتركه ينوجد على أعتاب تحولنا الى نجمة بعد الموت أو قبله .. لا فرق فالسؤال قائم عند لحظة زوال كلّ من الوجود وقرينه ، أما انعدامهما فلا يعني حصول ذلك الانوجاد في نفس اللحظة لحصولنا عليه ، وكأن تمدد الكون حجة لارتباط الواقع الافتراضي بازاحة اللغة القدرة على التفكير في اللحظة عينها .. واقصد استرجاع كينونة الموجود ومدّ أفق المشهد . السؤال ، الابتعاد نحو الآخر كما لو انه عوداً أبدياً لدى نيتشه .
{ احداث ندبة في العقل } أو مراجعة متأنية للذات لا يعني كثيراً التمرد عليها بل شطرها لخلق { ميكانزمات ضد } هذا الاجتراح الذي أضمنه هنا خاص بعمل الجملة لخلخلة النظام اللغوي القارّ أبداً لدى الكثير وحيثما يجد الآخر صدمته في كل مرة يحاول الوصول الى لغة نصيف سيواجه هذه الميكانزمات وعليه أن يملك أدواته اللازمة لدخول عوالم متداخلة وهي بحاجة ماسة الى ترتيبها في { ذاكرته } المتلقي لايحتاج الى لغة خاصة به ، انه بحاجة الى عقل ترممه { القصيدة الأم } بصيغتها كياناً افتراضياً لايمكننا مسخه واللعب عليه بلغتنا نحن لأنه ببساطه قادر على ترميمنا ونسجنا وصياغة وجودنا لامتلاكه سلطة متعالية .. أنها سلطة اللغة .


{ انصتوا الى اليعاسيب والفراشات ، عصور المعجزات انتهت
لم يبق إلاّ التجسس والوشاية بالملائكة ، ثمة انجازات ينبغي الحفاظ عليها :
النوم بين نهدين لشجرة تفاح
تضميد جروح القلق وتململات الرغبة باستمرار
اخجال الصيرورة واحداث ندبات في فاعلية العقل .

هل بامكاننا معاودة القراءة .. القراءة وسواها .. محاولة احداث ندب أكثر للمعرفة ، المعرفة بصيغتها الأولى والأساس الذي تجبرنا على مسح الذاكرة وتشكيل أخرى موازية ، أفقية وربما عمودية للحصول على ستراتيجيات أبعد لابتناء لغة ثانية ، انها لغة الشعر ولمساته المرفرفة فوق العالم ، تنبذ القاموس الميت وتدين للحواس القدرة على اكتشافنا .. عند ذلك سوف لن يكون لنصيف الناصري سوى الاقرار بعدالة الشعر وفتح أبواب العالم نحو نص جديد .


وديع العبيدي

لزوميات نصيف الناصري



{ لا فجرَ عندي / لا شعلةٌ / لا نسمة
لا نجمةٌ تضيء سديمي
أندم لأنني لم أفِ بوعدي حيالَ أكثر من تسعين يوماً لم أحيها عام 1986 / لقد أحببتُ الملابس الرثة كثيراً / غرفَ الفنادق الرخيصة / الخمورَ المصنوعة في البيوت / النومَ في حدائق بغداد حيث نمورُ الشرطة توقظني برفق في الفجر / أحببتُ كلَّ الأشياء البوهيمية والمنفلتة / { كل شيء مألوف لدي / الجميع يخصني / لست مديناً لأحد / لقد دفعتُ أكثرَ مما يتوجب عليَّ دفعه من ديون للذين ينسون / لدرجة نفذت فيها المدية الى العظم / غير انني بقيت وفياً للتقاليد / انظروا إليّ فسوف ترون بسهولة انني لا أشبهُ أيَّ شخص وأنا صورة الجميع } .

كانت قصيدة النثر اليومية أحد ارهاصات جيل السبعينيات لكن كيان تلك القصيدة واكتماله لم يتحقق إلاّ بعد عقد من ذلك ، على يد شاعر فطري هو نصيف الناصري . كان نصيف الناصري جندياً أمرضته الحرب الى حدّ الامتعاض والقذع ، بحيث لم تترك له وسيلة غير الهروب . الهروب والسجن والهروب والسجن في متوالية لن تنتهي قبل أن تخلف متوالية أكثر أهمية ونزفاً هي قصائده . الحالة المستعصية تضع المصير الانساني بين أمرين : الانتحار أو الجنون . وأحد أولئك كان خيار الشاعر ، واذا كانت الحرب انتحاراً بمعنى ما ، فأن القصيدة هي الجنون في مواجهة الحرب ، ليبقى الشاعر على قيد الحياة وتموت الحرب غير مأسوف عليها .

{ لم أفعل شيئاً يستحق اقامة نصب لي بحيث يخسر بعض المسؤولين يوم عمل من أجل تدشينه .
هربت من الخدمة العسكرية عدة مرات واختبأت في أمكنة سرية كئيبة . حوكمت وسجنت وتبهذلت واعتبرت جرائمي في " قادسية صدام " مخلة بالشرف. والآن- أنا عاطل عن العمل لا أملك غرفة ولا غيمة ولا حذاء ولا ثمن وجبة طعام . حياتي هامشية . علمتني صحيفة " القادسية " أن أحب الوطن وأموت من اجل ترابه مع انني لا أملك ذرة تراب واحدة } !

ترجم الشاعر يوميات الحرب الى قصائد ، لم يذهب الى معاجم اللغة ولم يتوسل الخليل بن أحمد الفراهيدي ، لم يتكلف البلاغة ولم يبحث عن شاعر كبير لمحاكاته وتقليده ؛ ولأنه تعلم اللعنة من الحرب والسبّ من الضباط فقد لعنهم جميعاً وقرر أن يجعل من صحيفة حياته العسكرية أول ديوان شعر طافح بالحقيقة والألم . تستند تجربة نصيف الناصري الى مرجعية غربية بالتأكيد ، ولكن مرجعية قصيدته هي يوميات حرب كريهة وغير مقنعة . تلبست روح الشاعر وكيانه و تخللت تفاصيل حياته وفكره .

{ شعلةُ حياتي انطفأتْ وظلَّ الفتيل / هذه ليست آثار معركة مع حيوان مفترس / هل حدقتَ أنت في المرآة ؟ أنا حدقتُ فجرحتني ذكرياتُ موت جاثم على أيامي / جئتُ اليك فباركني لأن السديمَ يغطي حياتي / ارفعني من طوفانات تغرقني /.} .

لا تعكس قصائد الشاعر نصيف الناصري صورة عن حياته ، وانما هي حياته نفسها ذائبة في مياه الشعر أو الشعر نفسه متحللاً الى مفردات حياتية لانسان من هذا العالم . القصيدة هنا لا تلعب دور المرآة كما هي عند غيره ، ولا عدسة مقعرة أو محدبة لاضافة أو اختزال / تضخيم أو ضغط تقاسيم معينة ، وانما هي سيرة ذاتية مستمرة مثل نزيف الحروب التي عاشها أو هي رواية شعرية في فصول أو أجزاء ، تمثل تاريخاً مفصلاً لمرحلة وحيوات وخطاب ورؤى تركت ظلالاً ثقيلة وبصمات عميقة على ساعة المستقبل اللازمنية ، حسب تعبير الشاعر . ثمة ثلاثة قرائن متساوقة في قصيدة الناصري ، غير قابلة للفصل أو المفاضلة أو الاختزال ، الذات / الحرب / الوجود ، يجمع بينها قاسم مشترك أعظم هو { الشعر } . لا يوجد أحدها بدون غيره ، وأي منها بذاته لا يمثل قصيدة ولا علاقة له بالشاعر . من الصعب الفرز هنا من سبق من ؟ هل ولد الجندي من خضم القصيدة أم ولدت القصيدة من معترك الجندي ، متى بدأ سؤال الذات ؟ هل ارتبط السؤال بالحرب أم الشعر ، أم سبقهم ؟. هل الشعر هو الوجود ؟ متى بدأت الأسئلة المغلقة في ذهن الشاعر ؟ هل كانت تدرجاً حفرياً لواقع الحرب أم سابقة لها ؟. هذه الخطوط الثلاثة المندمجة والمتفاعلة هي نصيف الناصري/ الانسان/ الشاعر ، فكما لا يمكن تصور أحدهما بدون الآخر ، لا يمكن تصور قصيدته ، بدون الحركة الداخلية المتساوقة للخطوط الثلاثة .

بناء الجملة

اللغة أحد أهم مرتكزات قصيدة الناصري وأبرز ملامح تجربته الشعرية المميزة . وذلك عبر اقتناص المتداول اليومي والملفوظ ونفخه بنار الشعر . لم يتأت إلاّ لقليلين من رواد قصيدة النثر أو القصيدة اليومية كما دعيت اصطلاحاً ، الخروج على القاموس اللغوي لقصيدة الشعر الحديث والاقتراب من لغة الشارع واليومي دون فقدان بريق الشعرية . ومن بين القليل يقف نصيف الناصري في تطويع قاموس العسكرية وأوامر القسم الثاني لقصيدة تعيش الحالة بكل جوانبها ولا تتعامل معها كظاهرة أو حالة منفصلة .

هذا الراهب العجوز تراءى له أن يرى ملاكاً يقولُ انه المسيح
فلما أعاد النظرَ وجده جندياً يهبط بمظلة
حروب : حروب : حروب :
حروب : حروب :
حروب : حروب :
حروبُ الدم السعيد بمصابيحِه التي تسطعُ دائماً / أسرابُ طائراتٍ وجنودٌ يهبطون بمظلاتٍ ويشعلون العار في حقولنا المهيأة للحصاد / وثمة عطورُ بارودٍ لافحة ودمٌ / أشجارٌ يتيمة في الأقاليم المحمومة لهذا المساء /
الغجري/ أنا الشاعرُ الغجري
الراهبُ / أجلْ
الغجريّ / كتبتُ قصائدي في الحاناتِ والحدائق والخنادق
الراهب / أجلْ
الغجريّ / أنا الغجريّ / الشاعر الغجريّ / كانت الثكنات التي هربت منها جحيماتٍ مرعبة / وسررتُ كثيراً لأنني قلتُ وداعاً / وداعاً لتلك الجحيمات /
يا إلهي
بغدادُ الآن كئيبة وموحشة
لا شعراء
لا عشاق .


يعتمد بناء الجملة لديه على نوع من سبق الاصرار في تشكيل { التعارضات } ، كما وردت في احدى قصائده : { ظلال التعارضات التي تهدم التعارضات } . فالصور لا تتولد لديه منقطعة وانما متوالية أو متعارضة أو منعكسة ، فيجمع بينهما بعلاقة { صلة وصل وموصول } كالتشبيه أو التعليل أو النقض أو السخرية أو الألم .

مرايا ضخمة تعكس جمال الهاوية /
شمس الجسد ، شمس عذراء تلتحم مع الثلج في شوقها لعناق الليل .

{ فالمرايا الضخمة } تقابلت مع { جمال الهاوية } واداة الربط بينهما فعل مضارع { تعكس } . بنفس السياق يمكن تحليل أو تفكيك بنية الجملة التالية التي تبدو { شرحاً } لعبارة { شمس الجسد } ، وهي توصيف شعري نادر وأخاذ ، دلالة على الانبهار والاحتراق { جاذبية الجمال ولظى الشوق } وجاء وصف { عذراء } لزيادة الوقع والاثارة . أما الجملة التفصيلية أيّ أن أصل الجملة في النحو :
{ أما } شمس الجسد ، { فـ } شمس عذراء ، تلتحم مع / الثلج في/ شوقها لـ/ عناق الليل . والتعارض واضح في الجملة حيث : { جسد / شوق } ، { شمس/ ثلج } ، { تلتحم / عناق } ، { عذراء / ليل } . وهي سبعة أسماء وفعل واحد وثلاثة أحرف جرّ { مع / في/ لـ } . فتكرر الجار والمجرور ثلاث مرات تبعاً لذلك : { مع الثلج / في شوق / لعناق } ، وتكرر الجرّ بالاضافة مرتين : { شمس الجسد/ عناق الليل } . ورغم جمالية جملة الناصري وغرائبيتها السحرية للوهلة الأولى ، إلاّ أن اختزال الزوائد اللغوية واللفظية سوف يدعم تكثيف الجملة ويزيد المعنى رصانة وتماسكاً . ثمة فائض في حروف الجر والصفات المشبهة ، هي من خواص اللغة العربية وأساليبها أكثر مما تكون خاصة لصيقة بالشاعر .

نسمعك تسافرين مع
أشجار تحضن تحت أثدائها
فضائح جنرالات يتعذبون .

فالسطر الثاني في هذه الجملة افترض منه { اضافة لمسة غرائبية } على عبارة عادية مثل { نسمعك تسافرين مع فضائح " جنرالات " يتعذبون } ، ويلحظ الدلالة العامية في استخدام { نسمعك / نسمع أنك = نسمع عنك } ، والدلالة الرمزية لمفردة { جنرالات } .
ويأتي في سياق ذلك ، تقليل استخدام أل التعريف والاضافة ، عدم التأكيد على جملة جواب الشرط أو جملة الخبر لاكتمال المعنى . لأن قصيدة النثر في أصل خطابها ، باعتبارها مشروع حركة شعرية متكاملة بقيت مختزلة لدى التحقق ، مقتصرة ، حالها حال المنجزات الشعرية السابقة واللاحقة ، على زاوية محددة دون أن تترجم مشروعاً كاملاً . السياب قام بتكسير قصيدة الشطرين الى قصيدة الشطر مع حرية نسبية في تعداد التفعيلات والتعويل على الروي والقافية . تمهيداً لتحولها الى شعر التفعيلة على أيدي الستينيين . أما مشروع السبعينيين في { قصيدة النثر اليومية } فكان يتجاوز رفع الملفوظ اليومي الدارج الى مرتبة الشعر ، الى تفكيك النحو واللغة من الداخل ، والذي لقي معارضة من الجهات الرسمية ممثلاً في قانون { سلامة اللغة العربية } الصادر في النصف الثاني من السبعينيات . ومع انتشار انماط عديدة لقصيدة النثر اليوم إلاّ أن تفكيك اللغة بقي مؤجلاً أو مختزلاً حتى الآن . الناصري منحاز للجملة الاسمية ، التي يمكن أن تقتصر في أقصى ايجاز ، { العقائد مصائد } . أو اعتماد مبدأ تكرار مفردة أو لازمة مثل : { العزلة العزلة العزلة العزلة } ، ويمثل الرقم أربعة أو التربيع شبه لازمة نفسية في لغة الناصري ، عكس التثليث لدى صلاح نيازي مثلا : { نوح ، نوح ، نوح } أو { يا علي ، يا علي ، يا علي } في مجموعته { وهم الأسماء } ، لتمثيل دالة محددة .


التكرار اللازمة

{ وقت الشمس الكرستالية وهي تجلس فوق شجرة اللاهوت . وقت التحشدات الضخمة
لجيوشنا العظيمة . وقت النسور وهي تصعد لتحية الشمس . وقت البحر الذي يدفع
أمواجه في الخلجان السرية . وقت القواقع وهي تدفن أصدافها . وقت الليل وعصّابته
الملفوفة حول العالم .

فوظيفة التكرار هنا سحب الانثيالات الشعرية على جمل مستطيلة لكل ما ارتبط أو أمكن ارتباطه بمفتاح { وقت } ، قريبة الى حدّ ما من { لازمة الحرف } لدى الشاعر أديب كمال الدين . فالمفتاح هنا أقرب لفكرة المفاتيح المكتبية أو آلية البحث في نظام البحث في الكمبيوتر عندما تكتب كلمة { وقت } فتنفتح أمامك قائمة لكل ما له علاقة بالكلمة . وتستند اللازمة على دالة نفسية على درجة من التورم والتشوش تستلزم معها آلية تنظيم أو فرز تتمثل باللازمة الشعرية المتكررة . ولذلك لا نني نرى عودتها وايقاعها الذي تختتم به القصيدة . وهي ليست خاصة شعرية حداثية حيث نلمسها في الشعر العربي القديم في مستهلات الأبيات مثل كلمة { خليليَّ } لدى غير شاعر وفي قصيدة الملك الضليل { ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي
وهل يعمن من كان في العصر الخالي
وهل يعمن إلاّ سعيد مؤثل
قليل هموم ما يبيت بأوجال
وهل يعمن من كان..الخ } .
فقد تكررت لازمة { وهل يعمن } لتنظيم التدفق النفسي الذي يلامس جوارح دفينة في قيعان الذات الشاعرة . فمع انتظام سيل الشعرية ارتدعت لازمة { وقت } الى الوراء قليلاً وخيل أن { الثور الأخضر } سيلعب دور لازمة ثانية ، اتخذت القصيدة جريانها المنساب لتعود وتلتقي على الضفة الأخرى لدائرة الميتافيزيقا بنفس اللازمة متأينة بشحنات جديدة في دائرة كهربائية مغلقة ابتدأت بالشمس / شجرة اللاهوت وانتهت بالميتافيزيقا / جبال الاورال .

{ وقت الميتافيزيقيا وهي دائرة ضيقة . الجنون فضاء .
وقت الجرح بجنحه الأسود الأكثر تحليقاً من الصراخ .
وقت الساعات المضيئة فوق أعشاب القبر .
وقت جوهر الحياة الذي يمزق الظلمة وعبثها .
وقت الغيوم الروسية التي تشرب من أنهارنا
تاركة نهودها
فوق جبال الأورال .

والظاهرة اللغوية الأخرى هي الاحتفاء بالتناغم الصوتي للأحرف في بنية المفردة ضمن رؤية انتقائية لبناء جملة موسيقية ذات دلالة شعرية. فكلمات { جرح / جنح- ساعات/ أعشاب- روسية / تشرب - وقت / فوق / ضيق / يمزق } وهناك الأصرة اللونية بله اللغوية التفاضلية { اسود/ أكثر } و { اسود / مضيئة / الظلمة } ، أو التقاء الدلالات { غيوم / أنهار/ نهود } . مما يعطي الجملة الشعرية صورة منظومة شمسية تدور حول مركز لازمة { وقت } بينما تدور المفردات والصور دورات مزدوجة حول نفسها وحول مراكز فرعية ناهيك عن المركز الرئيس . كما نلحظ هنا تعويل الشاعر على استخدامات { أل التعريف } أو { صلة الوصل / الذي والتي } الممكن انتزاعها من النص دون هدم المعنى أو جمالية العبارة .

لزوميات وقرائن

1- شعرنة الملفوظ اليومي
2- تغريب اللقطة العادية
3- عمق الألم والسخرية
4- تداخل الذاتي والمطلق
5- اخبار ثابت وتساؤل استنكاري
6- فلسفة العبث والعدمية
7- عبث.. ضياع.. دمار { الهاوية }


في التجربة الشعرية

نصيف الناصري 1960 – الناصرية . خريج مركز لمحو الأمية وتعليم الكبار . 1975 /1976 ، جنّد الزامياً في الجيش 1979- 1991 ، 1994 غادر العراق الى الأردن ، ومنذ 1998 يقيم في السويد . يتوزع شعره في : { جهشات } مجلد مطبوع بالدفلوب عام 1986 يضم أربع مجاميع شعرية ؛ أرض خضراء مثل أبواب السنة عام 1996 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بدعم من البياتي ؛ ومجلد بعنوان { المياه كثيرة السهر في شفاهنا } في مائة وثلاث وثلاثين صفحة يضم قصائد متنوعة ومن فترات متفاوتة ؛ ناهيك عن نشرياته المتواصلة في غير موقع على الأنترنت . عمل بثقة واعتداد كبيرين على مواصلة حضوره الشعري والأدبي في الداخل و الخارج ، ولكنه لم يحظ بالاهتمام النقدي فرداً أو جملة ضمن جيل الثمانينيين ومن بعدهم ، ولم يحظ بفرصة مناسبة لنشر مجاميعه الشعرية أو اصدار أعماله الكاملة ، بعد أكثر من عشرين عاماً من الشعرية . وبالتالي فلابد من جهة تتولى الاهتمام بطبع ونشر نتاجه الشعري بعد جمعه وتبويبه ، ضمن تشظيات المنافي العراقية المنقطعة . بدأت تجربة الناصري في الثمانينيات مع بدء انخراطه في الحرب . مما يبين أثر العوامل النفسية والذهنية في ميوله الأدبية . لم تمضٍِ بضع سنوات على تفتح اهتماماته بالمطالعة حتى وجد نفسه بين صناديق العتاد وأصوات الانفجارات ودخان الأوامر الخانقة . أي أن الولادة ما فتئت حوصرت بعوامل الوأد والحصار ، ومن هنا فقد قامت لغة الناصري على الرفض والتمرد ، والعناد والمكابرة . ان استخدام تعبير فطري له من دلالات البراءة والملامسة الأولى مع الوجود أكثر من أي شيء آخر . فلا غرو أن يكون الواقع المباشر مادة الشاعر الأولى ، متوجهاً اليه بحاسة الاكتشاف والاقتناص والمغامرة بتوقد ذهن جارف وقدرة غير عادية في اعادة صياغة وانتاج الواقع في اطار النص . قصيدة الناصري الثمانينيية كانت صورة حال الواقع اليومي للجندي ، مشاعره وهواجسه وأحلامه ، خوفه وتذمره وتمرده . قصيدة التسعينيات ترجمة للعبث اليومي وتلاحق الانهيارات والفجائع المتراكمة بأثر بقايا الحرب والحصار والشعور بشمولية الفقدان { الوطن الهاوية } . قصيدة الناصري واقعية انطباعية ، تخالطها مرات عناية مقصودة من سخرية مقذعة أو نكتة مرّة ، ترتفع بها الى سوريالية هيموفيليةعصية على السيطرة . لا جرم أن قصائد تلك الفترة كانت طويلة وغير قابلة للانتهاء ، مثل رواية ملحمية مستمرة الجريان ، تختلط فيها البدايات والنهايات . ترجم الناصري في قصائده تلك جريدة الحرب اليومية في حياة انسان يمثله الجندي . ولأن الجندي في الشعر كان بطل القصيدة فأن ملامسة الشاعر للحرب كانت انسانية أكثر منها متمحورة حول فكرة الحرب عند المقارنة بالحالات المثيلة في حروب أخرى ، الحرب العالمية الأولى أو الثانية أو حروب فلسطين أو فيتنام ، عندما كانت فكرة الحرب تحتل صدارة القصيدة أو الاهتمام . وهذا ما يبطل دعوى شعر الحرب أو شعر المعركة التي رفعها بعض ازدواجيي الشخصية لتهميش التجربة الثمانينيية في المدونة الشعرية والنقدية العراقية ، في انحياز مرضي واضح لتبجيل المنجز الستيني ورفعه على ما عداه . متناسين سقوط أسماء ورموز عديدة من هذا الجيل في وحل الدكتاتورية حفاظاً على لمعانها الخارجي . قصيدة الجندي في المشهد الراهن هي مقاربة واضحة مع رواية الفلاح وقصة العامل والطالب والمثقف ضمن انعكاسات الواقعية الاشتراكية في الأدب العراقي ، في تأكيد لعمق الخصائص الذاتية والمرجعية الثقافية لهذا الأدب . القاعدة المتحركة لقصيدة الناصري القائمة على تفاعلات المداخل في الواقع المباشر ومخارجه كانت في حالة تحول وتغير مستمرة وبنفس متصاعد عبر التسعينيات ، لتأخذ تجليات جديدة على أرض المنفى ممثلة بالشعر الميتافيزيقي أو الاستغراق في النزعة الوجودية العدمية وحوارات المطلق، جراء انزياح الواقع وسحت المنفى .

نار الله تتلظى عبر أدغال وخرائب حيواتنا المبعثرة في الهاوية .
أجراس الحرير ومرايا فراديسه في الأعالي
وعصارات الفضة خضراء الجفون في أرض الفجر المتلألئة .
ينبغي أن نموت ميتة عظيمة بلا خوف
لا أمل
لا أوهام
لا حلم بوعد .



باسم الانصار

الخُطبة الشعرية




لقد أجمع العديد من النقاد على أن المنجز الشعري للشاعر الفرنسي { سان جون بيرس } لا يجب تصنيفه في اطار القصيدة الموزونة أو القصيدة الحرّة أو حتى في اطار قصيدة النثر ، وذلك نتيجة الاختلاف الواضح بين بناء وطريقة اداء نصوصه الشعرية وبين بناء وطريقة اداء القوالب الشعرية المذكورة . بل حتى سان جون بيرس نفسه كان لا يحبذ أن يؤطر نصوصه الشعرية في أيّ اطار أو قالب شعري معروف ، ايماناً منه بأن مايكتبه هي نصوصاً شعرية أوسع من القوالب الشعرية المعروفة . ولكن شغف النقاد في تأطير منجزه الشعري المميز بصعوبته وغموضه واتساع فضاءاته جعل بعضهم يجري مقاربة بين هذا المنجز وبين الخطب القديمة من حيث البناء اللغوي ومن حيث طريقة أداء النص ، بل أن الناقد آلان بوسكيه لجأ الى تشبيه بيرس بخطباء العصر الروماني القديم . ونحن نرى بأن هذه المقاربة دقيقة الى حد كبير ، لأن الخطبة الدينية أو الاجتماعية أو الخطبة بشكل عام تحتوي على الآيات الدينية والأبتهالات والمواعظ والحكم الاخلاقية وعلى السرد القصصي والوصف الدقيق للكثير من الأشياء بلغة نثرية جميلة ذات موسيقى وايقاعات أخاذة . وبالمقابل فأن النص الشعرية ل سان جون بيرس يحتوي على الكثير من سمات الخطبة ولكن الشىء المختلف في هذا النص عن الخطبة هو أنه كتب بلغة شعرية عالية وبموسيقى وايقاعات تقع خارج ماهو مألوف منها في الاوزان الشعرية المعروفة . مما يدفعنا هذ الشىء الى أن نطلق على نصه الشعري { بالخطبة الشعرية } لأنه يحتوي على الآيات الشعرية والأبتهالات الشعرية والسرد الشعري والمواعظ الشعرية .
وعلى الرغم من الاختلافات العديدة بين النص الشعري بشكل عام أو { الخطبة الشعرية } بشكل خاص من جهة وبين الخطبة الدينية من جهة أخرى ، من حيث أن النص الشعري ، يميل الى طرح السؤال المقرون بطرح الجواب الأحتمالي ، ويميل الى الشك ، بينما الخطبة الدينية تميل الى طرح الجواب المطلق واليقين المطلق حول المفاهيم والتصورات والأخلاق . إلاّ أننا نرى بأن البناء العام لنص الخطبة الدينية قادر الى حد كبير على استيعاب الشحنات الشعرية والتعبيرية والانفعالية لدى الشاعر وقادرة على أنتاجها في الوقت ذاته . أي أننا هنا لسنا معنيين بطبيعة المحمول الفكري والاخلاقي للخطبة الدينية ، لأنها ستكون مختلفة بصورة أو بأخرى مع المحمول الفكري والاخلاقي للنص الشعري ، وانما نحن معنيون بطبيعة نظام العلاقات فيها الذي يربط بين مفردات الجملة الواحدة وبين الجمل فيما بينها وبين الصور الشعرية . ومعنيون كذلك بقدرة الخطبة الدينية على خلق القاموس اللغوي الخاص بها وعلى خلق الشكل العام المختلف لها عن ماهو سائد من اشكال خطابية الى حد ما . ومعنيون من جهة أخرى بشكل الخطاب لها . فالخطبة تأخذ شكل الحوار الذي يدور بين الخطيب وذاته او بينه وبين المتلقي أو بينه وبين الأله . وبأمكان المتلقي { لنعده قارئاً هنا وليس مستمعاً لتوضيح الأمر أكثر } حينما يقرأ الخطبة الدينية في كتاب ما مثلاً أن يتحسس صوت الخطيب وأن يشعر بسماع موسيقى كلماته وجمله بصوت عالٍ ، وذلك بسبب أن الخطاب المستخدم فيه يكون مباشراً بين { الخطيب } من جهة وبين { المتلقي } من جهة أخرى ، أي انه يكاد يكون خطاباً شفاهياً بين الطرفين . والخطاب الشفاهي أو مايسمى بالخطاب المنتمي للفضاء الصوتي عادة مايكون أقرب الى المتلقي من الخطاب المنتمي للفضاء الكتابي من حيث قدرته على التأثير في النفس البشرية من الناحية الموسيقية ، وذلك لأنه خطاب مسترسل ومتدفق وهائج وتلقائي ومليىء بالحرارة والتوتر وبالشحنات الانفعالية والتعبيرية ، وبالتالي هو خطاب قادر على خلق موسيقاه وايقاعاته الصوتية الخاصة به من دون اللجوء الى موسيقى وايقاعات الاوزان الشعرية الجاهزة . من هنا نعتقد أن الخطبة الدينية تقترب من كل نص شعري مغاير في بنائه اللغوي وفي شكله العام وحتى في طريقة طرحه لمحمولاته وثيماته وتقترب من كل نص شعري يحمل في طياته طريقة صياغة الابتهالات والمناجاة والأوامر والنواهي والوعظ الأخلاقي حتى لو كان فحوى كل هذه الأمور معارضاً ومخالفاً للفحوى الديني المتوفر في الخطبة الدينية . والجدير بالأشارة هنا هو أن الدين والشعر يعدان مصدران مهمان لبعضيهما البعض على مر التأريخ . فمثلما أن الفلسفة تعد أحد المصادر الخفية للشعر فأن الدين كذلك يعد ينبوعاً روحانياً وفنتازياً للشعر . وبالطبع أيضا يمكننا القول ومن دون تردد أن الشعر أحد المصادر الخلاقة والضرورية للفلسفة والدين معاً . من هذا المنطلق رأينا أن التسمية المناسبة لهذا الشكل الشعري هو { الخطبة الشعرية } مع أن هذه الخطبة قد توحي للمتلقي للوهلة الأولى أحياناً بعدم التماسك والترابط فيما بين عناصرها وتفاصيلها وقد توحي بعدم وجود وحدة بناء أو وحدة موضوعة فيها حسب المفهوم التقليدي لهذه الأمور { على العكس من الخطبة الدينية } ولكن بعد التعمق بها والقراءة المتأنية والمتأملة لها سيجد المتلقي بأنها مترابطة بخيوط وجسور سرية وخفية ولامرئية الى حد ما . ان { الخطبة الشعرية } تحمل جميع هموم النص الشعري الفلسفية والوجودية والحياتية الجوانية ، وتتضمن التساؤلات والشكوك والألغاز والأسرار والغموض . أي أنها تدور في أطار الشعر من حيث الجوهر والغاية وتدور في أطار الخطبة من حيث الشكل والطبيعة الفنية . ومن أجل أن لا نحلّق في فضاء التنظير التجريدي ، علينا أن نسقط كلامنا هذا على تجربة شعرية ما تجسد مفهومنا لها بشكل أوضح .
ولكننا وبعد قراءة طويلة وبحث عميق جاد للمشهدين الشعريين العراقي والعربي المعاصرين ، اكتشفنا أن الخطبة الشعرية موجودة فيهما ولكن وجودهما ضئيل ومتناثر هنا وهناك كنصوص متفرقة يتيمة متوزعة على هذا الشاعر أو ذاك . بحيث أننا لم نجد تجربة شعرية كاملة تدور في اطار { الخطبة الشعرية } باستثناء التجربتين الشعريتين المهمتين اللتين نعتقد بأنهما تستحقان منا الاشارة اليهما كنموذجين لتوضيح مقاصدنا ومفاهيمنا في هذا الاطار إلاّ وهما تجربة الشاعر والروائي السوري { سليم بركات } وبالأخص في مجموعته الشعرية { بالشباك ذاتها ، بالثعالب التي تقود الريح } وتجربة الشاعر العراقي { نصيف الناصري } الأخيرة وبالأخص مجموعته الشعرية { فجر الزمان الممتد بين الوجود والماهية } .
غير اننا سنركز حديثنا هنا على تجربة الشاعر{ نصيف الناصري } بسبب قدرتها أكثر من تجربة الشاعر والروائي { سليم بركات } على تجسيد مفاهيمنا وتصوراتنا عن { الخطبة الشعرية } للمتلقي . مع العلم الى اننا سنعرض في نهاية هذا المقال نماذج شعرية للاثنين لتوضيح مقاصدنا أكثر فأكثر .

الخطبة الشعرية لدى نصيف الناصري :

أن تجربة الشاعر نصيف الناصري الأخيرة تنضم لهذا القالب الشعري الباهر ، لأنها بحق تعد تجربة مميزة بمعنى الكلمة سواء من حيث طريقة ادائها للجملة الشعرية أو من حيث طريقة طرحها للصورة الشعرية أو طريقتها في الوصف الجمالي { الذي يعوض كثيراً غياب السرد الاخباري فيها } أو اسلوبها في ابراز السؤال الفلسفي والوجودي والحياتي ، أو طريقتها في ابراز أصوات الحروف والكلمات وصوته كصاحب خطاب يوجه خطابه لمنادى غائب أحياناً ومنادى حاضر أحياناً اخرى . ونرى أيضاً أن هذه التجربة قد خرجت الى حد لا يمكن تغاضيه عن سياق النظام اللغوي الشعري السائد الآن كونها تحمل مزيجاً بين البناء اللغوي المميز { على الرغم من أنه موجود في التراث الشعري ولكنه نادراً مايستخدم من قبل الشعراء الآن } وبين روحيته الشعرية الجديدة في التعبير . وهي كذلك تجربة شعرية تمكنت من خلق قاموس لغوي شعري جديد ، سواء بمفرداته أو ببناء جمله الشعرية العصية على الفهم لدى البعض أحيانا كثيرة . وهذه الصعوبة في هضم وفهم هذه الخاصية المميزة لتجربة الناصري مفهومة بالنسبة لنا ولكن ليس الى حد رفضها أو الى حد عدم تقبلها ذوقياً من قبل المتلقي .
نرى أن السبب الحقيقي لهذه المشكلة هي أن نصوص الناصري تحتوي على تراكيب لغوية تكاد تكون جديدة على ذائقة المتلقي ، وتحتوي على كلمات مهملة من قبل الشعراء المعاصرين . أي أن الناصري سلط الضوء عليها كثيراً في تجربته الشعرية هذه بل وحاول أحياناً كثيرة خلق طريقة جديدة في أستخدام الكلمات وذلك من خلال أعطائها صيغة الجمع تارةً أو من خلال اجتراحها من رحم الكلمات المألوفة تارةً أخرى . صحيح أننا نعترض على بعض تراكيب هذه الجمل لأنها تنحو نحو التعقيد غير المبرر ، ولكن هذه التراكيب بشكل عام تمثل أضافة مهمة ولايمكن أن تهمل أبداً على صعيد الشعر .
أن تجربة الناصري تحتاج الى ذائقة جديدة للنص الشعري ، والى ذائقة لاتبحث عن المألوف في اللغة والصورة والفكرة ، والى ذائقة تميل الى التحليق في الفضاء الشعري أكثر من ميلها الى الرغبة السهلة في التقاط المعاني والدلالات في النص الشعري . وأظن أن الناصري تمكن من خلق خطبة شعرية مميزة ، ونعتقد بانه سيخلق مستقبلاً معه ذائقة جديدة تناسب الزاوية التي أنطلق منها في كتابة { الخطبة الشعرية } وتناسب جوهر الشعر الاصيل الذي قبض عليه هذا الشاعر الملعون بقوة .
ونعتقد أيضاً بأنه حينما يبدأ الوعي الشعري لدى المتلقي { سواء كان ناقداً أو شاعراً أو قارئاً عادياً } بتقبل المنطلقات الشعرية التي أنطلق منها نصيف الناصري في تجربته الشعرية هذه فانه سيتفهم هذه التجربة مثلما سيتفهم تجربة سليم بركات المهمة على الرغم من ميلها المفرط نحو التجريد المفتعل في العديد من منجزها ، ولكنها برأينا تجربة مهمة وحقيقية ولا تخرج عن سياق الفضاء الشعري الفسيح .
نحن نرى بأن هذا الشاعر يسير بمسار اللعنات الشعرية الأصيلة كأصالة جمرة الشعر التي لاتنطفىء أبداً ، ويتجه نحو خلق الهزة العنيفة في الوعي الشعري باصرار هائل . ونعتقد أيضاً انه بأتخاذه شكل الخطبة الشعرية { حتى وأن كان لايقصدها } قد صنع طريقاً شعرياً لا يسلكه سواه نحو ينابيع الشعر الحقيقية ، وذلك لفرادة تجربته الشعرية هذه وبسبب طبيعتها اللامألوفة . فميزة هذا الشاعر الملعون بأنه يعي جيداً مايكتب ، ويدرك تماماً بفعل صوت ضميره الشعري الصادق أن الزمن قد فرض عليه بعد سنواته الطويلة في الكتابة الشعرية ، بأن يكتب شكلاً شعرياً مهملاً وأن يطرح أسلوباً مغايراً من حيث الروحية والنكهة في الكتابة الشعرية . ونرى بأنه معني جداً بخلق فضاءات شعرية مميزة الآن وليس في أي وقت آخر . سواء كان ذلك لأسباب ذاتية خاصة به أو لأسباب موضوعية { فنية أو شعرية او ثقافية أو اجتماعية أو سياسية أو أقتصادية } تحيط به ويدرك تماماً ضرورة التعبير عنها شعرياً في الزمن الحالي . بالطبع نحن لانقصد بأن كتابة { الخطبة الشعرية }حكراً على نصيف الناصري ، ولكننا نرى أن هذا الشكل الشعري بحاجة { بالاضافة الى الموهبة والى الوعي الحاد بالاشياء وبالعالم حاله كحال حاجة الأشكال الشعرية الاخرى } الى رغبة شعرية واعية جداً وحقيقية تتملك الشاعر من أجل خلق طريقة خاصة جداً له في الكتابة الشعرية . طريقة أو اسلوب يجعلنا نطوف في اجوائه بحرية عالية ، مثلما جعلنا الناصري نطوف في أجواء مجموعته الشعرية { فجر الزمان الممتد بين الوجود والماهية } بجمالية راقية . تلك الأجواء المشحونة بحرارة شعرية قل نظيرها وبلغة جامحة أشبه بالابتهالات الشعرية والآيات الشعرية وبصور شعرية صادمة وبتساؤلات فلسفية وفكرية وحياتية مهمة . باختصار أن تجربة نصيف الناصري الشعرية الأخيرة تعد من الهزّات العنيفة التي ستهز المشهد الشعري العراقي والعربي معاً ومن التجارب التي ستثبت مانطرحه الأن بشأن { الخطبة الشعرية } في الزمن القادم بقوة . وهنا نعرض نماذج شعرية من تجربته الشعرية هذه وسنرى بوضوح اختلافها عن تجربة سليم بركات من حيث الجهة التي تنطلق منها في الكتابة الشعرية ولكننا سنرى أيضاً أشتراكهما معا بسمات { الخطبة الشعرية } التي ذكرناها آنفاً :

أصواتُ عُطورِكِ المُحَمّلةِ بالهَذَيان

لَكِ السَّلامُ يا شَفيعةُ . يا صَيفَ اللهِ المتوسّدَ شَفاعتَهُ مابَينَ النارنجاتِ الأثيرةِ لعصياناتِ جروحِنا . لَكِ الثَمراتُ المنخفضةُ التي تفصلُ النجومَ عَن النجوم . تَنامينَ تَحتَ شَجرةِ التنهّداتِ وتتدلّى فوقَكِ شعائرُ الدَفنِ المتواطئةِ مَعَ خياناتكِ المنزلقةِ صَوبَ فجرِ الشّواهدِ العَتيقةِ لأسلافِنا العشّاق . لماذا تَترنّحُ بكِ الهاويةُ في السّنواتِ المزدحمةِ بالصّرخاتِ ؟ هَل استراحَت ، اطمأنت مَعصيّتُكِ ؟ الآنَ خَمدت ظَهيرةُ تَنفساتكِ واستراحَت الأرياف . في نومكِ تَحتَ الشّجرة التي لا تَثمرُ إلاّ أكماتٍ وهدايا . تَتسلقينَ البَراكينَ المنتصبة تَحتَ أهدابِ أشواقنا وتَقودكِ الظّلالُ البَنفسجيةُ لأسرار العَرّافات . يا شَمسَ موتِنا المتلعثمة فوق وديانِ الليالي ، ويا ميراثَ القرونِ المنحنيةِ والمتعاقبةِ في ليَلِ مرايا الساعاتِ العشقيّة .وَميضُ وَجهكِ الإلهيُّ يَخترقُ هاويةَ عطشِنا ، وأصواتُ عطوركِ المحمّلة بالهذيانِ ، تَتخطّى وتَتجاوزُ بانفتاحاتِها وتعرجاتِها بَين الأيّام المصيرَ الانسانيّ . يا أملُ ، شَفيعتَنا الأخيرةَ في صحراءِ العالم .هَل يَمحو الموتُ الحبَّ ويصهرُهُ في التماثلات العموميةِ المنسجمةِ والمتحالفةِ مَع عَوسج الأيام ؟ لماذا مصابيحُ عشقِنا معلقة دائماً بَين غيابِكِ وَغيمةِ الزمان ؟



اجاباتُ الزّيزانِ العاشِقَةِ معلقةٌ ومُتَهَدهِدةٌ في المَتاهات

في شَمسِ النذور المعذبةِ وَتحتَ قَوانين اللبلابِ ، في حَنانِ الرملِ للإعصار ، عبرَ ضفائر
الهاوية الشاطئيةِ لجذور تثاؤباتِنا المقوِّضةِ العَتيقةِ .. مَشيتُ مَعَ مَلائكةٍ سودٍ . تَتعثَّر بي
المنحدرات ، ورأيتكِ مستَيقظة تَحتَ رابيةِ جروحِ لآلئِكِ التي تسندُها الرياحُ وَنحلُ
الساعات . في التّحفظاتِ الشَّفيفة لإيمانكِ المتنزّهِ والمتموّجِ مثل أسرار الصّلصال ،
في ثَباتِ الإوّزاتِ المَلاّحاتِ وحركتِها ، تَحتَ شَجرةِ كَستناء قَبركِ المنعطفةِ والسَهرانةِ ،
في عَجزي عن الإمساكِ بنَسمة برهان.. بَكيتُ طَويلاً لكي أطردَ مذنَّبات موتِكِ مِن شَدوِ
حَياتي وملحِها . لماذا رَحلتِ الآن وَتركتِ اجاباتِ الزّيزان العاشقةِ معلقةً ومتهدهِدةً في
المَتاهات ؟ أرضُ نعاسِنا العَليلةُ متناهيةُ العلاماتِ وايماضةُ عينِ مالك الحزينِ تَحتَ الهلال ، ونبتةُ العَسَلِ السّامةُ فوق مرتفعاتِ الأصائلِ تقولُ لنَا : لا تطردوا حَريرَ الموتِ مِن سنبلةِ جروحِكم المضاعَةِ في الهذياناتِ . هَل يَنبَغي دائماً تَثبيتُ مشاعلِ النَظراتِ الهاديةِ على وَردةِ الهاوية ؟


وهنا أيضا نماذج من تجربة الشاعر والروائي سليم بركات توضح مفهومنا حول { الخطبة الشعرية } :

الفقمة

أنشد نشيدكَ على صخرة عالية وأجمع الريح كلّها قرب ثدييك ، فأنت تفطم البحر الآن ، وتهيب بالمرضعات أن { هدهدن وليدي على سريره الرملي } ، فما من عويل سيعلو عويلك آن يأخذ القطيع ذكرٌ آخر ، وما من أنين سيواسي الأنين آن ترى إناثك يتوسلن فحولة الغريب .
ولينشد قطيعُك الأنثوي أيضاً ، نشيده ، قطيعك الذي يتبع الغالبين ، وليبق الرمل في زرده ويده على مقبض المياه ، فبابُكَ إليه ، بابُكَ المفضي الى جهةٍ أمينةٍ ككلبِ الضرير .
رذاذٌ يبللُ الجلدَ البهيَّ قبل أن ينحدر الجسد الى سلامه ،،
رذاذٌ يبلل الأبدية .


مقطع من نص

الضباب المتّزن كسيَّد

إنها المشيئةُ التي تضرب الأرض بقناعها ، وأنت رنين الضربة . فتموّج إذاً . تموّج منزلقاً من ورقةٍ إلى ورقةٍ ، ومن لهاثٍ الى لهاثٍ ، وأقضُم الأبدية بأسنانِ الخنشار .
لاتقل إن تلك الصاعقة المتدثرة بمعطفها الفرائي هي لك . لاتقل إنّ العذوبة سوطُكَ الذي تقود به جياد النبات ، والنهار إوّزة شردت من حقلك الحديدي ، بل ألتمس ذاكرة التفاح بكلمات الغصن ، وأطلق يديك كذهب مطحون .


مقطع من نص آخر

إيه أيتها الأدراج الواهنة التي لن أطأها . إيه أيها المكانُ الذي يتسلّقُ الظهيرة كغبارٍ مفجوعٍ . إيه نَفْسي نَفْسي نَفْسي ، بعصيانٍ واحدٍ ، وضربةٍ واحدةٍ ، ستأسرُ الهرطقةُ هذه الممرات ، وسأبقى حيث يبقى الحاضرُ الخجولُ هنا ، تحت القوس المشتعل بفكاهة مرصّعة جاذباً وتري لأرمي سهمَ الفضيحة ، فأن أصبت ترامى المكان وديعا يسبط المواريث كطنفسٍ ، وإن نبا الرّمي عدتُ إليّ بعصيان الشجر كله ، والظلال كلّها ، ناظراً ثانيةً إلى الأفق الذي يجمع السهام لسطوتي النبيلة .




عبد الكريم كاظم


نصيف الناصري : صانع حرائق

نص في تمجيد هلع القصيدة



انها لمفارقة عجيبة حين تمتلىء سنوات عمر الشاعر بضجيج الحرب وصخب الموت ، لكنه الشعر بين حدّي التناقض يعلن حضوره الدائم وينطوي على التمجيد حين تصاب القصيدة بالهلع والحياة بالعطب ، الحياة والقصيدة صنوان ، هكذا أقول دائماً . لا يشبه الشاعر نصيف الناصري في حياته إلاّ نفسه ، انه صوت شعره ونسيج مفرداته ، يجمع قلق الشاعر وتجليات المكتشف الى عبثية الصعلوك ومفارقات الصعلكة ، يقرن بين مرارة الشعر الحارقة وعناد الشاعر الحاد في الانتصار على النص سليل خط بوهيمي يبدأ من قصائد حسين مردان العارية الى سعادة كزار حنتوش العالمية الى ابتكارات عبد الامير الحصري التموزية وشموسها وصولاً الى نديمه الأثير جان دمو وأسماله ، ولا ننسى المرور بآخر طيور عقيل علي المتوارية ، انها شجرة عائلة القديسين الشعرية ، لكن .. هناك فرادة تكمن في أن الناصري نصيف بمقدار ما انتمى الى هذه العائلة السالفة الجميلة الذكر ، وحمل بعض من ملامحها وهواجسها وتمردها . ظل يركض في العراء وحيداً محتفظاً باسلوب شعري مغاير لما سبق لتلك العائلة أن تميزت به ، قد يبدو انفصال واتصال في آن . قد لا يقوى كثيرون على مجاراة حياة كالتي عاشها الشاعر هذا الخرافي القادم من الجنوب .. يجيد صناعة واشعال الحرائق بمهارة المحترف ، تتجلى في أنه يعرّي نصه جملة جملة وحياته خيبة خيبة وحماقاته واحدة واحدة وسنواته جمرة جمرة . بات من الصعب التكهن ـ حين يكتب عن الحرب ـ أيّ الحوادث هو المعاش وأيها المتخيل ؟ ، من المؤكد أن هذا الأمر هو موضوع شعري بحت بحيث لا تبدو الكتابة عن الحرب والمعارك سهلة كالكلام المرسل ، فهو لا يحتاج سوى أحضار الذاكرة وتواريخ المصاعب وبعض من محطات العمر ، انها لزوميات الناصري الحربية في عرض الحقائق بصدقية متناهية وامتاع حدّ الانبطاح على الأرض من الضحك والسخرية الموجعة . جُمله الشعرية تشبه مرارة خيباته . فضاؤه مفرط القساوة . التجول في وهاد نصوصه الوعرة مغامرة محفوفة المخاطر ، فضلاً عن انها حقلاً للالغام . من البساطة أن تأخذ منه ما تستطيع أنت أن تأخذه لا ما يمكنه هو أن يعطي ، لا يرد صديقاً مثلما لا يرد كأساً مترعة بالمحبة أو النبيذ ، يعطي طيبة بمقدار ما هنالك من يستحق أو لا يستحق ، يوزعها كالقصائد ، لم يتمكن الشاعر من مغادرة جلد الصعلوك ولا الصعلوك من جلد الشاعر ، انه المغايرة ضمن التواصل أو الديمومة ، ثمة جرم مشهود وجميل وواضح في كل قصيدة لا يحتاج الى جهد كبير لكي تقبض عليه متلبساً ... أعني الجرم الشعري الذي يبدأ من العنوان ولا ينتهي بالمتن أو الحواشي وصولاً الى الافضاء / البوح / الافصاح ، أحياناً يكتظ بالقصيدة أو تكتظ به ، انه لا يبوح فقط لكنه يفصح حد الصراخ . لم أعرف شاعراً واحداً تجرأ على تعرية نفسه تماماً في كتاباته ، يومياته وذكرياته الحربية منها وغير الحربية مثلما فعل ويفعل الناصري . يتنفس الخمر ويبثه شعراً محترف دعابات ، مألوفاً حد الضجر . انه نثري وتنبع فداحته النثرية من مشاكساته الشعرية ، يبتعد عنها وبمقدار ما يبتعد تترسخ الهوة بينه وبين مألوفية دعاباته . أحياناً أسأل : هذا الشاعر المذعور من البطش وسجله العسكري المتخم بهروباته المتكررة من دموية الحرب وتشرده الأزلي ... لماذا لم يدركه العثار ؟ هذا الشاعر .. قدماه في السويد ورأسه المدجج بالخراب في فضاء العراق يلتقط اللمحة يمتص المصيبة . يكتنز الحنين . يبكي أيامه حتى تعصره القصيدة حدّ الذوبان . انه صانع حرائق ومبدد قناعات . هكذا اذن تُمجده القصيدة ، لنُمجد قصيدته ، بعبارة أخرى .. ما يمكن الجزم به هو ضرورة التمجيد لتلك الحالتين : هلع القصيدة وهروب الشاعر ، لكن ... من يُقيس القصيدة ؟ من يُقيس المقادير ، اذا أضرم الناصري النار بالكلمات قبل أن تخفت النار . سيصيح .. ربما صيحته الأخيرة :

يا ساقييَّ أخمرٌ في كؤوسكما

أم في كؤوسكما هم وتسهيـد



هامش : البيت الأخير في النص هو للمتنبي قاله بعد رحيله من مصر .



عبد الكريم كاظم

كهنوتية نصيف الناصري وعصيانه الشعري ...


أحب أن أكون واضحاً وأقول أن شعر هذا الشاعر المثابر يمتاز بسمو غاياته وعلو مراميه وباسلوب يُساق أحياناً مساق الحوار وطوراً مسلك الحكمة وتارة يذهب مذهب التعري ، كما حَوَى كثيراً من أوجاع الحرب ، وعلينا أيضاً حين نستقبل نصوص هذا الشاعر ، أن لا ننسى كل ما يتعلق ويتصل بحياته وسلوكياته ولا نذعن إلاّ لهذه السلوكيات التي أسرف فيها كثيراً دونما قصد ، فهذه هي طبيعته ولا سبيل الى التخلص منها ومن هذا العناء الجميل الذي أسمه الشعر ، إلاّ بالشعر وبعبارة أدنى الى الايجاز أقول ... أن هذا الشاعر لا يستطيع نسيان الموت إلاّ بين أحضان قصائده وأعني حياته ، فكلاهما متصل بالآخر ، فضرورة القراءة الصارمة لنصوصه كانت تملي شروطها القاسية عليّ تبعاً لنوعية الاستجابة التي يتطلبها النص ، فعلاقتي مع شعر هذا الشاعر تواجه اشكالية عسيرة حرصت على تجاوزها كي أستطيع العثور على ملامح شخصيته وسلوكياتها في مجمل نتاجاته الشعرية ، يبدأ الشاعر نصيف الناصري في تمهيد لنصوصه المعنونة { أحلام تذبل من شدة الدويّ } وهي عبارة عن ست عشرة قصيدة مصحوبة بمقدمة مقتضبة واهداء يخص بهما صديقه الأثير الشاعر كمال سبتي مؤكداً بأن الحرب هي النقطة الأساسية وراء ما يكتبه والذي يشكل له دافعاً أولياً للوصول الى الخراب الذي أنتجته الحروب ، فيبدو لي انه من بين أكثر مجايليه انغراساً في الحرب وأكثرهم التصاقاً بتصدعاتها ، مما جعله في حالة نفور دائم منها وولاء شديد وأبدي لما يكتبه من أشعار ، بحيث لم يتعرض هذا الولاء الجميل الذي يكنه للشعر الى أيّ اختلال في توازنه الشعري أبداً ، وهو بذلك قد بقي ممتناً للشعر بوصفه طوقاً للنجاة تارة ، وأخرى لاعادة تشكيل الحياة بمزاجه الشعري الخاص . لنقرأ ما جاء في قصيدته المعنونة { كما في قصيدة لأحمد شوقي ... شيعتُ أحلامي بقلب باك } :

هل يمكننا اعطاء فكرة ولو غامضة عن كوننا سنرحل نحن أيضاً ؟
العالم صامت في ظلمة الصقيع
ونحن أنفسنا نلتحف الصمت ولا نرغب في أن نفتح جرحاً
حتى بعد لقاء في حلم مع طاغية
حتى بعد تذكر أطفالنا الذين قتلوا .

فهذا الشاعر القادم من مدرسة لمحو الأمية والذي يقول عن نفسه تخرجت في ثلاث جامعات ، الحروب وبغداد والصعلكات . ما لبث أن تمكن من أدواته الشعرية والتي دفعته في ذات الوقت الى الاحتفاظ بحماسته نحو كتابة قصيدة متميزة بتجربة واسعة الامتداد معرفياً ، اضافة الى أن موضوعة الحرب قد شكلت لديه منعطفاً مهماً في مسيرته كشاعر ، والتي تجاوزت المزاج التقليدي ومستعرضاً من خلالها الكثير من تفاصيل حياته وعلاقاته الانسانية التي نخرتها الحروب حتى تبلور اسمه كشاعر مهم وصعلوك نبيل يتداول أخباره ومغامراته وطرائفه الكثير من محبيه في الوسط الثقافي العراقي .
يقتحم شاعرنا الناصري الواقع بطرقٍ شعرية قاسية مرتبطة بأوثق الأواصر مع الأشياء الحميمة المحيطة به ، وبهذا تكتسب أهمية هذه النصوص أنها جاءت كنتيجة حتمية لانفعالات الشاعر مع الوقائع التي حدثت في وطنه ومع الأصدقاء الذين أحبهم وأحبوه والذين هربوا من جحيم الموت وأولئك الذين سقطوا ضحايا جنرالات الحروب ونزواتهم ، اضافة إلى طبيعة الحياة البائسة المعاشة والتي تفتقر الى أبسط مقومات الحياة فكانت نصوصه تشبه الى حدّ ما قداساً جنائزياً لا يغيب عنها احساسه المتمثل بمدى استجابته للأشياء شعرياً ، اضافة لادراكه حجم المعاناة ، ليس لمعايشته لها فحسب بل لما يكتنفه من احساس ازداد تركيزاً وكثافة مع حجم الهول الذي أصاب البلاد ، وهذا ما نراه واضحاً فيما كتبه بنصه المعنون { صور من معارك جبل كرده مند / 4 } :

استطيع الآن أن أبتر يدي
أصرع ضابطاً في فرقة إعدامات الفيلق
أو أصعد إلى الله في خمس دقائق على دراجة شعرية
لكنني لا أستطيع الآن أن أحضر مشهداً لقصيدتي الجديدة
في بغداد يكتب السادة الطراطير
قصائد عن حرب لا توجد إلا في موائد سكرهم
وكتبهم القومية المصفرة .

كما تعتمد نصوصه في أغلبها على الفضائحية التي تتوجه مباشرة الى تعرية خصائص الأشياء واعادة تشكيل فضاء الفضيحة بشكل صوري ، وهو هنا لا يكتب عن الفضيحة بالمعنى اللفظي فقط ، بل بالمعنى الصوري وكأن نصوصه أشبه بالصور الفوتغرافية ، وهو بهذا الأسلوب يؤسس لغته الشعرية الخالية من الهذيانات المحنطة بطريقة مثيرة تدعو الى الغاء كافة الحواجز كي تعرض نفسها بشكل تشكيلي وبكثافة الأحلام والكوابيس التي تحملها لتدعو المتلقي لقراءتها بلا أدنى تحفظ ، خصوصاً حينما يسمي الأشياء بمسمياتها وصولاً الى درجة العري الفاضح . في الوقت الذي يختفي فيه الكثير من الشعراء وراء أقمطة التقاليد والعادات البالية حتى في كتاباتهم الشعرية فهو لا يميل الى الاختفاء والصمت ، بل يتوغل بشكل عميق في موضوعة المكاشفة حين يصف الأشياء ، وكلامي هذا لا أعني به أنني أطالب الآخرين أن يتمثلوا بحياة الشاعر ، بل أرغب في أن تكون القصيدة مليئة بالحياة كي تستمد مقومات الجمال من أشكالها التعبيرية ورمزيتها وحضورها البهي اللامتناهي حتى بعد الانتهاء من قراءتها ، وبهذا نحقق بطريقة فنية ضرباً من السحر يمرر المعنى ويستعيد سطوة القراءة بصورة صارمة لكي نستبعد ضمناً الخيال المعاق من فضاء القراءة العليلة التي تبتعد عن جوهر الشعر وكهنوتيته . هنا بعض من الالتقاطات الشعرية :

{ أجلس أياماً على حافة السماء وأحدق بلا انقطاع في دورة المياه
أحلم بالحصول على نصف متر من أرض الوطن أقف فوقه كاللقلق في نومه
أحمل جثتي منذ عشرة أعوام في بدلة عسكرية .

هناك ملاحظة أساسية توحي بها حياة الشاعر نصيف الناصري انها تأتي تتمة لظاهرة أصبحت مألوفة في الوسط الثقافي العراقي ، ظاهرة الصعلكة الثقافية بدءاً من الحصيري وانتهاء بجان دمو وبمعنى آخر لقد ثبتت هذه الظاهرة ركائزها التي تدبج لثقافة الصعلكة بكل ارهاصاتها وملامحها ، فهي في أغلب الظن لا تطمح الى لعب دور هامشي ، بل تسعى الى دور ذي صبغة تجديدية ، والفارق شاسع بينهما على شتى الصعد ، فيبدو لي انهم كانوا وحيدون وكأن البلاد التي ينتمون اليها لم تكن سوى خيمة مملوكة لبدويّ يركّبها ويفككها كما يشاء. لنتأمل نصه المعنون { لا فجر عندي لا شعلة } :

{ لقد أحببت الملابس الرثة كثيراً
غرف الفنادق الرخيصة
الخمور المصنوعة في البيوت
النوم في حدائق بغداد حيث نمور الشرطة توقظني برفق في الفجر
أحببت كل الأشياء البوهيمية والمنفلتة
........
لا فجر عندي / لا شعلة
ثلج في القلب والأيمان
عذاب في الحياة والأيمان
انهدامات .

هذا الشاعر حين يبدأ بكتابة القصيدة يتماهى معها فيعجن المفردات ويتركها هكذا أمامه الى أن تختمر ثم يقدمها لنا كرغيف ساخن نلتهمها بمنتهى الشهية ، انه شاعر مفخخ بالقصائد تتفق عليه المعارك بكل ضراوتها فيختلق اللحظة التي يتجاوز بها الموت صدفة ، انه يخرج من نصه كما يخرج الجندي من المعركة مغبراً وحاملاً لتساؤلات لا حدود لها ، تساؤلات ساخرة عن هكذا حياة صدئة وقادة ـ ببزاتهم الكاكية ـ يشبهون الضفادع حسب تعبيره . لنطلع على بعض المقتطفات من نصه الذي يحمل عنوان { من أجل أحلام بألوان قوس قزح } :

{ أنا شاعر غجري اذا ربطوني يوماً بعمود الأعدام لـ { جرائمي الغجرية } سأتمنى أن ألتهم نعجة مشوية . كنت جثة في كيس عسكري ، بعد تسريحي من الجيش محبطاً ومحطماً عانيت صعوبات كبيرة بسبب عدم تمكني من نسيان المشية العسكرية .
أيّ فجر يجب أن أفرض بالقوة حتى أمزق ظلام ليلي ؟
الجنرالات هشموا عظامكم ووضعوا أسلاكاً شائكة في أغصان أحلامكم .

بالشعر حرر نصيف رهائن حرب الجنرال ، كما أشعل حربه معهم ، لا لشيء فقط لكونه شاعراً يخوض بالشعر حربه كي لا يعطي الجنرال فرصة أن يتسلى بمصائر الآخرين ، فقد عمل شعرياً بمنتهى الاحساس مع آلهة من طراز خاص لا ليستجدي البقاء على قيد الحياة ، بل البقاء على قيد الشعر وبهذا تمكنَ من الحفاظ على الأشياء الأثيرة لنفسه بمنتهى التوهج كلما هاجمته الحرب ونكاد نرى ذلك في قوله من النص المعنون { الشعلة } :

{ لا سماء الناصرية
ولا بغداد
ولا أية مدينة أخرى فيها من اللمعانات مثل ما رأيتُ في لمعاناتك يا صعلكاتي
، ماذا تكون الفراديس والأنهار والمدن العظيمة المتوهجة ، بل كل أشياء العالم ان لم تكن قصائد ورموزاً من ابداع الشاعر ؟ هذا الراهب العجوز تراءى له أن يرى ملاكاً يقول انه المسيح ، فلما أعاد النظر وجده جندياً يهبط بمظلة .
حروب : حروب : حروب .

كيف يمكن أن تحدث حالة الانتقال في المعنى لدى الشاعر من نص الى آخر ، فلا بد لهذا الانتقال من حدث كبير قد تكون الحرب وقد يكون وحياً ينزل على الشاعر لحظة كتابته لنصه الشعري ، ولا أعني بالوحي هنا بشياطين الإلهام في ما يسمى بوادي عبقر ، حينذاك يكون الشاعر قد واجه تحدياً وجودياً كبيراً في تعامله مع موضوعة الحرب تحديداً ، ومن الجدير بالذكر فان نصيف الناصري كان مصيباً حين أطلق شتائمه الشعرية باتجاه مشعلي الحروب استجابة لقوة الشعر التي تقودنا من الفناء الى اعادة رسم الحياة بالمعنى الحضاري والانساني ، وهذا ما نراه جلياً في نصه المسمى { هاوية مصائرنا المتعثرة } :

{ حياتنا القصيرة تحت نارك الأبدية يا الله
فكاهة بلا معنى
مأساة يغلفها العبث
لماذا يفنى كل ما في العالم ؟
ما جدوى العالم إذا كان زائلاً ؟

تحتل أغلب نصوصه المعنونة { الأمل ، أضداده ، خياط الموت ، نار الأبدية } اشكالية تتعلق برؤية الشاعر ـ فنياً ـ لجوهر الشعر بوصفها مسألة محورية ، خصوصاً فيما يتعلق في تطور نصّه المفتوح الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاستفزاز المعرفي والذي يجعل من الشاعر ملتصقاً في ذات الوقت بحركة المخيلة ، وأتذكر هنا أمبرتو ايكو حين قال { يمتلك النص قدرة الحركة في المخيلة خاصة في النص المفتوح } اضافة الى أن هذه المجموعة من النصوص تشكّل بنية متكاملة واحدة على كثرة تنوعها ، كما أنها تمثل حالة شعرية جسّد من خلالها الشاعر الحرب من كافة جوانبها ضمن دائرتها الموحشة التي تجعل من الشاعر يغفو على وجع الأشياء المفتقدة والتي انعكست في نصوصه على شكل علاقة صريحة صادقة مع كل ما اختلج في أعماقه تجاه الخراب الذي أغرقتنا به الحروب . لنصغي الى هذا المقطع من نصه المعنون { الطبيعة ميراثنا الذي يتعارض مع التاريخ } :

{ تنام الطبيعة مع زوجها الموت في جميع الفصول
وتجدد القرابة بين الحيوان والمطر
بين قطعة الخشب والصاعقة
بين الوردة العصية النظيفة ومخلب الصقر .

هناك حالة افتراضية لفضاء النص الذي يتعامل معه الشاعر ، ينبئنا عن الموت وكأنه يكمن في كل شيء فتكاد أغلب نصوصه لا تخلو من مفردة الموت وكأنه المكان الافتراضي الكفيل بخلق البدائل في وطن موغل بالخراب ، الأمر الذي يجعل من الشاعر مصاباً بالرغبة الدائمة في البحث عن هذا البديل الذي قد يكون بعيداً عن متناول الحرائق التي أحدثتها الحرب ، ومن هنا يتوجب علينا أن لا نستغرب من هذه السوداوية التي تغلف أغلب نصوصه وعلينا أيضاً أن لا ننظر اليها من هذه الشرفة التي تطل على هذه السوداوية ، وبهذا أرى أن الشاعر لا يتوسل هذه الحالة بل يذهب الى الأفق البعيد المغاير لكي يستطيع أن يوظف نصوصه ويجعلها على اتصال به للوصول الى المعنى متجاوزاً الظروف التي أحدثتها الحرب من بؤس ، حرمان ، خوف وتهميش على الرغم من أن الحرب كانت ولم تزل الوحش الذي يهرس حياة الانسان ، وبهذا عَمد الشاعر الى الانغمار اللامحدود في موضوعة الموت للوصول الى حالة من الانسجام الروحي الذي نلمسه في نصه المعنون { شعلة الماضي } :

{ يا موت : امنحنا شمعة أخيرة
لم تبق لنا العاصفة ريشة نجمة ولا غصناً نلوذ برحابه
لنا تحت سماء العراق المشققة منازل أطبقت فوقها الهاوية
ولنا في شجر النخيل المهدم ضوء شفيف .

ومع هذا يقودنا للتساؤل مرة أخرى في هذه الفقرة من قصيدته المعنونة { في حديقة سعدي يوسف } عن سبب رفضنا للموت بوصفه شكل من أشكال التحول للحياة باعتبارها صورة مصغرة منقوشة على جبينه والتي تشبه النبوءة حين يختفي الموت لتزدهر القصيدة كما في قوله في القصيدة المعنونة أعلاه :

{ ليل الأبدية يضيء مقبض القصيدة
ويزيح الموت عن طريق الشاعر .

بلهجة رثائية يكتب ويختفي وراء مفرداته المتدفقة والتي تبقى تسبح بهدوء حول مياه علاقاته الانسانية الصافية والتي يحاول من خلالها أن يتلفع باطمئنان شبه مصطنع في تفاصيل حياته المضطربة ، وقبل أن يكتب قصائده يتدخل الخوف ليقلب الميزان ويعيد الحوار الى شكله العبثي والذي يصل بالشاعر الى حد الانفجارأو الالتجاء الى داخل الروح ، وهذا ما نراه واضحاً في نصه المعنون { رسالة إلى حسب الشيخ جعفر } :

{ أين تصوب نظراتك يا حسب والأفق مظلم وبهيم .

وكذلك في نصه { اعتراف الى سعدي يوسف } :

بعيداً عن { جبهة النهر } البيت خراب الآن
والمدافع تهزه نوافذه اللامرئية
وأنت تستند على حافة الأفق في الظلام .

وأيضاً في نصه المعنون { الى كمال سبتي في إسبانيا وفي الجحيم } :
هل حقاً انتهت الحروب
أم أن نيرانها التي تستعر في الأحشاء ، لها بداية في كل يوم جديد ؟
.........
قتلنا السياب عام 1980 ولم نعد نرغب الآن في كتابة قصيدة حسب طريقته الجليلة .



علي حسن الفواز


نصيف الناصري الروح الباسلة وصناعة الحرائق ..


ربما هو أكثر الشعراء ضجيجاً ، وربما هو أكثرهم تمرداً على يومياته في العالم السفلي ، وربما هو أكثرهم بحثاً عن عشبة الشعر السحرية اذ لم يحمل معه زوادة العلم الشعري وأزاميله وكتب أسحاره ، ولم يرث بعض بضاعته وكنوزه . كان يحلم بملكوت الشعر ، بأبهته بعوالمه الباذخة . تيقن أنه يركض باتجاه الحلم ، يدافع عنه بشراسة ويصدق نفسه كثيراً لذلك أخذته يوميات المغامرات الشعرية إلى أقصى تمرداتها ونفورها بعيداً عن القياس . كان يصدق بأحلام الشعراء المغامرين ويرفض دونهم أيّ اغواء أو مقدس . نصيف الناصري الشاعر والمتمرد والساخط والحالم أدرك أنه دخل لزوجة الشعر ولعبته الباهية . لذا تيقن أن لا فكاك عنه ، كان يكتب بطريقة مثيرة للجدل ، ومثيرة للأسئلة .ربما كان هذيان وعيه الصاخب وصوره التي تتراكب وتتشكل دون مرجعيات بلاغية أو أسلوبية . كان يملك احساساً بالتوحش ازاء اللغة ، وهذا ما جعل الكتابة لديه وكأنها لعبة في الافتراس . البعض كان يجد في نصوصه المكشوفة اغواء التلصص على الآخرين ، رغم أن الكثير من مجايليه كان يكتب تحت سطوة { نص الاشاعة } حيث كان الفضاء الشعري مفعماً بارهصات المغامرة التحديثية ورغبة التمرد على قصيدة الصوت وقصيدة الحرب.. الضفة الأخرى للشعرية العربية كانت تضخ هوساً شعرياً وفكرياً وتمرداً ايهامياً في التنظير الشعري . أدونيس وسليم بركات وترجمات سان جون بيرس ورينيه شار وصلاح ستتيه واستعراضات شربل داغر ونوري الجراح وعقل العويط والمغامرة اللبنانية بكامل أناقتها ، تهرّب الينا بضاعتها وملابسها الداخلية وكأننا المعنيون الوحيدون بتجديد ثياب الشعر العربي.. وسط هذا التمرد والضجيج والثورة الشعرية الثمانينية تشكل وعي نصيف الناصري الشعري ، لم يمنحه هذا الفضاء اطمئناناً ولم تمنحه قراءاته التي يشتري كتبها بهوس اطمئناناً آخر أو حتى احساساً بالتوازن . كان يركض باتجاهات متعددة دون خارطة لطرق الحرير الى المعرفة ، يبحث عن تعويض نفسي ازاء مجايليه الخارجين من يوميات الدرس الجامعي وزوادة معرفية باليات التقنيات الشعرية وربما معرفة منهجبة بعوالم التاريخ الشعري.. نصيف الناصري لم يقرأ مناهج التاريخ الشعري حسب القواعد الصارمة التي كان يفترضها الدرس الاكاديمي ، ولم يتعرف على تحولاته وانزياحاته مثلما تروج له الطرائق التقليدية التي وضعت الخطاب الشعري أمام قصديات وبداهات وايهامات بدءاً من تغايرات أبي تمام وانتهاء بتقنيات الجرجاني التي عدّها البعض ازاحات استباقية على نظريات دي سوسير وعلوم الألسنيات وغيرها.. لم يعش نصيف الناصري هذه اللعبة الغرائبية وربما لم يصدقها ، وأحس أنه كان يمدّ لسانه ساخراً منها ، فهي تجعله يصدّق التاريخ ويكذّب احساسه بالمغامرة ، لقد اكتشف اللعبة الشعرية وحتى التاريخ الشعري مؤسساً ضمن سياق اشكالي آخر أكثر تعقيداً وأكثر اثارة . الناصري كان يكتب مخطوطاته دون كلل . الكثيرون لم يصدقوه لكنه كان جزءاً حياً من يومياتنا الشعرية وربما كان أكثرنا حيازة على الكتاب السري اذ كان يملك منافذ لم يجاهر بها لأحد . وحتى الكتب التي كان يكتبها المعارضون كانت تصل بطريقة مثيرة ومريبة ، لذا كنت أصدّقه كثيراً فهو حافل بروح مكتبية تديم نصاً ومعرفها باستمرار وكنا نتحاور كثيراً حول نصوصه الطويلة التي هي انعكاس لأزمته في النشر وأزمته ازاء الآخرين أصحاب الاشاعات والمشاريع الشعرية الملتبسة . كان الناصري يستعير الكثير من الشفرات الاسطورية والسحرية في نصوصه ، يضعها في سياق يقترحه بمزاج شخصي انوثة الاسطورة هي الأقرب اليه لأنها تمنحه قدرة على أنسنة المرأة التي يحب داخل هذه الأنوثة الكونية ، لا يحتمل أن يمارس وصالها مثل الآخرين دون أن يضع بينها وبينه عوالم وأرخبيلات واوديسات وكأنه يجد أن لذته ليست أرضية وأن المرأة كائن ينتمي إلى أنصاف الآلهة . دخل نصيف الناصري لعبة الشهرة بعد أن نشرت له مجلة الكرمل الفلسطينية في عددها الثامن عشر قصيدة { لا عطر . لا درج . لا قهقهة } والتي تنتمي الى فضاء النص المفتوح ، كان قصيدة مثيرة حقاً لشاعر لم يعرفه أحد عربياً . تنزاح القصيدة باتجاه المشغل الحداثوي الذي افترضه منظرو الحداثة بأنه الشكل الأخير للشعرية العربية ، فضلاً عن تقنيتها البنائية كانت القصيدة تتمثل لقراءة باطنية للمشهد الحياتي وشفراته السياسية ومأزق الانسان المعاصر الوجودي والجنسي وأسئلته الطاعنة في القلق . نصوصه الأخيرة التي أقرأها هنا وهناك في الصحافة الفضائية أو ما تنشره بعض الدوريات تؤشر تطور مشغله الشعري رغم احتفاظه بالنزعة الكولاجية التي تجعل القصيدة / النص أمام استحقاقات قرائية أكثر جدية ، بحثاً عن الخصائص التي تميز مغامرته خارج سياق التجربة الشعرية لمجايليه ، وفي اطار ما تمثله هذه المغامرة من تفرد جعلت الناصري صوتاً عصامياً تشكل عن عشبة الشعر وتمثله بكل لحظاته وكأنه قدره الذي وضعه عند احتمال المهاجر التي أعطته توازناً مكانياً أنقذه من عقدة العالم السفلي ومن عقدة القراءات المنهجية التي تلقي قصائده الى الشكوك . ان قراءة نصيف الناصري تحتاج الى حرفنة شعرية ونقدية تخلص نصه من بقايا الطين الحري ولزوجة الضغط القرائي باتجاه نص خالص يمثل روحه الباسلة الباحثة عن يقين لا شكل له ، قدر ما يمنحه لذة بالوجود والانتماء الى لعبة صانعي الحرائق .










اسامة العقيلي

السرد ُ وهيمنة ُ التجربة
دراسة لنص نصيف الناصري
{ معرفة أساسية .. الحرب .. الشعر.. الحب .. الموت }




الجزء الأول


من غير المنصف تبعا للدراسات النقدية الحديثة تمحص النص السردي من دون ان يكون للعنوان دور أولي لايقل أهمية في الكشف والتأويل عن ذلك المتعلق بالنص كوحدة . فالعنوانات مهما كانت ايحاآتها تشارك في بناء ستراتيجية النص بشكل فعال باعتباره واقعاً كتابياً ثم من خلال نسيج بؤرة التأويلات التي تلازم القارىء حتى السطر الاخير.. انها البوابة الأولى التي يبني عليها المتلقي مجموعة تصورات ذهنية ونفسية كواقعة سابقة على الخوض في كليات النص ، ولذلك يتوجب علي باعتباري ذاتاً قارءة وليست ناقدة ، عند هذه النصوص على الأقل ، أن أتوقف عند العنوان . لا لأنني أطمح للكشف عن مقدار القرب أو البعد الذي يوحي به العنوان بالنسبة للنص بل لأن العنوان شكل واع يكون الكاتب بعيداً كل البعد عن الصدق اذا قال انه سقط سهواً منه على سطره الاول أو انه تبلور بشكل مفاجىء . بل هو بالضرورة حصيلة انتاج الكاتب من خلال النص بعد ان يحاول أولاً أن يجد مكاناً له أو لغيره حين تتبلور الفكرة وعند ذلك قد يلجأ الى تعديله أو آلغائه وتغييره ، وحتى في مثل تلك الأجواء فأن العنوان الأول يظل يغمر بظلاله كل ما يأتي بعده من عنوانات ، وهنا تلعب الضرورة النفسية أو الرغبة في اضاءة النص دوراً فعالاً في نوع من المقاضاة بين العنوان من جهة والنص بشكله النهائي من جهة أخرى . تلك المقاضاة يدخل طرفاً حاسماً فيها المتلقي بعد ان يفقد الكاتب سلطته على العمل حين يتحول الى سلطة المتلقي .

لنقرأ العنوان { معرفة أساسية .. الحرب .. الشعر .. الحب .. الموت }.. فهل يقدم العنوان مع هذه المعرفة ؟ ولماذا هي أساسية؟

الملاحظة الأولى على تراتبية الكلمات المشكلة للعنوان تشير الى درجة التعاقب وليس الى نوعية العطف ، اذ ان العطف سيحقق { فيما لو استخدم الكاتب حرف الواو مثلاً } تلاحق الموضوعات وفق منطقة زمنية { سابق ولاحق } وسيحقق بالتالي انفصالاً بين كلمات العنوان يتجانس مع ما يعرفه الانسان عن الحرب والشعر والحب والموت ، إلاّ ان العنوان لا يريد الوصول الى هذه الحقيقة لأن القارىء أساساً قد وصل اليها وليس هناك من داع ليعيد على ذات القارىء مسلمات مفروغ منها بل على العكس فالعنوان يريد خلط كل المتناقضات ليبدو الأمر كما لو الحرب تلد حباً وشعراً مثلما تلد موتاً تماماً ، والشعر يعيد انتاج الحرب والموت { كبؤرة شعرية } مثلما يعيد انتاج الحب وهكذا ، والمعرفة الأساسية هنا محصورة بين الحرب والموت ، ولنلحظ هنا ان الشعر والحب يقعان بين طرف واحد من طرفي الحياة الانسانية ، وأعني بالطرف الآخر الحياة ، وذلك ينطبق تماماً مع المنطق الذي سيطر على الحياة العراقية لعقود وهو منطق الحرب وما يتبعها من منظومة لفظية هي نتيجة لها كالموت والفقد والانتظار والخوف ، في الوقت الذي لم يتبق لمعاني الحياة ، الحب ، الشعر ، الامتلاك ، البقاء ، أي وجود بل ان هذه المعاني ومرادفاتها كالجمال والسعادة أصبحت مرتبطة بالحرب والموت ، ومما لاشك فيه أن مثل هذه الهيمنة لما تزل تمارس مهماتها على نفسية الكاتب ولن يتخلص منها حتى لو انتقل الى أماكن أخرى تنقلب فيها بشكل نهائي تلك القاعدة . ان مكونات العنوان تندمج وتتمازج مما يتوائم مع النص السردي المدعم بنصوص شعرية يدعي الكاتب انها من نتاج فترة الحرب ، فالحرب تصبح مولداً للحب والشعر مثلما هي مولدة ، وهو معناها الاساس ، للموت, وذلك يعود الى عملية الفقد المتواصل الذي كان يمارسه العراقيون يومياً ، الأمر الذي يجعل العاطفة في أوج اشتعالها ، فالأحباء تغيبهم الحرب مؤقتاً أو بشكل لاعودة فيه وهذا يجعل منهم متأملين منتظرين ، هذا أيضاً ما يعانيه الاشخاص انفسهم وهم في الجبهات ، تشتعل العاطفة عند أول اجازة نزول الى الأهل أو تتحول الى حزن أسطوري حالما تصل الجثة الى عتبة الدار.. فثمة انتظاران كانا يطلان برأسيهما وبعيونهما المتحجرة من نوافذ القلب وهو جزء مما يركز عليه نصيف الناصري في هذه السلسلة ، الأول هو انتظار الأهل للحبيب والآخر هو انتظارعودته لهم ، وكلا الانتظارين يشكلان خلاصا مؤقتاً من هيمنة الموت ،الأول كان انتظار اطمئنان والثاني هو انتظار هرب وتأجيل للموت..

المعرفة الاساسية تريد أن تثبت أن الحرب كانت واقعة عامة على العراقيين بعد استبعاد شريحة لم تسمع بالحرب طيلة فترة اشتعالها ومع ذلك فهي لاتشكل جزءا من حياة طبيعية يمارسها العراقيون { بالمعنى الذي أراد النظام السابق ترسيخه } على الرغم من تحولها الى ممارسة يومية ،ولهذا فهذه النصوص وغيرها تحاول اعادة الذاكرة الى نصابها الحقيقي وستشكل ايديولوجية بحد ذاتها معقدة ومتشابكة ولن يكون هذا السرد إلاّ صورة من صورها الكثيرة ، فلو كانت الحرب واقعة مستقلة لم تندرج تحتها حروب أخرى ، اجتماعية ، ثقافية ،فكرية ، سياسية ، عند قياس آلاتها بل باحتساب نتائجها لشكلت هذه الكتابات جزءا من الوعي الزائف الذي مارسه الماركسيون المنتقدون لطريقة ستالين ، لكنها تحاول ان تعيد الواقعة الحسية أو تقترب من صورتها على الأقل . لاشك أن فترة الثمانينات من القرن الماضي شهدت حرباً قذرة سنمدحها لو قلنا انها كانت طاحنة ودموية وبشعة ، تلك الحرب ظلت الانسانية الحديثة تتفرج عليها والمدنية الجديدة والقومية التاريخية والعربية كأفضل أمة أخرجت للناس والاسلامية كمبرر هائل لصد ريح الثورة الشيعية المتشددة فتناسلت ونمت على موت العراقيين لثمان سنوات بالتمام والكمال حتى ان تاريخ نهايتها يحمل علامة راسخة لايمكن نسيانها في عالم يتعامل بالارقام يومياً ، انظروا اليه على انه من أكثر العلامات تحفيزاً لذكرى تلك الفاجعة 8 / /8 88 / .. تاريخ نهايتها .. انه اداة رمزية لنا لنسقط من حساباتنا دوما هذا الرقم ومضاعفاته جمعا وطرحاً وضرباً وتكسيراً ، ذلك هو أربع ثمانيات شامخة علامة للموت والفجيعة . ان التوقف عند النصوص التي يكتبها نصيف الناصري يتطلب مثل هذه العودة للجزئيات وقراءة العلامات ، مع انها مختصرة ولا تتطلع لعودة شاملة تستحقها تلك السنين المجردة من كل قيمة انسانية . ولنضع سؤالاً تقليدياً لن ينال من قيمة السرد في هذه الحلقات أياً كان النوع الذي يندرج تحته وهو كيف نستطيع أن نصنف مايكتبه نصيف هنا ؟ وتبعاً للاجابة يمكن أيضاً تلمس آليات مع ثيمة للدخول الى النص . ليس من المستغرب أن هذه النصوص قد تقف على أرضية السرد الذاتي ، أو التجربة الذاتية التي تختلف عما يسمى بالسيرة الذاتية ، اذا ان السيرة الذاتية هي حصيلة تجربة الكاتب الحياتية التي يكتبها من أجل توثيقها وتاريخها ويمكن أن يقوم بها الشاعر والكاتب مثلما يمكن أن يقوم بها السياسي والطبيب وغير ذلك ، أن السرد الذاتي هو عكس ذلك تماماً وان اتفق على أرضية متقاربة في نقل تجربة ما ،انها تنقل هذه التجربة في زمان ومكان معينين وتفاعلاتها النفسية والاجتماعية والفلسفية لا لغرض التوثيق بل لغرض ابداعي خالص ، ومن ثم يمكن للكاتب أن يتصرف بهذه التجربة وفقاً لمقدار موهبته الكتابية التي تعيد التجربة كواقع اجتماعي وابداعي في الآن ذاته ، وحينها تظهر مقدرته على خلط المزيج الذي يبدو غير متجانس للظهور بنص هو بالاساس جزء من آلية محكومة بالخطاطة السردية التي تنفتح على عدد لانهائي من الممكنات التأويلية ، للتحول الى تجربة ممتدة في الزمن وغير منتهية ،على الأقل باعتبارها خاما يمكن أن تستخلص منه مقتربات كتابية أخرى ، ومع ذلك فأن هذه الكتابات رغم أهميتها التاريخية ، غير مطلوب منها أن تقدم اجابات عن أشياء كثيرة ظلت فالتة من سلطة النموذج وأبعد من قدرته على أن يرجعنا ، نحو نقلة عكسية من المجرد الى المحسوس ، ذلك لأن الواقعة المعممة تقود من خلال النص الكتابي الى العودة الى المخصص ، وهذا ما يجعل هذه الكتابات تمثل صورة أو نموذجاً لصورة ماضية تقابلها وهي صورة الحرب واستحضارها كتجربة فردية قابلة للتعميم { أعني كنص سردي } يفتقد اليه بقية ممارسي التجربة ربما لافتقادههم القدرة على تحويلها الى نصوص . تجربة نصيف الناصري { الحربية } هي بالتأكيد ليست تجربة كاتب عاشها من أجل أن يكتبها ، فهو كحال المئات من الشعراء والكتاب والفنانين وكل القادرين على تحويل التجارب الى نصوص { كتابية أو موسيقية أو تشكيلية } والذين من المفترض ووفق منطق الحرب الطبيعي أن يكونوا ميتين الآن وأن مثل هذه التجارب ربما لم يكن بالامكان اعادة صياغتها لولا تلك الرأفة التي وهبتها الحرب للبعض فأبقت على حياتهم ، أو على الأقل أبقت على قدرتهم على الكتابة والتخيل ، أن من محاسن تلك الحرب انها تركت من يمثل شاهداً لغوياً على بشاعتها ، لأن الصور واللقطات التلفزيونية قابلة للزوال والتلف بينما تبقى الطاقة المخبوءة في نفس الكاتب متأججة وتستطيع أن تنقل عدواها الى الآخرين ، ذلك الكاتب القادر على ربط بعد الحياة المعرفي الذي ترجرج بأدلجة الحرب وتقديم مسوغات سرمديتها باشكالية القيم التي سخرت لفوهات البنادق . هي اذن ليست جزءا من فن السيرة الذاتية ، انها سرد من نوع خاص لكنه عام ، بل يفترس كل العموم ، انها وان كانت تجربة ذاتية إلاّ أن نصيف لايريد أن يقول انها شخصية وتعبر عنه فقط ، تاريخياً هي كذلك لكن كل الذين ذاقوا تجربة الحرب ببعدها القتالي لا ببعدها المسموع ، يتلهفون الى تحويلها الى واقعة سردية بل ربما تنفث بشكل أو بآخر رائحة بارودها على كل أعمالهم وان لم تكن عن الحرب . اننا نستطيع التيقن من الطريقة القبلية والموثوق بها التي تسم تلك الحلقات . نستطيع أن نتيقن أيضاً من القصدية التي أقحم فيها نصيف مجموعة من الشخصيات لرفد التجربة الشخصية ، كذلك تقف في المكان نفسه والوثوقية نفسها تلك القصائد التي تأتي لتعيدنا الى الخلف مازجين الحدث بأبعاده الحربية وجزئيات الموت والقنابل ببعده الشعري .


الجزء الثاني



يمكن لكل التجارب الانسانية أن تتحول الى مهيمنات . ذلك يعود الى التجربة ذاتها من حيث عمقها وكثافتها ثم الى المقدار الذي تتركه في نفسية الانسان . الى ذلك فأن ثمة عوامل أخرى تجعل من التجارب ـ أياً كانت ـ مهيمنات سلوكية من جانب ، وأشكالاً كونية من جانب آخر .
أن أية ممارسة انسانية لايمكن اختزالها في شكل وجودي واحد ، لأن كل تجربة لابد وانها تمتلك مجموعة من الوحدات التي تكون قادرة على الاستقلالية بنفسها ضمن الفضاء الكوني . أن ذلك يجعلنا بالتاكيد قادرين على منطقة التجربة والنظر اليها في المحيط الذي احتضنها ، والذي سينكشف بعد أن تتحول التجربة الى كون سردي يقتضي توافر اشكال كونية ترفده وتعزز من مقدرته على تفسير الكون ، سواء اتعلق ذلك بالنظر الى مايفعله الجهاز الايديولوجي في عملية التفسير تلك أو ما ينشره الجهاز السردي الذي يستمد قوته من انضوائه تحت المنظومة الثقافية التي تميز جماعة عن أخرى أو شخصاً عن آخر . أن تجربة ـ كالحرب ـ تتحول ـ لاعلى صعيد الحدث اللساني وحسب ـ الى بناء تؤديه الذات الفردية والجماعية على حد سوء. انها تجربة تتجاوز حدود الواقع لتتحول الى محفل متعالي يضج بالمعاني . ولاشك أن من خاض غمارها واقترب من بشاعتها بحواسه كلها سيتحول بدوره الى كائن لايقدر على النوم من دون تلك اللذة التي يوفرها صوت القنابل له . أن حواسه وترسبات اللاوعي تشعر بالانفصام والغربة اذا ما وضعت الحرب أوزارها. ذكر لي أحد أصدقائي الرسامين انه أهدى لوحة الى أحد أصدقائه الذي سرّح من الجندية بعد أن قضى عشرين عاماً فيها هي عبارة عن جندي عائد من الحرب تعلو ثغره ابتسامة تسرحه ـ صاحبنا سرح لأسباب مرضية ـ من الخدمة العسكرية ويحمل على ظهره حقيبة بالية ومن خلفه كان منظر السماء صافياً تعبيراً عن السلام . فنظر فيها ثم قال ماذا لو انك جعلت السماء متربة والقنابل تشتعل . انني لا استطيع تخيل معنى السلام إلاّ باعتباره استراحة لحرب أخرى . لذلك فلا تظنن اني سعيد بتركي للجندية والحرب . انني أشعر ان في دمي باروداً وتتحول أجمل الأغاني الى أصوات مزنجرات حينها فقط أشعر باللذة العارمة .أن ما يمرّ به بعض شعرائنا هو تطابق تام مع حالة صاحبنا المسرح من الجيش . أو من خدمة العلم كما يحلو للبعض تسميتها . أن الادباء والمعاقين والمرضى النفسانيين الخارجين من تجربة الحرب وأولئك الناس الذين قضوا مع الحرب جلّ أعمارهم هم من دون أدنى شك أكثر الناس دماراً . ولاسيما اذا تكررت الحرب وطالت وسيطر على الناس يأس تام من انتهائها أو حتى تمحورها بشكل أقل فتكاً ، حينها سوف يكون من الصعب ، لا بل من المستحيل أن تتوارى مخلفاتها باعتبارها تجربة يمكن مقارنتها بالتجارب الحياتية الأخرى التي تذوب في مقولة { لولا النسيان لهلك الانسان } . لقد هيمنت الحرب على نصوص نصيف الناصري مثلما هيمنت على نصوص الكثير من الشعراء العراقيين ومن المبدعين في الأدب أو مجالات الفن الأخرى . تلك الهيمنة لم تغيرها انتقالاتهم الى مكانات أخرى تختلف اختلافا كبيرا عن تلك الأرض التي كانت مشتعلة بنار الصواريخ أو التي ظلت تشير الى واقعة الموت باعتباها أرضها الخصب . ونصوص الشعراء العراقيين الجديدة التي كتبوها في أرض أوربا الآمنة تصرح أحياناً بالحرب ومخلفاتها أو تشير لها أو تستمد من وحي عذاباتها أنفاسها . فعبد الكريم كاظم يرى ثلج أوربا لايختلف عن ضمادات الحرب البيضاء . ومع ذلك فان هذا الحكم قد يرى فيه البعض ـ أمام المقدرة غير الطبيعية للنسيان الانساني ـ مبالغة . بالقياس الى كل تلك الفضائع التي مرّ بها بنو البشر وهاهم يرونها في الكتب التاريخية وهي منفصلة تماماً عن الاحساس بفضاعتها . ذلك بالطبع صحيح . ولكن ذلك اذا مانظر للموضوع برمته على انه حوادث مؤقته وان استمرت لقرون . اننا لاننظر لها بهذا الشكل بل لانها تنتقل من كونها حدثاً الى كونها لغة وذلك ما يهمنا في الأمر . ترى كم من الناس تركت فيه الحرب بصمة على الجسد أو في النفس ، وكم منهم أيضاً عاشها بكل مافيها ؟ . لكن كم من هؤلاء نقلها الى اللغة . ثم لولا تلك اللغة بتمظهراتها المختلفة لما امكننا معرفة ماكان يعانية أجدادنا ونحن من بعدهم . أن كل ذلك يرتبط بنظرة بارت للممارسة الانسانية المتحولة الى تجربة ابداعية . اذ انه يرى أن كل ما يصدر عن الانسان لابد وأن يكون منطلقاً من أسنن { نماذج سلوكية تمتلك القدرة على انتاج سلسلة غير متناهية من الفورمات والاشكال لاثراء السلوك الفردي وهو مايكسبه القبول حين ينظر اليه بمقياس التقارب من النموذج الاصلي الذي هو بدوره تجربة حياتية أو مجموعة تجارب } يرجع الى مايطلق عليه بارت بالسنن الهرمنطيقي الذي يقوم ضمن وحدات متنوعة وبأساليب مختلفة بوضع سؤال والاجابة عنه . وبذلك فاننا بصدد البحث عن اثارالحرب في نصوص نصيف الناصري من خلال الادلة اللغوية . أن متابعتنا لما يكتبه نصيف الناصري ـ النصوص القديمة والجديدة ـ تظهر أن هيمنة تجربة الحرب ـ للحرب قاموسها اللغوي الامنتهي ـ قد اجتاحته بالكامل .
{ نار الله تتلظى عبر أدغال وخرائب حيواتنا المبعثرة في الهاوية .
............................
ينبغي أن نموت ميتة عظيمة بلا خوف
لا أمل
لا أوهام
لا حلم بوعد .
موسيقى وصرخات مصائرنا اللامرئية تفرغ حمولتها فوق جسور التاريخ
والقبضة القوية للنور متنهدة فوق رأس الشجرة الإلهية .
مجد موتنا معصم للكوكب الذي ينفلتُ وينسابُ هادئاً عبر ليل الأزل .
ينبغي للانسان الواقف كريشة في سعيه المحموم للوصول الى سلّم الأبدية
أن ينظف العالم من قذارات تماثيل موته الشاخصة في أروقة الزمن .

والطبيعة تستردُ دائماً هباتها التي تمنحها للانسان
ينبغي أن نحيي أولئك الذين رحلوا وظلوا ماكثين
في قناديل الأزل .
هذا مقطع من نصوص نصيف الناصري المنشور على صفحة هذا الرابط الالكتروني http://www.iraqun.com/2/modules/news/article.php?storyid=249
النص بعنوان سلم الابدية . انه نص لايخرج من هيمنة الحرب وسيرورتها . أدغال . خرائب . وحياة مبعثرة بالهاوية. اناس رحلوا . ولكنه مفعم أيضاً بالنفس الفلسفي والذي أجد أنه بدأ يتغلغل الى شعر نصيف الناصري مبتعداً عن تلك التجربة الشعرية التي عرف بها الشاعر . وأخشى أن الحاحه على عقلنة النص أو تعقيده بكل تلك الأفكار الكونية أو المتعالية عن نصوصه القديمة سيبعده من دائرة اللذة والمتعة التي كانت تميزه ، وعن تلك الجرأة والمغامرة واقتناصه لصور وأفكار رائعة تثير السخرية والألم والصدمة . تلك النصوص التي تبدأ بهدوء ثم لاتلبث أن تنفجر عن فكرة وصور رائعة .
{ قلت لابي : اعطني نقوداً لاسكر
فتح فمه فخرج منه أسد جائع .
قلت لحبيبتي : اعطني قبلة
فتحت فمها فخرجت منه لبوة .
قلت لآمر سريتي : اعطني اجازة يا سيدي
فتح فمه فخرجت منه دبابة .
الاسد الجائع / واللبوة / اصطحبتهما معي في نزهة على الدبابة
ثم عدت الى السجن مصدوع الرأس .
{ نص رغبات مؤجلة من ديوان أرض خضراء مثل أبواب السنة ص 55 }

باعتبار نص نصيف يمتلك الكثير من المفاجآت والتي بدأت تتقلص بعد أن بدأ الفكر والفلسفة التي أجد أن بعضها يقاد رغماً عنه ، يصبغ نصوصه الجديدة . قصائده مثل { الطبيعة ميراثنا الذي يتعارض مع التاريخ } { درس الطبيعة } { باب الوجود المترنح من شدة الوحشة } { هاوية مصائرنا المتعثرة } { المادة ـ الأحساسات ـ الفكرة ـ الذرات } وبالامكان مراجعتها على صفحة هذا الرابط الألكتروني
http://www.elaph.com/elaphweb/ElaphLibrary/2005/2/42977.htm8ت
مما أثر حتى في شكل النص الذي صار يميل الى الاطالة وازدحام الألفاظ . وأحاول هنا أن أرسل رسالة للشاعر بأن يقلل من تلك الظاهرة والتي لاتمثل بالنسبة لنصيف أية اضافة ان كان يعتقد أن صعوبة النص وتعقيده قد يكسبه اهتمام ودهشه الآخرين فأنه قد بالغ في ذلك لأنه قد أكتسب مثل هذا الحرص والاهتمام سلفاً مع نصوصه الأولى . وحرصاً على هذا الشاعر الكبير فإنني أسجل تلك الملاحظات وبقوة لكي يعود ولو بعد حين نص نصيف الناصري الى أوديته التي اطمأن اليها قراؤه واعتادوا عذوبة ماء كلماته منها . وأظن أن هذه الملاحظة مخالفة لهذه المقالة غير انني وجدت من المناسب بثها هنا على الرغم من انها تغرد خارج سرب مااستبطنته من نية في قراءة نص نصيف الناصري السردي عن الحرب ونصوصه الشعرية المرافقه .
اننا نلاحظ أحياناً أن الشاعر يستثمر قاموس الحرب ويطوره بشكل ملفت ، وتلك ليست قضية نصيف الناصري لوحده ، ربما نستطيع القول أن شعراء كثيرين عمدوا الى الاتكاء على الحرب وقاموسها اللغوي ، ثم تحول الحرب الى ثيمة نصية أو قصصية أو مسرحية أو شعرية نستطيع تلمس جوانب كثيرة منها في معظم نتاج الشعراء العراقيين الذين عاشوا الحرب عن قرب أو حتى أولئك الذين تأثروا بويلاتها عن بعد . لكننا كذلك نستطيع أن نقول ان ترسيخ هيمنة الحرب في نتاج نصيف يعد نموذ جاً كبيراً وذلك لاكتساحها معظم نتاجه ، حتى لكأنها تحولت الى منجم أفكاره وتجلياته ، بل انها منجمه بالفعل . أن تلك المسألة ظلت ملازمة لنصوص نصيف الناصري حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها وحتى بعد مغادرته العراق الى عمان ثم وصوله لاجئاً الى السويد ، فنصوصه حتى الآن نشم منها رائحة الموت والمواضع والاسلحة والبارود . انه لايزال يعيش الحرب ، ويذكر خسائره فيها . ولنلاحظ بعض تلك الاشارات
{ هل حقاً انتهت الحروب
أم أن نيرانها تستعر في الاحشاء لها بداية
في كل يوم جد يد ؟

هي اذن الحرب التي ترافقه في كل مكان وزمان . انها تستعر في أحشائه وتتجدد كل يوم .

{بعد تسريحي من الجيش محبطاً ومحطماً
عانيت صعوبات كبيرة بسبب عدم تمكني من نسيان المشية العسكرية } .

بل ربما حتى الآن يعاني من تلك المشية كأثر واحد لتمظهرات الحرب الخارجية ، أما تمظهرها النفسي فليس أكثر من انها صارت عادة شعرية لديه ، ويبدو أن نصوص نصيف حتى الآن تمشي مصاحبة لايعازات رئيس عرفاء وحدته العسكرية . لقد عبرت هذه الاشكالية عن نفسها من خلال مجموعة المفاهيم ذات الصلة الوثيقة بدلالات الحرب ، حيث تحولت الى دال عام عبر اللغة البصرية التي استخدمها نصيف في وصفه للحرب سواء على صعيد انتاج النص الشعري أم على صعيد الخطاطة السردية التي كتب من خلالها مايشبه مذكراته عن تلك المرحلة. اننا نستطيع من خلال الملفوظ البصري المركب الذي تعج به نصوص نصيف أن نلمس مستويات ثلاثة . الأول : يتمحور حول مجموعة المعطيات الخاصة بنصيف نفسه كانسان عادي يشترك بالحرب وينتظر نهايته أو نهايتها . الثاني : يتمحور حول نصيف الشاعروانفصامه بين الكون العسكري الحربي وبين الكون الابداعي الذي يلح عليه للنظر الى الحرب كواقعة يمكن تحولها الى نصوص لغوية . الثالث : يتمحور حول نصيف ، الموقف من الحرب والسياسة ، نصيف الذي كان يستهزىء ويضحك كما كان يفعل ديموقريط الذي كان يعد السخرية أكثر احتقاراً للواقع من البكاء عليه . أن هذه المستويات { النصيفات } تذوب في نصوص نصيف . الانسان . المبدع . الموقف . وهو ماجعل بعض نصوصه تنتمي الى ما يسمى بالنص المتناثر ، وأن بعضها الآخر يمكن أن يدخل في مايسمى بالاستعمال الافقي للكلام ذلك الذي قد يقابل الواقعي أحياناً حين ترتبط الكلمات بالاشياء لتكشف حقيقتها . هناك مسألة سألفت لها النظر ولن أحيطها تركيزاً . تلك هي الوثائق الرسمية ـ أو التي تبدو كذلك ـ التي يحشرها نصيف الناصري في نصه السردي المنشور أخيراً على موقع الكاتب العراقي . ذلك يضعني أمام تساؤل عن أهمية أرشفة حوادث الحرب في بال نصيف الناصري تلك التي جعلته يجمع مثل هذه الوثائق . لست هنا بصدد تأكيد صحتها تاريخياً ـ مع عدم شكي بها البتة ـ فذلك متروك لكتاب التاريخ . أما اللغة التي استخدمها نصيف في وصف تلك الحقبة التاريخية فهي لاشك لاتخرج عن اللغة التقريرية التي تعتمد المشاهدة والتجربة والوثيقة . ولكنها تضيف الى ذلك مقدرة على التغلغل بالوصف حد الكشف عن تفصيلاتها التي قد يراها الآخرون ضرباً من العجائب . ماخلّفه نصيف في كتابته لايقل ألماً عما خلّفته الحرب عليه وعلى العراقيين جميعاً وربما ذلك أهم اهداف الكاتب ان كانت ثمة أهداف للنص الأدبي .
ولكن لماذا يلجأ نصيف للنص السردي وهو الشاعر ؟
تلك القضية تعود أساساً الى امكانية النص السردي في النقل ورفع أنقاض التجربة بالكامل تقريباً . فتجربة كالحرب ـ تلك التي هيمنت على الكثير من نصوص نصيف ـ تلح عليه بشدة وصارت انهيارات التجربة داخل النفس تضغط عليه ولابد أن يحتوي تلك الانهيارات بلملمتها وليس أفضل من السرد وسيلة لذلك . ناهيك عن أن ماقدمه نصيف في نصه كان عامراً بما اعده مقاربة بين الجهازالايديولوجي السائد في عهد النظام الصدامي والجهاز السردي وتلك المقاربة كانت تقتضي سلفا تهيئة الاشكال الاولية لعناصر السرد ومن ثم العودة الى المادة الخام التي تكون راكدة على شكل وجود قبلي على النص السردي . ولتحديدها فعلى الكاتب أن يضع شكلاً اوالياً لها لايحتكم الى قانون ـ تلك عملية تجري قبل نقل النص الى خطاطة سردية وفي الغالب تتم تلك الحالة من دون تخطيط وربما من دون معرفة تامة عند الكاتب انما هي حالة ذهنية صرفة ـ التنظيم الذي يعده نقاد السيميائية شكلاً نهائياً للقيم تلك التي تصفها الايديولوجيا بأنها وجود بعديّ للقيم ذاتها .


هادي الحسيني
أرض الشاعر الخضراء تذرف دموع الموت
قراءة في مجموعة الشاعر نصيف الناصري

تنفرد الساحة الشعرية العراقية بامتيازات خاصة تجعلها دائماً في طليعة الساحة الشعرية العربية ، لِما فيها من شعراء استطاعوا بقوة نصوصهم وامكانياتهم الفريدة من نوعها أن يتربعوا على عرش الشعر العربي ومنذ عصور قديمة وحديثة . ولهذا فأن الشعر عراقياً دون منازع ، على الرغم من وجود شعراء كبار في لبنان وسوريا ومصر وغيرها من بلداننا العربية الاخرى ، وعدا عن ذلك ثمة امتيازات في الشعر العراقي لم نجدها في بلدان عربية ، إلاّ وهي عملية التجديد والتحديث المستمر حسب مواكبات العصر والمتغيرات في الظروف وتطورها ، فنرى أن أغلب ثورات الشعر قد انطلقت من العراق ، وعلى الرغم من بروز عشرات الشعراء العراقيين في الساحة العربية والعالمية ، كذلك ثمة العشرات أو اكثر ممن يعمل في معمله الشعري في الظل أو لم ينصفهم النقاد تارة وتارة أخرى لم ينشروا شعرهم ولا يحبذوا الظهور عبر وسائل الاعلام . وهنا أود الحديث عن شاعر الأرض الخضراء نصيف الناصري والذي أصدر مجموعته الشعرية الوحيدة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت / عمان ، ولولا فوز الشاعر الكبير المرحوم عبد الوهاب البياتي بجائزة سلطان العويس عام 1996 ، لما استطاع نصيف الناصري من طباعة مجموعته على نفقته الخاصة ، ولأن البياتي تكفل بطبع خمسة مجموعات شعرية على نفقته الخاصة لخمسة شعراء عراقيين ، وقد كانت { أرض خضراء مثل ابواب السنة } واحدة من المجموعات الخمسة ، فنصيف الناصري شاعر متمكن من كتابة القصيدة الحديثة بشكل ملفت للنظر ، وقد استطاع هذا الشاعر ان يشق له طريقاً خاصاً به لا يشبهه طريق آخر ، فقارىء شعره يمضي في تصورات يمتزج فيها الخيال والواقعي في ذات اللحظة ، والجاد والهزلي وكذلك سؤاله المستمر عن الموت والحياة والظلم والحرب وويلاتها . وبما ان وطننا العراق قد عصفت به الحروب الطاحنة والتقلبات السياسية المستمرة ، ولأن جغرافية وطقس العراق كحروبه وكظلم حكامه الذين تعاقبوا عليه منذ سنوات طويلة وحتى الآن ، فكل تلك العوامل انتجت الكم الهائل والنوعية الراقية من الشعر والشعراء . وتتجلى قصائد المجموعة في السخرية بطريقة فريدة من الحرب وكوارثها ، ومن الموت وأضرحته ومن دكتاتوريات الظلم والبطش المتربعة على نفوس الناس الفقراء ، ومن القدر وسخريته ، ومن الحبيبة والوطن العراق الذي كلما تقرب اليه الشاعر ، ابتعد عنه من قوة ظلم حكامه الذين جعلوا الأخضر يابس واليابس رماد لا يمكن اخضراره مرة اخرى . كل هذه الأشياء يطرقها الشاعر نصيف الناصري في مجموعته الشعرية أرض خضراء مثل ابواب السنة ، ويلتقطها بدقة متناهية ويتعامل معها بحذر كما لو انه ساعاتي حين يتعامل مع الساعة أثناء تصليحها بكثير من الدقة والاعتناء .

{ هنا في هذه القبور المجهولة
حيث نار الانسان مطفأة تحت الرماد الفقير
ستبقى شعلتان تضيئان درب الابدية
كما تحليق حرّ فوق ليل العالم
كما شمس حقيقية ترسم اللالىء فوق سديم الايام الميتة
شعلتان قويتان عينا الشاعر ... ص5

هكذا تبدو لنصيف الناصري الأشياء كلها ، فهو يحلّق حراً فوق هذا العالم معتبراً عينا الشاعر هما الشعلتان القويتان في الايام الصعبة الحرجة التي عّمت الوطن جراء ما آلت اليه حروب ومجازر النظام الأحمق . وعن امريكا وحروبها مع البشرية يقول الناصري في قصيدته { امريكا حروب ، مجاعات ، حيوانات قذرة } ص 25:

{ امريكا شمسكِ الوحشية تسطع على عاركِ ونذالاتك
واقمارك السود تتعثر بخوذات واثداء مطاطية
وجزمات بسيقان مقطوعة
آهٍ ، يا لخرابك
يا لابواقك الوحشية
امريكا انتِ هبوب شظايا طوال العام
تفتحين صباحي بقذيفة
تغمضين عيني بشظية
امريكا موت مفتوح على جبال مميتة ..

لقد سأم هذا الشاعر من الحروب التي تفتعلها امريكا على البشرية ، كما سأم الحروب التي كان يفتعلها نظام العراق البائد مع جيرانه وابناء شعبه ، فقد عانى الشاعر معاناة مريرة من تلك الحروب وظل يحلم برغبات غالبا ما تكون مؤجلة ولا يستطيع الحصول عليها ، كأن تكون نقوداً أو لقاء مع حبيبة أو الحصول على اجازة من جبهة القتل .
ففي قصيدة { رغبات مؤجلة } يقول نصيف الناصري ص55 :

{ قلت لابي : اعطني نقوداً لأسكر
فتح فمه فخرج منه أسد جائع .
قلت لحبيبتي : اعطني قبلة
فتحت فمها فخرجت منه لبوة .
قلت لآمر سريتي : اعطني اجازة يا سيدي
فتح فمه فخرجت منه دبابة .
الاسد الجائع / واللبوة / أصطحبتهما معي في نزهة على الدبابة
ثم عدت الى السجن مصدوع الرأس ....

وفي قصيدة { محني الظهر تحت أوامركم } ص77 يسخر الشاعر من شعارات القيادة وأوامر الجيش ابان الحرب العراقية الايرانية حيث يقول :
{ هربت من الخدمة العسكرية عدة مرات
واختبأت في أمكنة سرية كئيبة
حوكمت وسجنت
واعتبرت جرائمي في " قادسية صدام " مخلة بالشرف
والآن أنا عاطل عن العمل
لا أملك غرفة ولا غيمة ولا حذاء
ولا ثمن وجبة طعام
حياتي هامشية
علمتني صحيفة " القادسية " أن أحب الوطن وأموت من أجل ترابه
مع انني لا املك ذرة تراب واحدة ..
لقد تجاوز نصيف الناصري أقرانه في كتابة القصيدة الحديثة ، فهو يكتب القصيدة وكأنها قنبلة موقوته في الآلام التي عاشها أثناء الحرب والهروبات من الجيش ، وبعد كل العلعلات والعقبات في حياته استطاع الخروج الى المنفى عله أن يجد ضالته ويحقق أحلامه ورغباته المؤجلة دائماً ..

علي حسن الفواز

سيولة الكتابة عند اغواءات الحنين



كتابة النوستالجيا باتت تفرض شروطها على العديد من الشعراء ، حتى بدت وكأنها هي النص العميق والغاوي الذي يصطنع عبر موجهاته مسارات اللحظة الشعرية في ثيماتها وصورها واستعاداتها ، وهذا بلا شك قدّ يخل بالقواعد المنهجية للكتابة كما يفترض البعض وكما يبدو في الظاهر ، كونها نوستولجيا استلابية في أغلبها حيث تعيد الكتابة الشعرية الى طقوسها القديمة في الحنين والغناء والانشداد الى استحضار الامكنة والنبش في تفاصيلها حدّ العري ، وتشييع محمولاتها على جسد القصيدة كلما جسّ التذكر روح الشاعر . ازاء هذا الحضور الطاغي لهذه الكتابة ، هل نتهم الشاعر بالنكوص ؟ وهل نجعله يقف مجبراً أمام { اشكال } تقسر روحه اللائبة في ايهامات وتأملات تزيّف وعيه العميق وتقسو مع طراوة روحه الهشة ؟ هذا الشاعر الذي بات يستبطن اللغة في سرائرها رغم كل هوس الحرية . هل يكون في جريانها ، وكأنه الكائن المنزوع الجذور والطليق التائه الذي يمكن أن يشبه أيّ طائر كوني غير معني بالغابة القديمة ولا بمشاعر الحنين البائسة واشاراته الى بؤس الامكنة وجغرافيا { المطرودية } التي لاحقته في الوطن والمنفى ؟ الشاعر هنا يرتكب اثم الحنين رغماً عنه . يقف مذعوراً أمام التذكر ، يدخل في هستيريا الاستعادة وهوس التفاصيل ، يعود الى طراوة روحه ليكتشف ملمس الاشياء التي تحوطه بريبتها والتباسها ، اللغة ،الشوارع ،النساء الفضيات ، ليس رغبة في تخفيف وطء المنفى والانشداد الى وشائج مضادة ، وتمثل الحداثة كوعي متعال و كاجراء ورؤيا فاضحتين ، وانما للافصاح عن جوهر آدميته في القلق ، وقابليته للحياة ، تلك الحياة التي يتشبث بها ملتذاً أو مرعوباً عبر صناعة الكثير من الأوهام والطمس المركّز لكل ما له علاقة بذاكرة المحنة .
قصيدة الشاعر نصيف الناصري { شقة على الطراز السويدي } تبدو للوهلة الاولى انها قصيدة وصفية لدالة مكانية ، لكنها تنحلّ من هذه العقدة مع انكشافها على المكان المضاد الذي لايبدو نوستالجيا بافراط لكنه يعبرّ عن وعي عميق لم تغب بصيرته من التقاط ماهو جواني له طاقة البوح التي لا تفلسف علاقة الشاعر بالأمكنة كما يدعي البعض ، وانما تعيد اكتشاف الانسان الوحيد الذي تعذبه أشباح الماضي وتعيده أحياناً الى غوايتها الفاجعة والشهية .القصيدة تستدرج المكان من لحظته الوصفية الى تداعيات استبطانية تستنفر محمولاته الباثة وتجعله نهبا للقلق الذي يدفعه باتجاه استغوار طريق الرؤيا الذي يستعيد من خلاله روائح الأمكنة الغائرة ، حيث تجعله أمام هوس المخيلة اللغوية ، المشدودة الى تلمس ماهو غائب بقصد ايضاح اللذة واستعادة لعبة الانتصار عليها ، وهذا بطبيعة الحال يجعلنا أمام شكوك انتزاع الشاعر من أمكنته القديمة وحلوله في أمكنة جديدة ، فهو يجعلنا أمام أمكنة متأرجحة وأمام زمن ثابت عند الماضي ، حتى يبدو وكأن الحاضر هو غواية فيزيقية مجردة مقابل قوة الفعل اللغوي /الصوري للماضي ..

مالذي تريده أيها الغجري ، ياجوّاب الطرق الهرمة ومغني العذابات
واللوعة الشجية ؟ - " الجدران باهلها " أريد ظل نخلة في هجير العراق
أريد ليل العراق
أريد قبراً بالعراق
أريد ضيم العراق .

أن هذه النوستالجيا ليست قريبة من نوستالجيا السياب الذي تجلو الرؤيا عنده عن دوافع معقدة يختلط فيها النفسي المأزوم مع الفلسفي الذي يستعيره من وعي أزمته الفكرية والوجودية ، حيث تبدو الرؤيا هنا هي صياغة لأزمة اندماج الشاعر وقدرة تخففه من غواية الحضور بكل احوالها وتحققها ، وهذا ما يجعله أمام لازمة استحضارية { أريد } يتعالق فيها المعادل الروحي مع الدال اللغوي المتقارب في احالاته / ليل / قبر / ضيم ، وهذه بنيات متجهة الى اللاشعور الذي يتعدى به الشاعر الى هجاء الامكنة / المنافي / الذي يجعله في نوبة حوارية متواصلة ترتبط دائما بمزاجه السؤالي { مالذي تريد .}

مهدي الشمسي

الأدب العلمي .. المتواليات الهندسية والعددية
في عوعوات نصيف الناصري




(نموذج للقصيدة العلمية 1)


السباب والشتيمة تعبران عن رفض غير مهذب
بالعرف العام إلاّ إنهما اعتراض مقتضب عن عدم
الرضا ، وقد يلجأ البعض الى استخدام الاشارة أو
تحريك اليد أو الرأس للتعبير عن رفضه أو عن
رضاه حيال أمر ما، أو اصدار أصوات ذات نغمات
متفق عليها مثل التصفيق وما شابهه ، وجميعها
تصبّ في خانة توجيه رسالة الى الآخر توضح رفض
الآخرين لارائه أو ممارساته والتي لا تجد
قبول لها عندما تضر بمصالحهم والعكس صحيح
فالاختصار يوفر الكثير من الجهد والوقت
لتوصيل رساله ما أو شرح موضوع معين ولكن ضمن
شروط مثلى بحيث تفي أو تعبر عن ذلك الاختصار
تعبيراً دقيقاً وعن الغايه الأساسية أو الهدف
الذي لأجله تم اختيارها ، ومن هذه الاختصارات
الابتسامة ، القبلة ، والتحية ، والتأفف ، وعلامة
النصر ، والغمز ، والكثير غير مهذب منها ،
والتى تعبر كلاً منها عن موضوع قد يطول شرحه
إلاّ انها اختصرته باشارة أو علامة أو حرف أو
كلمة وقد تكون جملة مفيدة . وهذا ما دأب عليه
علماء الرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب
والهندسة وغيرهم في ايجاد الحلول الناجعة
للكثير من المشاكل العالقة والتى رافقت
عمليات الاكتشافات والاختراعات المعقدة
والتي تطلبت ايجاد تدخل رمزي يذلل ويختصر
التكرار في الحسابات الرياضية بحيث يوصل
المستفيد الى معادلة مختصرة يمكن استخدامها
بيسر ودون الرجوع الى الاوليات المعقدة والتي
هى من اختصاصات المعنيين . هنا توصلنا الى
الغاية المثلى للاختصار حيث تمكنا من استثمار
الزمن والجهد وغيرهما دون الخوض بالتفاصيل
وحصولنا على النتائج المرضية والايجابية
للكثير من المعضلات والتي تتطلب تدخل رياضي
صرف. وفي هذا المضمار لا يحق للمستفيد التحريف
أو الغاء عامل من عواملها كونه سيحصل على
نتائج سلبيه غير مفيده . اضافه الى كونها ثمرة
لاتعاب ربما تطلبت سنين طويلة لأصحاب
الاختصاص والخبرة . ومن هذه القوانين الوضعية
العلمية :
- قوانين الزمن ، الطاقة ، القوة الضغط ، الوراثة ، الذرة ، قوانين حركة الاجرام
السماوية ، الدوائر الالكترونية الخ
كما أن هناك قوانين تغطي الاقتصاد ، الاجتماع
وعلم النفس وغيرها . القوانين العلمية الصرفة
لا جدال فيها { عدا عمليات التطوير } إلاّ ما ندر
أما القوانين الخاضعة للجدال والتغيير
فتشمل القوانين الاجتماعية ، والسياسية
وعلوم الجمال ، والفنون والاداب وغيرها ، تكون
غير خاضعة لمبدا العمل بالمعادلة أو القانون
الرياضي ، لذا هي متحركة وغير جامدة يمكن
التلاعب بمفرداتها وأدواتها وحتى تغييرها
السريع حسب الحاجة أو الضرورة . فالواقع
الاجتماعي والنفسي والاقتصادي والسياسي
والجمالي والادبي والفني كلها متحركة يمكن
للفرد أو مجموعة من الافراد التأثير عليها
وتوجيهها ، كما يمكن ادراك نتائجها بطرق
مختلفة وغير خاضعة لقوانين صارمة تحد من
عملية الاجتهاد وطرح الرأي الآخر
بمعنى أن هناك خطان للمعرفة الاول للعلوم
الصرفة والثاني للعلوم الانسانية والتي تبحث
في علاقات الفرد المختلفة مع اقرانة أو مع
بيئته والمجتمع ، حيث وضع الأول لخدمة الثاني
من أجل تطوير حياته وامكانياته ومن ثم الرقي
بواقعة ومستقبلة . ولو تسنى لنا تقدير نسبة
العاملين في مجال العلوم الصرفة لوجدناها أقل
بكثير من نسبة الذين يتعاطون العلوم الأخرى
لذا أصبحت عملية المزج بينهما صعبة ومعقدة ما
عدا مبدأ الفائدة المتبادلة في البحث
والاستقصاء . في حين ظل مبدأ تعبير كل منهم عن
الآخر مجرد أرقام لاغير . إلاّ أن هناك بعض
التداخلات والتقاربات نلاحظها جلية في هندسة
العمارة ، والديكور ، وعلم التجميل ، وصناعة
السلع المختلفة حيث يلجأ المصنعون الى أصحاب
الذوق الرفيع والفنانين والرسامين الى ايجاد
الشكل النهائي للمبنى أو السلعة والتي تسمى
بالحالة الجمالية للمنتج . أيّ أن هناك أناس
آخرون لهم القدرة على وضع اللمسات الأخيرة
وبشكل جمالي يرضي الآخر وعدم مقدرة العالم أو
المخترع أو المهندس من اضفاء هذه المزحة من
الجمال على السلعة أو المنتج لافتقارة الى
أمور كثيرة منها الذوق والديكور والخيال
التصوري للشكل النهائي ، فهؤلاء في حل من كل
ذلك لأسباب مختلفة لا مجال لذكرها بل
يتركونها لأناس آخرين .
المقدمة أعلاه هي مدخل لمحاولة جادة الغرض
منها تقريب العلوم الصرفة ومبادئها من العلوم
الانسانية ووضعها في بوتقة واحدة للحصول على
منتج مهجن يحمل جيناتهم ومواصفاتهم الأصلية
فمنذ خمس سنوات راودتني فكرة التقريب بينهما
رغم صعوبة الموضوع إلاّ أن اختصاصي العلمي
واطلاعي المتواضع على بعض العلوم الانسانية
ذلل بعض الصعوبات والتي كانت حائل دون
التفكير بهكذا موضوع حيث أدركت حقيقة ان
العلوم الانسانية أخذت من العلوم الأخرى كمّاً
هائلاً من الأفكار والتصورات أغنت مواده
الوصفية والسردية وكان الأدب والفن والثقافة
بكل صنوفهم خير مثال على تلك الثراء المتطفل
بحيث أضحوا عائمين فوق بحيرة بل قل محيط من
تلك الأفكار والمواد الدسمة المهمة لاثراء
طبختة الأدبية او الفنية دون التمكن من الغوص
الى داخل ذلك المحيط والذي غدا حكراً على أصحاب
الاختصاص فقط . ندرك هنا بوضوح أن الأدب والفن
والثقافة تطفلا على العلوم الصرفة والعكس
صحيح . ففي الوقت الذي تغنى فية الشعراء
بالزهور والقمر والبحر والنسيم والجمال .
انشغل علماء الفلك والرياضيات والزراعة
والبيئة بدراسة هذة المكونات وتوضيحها من
الناحية العلمية غير آبهين بما يحاوله
الشعراء والأدباء ومن لف لفهم من التمتع
بجمالها أو حركتها . فالشاعر لا تعنية دراسة
النجوم والكواكب أو عمل بحيرة أو تهجين نوع من
النباتات أو الحيوانات ، هو يريد التمتع
بجمالها ويضعها في مادته الأدبية وليذهب
العلماء وغيرهم الى الجحيم . فالأدب هو وصف أو
نقل صورة أو موقف أو خبر معين من وضعة المدروك
أو المرئي أو الغير مرئي { مثل الاحاسيس
والعواطف } وخلطة مع المدروكات والمرئيات
والغير مرئيات الأخرى لغرض خلق صورة أو احساس
جديد يختلف عن الأصل بعد أن صبّ في قالب نمطي
متعارف علية ضمناً ، وهكذا تتبلور فكرة المنتج
الأدبي بهيئته النصية كأن يكون قصيدة أو قصة
أو رواية أو نقداً أو مسرحية وغيرها. وتختلف
العلوم الصرفة في وصفها لنخلة أو لطفل مريض عن
وصف الأديب لهما وهذا هو لب محاولتي للتقريب
بينهما لغرض اثراء المادة الادبية والغاء
مبدا التطفل الذي لجأ اليه الأدب على حساب
العلوم الصرفة واستفادتة الاستفادة القصوى
من المنتج العلمي دون أن يحدث العكس أو على
الأقل التوازن . فلو تسنى لأحد منا
الاستفسارعن حالة مريض راقد في المستشفى لكان
رد الطبيب مقتضب لا يتعدى بضع كلمات ربما لا
نفهمها ، ولو سألت شاعراً أو أديباً عن نفس
المريض لألف لك قصيدة أو قصة تناول فيها حالة
المريض والمرضى الراقدين الى جانبه ، والطبيب
والدواء ، وأولاد المريض وحالته النفسية
وغيرها .
في واقع الأمر لم يكن الطبيب أخرس أو عديم
القدرة على اعطائنا صورة عن المريض ، لكنه
يتعامل مع الحالة المرضية من الناحية العلمية
فقط دون التعرض الى الجوانب الأخرى لعدم
معرفته بما يفكر به الأدباء أو الآخرون
هنا أصل الى الهدف دون الاطالة ، وهو كيف يمكن
لنا أن نجعل من الطبيب ناقلاً للصورة باسلوب
أدبي فيه الكثير من التفاصيل والخيال
والتشويق ، صورة تبتعد قليلاً عن الأصل وتنقل
المتلقي الى عوالم أخرى ربما تكون أفضل من نقل
الشاعر أو الأديب لها كون الطبيب هو أقرب الى
المريض من الأديب وباستطاعته أن يسطر لنا ما
يحس به ذلك المريض وباتقان . لم نقرأ لطبيب قصة
أو رواية أو قصيدة يصف لنا فيها حالة متعسرة
لولادة بعد منتصف الليل وما تعانيه المرأة من
آلام الوضع عندما تكون بين الموت والحياة ، أو
قصيدة لمهندس ساهم في اصلاح محطة كهرباء
متوقفة في يوم ماطر ، أو لزراعي يصف لنا ما
تعرضت له البيئة من دمار ، أو صيدلي ساهم دوائه
في شفاء طفل عليل . الكثيرون يقولون أن
الاختصاص يلعب دوراً في الحدّ من المشاركة
الجادة في هذا المجال ، فالطبيب هو طبيب لا غير
وعالم الرياضيات هو يعمل ضمن اختصاصه ولا وقت
له في متابعة أمور أخرى . نحن لا نعتقد أن هناك
معوقاً من أن يكون الطبيب شاعراً أو قاصاً والعالم
ناقداً أدبياً ، ان محاولتنا هي خير من عدمها
وبالتالي سنكون أكثر ثراء لو تم تهجين
الاختصاصات ومزاوجتها بقدر معين يغني
المعرفة العلمية والأدبية ويفك الكثير من
الطلاسم الغائبة لو تم التوجه لذلك
أن ما قرأته من قصيدة الشاعر المبدع نصيف
الناصري والتي كرر فيها { عو عو .......عو عو }
لمرات كثيرة استرجعت في ذاكرتي محاولة كتابة
القصيدة العلمية واعتقد انها محاولة جادة
لملامسة أو التقرب من ما أسميه { بالأدب
العلمي } كرد على تطفل الأدب على العلوم
المختلفة دون مقابل . حيث استرجع نصيف في
مخيلتي نظام المصفوفات الهندسية والعددية في
علم الرياضيات والتي أظن ان المبدع الناصري
لا يعرف عنها شيىء . فلو استبدلت كل { عو } بعدد
معين لأصبحت مصفوقة رياضية استلهمت كيانها من
{ عو } الرافضة وهي تقابل معادلة رياضية ذات
متغير واحد { س } أو { عو }. { عو } الناصري هي الفيتو
الرافض ، هي الشتيمة المقتضبة والتي تحتاج الى
مدرك نبه يفسرها . نصيف الناصري سطا على نظام
المصفوفات والذي مكّن العلماء من حل الكثير من
المعضلات الرياضية في العالم دون أن يدري
فكل { عو } هي { لا } أو هي أرقام لعدد الموتى
والجياع والمشردين والمنفيين دون أن ندري
وفي الختام دعوة للجميع وبغض النظر عن
اختصاصاتهم المساهمة في محاولة التقرب من ما
أسميه { الأدب العلمي } والذي اعتبره رد فعل
مشروع للتطور الحضاري المذهل والسريع .
هناك انسان ، نبيل هناك غاز نبيل وآخر يخنق
العالم ، والكترون يضيىء المصباح ويقتل الظلام
هناك آخر يفجر المدارس ويقتل الأطفال . كما لا
يفوتني أن اذكر أن نجاح هذه المحاولة يعتبر
بمثابة وفاء لعلمائنا وكفاءاتنا ومنهم
الشهداء والمنفيين وتعتبر رابط بين
ابداعاتهم العلمية والثقافية وليس بعيداً عن
النمط المتداول
القصيدة العلمية

(نموذج 1)


مصفوفات المكبس اللعين
طق ........ طاق ....... طيق
طق ....... طاق ....... طيق
طق .......طاق....... طيق
تش ....... تش ........ تش
تش ...... تش
تش
يهرع الخنازير لجني المحصول
قتلى ....... أيتام ....... ثكالى ........ أرامل
معوقين ....... مجانين ...... مهجرين ...... منفيين ..........
أنت أيها التش اللعين
دمار وعذاب اليم
أيها التنين المرعوب
يا من عشقت النار
فأورثت الدمار
يا مكبس الموت
متى تتوقف فكوكك عن قضم الحديد
متى تضرب عن الصعود وعن النزول
متى تتمرد دوائرك الالكترونية
وتهرب الطاقة الحركية
فلا تستجيب لشوط الحركة
وتبقى سيورك مضربة
لا تبرح أماكنها
لتنام التروس في صندوقها متعبة
وقد أعياها التعاشق والزخم
متى نلقي بك الى مزابل السكراب
الا شلت العقول التي صممتك وصنعتك
الا قطعت الايادي التي حملتك ونصبتك
أتدري ما أنت صانع ؟
ولم تدور
ولم الضجيج
ولم الويل
ولم الثبور
أنت من يصنع الموت
ويورثنا القبور
أنت هرم من نجس
تجمعت اشلائه من غوط العصور
طق ....... طاق ........ طيق
طق ...... طاق ........ طيق
طق ....... طاق ....... طيق
تش ........... تش
تش
معامل صنع الأيتام
تمولها
تزيد من قدرتها ومن كفائتها
فيستبشر الأوباش
تجار الحروب
ويتحرك سوق الدولار
فتنتعش المنتجعات
وتبنى القصور
ويتقاسم المعتوهون ما تبقى منا
فاكهون من حصة المنفى
ومن سقط المتاع
وبعد قليل سيلقي رئيسهم
خطاباً وعلى الهواء يذاع
يقول فيه
نحن اليوم سعداء
نملك أعلى رصيد في العالم من
الأيتام والارامل
والثكالى والمعوقين والمجانين
والفقراء والمنبوذين
والمهجرين والمنفيين والمجرمين والأميين
والسراق والمتسلقين والشموليين
والمتخلفين والكذابين والانتهازيين
والمحرومين والمشوهين والطائفيين
والمتشددين والزنادقة والمأجورين
ونحن كذلك جادون
في تاسيس مصنع للالغام
لزيادة عدد العاملين والعاطلين
وزبائن الموت
هي البشرى يا رفاق
طاق ....... طاق ........ طاق
طيق ....... طيق ....... طاق
تش ........ تش ........ تش
تش ....... تش ......... تش
تش ........ تش
تش
أيها المخترعون الكلاب
أيها المرابون الأقذار
أنت يا رختر الجبان
لم لا تخبرنا أن مقياسك
لا يصلح لأراضينا
واننا بحاجة الى مئة تدريجة
بدلاً من التسع
لم لم تصنع لنا شبكة انذار مبكر
تحذرنا من زلازل الأنظمة الشمولية
وتمنع زراعة الأرض بالمقابر الجماعية
أتراك غبي
ام متواطىء
أم نحن غير موجودون على خارطة الكرة الارضية
حقا انها لبلية
دو ........ دو ........ دو
دو ........ دو ........ دو
ز ......... ز ......... ز
هطلت القذائف
على روضة للاطفال
وأخرى أزهقت روحي حبيبين
تعانقا قبل الدوي
وعمال المصاطر في الانتظار
سيصنعون لهم قنابل
شديدة الانفجار
تش ....... تش ........ تش
تش ....... تش ....... تش
تش ...... تش
تش
يا أيها الالكترون النبيل
يا أيها الغاز النبيل
لا تستجب لدعوات القتلى
اضرب عن المرور في دوائر الصاعق
اهرب الى الارض
الى السماء
ابعث النور في بيوت الفقراء
كن مساهما في بناء الحضارة
كن ودود
احرق دوائر المكبس اللعين
دعه يصمت
دعه يموت
ونحمله الى مصاهر السكراب
مهشماً
وذليل
كاسياده الفاشست
وسترى كولوم مهندس دوائرك وحركتك وجميس واط
ورفاقه
فخورين بانجازهم المذهل لخدمة الانسان
تحدى القتلة
تحدى أعداء الحياة
اوقف ..... أوقف ...... أوقف
الطق ......... طاق ......... طيق
طق ......... طاق ......... طيق
تش ........ تش ........... تش
تش ........ تش
تش
اللعينة
وستدخل التاريخ .



حميد المختار

الشعر العراقي والصعلكة

....شعراء مثلوا حال الفقاعة في الأدب العراقي ولدوا وماتوا ابداعياً وتركوا لنا أكواماً من الكتب تحولت الى أكياس للبطاطا والخضروات ، أما جان دمو ونصيف الناصري وبعض من انتمى اليهم فقد لعبوا ردحاً من الزمن في ساحة الشعر الخالية إلاّ من الطواطم والديناصورات كما يحلو لهم أن يسموا تلك النماذج التي احتلت المقاعد الوظيفية واسترخت وبردت جمرة الشعر لديهم – هذا إذا كانت لديهم جمرة أصلاً- بينما ظلت تئز وتفور فوراناً في نفوس من اكتوت روحه بنار الشعر الأزلية الغامضة فصار جان دمو يهاجم كل الأسماء الشعرية المضغوطة المنتفخة ويتحداهم بأسماله البالية وديوان شعره الوحيد ، أما حسين علي يونس فقد أخذ من الفلسفة الافراغية ومفاهيم الفضلات والقمامة وجعلها شكلاً متقدماً على بعض الشعراء التقليديين ، حتى انه كاد يقع في ورطة قضائية مع أحد الوجوه الرسمية للنظام لولا تدخل بعض العقلاء وأصحاب القلوب الرحيمة ، بينما حول نصيف الناصري جل شعره الى طرف وعمليات نصب واحتيال شعري . ذات يوم جاء بقصيدة وقرأها على شعراء مقهى { حسن عجمي } وبعد الانتهاء منها استهجن أغلب الحاضرين قصيدته تلك وقالوا :
- { الى متى ستبقى تكتب شعراً على بحرالخرط ؟ } .
فأجابهم ببرود : -{ أنا متأثر بأدونيس }
فهبوا عليه هبة رجل واحد خصوصاً وأن أغلبهم يدعون حبهم ومتابعتهم لشعر ادونيس :
- { وأين أنت من ادونيس أيها الصعلوك البائس؟ }
- فأجابهم وهو يضحك بصوت عالٍ ، حتى لفت أنظار كل زبائن المقهى من شحاذين ومقامرين ومخمورين وهو يقول :
- { القصيدة التي استمعتم اليها أيها الأغبياء الحمقى هي من قصائد ادونيس }
فضجت المقهى بالضحك والصخب وتوالت مقالب نصيف الناصري وصولاً الى الزمن الذي انفرط فيه عقد هؤلاء الشعراء كما تنفرط حبات المسحبة وتوزعوا في أنحاء العالم باحثين عن يوتوبياتهم وفراديسهم ووطنهم المذبوح بينما بقي الشعر في العراق حاضراً لأن رحمه ولود لا يعرف العقم }


كولة نوري

من حوار معها

اتذكر حينها حين زار الشاعر نصيف الناصري مدينة الموصل في مناسبة شعرية مع شعراء آخرين . قال لي ونحن نزور احدى المكتبات العامرة بكتب مهمة شعرية نقدية وروايات وكان يسألني كلما نرى كتابا جيدا سأختار لك هذا وهذا وهذا وقال لي اختاري ما تشائين . وكنت مرعوبة من الأسعار وكنا في خضم بداية الحصار الاقتصادي . وكم كنت بحاجة لتلك الكتب. قلت له رغم خجلي الطري وانزياحي لعمل بسيط آنذاك لاستقل عن معونة أهلي إنني آسفة ولكنني لا استطيع شراء كل هذه الكتب دفعة واحدة . سكت نصيف. وكنت أعرف بانه شاعر مفلس كان ينتمي الى مجموعة الشعراء الصعاليك الذين لجأوا لاطلاق صفة الصعلكة على أنفسهم ليهربوا قدر الإمكان من الرقيب والجبهات. ولم اشأ أن يشتري لي ذلك من جيبه الخاص. وحين خرجنا من المكتبة وكنت ما أزال أتنغص على الكتب التي رأيناها. فاذا نصيف يفتح جاكيتته أو (قمصلته) ويخرج لي معظم الكتب التي أعجبتني.
كان ذلك كافيا لأصاب بالذهول من شخصيته ومن فكرة السرقة تلك التي جعلتني ارتجف خجلا ورعبا. إلا انه حين فعل ذلك فعله بضمير مرتاح جدا. قال لي "اعتقد نحن نملك الحق في إن نأخذ الضرائب من صاحب المكتبة الجشع-كما قال-وأنت تستحقين هذه الكتب فاقرأي بضمير مرتاح جدا. وهو إنسان لا يقرأ سوى كتب كيفية تخزين الأموال" هههه. كانت كتب عن الحداثة الشعرية. وقصيدة النثر. ورامبو. ومجاميع شعرية مختلفة لا أتذكرها الان.





الشاعر نصيّف الناصري وقصيدة أدونيس !

منذر عبد الحر


في مطلع ثمانينات القرن الماضي ، كان الشاعر نصيّف الناصري في بداية مشواره الشعريّ ، وكان يتمتّع بالحيويّة والطرافة والغزارة في انتاج شعر ه من قصائد النثر التي كانت مرفوضة آنذاك ، حتى أنه أعطى أكثر من قصيدة لأكثر من جهة لنشرها لكن دون جدوى ، وفي احدى المرّات ، واتساقاً مع طرافته ومرحه وسخريته الجميلة من المؤسسة الرسمية آنذاك ، نقل إحدى قصائد الشاعر العربي المعروف أدونيس ، وهو العلم البارز منذ ذلك الحين ، وكتب نصيّف قصيدة أدونيس بخطه المتميّز المعروف ووضع اسمه على القصيدة ، ثم سلّمها لمحرر احدى الصفحات الثقافية ، لبيان رأيه فيها ، وما كان من المحرر إلاّ أن كتب عليها عبارة الاعتذار عن النشر ، لأنها غير صالحة ، وحين أعيدت الى نصيّف ، اتصل بالمحرر ضاحكاً وأخبره بأنه كتب على قصيدة لأدونيس غير صالحة للنشر ، فهل يعقل ذلك ؟.
عندما أخبرني نصيّف الناصري بهذه الحادثة وهو يتهكم ، ويسخر من ذلك المحرر الثقافي الذي لا يصلا الى جزء صغير من شهرة ووعي وتمكن أدونيس من الشعر والنقد والتنظير ، قلت ُ له ، لا تلُم المحرر على سلوكه هذا ، فهو محقٌّ في رفض القصيدة ، فقال لي مستغرباً ، هل من المعقول أن تعطيه الحق في الرفض والقصيدة لأدونيس وهي منشورة في أكبر المجلات الأدبية العربية ؟ قلت ُ له لقد رفض المحرر قصيدة نصيف الناصري ، وليس قصيدة أدونيس ، وأوضحت له أن نسق التجربة الشعرية لأدونيس تتناغم مع قصيدته تلك لأنها ارتبطت بتحولات تجربته المعروفة لدى جميع القراء والمعنيين ، أما ارتباط القصيدة باسم نصيف الناصري فهي تعبر عن نسق مقطوع ، ونموذج يدلّ على ذاته بشكل مباشر ، وبالتالي يخضع للاشتراطات الفنية التقليدية المعمول بها في صلاحية النشر من عدمه ، لذلك لا غرابة لرفض قصيدة ارتبطت باسمك دون الدلالة على تجربتك ، التي كانت في حينها مبهمة لدى المحرر ، وارتبطت بنماذج سبق أن رفضها !.
أسوق هذا المدخل الاستذكاري الطريف ، وأحيي من خلال منبرنا هذا صديقي الشاعر المبدع نصيف الناصري بعد أن صار اسماً واضحاً متألقاً وصارت له علامة فارقة في الشعر العراقي ، لأشير الى أن قراءة النموذج المقطوع من تجربة أيّ مبدع ، لا يمكن الاستدلال على ملامحه وسماته كاملة ، ولا يمكن الحكم عليه حكماً ناضجاً دقيقاً ، لذلك يسعى النقاد الجادّون الى فحص ودراسة التجارب ذات البناء الفني المكتمل من خلال عدد من النصوص التي تنتظم في مجموعات لتفصح عن آليات اشتغال المبدع وأسلوب أدائه وتقنيات بناء نصه الأدبي .
ولا أعني هنا ما هو خارج النص ، أي ما يتصل بشخص المؤلف ، فأنا أؤمن بموت المؤلف أزاء نصه المنجز ، لكن هذا النص يجب أن ينتمي الى تجربة أدبية متكاملة تفصح عن ملامح واضحة .



بلاسم الضاحي

نصيف الناصري : ما بقي منه في خزانة الذاكرة


الحديث عن الناصري حديث عن الدهشة والغرابة فحين تجد مَنْ يحقق رغباتك التي تعجز أنت عن تحقيقها على الواقع لأسباب منها : انك لم تزل غير قادر على أن تتخطى قشور الرمان التي نهشها فمك بعد ثمالة ما بعد منتصف ليلة ما ، فتجد نفسك أمام شعر يتحرك يسخر ، يغادر بياضات الورق نحو مزحة بين أزقة الطاولات المخمورة ، ما يلبث أن يعود ليدهش ، يباغت ، يذهل ، يتمرد ، يتزأبق بعفوية نحو سلوكية يدجنها الشعر ويتغذى منها ويدفع بالموهبة نحو التحليق بعوالم اللامألوف .
عرفت الناصري أول مرة في حانة { البيضاء } بمدينة بعقوبة بصحبة القاص الصديق صلاح زنكنة مع مجموعة من شعراء المحافظة الرائعين كنا محتفلين بمقدم الناصري بدعوة من اتحاد أدباء ديالى لاحياء أمسية شعرية في شتاء أحد سنوات العقد التاسع من القرن المنصرم بنيف وقتها كنت أثقل منهم جيبا وأقرب منهم جيلا ، لكنهم { ملاعين } تقف تجربتي بائسة قبالة ابداعهم قصة وشعراً حيث لاينقذك السبق الزمني في الكتابة في أن تقول أنا شاعر مخافة من سخرية الناصري التي يطلقها بوداعة لاتزعج أحداً . في تلك الليلة وبعد أن تكدست جثث القناني الفارغة تحت طاولتنا المباحة لمن يغادرها أو يدخلها بلا شروط اللياقة أو الأستئذان ، وبعد أن هدأت النفوس وحفزت مرارة القناني مرارة الذات المعذبة نحو مرحلة تراجيدية ولمّا يعبر الليل بعد منتصفه إلاّ قليلاً فتسامرنا بمحبة وتقارأنا باعجاب مرة بلا مجاملة وأخرى بتأثير ما أفرغناه من تلك القناني الملعونة التي نجهل ما يضمره محتواها إلا ّ بعد أن يدب دبيبها . توطدت معرفتي { بنصيف } أكثر حيث لم يمر شهر إلاّ ونتنادم في ذات المكان الذي يسمونه { البيضاء } وقتها لم اكن أعرف سرّ هذه التسمية إلاّ بعد اقنعني صاحبها بأن التسمية جاءت من { الأبيض } ويعني على وفق مصطلحات الخمارة { العرق الأبيض } غير المغشوش على حد زعمه مع اني أشك بوجود ما يوحي بالبياض في ذلك المكان حتى حيطانه كانت مشوهة بلافتات حمراء وسوداء كتب عليها { الدفع مقدماً } أو { لادين ولابعدين } أو { الغناء ممنوع } ولافتات أخرى كانت حصيلة تجربة صاحب الحانة مع زبائنه ، لم يكن فيها أبيض غيرنا يزيده اشراقاً بياض نصيف الناصري أو كزار حنتوش أو عبد الأمير جرص أو جان دمو أو خالد مطلك وغيرهم من أصدقاء مدينتنا المبدعين حين يأتون بين الفينة والأخرى بزيارة أو دعوة أو بلا كلاهما هكذا كانوا يأموننا فرادا ًلم يصطحبوا بعضهم . أما أنا محدثكم فكنت على غير عادتهم مهتما بمظهري متأنقا بربطة عنق زاهية مما كان يثير فضول الناصري وتندره لايدري ان في داخلي رغبة كبيرة أن اتخذ من سلوكه اسلوبا ً لحياتي ولكن .. ؟ على أية حال كنت أجد اشباع هذه الرغبة من خلال مصاحبته ومجالسته التي لم تكن وقتذاك صحبة حميمة مستمرة كانت هامشية تحدث بالصدفة مرة وأخرى أبحث عنها من خلال صديقي صلاح زنكنة الذي يخبرني بمقدم أحدهم – لذلك أشك الآن أن يعرفني الناصري اذا ما قرأ هذه المقالة – هكذا كانوا يأتون الينا في أول الليل ويذهبون في أوله ، بعد أن تغلق البيضاء أبوابها فيذهبون الى بيت صلاح لتناول العشاء الصباحي لينامون بعده حتى أول ليلة أخرى . وتوالت زُحم الحياة تضيّق خناقها ، أغلقت الحانات وسدت النوافذ وصدقت نبوءة الأخضر بن يوسف أغلقت الحكومة { مَواطننا } على أمل ان توزعها مع { البطاقة التموينية } لكنها خدعتنا وحاولت ارضاءنا باضافة حصص فائضة من { الحملة الأيمانية } هكذا تحولت { البيضاء } التي رفرفت على فنائها رويحات الشعراء الى أكداس دائرية سوداء من اطارات مستعملة ، جثث من المطاط تتكدس على بعضها لتشكل فزاعات تطرد أرواحنا عن حقول الأموات تلك . اتسعت المسافات الأليفة وتبعثرت نوايا اللقاء وبقينا نتناقل التحايا مهاتفة الى أن قطعت هذه الأسلاك منافذها هي الأخرى وأبت آلية الأثير أن تواصل همسات محبتنا ، عرفت انه ترك العراق مهاجراً وقتها لم أعلق على ذلك بشيىء سوى أغلقت ملف الناصري اسوة بأغلاق ملف { البيضاء } بأمر اداري صادر من لدن الحياة ومعتركاتها وزحمتها التي صارت تزداد بشكل متسارع لدرجة انك لم تستطع ان تسأل عن نفسك أين هي وماذا تراها فاعلة … الخ ، وبقيت اقرأ للناصري نصّا هنا وخبراً هناك لم أعد اهتم به ولم تعد تهمني أخباره الى أن أنعم علينا { الأنترنيت } بخدماته الجليلة واذا بالناصري يطل من شاشته المبهرة وعلى أحد المواقع الثقافية التي كنت أتصفحها صدفة واذا بعبارة { نصيف الناصري شاعر عراقي } حينها غبطتني فرحة عارمة طمأنتني على سلامته وسلامة عراقيته هذه العبارة كانت مكتوبة تحت صورة غريبة لاتشبه ذاك الناصري فالقيت نظرة مندهشة لأعود منها مقتنعا بانها نعم تمت له بالصلات كلها وقلت : هكذا هو سريع التكيف لاسيما وان ليس هناك فرق بين { الصعلكة } و { الهيبزة } سوى أن الأولى موطنها { ساحة الميدان } ابتداءً من حسين مردان والحصيري وعقيل علي … الخ أما الثانية فموطنها كل الشوارع الأوربية التي تجلدها أقدام الوافدين اليها بحثا عن { الحرية } .
وقرأت مجموعة قصائد حديثة جداً عنوانها { الالتزامات الكبيرة التي نتخلى عنها للسنبلة في فجر الصيف } وذهبت مسرعاً لفتح خزائن ذاكرتي المهملة لأجد الناصري يشتغل على تأريخانية تراثه الباطني لم يصل بعد في اغترابه الى الفهم الانعكاسي لطرائق حياته الجديدة مما أوقعه في مطب { يكتب بلغة غير التي يفكر بها } بمعنى انه يكتب قصيدته بشكل يتماهى مع القصيدة المترجمة التي نطالعها من حيث تركيب المفردات وتناسقها في تكوين المعنى الذي يختلف كثيراً من حيث التوجه الداخلي الذي تمليه تجربة الشاعر المخزونة في ذاكرته التي هي الأخرى لم تعط مجالاً للتجربة الجديدة لتجد مكاناً في توجه الشاعر الداخلي ليعيد تمثيلها بشكل يتناسب مع شكل القصيدة الجديدة خارج خزائن الذاكرة وبذلك بقيت التجارب الحياتية الجديدة لدى الشاعر مفهوم انعكاسي مرآوي آني لم يتأصل ، يوقظ وينطفىء لأنه لم يأخذ مداه الزمني للتعتيق في ذاكرة الشاعر وبذلك لم تصل التجارب الشعرية الجديدة بالتجارب الباطنية في استغراقها الوجداني لأن لغة الشعر لغة تخيلية لاتأخذ من الواقع غير صورته التي تحولها المخيلة الشاعرة الى معنى متخيل .


خضير ميري

الغجري


بهذا الاسم” الغجري “ يوقع نصيف الناصري رسائله الى اصدقائه القدامى ولعل هذه الصفة تعبر عن علاقته الفوضوية بالحياة .. ثم يستمر ما يزرعه من فوضى في كتابة شعره ” المنثور " والمكتوب على حل شعره ، لعل مناسبة كتابتي عن نصيف الناصري هو لأنه لا توجد مناسبة ولم احتمل أن انتظر نبأ وفاته التي لابد منها لكي اكتب عنه كما هو المعتاد في ثقافتنا العراقية التي تحول الكاتب فيها الى حفار قبور.. ولأن نصيف الناصري ، هاجر الى منفاه ، تاركاً خلفه تراثا ضخماً من الحماقات والوان المقالب والمسارب التي صيرته شاعراً صعلوكاً من طراز اسمر ، فانني أشك بانه يوجد من لا يحبه ولا يشتاق اليه ، كان شاعراً مقلقاً خفيف الحركة من الطراز النيتشوي الذي لا يجد في الجدية غير مرض ثقيل يعيق المعرفة المرحة ويسيء الى شفافية الكتابة وروحها الساخرة وشخصيتها الطفولية المخيالة ، فلنعترف أن هناك تقصيراً قرائياً واضحاً ازاء شعرية نصيف الناصري مع انني في الاونة الاخيرة ، قرأت له أعمالاً شعرية ناضجة كانت تنم عن تطور دلالي باتجاه تكثيف اللغة وتوليد عطائها وقربها من مؤثرات أجنبية، عالمية لاشك فيها ، والناصري لم يكن متبجحاً كثيراً بمواقفه السياسية سواء بالامس أو اليوم ، فهو من ذلك النوع من الشعراء الذين احتفظوا بجمرة الشعر وقبض عليها بجنون .. كان على دراية من أين يؤكل رغيف الجمال سارحاً بصره في البرية . راقصاً على الكلمات الساخنة والمغامرات الخطيرة . كان الناصري وما زال يثير فضولاً شديدا لقراءته والاعجاب به . نصيف الناصري نحن نتابعك بشغف . وما زلنا هنا في العراق نلتقط كلماتنا من نفايات القنابل وننفض عن أقلامنا دماء الناس ونغمسها في قلوبنا أكثر أيها الغجري السعيد كم أنت بحاجة اليوم الى وطن سعيد آخر . لن يكون ذلك الوطن غير العراق وهل يوجد سواه؟.





حماقة ماركيز
عواد علي


فصل من رواية ■

مضت ثلات وعشرون سنة على اختفاء جثته. حدث ذلك بالضبط في السنة السادسة للحرب. لم أنسَه طوال ذلك الوقت ، أتذكّره كلما وقعت عيناي على كتاب لماركيز . كان شغوفاً بهذا الكولومبي على نحو جنوني ، يحمل كتبه بلغتها الأصلية حتى في الخط الأمامي للجبهة . حين عرّفني اليه فرهاد ، قبل مقتله ببضعة أسابيع ، قال لي: " أقدّم اليك صديقي سلمان البدر ، ولن يغضب ان ناديته باسم ماركيز ، فهو مهووس به مثل هوسك بألبرتو مورافيا ، ولا يفارقه حتى عندما يدخل الى الحمّام". كنا يومها نعيش في ملاجئنا على سفح جبل زرار في قليل من الاسترخاء . الجبهة شبه هادئة ، بعد مرور مدة على استرجاع الراقم الذي كان الإيرانيون يسيطرون عليه ، ولذلك صار آمر سريتنا مرناً في تعامله معنا ، فسمح لنا نحن الثلاثة ، فرهاد وسلمان وأنا ، بالنزول الى بلدة ديانا ، أكثر من مرة ، للاستحمام واجراء مكالمات تلفونية مع أهلنا في كركوك . كان ذلك الضابط من جيلنا تقريباً ، برتبة ملازم أول ، وله اهتمام بالأدب أيضاً ، إلاّ أنه لم يكن يمتلك وقتاً لقراءة الكتب هناك ، مقارنةً بنا نحن الجنود ، فيكتفي بالاطلاع على الصحف والمجلات الأسبوعية فقط . واذا صادف أن قرأ قصةً عن الحرب ، من تلك القصص القصيرة التي لم تكن تخلو منها الصحف آنذاك ، فانه يهبّ الى كشف مثالبها ، ويسخر أحياناً من كتّابها بحجة جهلهم الحياة العسكرية . وكنا نؤيده في موقفه ، تملقاً ، علّنا نحظى بمودته ورضاه . في احدى المرات التي ذهبنا فيها الى ديانا التقى سلمان صدفةً بصديق له اسمه نصيف الناصري ، شاب أسمر له ملامح الغجر ، يكبرنا بسنتين أو ثلاث ، يرتدي بزة مغاوير مرقطةً ، ويتحدث بلهجة جنوبية شبه ريفية ، فعرّفنا اليه قائلاً انه شاعر يكتب قصائد نثر غير مألوفة ، ويكره الشعر التعبوي ، وله مخطوطة من أربعة دواوين عنوانها " جهشات "، لكنه لم ينل حظه من النشر بذريعة أن قصائده سوريالية تتهكم بالحرب أو تتقاطع معها . وراح سلمان يطري عليه كثيراً ، مشبهاً قصائده بقصائد شعراء الحداثة المتمردين في الغرب ، ثم انفرد معه في استذكار لقاءاتهما في مقهى حسن عجمي ببغداد ، ذلك الذي لم نكن ، أنا وفرهاد ، نعرف آنذاك أنه ملتقى للأدباء والكتاب . وقبل أن نفترق أستلّ نصيف من جيبه ورقةً وشرع يقرأ لنا آخر قصيدة كتبها ، اسمها " رغبات مؤجلة ":
" قلت لأبي : أعطني نقوداً لأسكر / فتح فمه فخرج منه أسد جائع / قلت لحبيبتي : أعطني قبلةً / فتحت فمها فخرجت منه لبوة / قلت لآمر سريتي : أعطني اجازةً يا سيدي / فتح فمه فخرجت منه دبابة ./ الأسد الجائع / واللبوة / اصطحبتهما معي في نزهة على الدبابة / ثم عدت الى السجن مصدوع الرأس ".
كان نصيف ناقماً جداً ، أكثر منا ، على الحياة العسكرية والحرب . ومن يلومه على موقفه ؟ لقد سلخت هاتان الآفتان ، حتى ذلك الحين ، سبعة أعوام من شبابه ، و" لسّه الحبل عالجرّار ". سألته قبل أن نعود الى ملاجئنا بين صخور الجبل : " كيف تمضي اجازتك الدورية ؟"، قال : " أذهب لزيارة أصدقائي ، ولا أحقد على أحد ، لكنني عندما أفرط في السكر أضع جميع المقدسات في المرحاض ". أذهلتني جرأته ، وبدا لي ردّه كأنه مقطع من قصيدة ، فابتسمت له من دون أن أنبس بكلمة .




د يوسف اسكندر

الثمانينيون في شهادة متاخرة

.. وكانت العدمية الاخلاقية مئزراً آخر يرتديه المثقف الهامشي ليقيه بؤس الثقافة الرسمية ، ومن بين الحوادث التي كنت شاهداً أصيلاً فيها سؤال الشاعر نصيف الناصري في نادي اتحاد الأدباء ، شاعراً تقليدياً يكتب الشعر العمودي وينحدر من أسرة ميسورة فقد كان ابوه ضابطاً في الجحيش العراقي ، واسمه زياد طارق . قال نصيف الذي كان مفلساً معي لزياد : ألا تدخن ؟ فأجاب زياد : لا ، وبعد هنيهة أعاد عليه سؤالاً : ألا تشرب ؟ فأجاب : لا ، فما كان من نصيف إلاّ التعليق الساخر : كيف ستكون شاعراً اذن ؟ ولا شك في أن نصيف الناصري المفلس ، هنا ، عبّر عن فلسفة الغنى الروحي للشعر الهامشي بازاء الفقر الروحي للشعر الرسمي من خلال تلازم المجال الرمزي للثقافة الهامشية مع العدمية الاخلاقية القاضية بضرورة ضرب المعايير المجتمعية وتقويضها ، كما يمكن أن نقرأ الرسالة التالية لهذه الحادثة . قيل أن زياد قام بدعوة بعض الشعراء الثمانيين الى جلسة شراب وبدأ يدخن كمقدمات لدخول المجال الرمزي للثقافة الهامشية فكانت أولى قصائده المنشورة بعد ذلك تبدأ بالمطلع :
{ هكذا حدث أن خرجت من كارثة مخروطية } .



د جواد سماري
صعاليك بغداد والموت على الأرصفة

منذ وقت قريب ودعنا الشاعر عقيل علي ، ثم بعد بضعة أشهر رحل الشاعر والصحفي عبد اللطيف الراشد ، وها هو الفنان المقموع هادي السيد يلحق بهم { توفي في آذار 2006 } وقد يكون مرشحاً بعدهم للرحيل الأبدي كاظم غيلان أو صباح العزاوي اللذين بقيا من سلالة الأدباء اللذين يطوون روتينية المثقفين بصخبهم اللامع . وهؤلاء المتبقين يمثلون صرخة المثقفين المكبوتة بوجه السلطات ، كما أنهم سوف يعانون من الغربة والاختراق , ، اذ أنهم سوف لا يجدون من يشاطرهم الجنون أو وجوديتهم الخاصة بهم بعد أن أصبح حالهم ،منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، بعد أن انفرط عقدهم فمات من مات وهاجر من هاجر في الفيافي البعيدة مثل عرّابهم جان دمو الذي مات في الغربة { استراليا } ومن الأحياء منهم في الغربة الشاعر نصيف الناصري والشاعر حسن النواب والشاعر والاعلامي جمال حافظ . فهؤلاء جيل ما بعد الحصيري وحسين مردان أبرز الشعراء الصعاليك من جيل الستينيات ومن الملفت للانتباه أن كل هؤلاء يجدون ألفة مع الأرصفة والعيش فيها ، اذ يجدون فيها ما لا يجدونه في أماكن أخرى ولهم فيها مواقف وحالات وحكايات لا يمكن محوها من الذاكرة بسهولة لمن عايشهم أو صادفهم ، وهم في أحسن الأحوال يلجأون الى فنادق من الدرجة العاشرة اذا ما حصلوا على بعض المال ، وإلاّ فالرصيف مثواهم الأخير ، كما حصل لعقيل علي والراشد وأخيراً هادي السيد ، وهم في غالب الأحيان يمارسون الصمت لفترات طويلة بعدد لحظات ابداع وتألق ، اذ قد يجدون فيه تعبيراً أبلغ عما يجيش في عقولهم وصدورهم من كبت وحرمان وخيبة الأمل ، بل هم يمثلون بسلوكهم حزمة ضوء في الحرية المستلبة نتيجة التذمر من السلطات السياسية والاجتماعية ، وحكايتهم مع الأرصفة تستحق الدراسة من قبل النقاد لتسليط الأضواء على هذا الضرب من الابداع الذي لا يمكن تجاهله وأغلب الظن أن مواقف هؤلاء تدل دلالة واضحة على إبداعهم وما المواقف التي يتخذونها إلاّ ضرب من الوعي الفكري والثقافي ، فها هو هادي السيد الفنان المفصول من كلية العلوم سنة أخيرة يختار حياة الرصيف ويغادر مجال الفن ليعبر بجسده عن لوحة فنية لم تتسع لها ورقة الرسم وفرشاتها وكأنه يذكرنا بالشاعر الشهير رامبو الذي صمت بعد أوج عطائه في مرحلة الشباب واختار الموت الوجودي . وقد أدركت من هؤلاء الأدباء أشياء من المتابعة الشخصية أو اللقاءات الطائرة ، منها على ما أذكر تحدث الشاعر بلند الحيدري في محاضرة له تحدث عن الفن الحديث أواخر السبعينيات من القرن المنصرم بأن الشاعر حسين مردان أقنعه في أحد الأيام أن ينام الليل في الشارع وبلند الحيدري على ما نعلم كان لا يعاني ضنك الحياة بل يعيش حالة أقرب ما تكون الى الترف ، وكذا الحال مع الشاعر عبد الأمير الحصيري فتسكعه أشهر من أن يذكر . وأذكر عن نصيف الناصري أني كنت جالساً مع زميل لي يتعاطى الأدب في مقهى حسن عجمي ، ثم دخل نصيف الى المقهى ، وبعد أن وقعت عيناه على جيب صديقي فرأى حزمة من النقود ، فاذا به يقول له ، أنت لن تصبح شاعر وأنت تحمل معك هذه الكمية من النقود { شلون تصير شاعر } ومما يذكر عن نصيف الناصري أنه في أحد المرات كما ذكر لنا ، عرض في أحد الأيام قصيدة قديمة لشاعر سلطة البعث سامي مهدي ، قائلاً له ما رأيك بهذه القصيدة وهو لا يتذكرها ، فما كان من سامي مهدي إلاّ أن قال له أنها ليست من الشعر ، ففاجأه نصيف بأن هذه القصيدة لك ، مذكراً بها فبهت سامي مهدي وضحك { على نفسه } وكثيرة هي مواقف الشاعر نصيف الناصري مع عبد الرزاق عبد الواحد وراضي مهدي السعيد ، وكذلك هناك الكثير المختزن الذي يحمله الأدباء الذين رافقوا هؤلاء الأدباء الحقيقيين وعايشوهم ، وربما لنا دعوة أخرى مع هؤلاء أدباء الأرصفة الذين انتشلهم الموت واحداً بعد الآخر بعد أن ضاقت وضجت بهم الشوارع والأمكنة .

2 - اهداءات


عبد القادر الجنابي

الشعر العراقي


همسة صغيرة في أذن الشاعر الصديق نصيّف الناصري

دائماً
كان
بياناً
وظلاً
كانَ
زيتًا
في اطار
المجيء :

الورى ...
والأينَ
حيثُ النثرُ
في تيه التفاعيل
يفيضْ...




واصف شنون

نصيف الناصري

هذا هو الصبي الأول الذي توفي في سينما لورنس العرب ،
ربما أغفله ديفيد لين ولربما تناساه الأب كلكاميش ،
{ ما تشاؤون فأصنعوا } ...
أنا ولدتني بقرة حلوب مثل امهاتكم
أنا خنجر وفي خاصرتي جرح
أنا سكين فاكهة ..
اسألوا التفاح عني .
جربت كثيرا ً ونمت في الذكرى حتى أكتشفت أن لكم معي ثأرا ً،
رجوته أن ينطفىء
ورجوتكم أن يكون النهر والبحر والسماء هم القضاة .
جربتكم مثل أفعى في ملابس داخلية وغيوم في صعادات أطفال .
أحلم بالمستحيل الذي لا تطولونه ولا بالمرايا التي تكشف عن نصاعتها .
أنا مرتبك كأني نشيد صباحي أمام مدفع ،
أنا غجري سقط السوفييت أمامه
وسقط الرب .
سوف أعود .
كيف عاد الأبله ؟
وهل عاد الجنون ؟


واصف شنون
السرعة القصوى


{ الى الشاعر الغجري نصيف الناصري }


وبدأت ُ الآن
أسرع ُو أضحك على تعارك الساعات
ويحك أيها
النائم .
وكما شئت َ
هدأت ُ...
كان في زمن مضى شعراء
يكتبون :
عن السماء والجبال والقرى و البحر والحبيبات ،
كانوا كمن يعد السلالم للصعود إلى الأميرة النائمة
والأميرة غيمة بيضاء لاسلالم لغرفتها .
هدأت ُ..
لكن الناس مسرعون ..
ونحن مع الناس المسرعين ..
كسالى ساقطين ..
ننام النهار ونعيش في الليل
وفي الوضوء الفجري نتقيأ ..
عل بركات الأنبياء وأساطير الحكماء .
هدأت ُ...
قل ّ..
أنا ممسك ٌ بالأوكسجين والحقول والبهجة العالية
أنا ممسك ٌ بقرنفل الكرادة ورائحة العرق
أنا ممسكٌ بلغة مساكين الدهر
أنا ممسكٌ بنفسي
أنا ممسك ٌ بالعالم .



ستار موزان

احمرار يعلو قباب الذهب



الى الشاعر نصيف الناصري
................................................

احمرار يعلو قباب الذهب
ويقصِدُ رقاداً سرياً ....
رقاداً مقدساً كان قد امتدَ بين الحكمة والجذور
احمرارٌ قدريٌ يعلو سورَ أرواحنا
ووهجنا في المسرات
والطبقات الفيزيائية التي كوّنتنا
ساعة مرور سائل المعنى
في انبوب اختبارنا الجحيمي ،
هل انتهينا في سوق الجنة
أم انتهينا عند هسيس النار ؟
لما بشرَ الناصري روحه ببلوغ
الماورائي واللامرئي والعدمي
والعالم المتاخم للجنون الدوري ،
لما بشرَ الشاعر الحامل شعلةَ الضفة الميتة
روحهُ ببلوغ المعنى لحجر الشيطان ،
ولما دخل ذلك العالم الذي قيلَ أنهُ مجهول وانهُ
جحيمي حد اللعنة وانهُ يقع في طبقة من طبقات العدم المجري ،
في تلك اللحظة المحتدة خرج شيطانٌ وسأل الشاعر :
مَنْ أنتَ
ومِنْ أيَّ البلاد وكيف تعتليك الجرأة
وتحاول الدخول الى الجحيم ؟
قال الناصري :
الجحيم أن نرى أنفسنا في مرآة النار وان نستقيم في
الملتوي من السلالم وان نتصل في الطريق الذي لا يؤدي وان نصل
الى ماهو نقيض ظلنا وبرنا ونهرنا ولحاء نخلنا حتى تنحتنا النارُ تماثيلَ تجريد .


3 - استفتاءات

استفتاء إيلاف الشعري
ما جدوى الشعراء في زمان البأساء والضراء؟ (1)
عبدالقادر الجنابي :
الشِعرُ ، في خريف اللغة ، يلمحهُ عابرٌ لحظةَ سقوط ورقةٍ من شجرةٍ جالسٌ عندها ، يسرقهُ آخرُ من وقع عكاز الأعمى ، يكتبه صحافيٌ شعارَ معركةٍ . الشعر ، " أكثر المشاغل براءةً "، تبعثر مضيء عبر لافتة الزمن ... غالباً ما يتراءى على ملصق اعلاني ، وسط عواصف المفردات ، في دفتر يوميات مراهقةٍ تبدأ حياتَها على فراش . مُنبعثًا من رحم تجربة فردية محضة ، الشعرُ ، في كلّ قراءة ، تجربةٌ أُخرى ... هناك من يريد قصيدتَهُ أن تنطقَ رفضَه ، وهناك من يريدها علامةَ انجاز حياتي ، وما يلبث أن يشعر بعجزها – بلا جدواه ... الشعر : كلُّ هذا وليس . لكل زمن شعر ، للشعر كل الأزمنة . فـ" ماهية الشعر "، والكلام هنا لهايدغر في معرض حديثه عن هولدرلن ، " ماهية تاريخية في أعلى مراتبها ، لأنها ارهاص بزمان تاريخي ، ولكن باعتبارها ماهية تاريخية ، نراها هي الماهية الأصيلة الوحيدة ". من هنا تنبثق أهمية هذا التساؤل الهولدرليني : ذلك أن "ما جدوى الشعراء ..." هو أيضاً سؤال في معنى الشعر وجدواه في زمن شحاحٍ ايقاعياً ، حياتياً ، روحياً ووو .....
ان كلمة dürftig ، كما أشار المترجم الفرنسي *، لا يمكن رصدها بكلمة واحدة ، فهي ، في آن : نزر / نزارة ، شحّ ، قليل ، ضحل ، واه ، ضعيف ، فقير ، بائس ... باختصار ضرّاء أي نقص : ما جدوى الشعراء في زمان الضراء ؟ لكن الفيلسوف عثمان أمين ، الذي أعتمدنا ترجمته للقطعة السابعة من رائعة هولدرلن " الخبز والنبيذ "،، ليس فقط لضرورة ايقاعية ، أضاف البأساء ، وانما ليغطي المعاني الضمنية :
" ولكن أيّها الصديق ، لقد جئنا بعد فوات الأوان متأخرين
صحيح أنّ الأرباب يحيون ؛
ولكن فوق رؤوسنا ، في عالم آخر
بلا نهاية هنالك يعملون ويلوح أنّهم لا يبالون
بحياتنا إلاّ قليلاً ، من فرط عنايتهم بنا .
لأنّ وعاء هشّاً سريع العطب
لا يستطيع أن يحتويهم دائماً .
في لحظات وجيزة من الزمان
يتحمّل الانسان عبء الوجود الربّاني .
والحياة ما هي إلاّ حلم من أحلام هذه اللحظات .
ولكنّ الجنون ، كسِنة من النوم ، عون لنا ؛
وإنّما في الشدائد والليلة الظلماء قوّة .
فالى أن يحين وقت يشبّ فيه من المهد الحديدي أبطال
تكون لهم كما في الزمن الغابر قلوب قويّة كقلوب الأرباب
ثم يجيئون تسبقهم الوعود والبروق ،
الى أنْ يحين ذلك اليوم كثيراً ما يخيّل إليّ
أنّ النوم خير لنا من أن نكون هكذا بغير رفاق .
أفأظل على هذه الحال ؟ وماذا أعمل في الانتظار
وماذا أقول
لست أدري : وأسأل نفسي :
ما جدوى الشعراء في زمان البأساء والضراء ؟
ولكنّك تقول : انّهم مثل كهان ديونيزوس
يهيمون على وجوههم من بلد إلى بلد
في الليلة المقدسة ."

{ ترجمها عثمان أمين }

نصيف الناصري :
لا جدوى لي ولصرخاتي في هذا الزمان

شهدت وتشهد أزمان العالم منذ بدء الخليقة الى الآن دورات واندفاعات مستمرة من البؤس والضرر الوحشي في جميع جوانب الحياة والطبيعة والانسان ، لكن الميزة الأساسية للشعر والتي هي التصادم مع هذه الأزمان ومحاولة فضحها وتعريتها . تكمن في تلك الجهود التي لا تتوقف في محاولة تغيير المفاهيم المعرفية التي تحتضن هذه الأزمان . أن الكشف الحقيقي عن جوهر الحياة الانسانية البائسة والتي ألقي بها في هاوية العدم عبر قانون الصدفة العمياء . لا يستطيع الشعر والشاعر أن يفعلا له شيئاً غير الاصرار الدائم على ارتياد الآفاق السرية للوجود من أجل توسيع الجغرافيا الحلمية للانسان والبحث عن السحر الكامن في ماوراء المادة ، حتى تعاش الحياة بطرق أجمل من حقيقتها المريضة والمتعفنة دائماً . أن جدوى الشاعر في هذا الزمان لا تتحدد بمسألة الظروف التي تحيطه . الشعر في جميع العصور غير معني بالظروف الآنية ، وهذه ميزته العظيمة التي نعّول عليها دائماً . وبما أن الفاعلية الشعرية هي التوغل المستمر في المجاهل السرية للعالم من أجل تعرية بؤسه وشراسته التي تذهب بعيداً في استلاب الانسان والكشف عن أسراره العميقة ومحاولة التصالح مع محتواه الذي يحمل بذور الفناء والعدم ، فأن زمان البأساء والضراء هنا يبدو لا شيء أمام القوى العمياء التي تدمر آمالنا وأحلامنا في حياة لطيفة نحياها بكرامة انسانية حقيقية . جميع أزمان العالم هي أزمان وحشية وعدوة للانسانية التي كتب عليها أن تنوجد في هذه المتاهة المحيرة التي نسميها الحياة والتي لا تمنحنا اللحظة الكافية في العيش والأحلام والتجوال بحرية في الليل الممتد من الميلاد الى الموت . لا جدوى لي ولصرخاتي في هذا الزمان ولا أستطيع كما كان مألوفاً بصيغة شعبية تخون جوهر ووظيفة الشعر الأساسية ، أن أكون شاهداً ومؤرشفاً بطريقة المؤرخ البائسة عن هذا الزمان . أن أزمنتي وحياتي كلها ضارة وبائسة وعديمة الرحمة ولا تمنحني اشارة ما للخروج من الجحيم الذي أحيا فيه منذ أن ألقي بي في هذه الهاوية .




استفتاء { ايلاف } حول الشعر العراقي 2

عبد القادر الجنابي


تقطّرَ الشِعرُ العراقي طوال النصف الثاني من القرن العشرين ، تجاربَ بحيث كان يضطر الى أن يستجيب لكل المتطلبات ... لكن جزء كبيرا منه لم يُصبح إيقاعَ هذه المتطلبات ، بل استبقها . عانى كل الكوارث ، الحروب ، التخيلات ، النفي وبالأخص خيانة عدد من شعرائه لما كان يأمل منهم من سمو ورقي . مرّ بكل التجارب الطليعية ، اللغوية والشكلية ، بل حتى شهد بيانات موته ... لكنه ظل يتراءى وكأنه رحّالة يبحث بلا كلل عن الحقيقة التي يقال إنها أخفِيتْ في بئر. فهو ، آتياً من أفواه الذين كان يُنظر اليهم كمستسلمين ، فرديين ، مرضى ومنعزلين ، لم يتوان ، في بعض تجلياته ، عن ملاحقة الأفكار حتى المتاريس ، والشك في الإيديولوجيات وأضغاث الأحلام ، حتى لا يقع في مطب الشعارات البراقة . الحق أن انقلاب تموز 1968 كان هو بدء المرض... سبعينات القرن الماضي كانت هي السبيل إلى تشريد الشعر ؛ حاسة الصدق الوحيدة لدى الكائن العراقي . بات الدم جزءً من مِداد الصورة ... هناك من تَزحلقَ ومات ، وهناك من تَشبّثَ وعاش ... على أن الاستقصاء في صلب القول الشعري بقي جذوة مشتعلة لمعظم الشعراء العراقيين الفارين ، خارجاً وداخلاً ، من هذا الموت العربي الذي شهد تشييعه في التاسع من نيسان 2003. من هنا نفتح ملف الشعر العراقي ، بطرح السؤال على على عدد من الشعراء العراقيين المتواجدين في الخارج وفي الداخل ... هناك من أجاب وهناك من لم يجب لأسباب عادية كالسفر ، أو تقنية محضة تتعلق بجهل ، أو بانقطاع تيارات التلفون والشبكة والكهرباء ... سنضيف ما إن تصلنا أجوبتهم. السؤال هو :
بصفتك شاعراً عراقياً يعرف عن كثب ماذا يعني سقوط نظام صدام حسين وانتقال العراق الى مرحلة ما بعد هذا النظام .. خلال العامين اللذين مرا على يوم التاسع من نيسان 2003 هل شعرت بانزياح لغوي جديد في كتابتك للشعر ، أو بتغيير في مقاربتك الشعرية للأشياء ... ما هي خلاصةُ تأثير سقوط النظام على مجمل مفهومك الشعري ، وأيّ مستقبل تتوقع للقصيدة العراقية ؟




نصيف الناصري :
لا أتوقع أن تظهر تجارب مهمة في الشعر العراقي في المستقبل

يبدو لي أن هناك مفارقة واضحة في هذه الأسئلة. على الصعيد الشخصي انني أعي بقوة جوهر ووظيفة الشعر الأصلية ، وبما أن تجربتي تبتعد عن الآني والزائل وذائقة القطيع ، فقد كنت على الدوام أعيش في تعارض دائم مع العالم والأشياء بحثاً عن الدرب الذي يوصلنا الى ما وراء محنة الوجود . لم أشعر بأي انزياح لغوي في كتابتي للقصيدة أو بتغيير في مقاربتي لأشياء العالم بعد سقوط نظام الطغيان في العراق . لقد شهدنا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي سقوط الكثير من المفاهيم الشعرية والمعرفية في العالم العربي وشهدنا كذلك سقوط وتهشم الكثير من الأصنام الشعرية التي هيمنت بقوة من خلال السياسات المتخلفة للأنظمة والأحزاب والخطاب الاعلامي المهووس بالعنتريات ، وبما أن هذه الأصنام قد انشغلت نتيجة لمحاباتها وتنطعها للسلطات الحاكمة بالدم والحديد ، في الآني والتقريري وتلبية احتياجات القطيع الذي تقوده المؤسسات الفاشية في عالمنا العربي ، فقد فشلت تماماً في تقديم أي ابداع حقيقي ، اللهم إلا ذلك المجاز الجماهيري الذي مازال يحفظه عجائز اليسار العربي المثخن بجراح لا تندمل أبداً . أن موضوعات الموت والحب والحرب والتحول والصيرورة والطفولة والأحلام هي التي تهيمن على تجربتي الشعرية منذ سنوات طويلة ، وبما انني لم أنشغل بالواقع السياسي المعاش بكل جوانبه الأخرى ، فقد ظل مفهوم الشعر الأصلي عندي لا يتغير على الدوام بتغير الأنظمة والمفاهيم الثقافية والشعرية الرسمية للأنظمة العربية الحاكمة . لقد شهدتُ تجارب عديدة في شعرنا العراقي تتهاوى نتيجة عدم رسوخها في أرض الشعر الحقيقية ، وكم أرثي الآن لضحالة وسذاجة تلك التجارب التي خدعتها الشعارات والمفاهيم السياسية البراقة . ثم أن الانزياح والتغيير في المقاربات والنظر الى العالم في الرؤيا الشعرية ، لا يأتي نتيجة الأنفعال بحدث ما أو سقوط أشياء كريهة ومدانة . نعم ، كان سقوط نظام صدام حسين أشبه بحلم عصي وبالتأكيد ستسقط من بعده كل الثقافات التي استطاع أن يرسخها طوال سنوات حكمه البغيضة وبشّر بها كتّاب وشعراء من العراق ومن الدول العربية الأخرى . وبالنسبة الى مستقبل القصيدة العراقية فانني لا أتوقع أن تظهر تجارب مهمة في السنوات القادمة . ذلك لأن البذور الجديدة بحاجة الى زمن طويل لتزهر، وبحاجة الى تربة ثقافية يتطلب حرثها جهوداً كبيرة ، وهناك مفارقة أخرى تقوم بها دوائر الخطاب الاعلامي الرسمي في العراق الآن وهي محاولات اضفاء طابع ما على تجارب تقليدية وميتة، بغية منحها الشرعية الابداعية وهذه المحاولات الدؤوبة تجيء الآن نتيجة لفهم قاصر مزمن في الواقع الثقافي العراقي . تتكرس وتترسخ في الدهاليز السياسية للأحزاب المنشغلة في النظر الخاطىء الى الشعر . أتوقع الآن أن ما يسمى بالشعر الشعبي سيكون هو المزدهر في السنوات المقبلة ليلبي متطلبات القطيع الجائع والخائف الذي تدغدغ عواطفه ترهات أحزابنا المنشغلة ببرامجها المتخلفة والتي لم تتغير منذ دهر طويل ، على الرغم من زوال أشياء كبيرة في العالم. وهذا التوقع يأتي نتيجة محاولات الهيمنة على الثقافة بشكل عام ، والخراب الشامل الذي خلفته سنوات حكم الطاغية في جميع النواحي في العراق .




استبيان مجلة " ملامح " العدد الأول 2006

كيف تنظر الى راهن الشعر العربي ؟ ما ابرز ما يميّزه ؟
هل ترى فيه تقهقراً أم تطوراً أم مراوحة ؟ وما هي علامة ذلك برأيك ؟
هل توافق على أن ثمة اختلاطاً وتشوشاً في المشهد الشعري .. وبمَ تعلل ذلك ؟


نصيف الناصري
الشعر العربي الراهن .. تعدد وتنوّع


كتبتُ في مناسبة سابقة أن الحصيلة الابداعية والاضافات الحقيقية في الشعر العربي ، كانت قليلة في جميع العصور وهذا سرّ مقدس من أسرار الفعل الشعر الحقيقي . ما يميّز الشعر العربي الراهن هو التعدد والتنوّع بعد أن قطع شعرنا أشواطاً طويلة في التجريب والمغامرة ومحاولات اللحاق بركب الشعر العالمي . كان شعرنا الذي هيمنت عليه مشاريع الرواد الايديولوجية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ومن تلاهم ، يرزح تحت أنماط وقوالب شديدة التشابه ، انشغلت بما يدور في المحيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي للعالم العربي . لم يعد الشعر العربي الآن يقدم رؤية للعالم من خلال مفهوم الالتزام الذي أشاعته حركات اليسار في محاولاتها الدؤوبة لاخضاع الشعر والمعرفة وتطويعهما وفق ستراتيجياتها التي كانت ترى حركة الواقع مجرد صراع طبقي فقط عبر شعارات ومفاهيم انهارت بعد نضال طويل وصراع مرير في أول نسمة ريح نحو الحرية ضد الاتحاد السوفيتي السابق . ولم يعد الشعر العربي الآن منهمكاً بمشروعات القوى الايديولوجية القومية التي كانت تحاول عبر رؤى وشعارات وهمية أن تستعيد أمجاد ماتت وانقرضت منذ دهور طويلة . ما يميّز الشعر العربي الآن في تنوّع اتجاهاته ورؤاه ، هو أن الفاعلية الشعرية تسير في اتجاهات ومتاهات متعددة بعيداً عن طروحات ومفاهيم الايديولوجيا التي كانت ترسم الحدود للشعر . طبعاً هذا لا يعني أن شعرنا الآن لا يعاني من حالات التقهقر والمراوحة في مسيرته المتعرجة وسط هذا الخضم الهائل من الأفكار والثقافات والتجارب ، وبالنسبة للاختلاط والتشوش فأعتقد انه يأتي من كون الشعر في السنوات الأخيرة قد تغيرت وظيفته الأساسية ولم يعد الناطق الرسمي للايديولوجيات التي خدعت الجماهير بأقنعتها الزائفة . هنا لا أريد أن أعير أيّ اهتمام لما ينشر في مواقع الانترنت من شعر ولا لتلك الأعمال الشعرية الكاملة التي يصدرها الشعراء الموتى / الأحياء الذين لا يمتلكون أيّ فعل حقيقي للشعر ، لأن هذا الشعر الذي يكتبه هؤلاء الهواة لا يمثل القيمة الحقيقية لجوهر الشعر . اعتقد بيقين أن الشعر العربي الآن يستطيع أن يمنحنا من بين مليون شاعر حيّ ، حفنة من شعراء مبدعين فقط ، وهذا هو ما نعول عليه في ديمومته وتألقه العالي .






4 - حوارات

نصيف الناصري :

ما يعوز شعرنا هو الأفكار العميقة


حاوره مازن المعموري


لابد لأيّ متابع للشعر العراقي في اكثر مراحل تطوره تعقيداً في الثمانينات من القرن المنصرم أن يدرس النصوص المهمة والاسماء التي رسخت تجربة قصيدة النثر في وقت كانت قصيدة النثر ممنوعة من النشر وأن أيّ خروج عن دائرة المؤسسة الثقافية يعد خرقاً للنظام السياسي أولاً ودخول العراق نفق الحرب المظلم في تلك المرحلة أدى الى تغيير البنى الأساسية للمجتمع بشكل قسري وهمجي وانحلال البنية الثقافية وانفصال المجتمع عن المثقف . كان لهؤلاء الشعراء الشباب أثر واضح فيما بعد لتأسيس نموذج شعري جديد فتح نوافذ العالم على مصراعيها لانجاز أحلام كان لها أن تتحقق لولا الحرب ، ماذا بعد ذلك ؟ هرب البعض من الجيش وسافر وانتهى البعض الآخر خارج العراق ، ولك ماشئت من الأحداث الغرائبية التي عانى منها المجتمع العراقي بشكل عام ، ويمكن لمن يريد الاطلاع قراءة ما كتبه محمد مظلوم حول الجيل الثمانيني ، مرحلة التأسيس . في هذا اللقاء الذي أجده ضرورياً مع الشاعر نصيف الناصري وهو أحد اقطاب الجيل الثمانيني . تحدث الشاعر عن مجمل الأشياء التي تهم الثقافة العراقية والشعر مضيئاً المناطق المظلمة في تجربته الشعرية وتجربة جيله .

* كان لظهور جيلك الأثر الكبير على الساحة الأدبية وكان لأقرانك مثل محمد مظلوم وصلاح حسن وصاحب الشاهر ومحمد تركي وركن الدين يونس وخالد البابلي وعبد الأمير جرص وخالد مطلك والقائمة تطول . لقد صنع كل واحد منكم تقاليد جديدة لم تكن موجودة في وقت كانت الحرب لا تتحمل التمرد والمشاكسة . لقد نزل الشعر الى الشارع وهذا التصريح احتفظ فيه لنفسي . هل تعتقد انكم خلقتم قطيعة مع الأجيال السابقة ؟

- لم يكن هناك أيّ أثر شعري أو ثقافي يذكر لما تسميه جيلي في الساحة الأدبية العراقية من عام 1980 الى عام 1990، فقد كنا نكتب قصيدة النثر شبه الممنوعة من النشر في الصحف والمجلات التي تصدر بالعراق ونحتفظ فيها لأنفسنا أو نقرأها في البداية لبعضنا بمقهى { البرلمان } وبعدها في مقهى { حسن عجمي }. عندما مات صاحب الشاهر كان عمري الأدبي سنتين فقط . عبد الأمير جرص وخالد مطلك عرفناهم بعد عام 1990 ولم يقدما أيّ شيء حتى على الصعيد الشخصي ، ولم يصنع أيّ واحد منّا تقاليد جديدة أو ما شابه . الشعر لم ينزل الى الشارع حينذاك لأنه بصراحة لا يوجد شعر حقيقي في العراق باستثناء سعدي يوسف وسركون بولص وأسماء أخرى تعيش في المنفى وكانت نتاجاتهم ممنوعة في العراق ونتداولها سرّاً . لم نخلق أيّة قطيعة مع الأجيال السابقة لأنها ميتة أساساً ، وما زالت لغة الشعر العراقي وموضوعاته وأشكاله متشابهة . أحصيت الشعراء الذين بدأوا كتابة الشعر في الثمانينيات وكانوا 123 شاعراً ولك الآن أن تتساءل أين انجازات هؤلاء ؟ وأين هم الآن وما هي مشروعاتهم وادعاءاتهم الطنّانة ؟

* هل يمكن اعتبار الجيل الثمانيني قد أسس خطاباً مضاداً حقيقياً عكس ابتعاد الجيل السبعيني عن جوهر الشعر ؟

- لم يؤسس شعراء الثمانينيات أيّ خطاب مضاد باستثناء الاصرار على كتابة قصيدة النثر وقد تبعهم شعراء السبعينات في هذا المشروع ، ولا أعتقد { أستثني هنا بعض الأسماء } انهم اخلصوا لجوهر الشعر ، فقد كتب الكثير من هؤلاء وأصدروا مجموعات تمجد حروب صدام صدرت عبر سلسلة { ديوان المعركة } وسلسلة { كسر الحصار الثقافي } التي أنشأها عدي صدام حسين وأشياء تافهة أخرى تخون الجوهر الحقيقي للشعر. مشكلة شعراء السبعينيات في العراق هي نفس مشكلة شعراء السبعينيات في العالم العربي. الايمان بآيديولوجيات معينة والتبشير بطروحاتها الغوغائية على حساب الجوهر والوظيفة الأساسية للشعر . عندما أعود الى قراءة أعمال 73 شاعراً ظهروا في السبعينيات بالعراق أشعر بالكارثة . ليس هناك أي ابداع حقيقي رغم الادعاءات والصراخ الذي ملأ وسطنا الشعري طويلاً .

* لقد وقف الجيل الستيني ضد المتغيرات الكبيرة في اللغة الشعرية وكانت المؤسسة الثقافية تتحمل عبء مفاهيم الحداثة ، وكان كل من خالد علي مصطفى ، سامي مهدي ، حميد سعيد وآخرون يشعرون بالورطة الثقافية معكم ، وهؤلاء لايمثلون الجيل الستيني بقدر ما يمثلون المؤسسة السلطوية. ماهو أثر ذلك في الواقع ؟

- لا يمثل هؤلاء الشعراء جيل الستينيات . ندين لجيل الستينيات الحقيقي في الكثير من المغامرة والتجريب في اللغة والأشكال والموضوعات والمحاولات الدائمة للخروج من التقاليد الشعرية التي رسّخها الشعراء الذين ظهروا قبلهم . ولا أعتقد اننا كنا نقرأ ونتابع هؤلاء الشعراء الذين ذكرتهم ، كما أن هؤلاء لم تكن لديهم أي ورطة معنا لأننا لم نكن نستطيع نشر نتاجاتنا في الصحف والمجلات آنذاك وبالتالي فهم لم يقرأوا لنا . كان سامي مهدي رئيس تحرير صحيفة { الجمهورية } يسمح بنشر قصائد ركيكة وتافهة لشعراء معينين من شعراء الثمانينيات ، ومثله كان يفعل حميد سعيد رئيس تحرير صحيفة { الثورة } .


* لابد أن أبدأ من جان دمو . لجان موقع خاص في القلب ، وكثيراً ما يقال أن جان دمو هو الذي أسس ظاهرة الصعلكة في الشعر العراقي . هل يمكن اعتبار الصعلكة أولى مظاهر التمرد على الواقع القذر الذي عاشه الجيل ، وما هو تأثير جان الشعري ؟

- ليست هناك صعلكة في الشعر العراقي ، ولو كانت الصعلكة أولى مظاهر التمرد على الواقع القذر لكان الآن شعرنا وواقعنا بعافية كبيرة . لا تأثير شعري لجان دمو وهو كما وصفه عبد القادر الجنابي { شاعر بلا قصيدة }. جان كان مريضاً عبر افراطه في الكحول وقد استطاع أن يجذب حوله الكثير من الكحوليين والعاطلين عن الفعل الشعري والحياتي .

* لابد من الاشارة الى كتاب { الموجة الجديدة } ومدى تاثيث المشهد الشعري ، هل يمكن الاشارة الى أهمية المنجز باعتباره الولادة الاولى لكم؟

- كتاب { الموجة الجديدة } من اعداد وتحرير زاهر الجيزاني وسلام كاظم وهو انطولوجيا بائسة ضمت 53 شاعراً لا يجمعهم جامع وقد كانت فيها 6 قصائد نثر ل 6 شعراء فقط . كانت قصيدتي في { الموجة الجديدة } عبارة عن خراء ولا أتذكرها الآن أبداً .


* كانت لك مذكرات مؤلمة ، قرأناها جميعاً ، هل تعتقد أن الألم كان أحد العناصر المنتجة للنص ؟ بمعنى آخر ، هل يمكن قراءة نصيف الناصري من خلال الواقع الذي عاشه ؟

- ليست هناك قوانين معينة في الابداع عبر الألم والسرور وسواهما من الأحاسيس . الألم الذي تحدثت عنه في كتابي { معرفة أساسية – الحرب . الشعر . الحب . الموت } عاشه أغلب الناس والشعراء الذين ابتعدوا عن المؤسسة الثقافية الرسمية في عراق الثمانينيات . من الصعب الآن قراءة الواقع الذي عشته في الماضي ، ذلك لأنني كما أوضحت في حوار أجراه معي الشاعر عبد العظيم فنجان ونشره في موقع { ايلاف } قد قمت بتمزيق 7 مجموعات شعرية لي عندما كنت في الأردن عام 1996 . أردت في عملي هذا أن أبدأ من جديد واعتبرت أن ما أنجزته في السابق هو مجرد تمرينات لما هو قادم . ولكن يمكن التعرف الى بعض الألم الذي عشته في الماضي من خلال مجموعتي { أرض خضراء مثل أبواب السنة } التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1996، وهو ألم يبدو لي الآن مازال مستمراً ولا أستطيع التخلص من جذوته المشتعلة دائماً .


* الى أي مدى حقق الشعر العراقي حظوراً خارج العراق ؟

- الشعر العراقي معروف في الخارج منذ عشرينيات القرن الماضي وهو الأكثر ابداعاً وقوة من الشعر الذي يكتب في البلدان العربية . أغلب الاندفاعات في الشعرية العربية في القرن العشرين ظهرت في العراق . بداية من الثورة التجديدية في الخمسينيات مع السياب ونازك والبياتي وسواهم ، وصولاً الى الحساسية الأكثر جدة ومغامرة التي قام فيها شعراء الستينيات في العراق وغيروا النظرة الى الشعر وجوهره ومفهومه عبر اصرارهم على ازاحة الاجتماعي والآيديولوجي وكل ما من شأنه أن يخون الشعر كفن جمالي ومقدس .


* لقد حقق الحب جذوة كبيرة ، ومازلت تعيش آلامه ، فالى أي مدى استطاعت الغربة ترتيب نصيف الناصري من جديد أم أن الماضي بقي ملازماً لك طيلة هذه الفترة ؟

- أنا مغترب ومنفي منذ مجيئي الى العالم . عشت حياة عاصفة ولا انسانية في الماضي . { 12 سنة جندي هربت فيها عدة مرات وعشت حياتي متخفياً . 3 سنوات بعد تسريحي من الجيش أمضيتها ببغداد على الرصيف في الصعلكات والكحول من دون وظيفة معينة . 4 سنوات تشرد في العاصمة الأردنية عمّان التي لم أستطع أن أكتب فيها سوى قصيدة واحدة عن موت صديقي الشاعر المرحوم رياض ابراهيم }. في مدينتي السويدية هذه التي يعيش فيها بشر من 165 دولة . استطعت أن أجد الوقت الكافي للتأمل والقراءات العميقة وتطوير مشروعي الشعري عبر العزلة التي حرصت وأحرص عليها الآن . بعد العودة من المدرسة الاجبارية { سوق العمل مغلق في السويد دائماً ويتوجب عليّ الذهاب كل يوم الى دراسة اللغة من أجل أن يدفعون لي نقود الطعام وايجار البيت } أغلق بابي ولا التقي أحداً باستثناء صديق أو صديقين من الكتّاب العراقيين . حاولت التخلص دائماً من الماضي المؤلم الذي دمّر حياتي في الحب والحنين والأشواق ، وأستطيع القول انني بعد أنجزت 7 كتب خلال 8 سنوات هنا ، أشعر انني أصبحت أكثر دقة في عملي الشعري وتنظيمي الحياتي .

* هل تعتقد أن الوعي الآن وبعد المجموعة السادسة غير الكثير من وجهات نظرك حول الشعر والتجربة ؟

- لم يتغير فهمي لجوهر ووظيفة الشعر أبداً ، لأنني منذ البداية أردت كتابة شعر ينأى عن أشنات وطحالب الواقع اليومي ويحرص على الحفاظ بالجوهر العميق للفاعلية الشعرية الحقيقية . أما التجربة الشعرية فهي قد تطورت كثيراً عبر الخبرات الحياتية والمعرفية والتجارب المختلفة . أغلب تجاربي في الحياة والمعرفة تظهر واضحة الآن في القصيدة التي أكتبها وأحاول أن أنأى بها عن ماهو سائد في الشعرية الراهنة .

* ساتوقف عند المجموعة الاخيرة ، هناك اختلاف شاسع في المنجز الشعري وهناك اختراق للتجنيس ، هل يمكن الاعتراف أخيراً بظهور جنس أدبي جديد اذا جاز لي التعبير ؟

- مجموعتي السادسة امتداد للمجموعتين السابقتين المنشورتين في مواقع { ايلاف } و { الحوار المتمدن } و { بيت الشعر العراقي } وقد حاولت في هذه المجموعة أن أٌقدم شعراً كما قلت ينأى عما هو سائد في الشعرية العربية والعراقية من خلال اللغة الجديدة البعيدة عن الإرث الممل ، ومن خلال معالجة موضوعات الشعر الكبيرة في الموت والزمان والحب والتحول والصيرورة والسأم وما وراء الطبيعة . في محاولاتي للاختلاف عن الآخرين حاولت وما زلت أحاول أن أخلق كلمات جديدة . أغلب الذين يكتبون الشعر منذ سنوات طويلة، يكتبون في لغة موروثة ولا يحاولون خلق كلمات خاصة بتجاربهم ورؤاهم . مشكلة هؤلاء هي الكلمات وليست اللغة. وبالنسبة للتجنيس فلا أعتقد أن هناك اختراقاً كما تقول ، ذلك لأننا تعودنا أن نقدم قصيدة حسب المواصفات المطلوبة والجاهزة في الشعرية الراهنة . ليست لدينا كما في آداب أخرى أشكال شعرية مثل النص المفتوح كما عند ميشال ديغي أو لوكايزيو ولا الملاحم أو السونيت والبالاد الذي تتداخل فيه عناصر الحوار والحكاية وأشياء أخرى ، ولا عندنا القصيدة الدرامية ولا الأنشودة .

* هناك تحليق واضح نحو ما يمكن أن أسميه فضاء شعرياً مطلقاً، بمعنى أن الموضوع قد انتهى الى غير ما رجعة ، وأن اللغة هي الفضاء الشعري الذي يتعامل معه القارىء ؟ هل تؤمن في القارىء ؟

- حاولت في المجموعة الأخيرة أن أقدم شعراً تكون مناخاته المطلق بشكله السري والعميق. الموضوعات وهي تسمية لا أحبذها هنا ، موجودة وقد ذكرتها قبل قليل . لا نستطيع أن نقدم قصيدة ونتحدث فيها عن المطلق بلغة صحفية . ينبغي خلق أشياء جديدة من أجل التخلص من الكتابة وفق العادات والركاكة والتقليد . يتملكني شعور بالاحباط وأنا أرى أغلب الشعراء العرب والعراقيين يكتبون بلغة وأنساق وأساليب متشابهة . وبالنسبة الى القارىء فأنا أود دائماً طرد القارئ من قراءة القصيدة ، لأنه بصراحة غبي ويود أن يفهم ، واذا مهدنا له مهمة الفهم فأنه يدمر عمل الشاعر . في جميع العصور كان جمهور الشعر الحقيقي قليلاً . وهنا تكمن قداسته وجذوته المستمرة أبداً . الموضوع المعين والواضح في القصيدة الراهنة انتهى منذ زمن طويل . لا يمكننا التفكير في كتابة القصيدة . التفكير يقتل كل شيء . الكلمات لا الموضوع هي التي تخلق القصيدة كما يقول بول فاليري .

* لقد حلق العشق في فضاءات الصوفية ، في مجموعتك الاخيرة { فجر الزمان الممتد بين الوجود والماهية } فكأن الحلول الحاصل بين روح الشفيع والشفيعة قد احتوى العالم وأصبح المعادل الموضوعي للواقع ، هل تعتقد أن اللغة الصوفية هي غاية الشعر ؟

- لا أعتقد أن اللغة الصوفية هي غاية الشعر . الشعر يستطيع خلق لغته الشفيفة والخطرة والخاصة دائماً ، بشرط الاخلاص للتجربة والمغامرة والتجريب الدائم . في محاولتي عبر هذه المجموعة أردت التوحد في الروح الكبيرة للعالم لكن ليس من منظور لاهوتي . السيدة الشفيعة في هذه المجموعة تمثل عندي المجهول أو بعبارة أخرى { السيدة الغريبة } عند الشاعر الروسي الكسندر بلوك أو السيدة الجميلة عديمة الرحمة في الآداب الاوروبية ، لم أحاول أن أجد في بحثي عن طيفها للعالم معادلاً موضوعياً في الواقع . محاولاتي هنا ضرورية بالنسبة لي لامتلاك الجوهر السري لأشياء العالم . أشعر الآن انني عشت وسأعيش في جميع العصور. ربما هي حالة توحد مع الروح الكلية للطبيعة . منحتني هذه التجربة الفهم لعميق لجوهر الموت . موت الانسان والأشياء في الطبيعة .

* هل تعتقد أن تجربة الشعر العراقي قد نضجت ثمارها الحداثية على ايديكم وهل يمكن الاشاره الى أهم الاسماءالمجاورة لكم ؟

- لا يمكننا القول أن ثمار التجربة الشعرية الحداثية في العراق قد نضجت على يد شاعر معين . يجب أن لا ننسى المغامرة الستينية في شعرنا العراقي وهي مغامرة كبيرة وأصيلة استطاعت أن تنقل شعرنا من أنماطه وأساليبه وأساطيره السابقة التي حاول أن يعكسها الشعراء الرواد على واقعنا المتردي عبر النظرة الايديولوجية للشعر ، الى آفاق أكثر سعة ومسؤولية في التعامل مع العالم والنظرة العميقة للشعر وجوهره . يشكو البعض الآن من كثرة عدد الشعراء في العراق. هذه الحالة ليست غريبة على الوسط الشعري في العراق. في كل عقد يظهر عشرات الشعراء ويحاولون ايجاد أشياء جديدة عبر التجريب والمغامرة والجهود الكبيرة . تهمنا المحصلة النهائية وهي بقاء عدد صغير جداً من هؤلاء يواصلون الابداع الحقيقي . اذا كان لا بد من ذكر أسماء من شعراء الثمانينات منحت شعرنا الراهن دفقات جديدة ورائعة ، فأود أن اذكر حسب رأي شخصي خاص بي الشعراء محمد مظلوم وباسم المرعبي ومحمد النصار وصلاح حسن وأحمد عبد الحسين وطالب عبد العزيز وناصر مؤنس وأرجو هنا أن لا يعتبر ترتيب هذه الأسماء حسب الأفضلية . كل شاعر من هؤلاء له ابداعه وتجاربه وميزاته الجديدة والخاصة التي تميزه عن الآخرين .

* هناك تغلغل عميق في الارث العربي لمفهوم العشق داخل مجموعتك الأخيرة { فجر الزمان الممتد بين الوجود والماهية } هل تحاول تمرير شفرات تعتمد الثقافة العربية مرجعاً لك ؟

- أنا شاعر عربي ولا يمكنني الاّ أن أنطلق من ارثي وهو إرث كبير وعميق على صعيد الابداع والتجربة الانسانية . مفهوم العشق كما يبدو في مجموعتي الأخيرة ينطلق من العشق العربي وهو عشق خائب فيه ألم وحسرة شعرية مستمرة . طبعاً سيكون من المستحيل أن أمرر شفرات تعتمد الثقافة العربية فقط كمرجعيات معرفية في نصوصي . لأنني الآن غير منقطع عن الثقافة الانسانية كلها .

* هل يمكن الحديث عن العشق خارج لغة الجسد أم أن العشق هو الطبيعة بمفهومها المطلق ؟

- لا يمكن الحديث عن عشق خارج الجسد . كان الشاعر العربي العذري حسب ما يقول هادي العلوي لا يحب حبيبته ككيان انساني له جسد ورغبات محمومة . انه يحب الحب فقط. في حبي الخائب والعاثر لانخيدوانا سعيت دائماً الى خلق علاقة حميمة مع الحب كمطلق من خلال منظور شعري. ربما هي محاولة تعويض شيء مفقود وعصي . لقد تغيرت الان مفاهيم العشق كلها وأصبح امتلاك المحبوب سواء كان رجلاً أو امرأة يجري بطريقة أكثر سهولة . لكن من جهة أخرى وهنا أود أن أوضح الطريقة المختلفة في العشق خارج نطاق الثقافة والعالم العربي. تتعرف على فتاة ما أو هي تتعرف عليك في مكان معين وربما تذهبان الى السرير بعد احتساء فنجان قهوة أو وجبة طعام . تتكرر اللقاءات أو تعيشان معاً ثم يأتي الحب بعد شهر أو أكثر أو تتركها وتتركك. ليست هناك طريقة معينة في الحب . في حالتنا العربية تبدو المسألة مرضية وبحاجة الى علاج نفسي طويل .


* لغتك متعالية في المجموعة الأخيرة. الى أي مدى تربط المعرفة بالنص الحديث؟

- ما يرّسخ النمطية والتفاهات والغثيان في الشعرية العربية الآن ، هو الاصرار الدائم على كتابة الشعارات والانشاء والتداعيات الفارغة من أي جوهر معرفي أو شعوري . لا أعتقد أن لغتي متعالية في مجموعتي الأخيرة . كيف يمكنني التعبير عن محنة الانسان في متاهة العالم ووحشته ، ومسائل ما وراء الوجود أو الزمان أو التحول والصيرورة في الطبيعة وفي الأشياء من خلال لغة انشائية تخلو من الأفكار والأحاسيس ؟ ما يعوز شعرنا العربي الآن هو الأفكار العميقة . تمت وتتم الآن التغطية على مشروعات وتجارب شعرية كبرى في الشعر العربي من أجل ترسيخ الجماهيري والايديولوجي وتلبية احتياجات القطيع عبر مفاهيم سياسية واجتماعية واعلامية بعيدة عن جوهر الشعر . يظهر النقد المتهافت تجارب شعرية هزيلة لأسماء طنّانة تتغنى بمشروعات التحرير ووحدة الأمة العربية وقضية فلسطين ، ويحجب هذا النقد ووسائل الاعلام المتهافتة مثله التجارب الكبيرة والحقيقية لشعراء من أمثال خليل حاوي وتوفيق صايغ وشوقي أبي شقرا وبلند الحيدري وسواهم . كل نص شعري يخلو من المعرفة لا يستحق القراءة . كيف يمكننا قراءة قصيدة لا تقدم لنا سوى لعثمات وتأوهات تافهة وفارغة للشاعر الذي يكتبها ؟ أعتقد أن الثقافة المتجددة وتجاربها المستمرة مع المعرفة ضرورية جداً لاعطاء النص بعده الابداعي العميق .


* هل نستطيع الحديث عن خطاب انثوي أو ذكوري والى أي مدى يمكن أن يتحقق ذلك ؟

- لا يمكننا الحديث أبداً عن خطاب انثوي أو ذكوري في الابداع . المناسبة الدائمة التي يتكرر فيها هذا الحديث عندنا نحن العرب ، عن الفصل بين الخطاب الانثوي والخطاب الذكوري في الكتابة هو أن المرأة عندنا تخلق لغتها المتخلفة والقاصرة عن لغة الرجل بسبب الثقافة الذكورية المنحطة السائدة والمفاهيم والعادات والأخلاق . تقرأ لشاعرات من أمثال ايديث سودغران وكارين بويا وسوزانا روكسمان وبوديل مالمستين وكارين لينتز من السويد ، وآنّا اخماتوفا وآنّا أحمدولينا ومارينا تسفيتايفا من روسيا ، وسيلفيا بلاث واليزابيث باريت براوننغ واميلي ديكنسون واميلي برونتي وسواهن في اللغة الانكليزية ، ولا تشعر بمفاهيم خاصة في الخطاب الابداعي تفصل كتابة المرأة عن كتابة الرجل . وهنا أود أن أشيد بمحاولة الشاعرة الكوردية السورية خلات أحمد في مجموعتها المهمة { أوشحة الفجر / الترياق } حيث كتبت مجموعتها هذه بصيغة جمالية وشعرية عالية وهي تعالج موضوعات عالجتها الشاعرة الاغريقية سافو بجرأة ولطافة . الشعر الذي تكتبه المرأة العربية متخلف جداً. اذا استثنينا تهويمات نازك الملائكة وفلسطينيات فدوى طوقان وجرأة سنية صالح وصباح زوين خراط وجمانة حداد وأمل الجبوري ومنى كريم وسعدية مفرح ودنيا ميخائيل { استثني هنا الشعر الذي كتبته شاعرات عربيات بلغات أخرى }. لا أعتقد اننا سنعثر على ابداع حقيقي في الشعر النسوي العربي الآن . قد يبدو رأيي هذا متطرفاً لكنني شديد الاقتناع فيه . نعرف أن الشعر الذي تكتبه النساء العربيات تدور أغلب موضوعاته حول العلاقة الوهمية والمأزومة مع الرجل دائماً . تصفح الآن أي مجموعة شعرية لشاعرة عربية فستجد أن أغلب موضوعاتها هي العلاقة اللامتكافئة في الجنس والحب مع الرجل . أود أن أقرأ لشاعرة عربية ابداع يتحدث عن معاناتها الوجودية وعن القلق الذي تشعر فيه من الموت والحياة أو عن موضوعات الزمن والطبيعة والمعرفة ، وأعتقد انك لو تسأل الآن الشاعرة لميعة عباس عمارة التي زاملت بدر شاكر السياب في سنوات الدراسة عن آخر قصيدة كتبتها ، فستجيبك انها قصيدة غزل .


* الجملة الشعرية لديك طويلة وغير منقطعة وتبدو للوهلة الأولى لغة مقعرة ، وهو تحول كبير لم نشهده عندك من قبل .

- الرهان الدائم عندي حول المران الطويل في الكتابة هو الذي يجعلني أواصل المغامرة والتجريب من أجل خلق لغة وكلمات وأنساق خطابية جديدة للقصيدة التي اكتبها عبر الصراع الطويل مع اللغة وانزياحاتها وبلاغتها . ما عادت الطريقة الغنائية الآن في النص الشعري تلبي الحاجات النفسية والشعورية للشاعر . لا يمكنني أن أكتب جملة من سطرين أو أكثر وأنا أحاول التعبير عن محنتي الدائمة من زوال الأشياء في العالم ، أو استحالة وجود الانسان على الأرض كما يقول هايدغر . أنا أعيش حيرة كبيرة ووعي مدمر في التحولات وصيرورة الانسان والعالم والزمن والطبيعة . عندما صدرت مجموعتي { أرض خضراء مثل أبواب السنة } عام 1996 كتب عنها الشاعر خيري منصور في صحيفة { الدستور } الأردنية أن لغتها محتدمة . أنجزت بعدها 4 مجموعات وواصلت التصعيد والاحتدام عبر التجريب الدائم لأن المشاكل التي واجهتني في الحياة وتجاربها تطلبت مني أن أغيّر في كل حين طرائقي الكتابية وقاموسي اللغوي والانساق الخطابية في النص .


* هل كان للعزلة دور في انتاج هذه اللغة أم هي مشكلات وعي جديدة ؟

- الاثنان معاً ، لكن ربما يكون العامل الأول أقل شأناً وسأوضحه الآن . بعد نهاية دوام المدرسة اليومي أعود الى البيت وأبقى الى اليوم التالي مع القراءة والكتابة والموسيقى والتأمل وحيداً { قبل تعرفي الى شبكة الانترنت }. أحياناً التقي صديق أو أكثر أثناء النزهات المسائية لمدة معينة وأعود من حيث أتيت . في المدرسة أثار انتباهي ذلك الحديث السريع والجمل الطويلة التي لا تنقطع في كلام الناس الذين يعيشون مثلي بمفردهم . اكتشفت أن العزلة تجعلني أتكلم كثيراً جداً حين التقي الناس في الخارج للتعويض عن ساعات الصمت الطويلة في البيت ، وبما انني كنت معجباً في الشاعر الأمريكي آلن غينسبرغ وحاولت في الماضي أن تكون جملتي الشعرية طويلة كما هي عنده ، فقد استثمرت هذه الحالة الغريبة وواصلت المران الدائم في الكتابة حتى تجلت أخيراً في مجموعاتي الجديدة . الوعي الشعري الذي يتطور باستمرار عبر التجارب والأحاسيس المختلفة ، كان له الدور الأساسي في انتاج هذه اللغة التي أستخدمها الآن من دون قصدية .




طموحي الدائم هو أن أنجز القليل العميق
الذي يتحقق فيه الابداع الحقيقي

أجرى الحوار : خضير الزيدي


الحوار مع شاعر ثمانيني ظل التمرد هاجسه الشعري والوجودي يبدو ملّحاً في هذا الزمن ، ليس لأن الصورة الاجتماعية تغيرت كثيراً في العراق ، بل لأن التمرد الذي كان ينشد له الشعراء انعكس على تمرد سياسي مؤلم نتيجة الأوضاع القاسية . عن صورة التمرد وعن الأفق الشعري الثمانيني وعن تاريخ الشعر العراقي ، كانت لنا وقفة مع أحد الأسماء اللافتة في ذلك الوقت وهو الشاعر نصيف الناصري الذي لم يزل يواصل كتابة الشعر وفق رؤيته على مستوى الاسلوب الشعري أو وعلى مستوى الاهتمام بمضامين الحياة .

* كان نفر من الأدباء وأنا واحد ممن يؤكدون ما أتساءل عنه الآن من أن ظاهرة { الصعلكة } التي تميزت بها مع أصدقاء آخرين { جان دمو / كزار حنتوش / وحسن النواب } لا تتعدى أن تكون ظاهرة اجتماعية وليست شعرية ، أود أن استشف رأيك في هذا الانطباع وكيف تنظر له الان ؟

- اختيارنا لحياة الصعلكة في سنوات الثمانينيات في العراق كطريقة وسلوك في الواقع اليومي والشعر والثقافة كان هدفه ذاتي محض . كنّا جنوداً نهرب من الخدمة العسكرية الاجبارية دائماً ونسير في الطرقات والميادين العامة بنماذج اجازة مزورة { جان دمو لم يكن يملك حتى بطاقة الأحوال الشخصية } . كان انحدارنا الطبقي من قاع المجتمع وكان أقراننا طلبة في الكليات والمعاهد أو يمضون خدمتهم العسكرية في { دائرة التوجيه السياسي } التابعة لوزارة الدفاع ببغداد . لم نستطع أن نصدر كتبنا في طبعات أنيقة عند دار الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة والاعلام مثلما كانوا يصدرون كتبهم لنتمكن من الحصول على عضوية الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العراقيين الذي يشترط في الحصول على العضوية أن يقدم الأديب مع استمارة القبول على الأقل كتاباً مطبوعاً . عشنا على الهامش حياة حرّة وكان دخولنا الى اتحاد الأدباء يتم عبر شخص منتسب وحاصل على بطاقة العضوية . يدخل أحدنا بحجة ضيف عليه مقابل دفع ربع دينار الى مسؤول الاستعلامات . سنوات طويلة كانوا يمنعون جان دمّو ويمنعون حسن النواب من الدخول ويمنعوني أنا وربما منعوا كزار حنتوش في مناسبات ما ويعلقون اعلاناً في الباب الرئيسي لمبنى الاتحاد يؤكد المنع { منعاً باتّاً ولمدة سنة } . هل كانت قصائدنا تفي بالغرض المطلوب في سنوات الحروب الظالمة التي كان يشنها النظام الديكتاتوري على جيران العراق ؟ يعتقد الكثير من الأوباش أن مجموعة كزار { الغابة الحمراء } التي صدرت عام 1986 عن دار الشؤون الثقافية مكرسة كلها للحرب . لقد أًصرّ كزار الشيوعي القديم على اختياره للعنوان وكان له ما أراد . طوال عشر سنوات في الأوساط الأدبية والثقافية لم نتمكن من انتزاع فرصة واحدة للاعتراف بنا أننا شعراء وبشر لنا طموحاتنا وأحلامنا الشعرية والانسانية . كان عزاؤنا يكمن في حياة البارات التي كانت ملاذنا الأخير من التفاهة الرسمية والهروب من أولئك الذين يرتدون البدلات الكلاسيكية السود وبدلات الزيتوني العسكرية مع حقائبهم اليدوية ومسدساتهم . لماذا كانت موائدنا محاطة دائماً في بار اتحاد الأدباء وبارات { الباب الشرقي } و{ ساحة النصر } وغيرها من البارات بالمتزوجين والرسميين والأكاديمين وأدباء دائرة التوجيه السياسي ؟ هل كنا نذكرهم وننبهم من دون قصد الى تفاهاتهم وتفاهات حيواتهم المستكينة والمتنطعة ؟ هل كانت ثقافاتنا ورؤيتنا الى الشعر والحياة تدغدغ ما عجزوا عنه على مستوى الحياة والانجاز ؟ كانت الأمسية الشعرية اليتيمة للصعاليك في اتحاد الأدباء العتيد فضيحة كبيرة لتلك المؤسسة الرسمية عام 1993 حيث كان حضور الجمهور كبيراً وبشكل لافت للنظر لم تألفه أمسيات الاتحاد الثقافية { أقيمت في الحديقة وليس في القاعة الكئيبة } . قال لنا جان في ذلك اليوم الصيفي :{ اليوم سيتم الاحتفال بنا لأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات وسنشرب بالمجان وننام في أراجيح حديقة الاتحاد . لا فندق ولا مصطبة . لا تطيلوا القراءات من أجل الشراب المبكر } . كان جان قد قرأ قصيدة قصيرة جداً وأثناء قراءته صرخ رجل يرتدي بدلة سوداء اللون وتجلس الى جنبه امرأة انيقة : { الله . أحسنت . أعد . أعد } نظر اليه جان دمو بامتعاض وغضب وصرخ في وجهه : { إنجب لك } . بلع الرجل الذي فاجأته المصيبة ريقه وإنجب طوال الأمسية التي لم تستغرق أكثر من نصف ساعة { الأمسية خصصت ل جان دمو . كزار حنتوش . حسن النواب . نصيف الناصري } . فتح بعدها بار الاتحاد للرواد أبوابه التي كانت تفتح دائماً بعد نهاية كل أمسية

* كنت تعلن ومنذ زمن بعيد بأن الجيل الثمانيني هو الأكثر أهمية من غيره بينما الواقع يقول أن قسماً من الستينيين وخاصة جماعة كركوك اضافة الى سامي مهدي الأسماء المهمة وكذلك الجيل الستيني أفرز أسماء لم يزل تأثيرها قوياً الى اليوم مثل زاهر الجيزاني وخزعل الماجدي الا ترى أن تصريحاتك تنم عن اعتزاز بجيل وانكار لتجارب الآخرين ؟

- نعم أعترف كنت واهماً واكتشفت الآن أن تلك الادعاءات كانت نفّاجة . أحصينا مرة أنا والشاعر الصديق محمد مظلوم شعراء الثمانينيات وكانوا أكثر من 100 شاعر . لم يبق منهم الآن سوى حفنة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة . لا يمكن أن نعتبر مجموعة شعراء أو حقبة زمنية معينة هي الأكثر أهمية من غيرها . الشعر العراقي نهر كبير وكثير التعرجات وهذا سرّ مجده .

* قلت لي في بغداد ذات يوم انك مزقت أربع مجاميع شعرية وقرأت لك تصريحاً وأنت في المنفى انك تمزق الكثير من القصائد . ماذا تعد هذه الممارسة وهل حدث أن ندمت على صنيعتك هذه ؟

- الشعر مشروع دائم للتجاوز ويجب حذف واحراق كل التجارب التي تظهر فيما بعد بسيطة وعاطفية وآنية . لم أندم على المجموعات التي أحرقتها وتلك التي سأحرقها في المستقبل . طموحي الدائم هو أن أنجز القليل العميق والذي يتحقق فيه الابداع الحقيقي .

*نصيف تتردد في أغلب نصوصك الشعرية مفردة الشفيعة . من تلك الشفيعة ؟ هل هي الملاك الشعري ؟ هل هي بغداد أم هي امرأة نصيف الناصري ؟

- الشفيعة في أغلب شعري هي امرأة ملهمة تتجلى في لحظات الوحشة والسأم وتخلصني من عبث العالم . لولا الشفيعة لكنت قد هجرت الشعر والكتابة منذ زمان طويل . كل اصراري على الكتابة له هدف واحد هو انني أحاول دائماً أن أثبت الى السيدة الشفيعة انني موجود وحاضر في هاوية الوجود عبر رهان الكتابة الدائم .

* المعروف أن لك تمرداً اجتماعيا في حياتك . بعد رحلة امتدت أكثر من عشر سنوات في المنفى هل تغيرت تلك النبرة؟ هل استطاعت الحياة المنظمة في السويد أن تعطيك درساً لم ترغب فيه وأنا هنا أقصد الأمر شعريا؟

- لم يتغير فيّ أيّ شيء على صعيد التمرد . أنا مطرود هنا من كل الجمعيات العراقية التي يسمونها الثقافية { دكاكين حزبية } . أقيمت هنا في السويد قبل مدة { أيام الثقافة العراقية } بتنظيم من السفارة العراقية وبمشاركة 17 حزباً سياسياً وحركة وقد شارك فيها أدباء وكتّاب وووالخ ولم تتم دعوتي اليها لأنني خارج هذه التجمعات الرسمية والطائفية .

*بودي أن أسألك ماذا اعطاك الشعر ؟هل أخذك الى المنفى أم أنت الذي أخذته معك ؟

- لا يعطينا الشعر المجد ولا النصر ولكن يمنحنا امكانية العيش بسلام مع العالم والامساك بجذوة الأمل في متاهة الوجود التي تستلب الانسان . في يوم مغادرتي العراق وكان يوم أربعاء ، نشرت لي مجلة { الف باء } قصيدة ضمتها مجموعتي الأولى { أرض خضراء مثل أبواب السنة } التي أصدرتها عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر . كتبت فيها هذا السطر : { الوطن أصغر من حبة قمح ، والمنفى ينفتح على الطرق اللانهائية } .

*تتميز أغلب نصوصك بطولها ، هل هذا النوع من الكتابة و الشعرية يحتاج الى فضاء ومخيلة وربما توظيف للكثير من الأفكار ؟ في تصورك ما الذي يميز هذا النمط من الكتابة ؟

- ليست أغلب نصوصي طويلة . كل نتاجي الجديد ومنذ أكثر من 5 سنوات هو قصائد لا تزيد الواحدة عن صفحة فولسكاب . أعلنت في مناسبات عديدة أن ما يحتاجه الشعر العربي الراهن هو الأفكار . أغلب ما يكتب وينشر الآن هو تداعيات ولغة بائسة تخلو من الشعر بشكل واضح .

* لماذا لا اجد في قصائدك حنيناً الى بيئة لطالما كنت مشدوداً اليها وخاصة الميدان / مقهى حسن عجمي / شارع المتنبي / وأحب أن اذكرك ذات يوم عندما كنت أمشي معك في ساحة الميدان وانت تقول لي جملة الشعرية { أن القمل الذي في رأس حسن النواب يعود لي } وسألتك حينها ستحتفظ بتاريخه قلت نعم لكن مع المكان لا أجد أن لك حنينا واضحاً في نصوصك ؟

- لطالما بحثت في شعري عن الماوراء وعن الحيرة في متاهات الوجود واللاوجود . ليست هناك بيئة معينة تشغل قصيدتي . ماذا يمكنني أن أكتب عن مقهى { حسن عجمي } أو ساحة { الميدان } ؟ . هذه المهمة ليست مهمتي . طوال 34 سنة أمضيتها بالعراق كنت أشعر دائماً في الاستلاب والاغتراب الروحي والجسدي ولم أشعر بانسانيتي قط .





نصيف الناصري :

صعقة الشعر جاءتني عبر اكتشاف الموت


حاوره عادل كمال


وجدت أن أبدأ معك الحوار، من خلال مداخلتك التي قدمتها في الاستفتاء، الذي اقترحه : " موقع ايلاف " الالكتروني ، حول مستقبل الشعر العراقي . كانت مداخلتك مهمة بالنسبة لي كشاعر أعرفه عن قرب . أثار انتباهي - وانت مقيم في السويد لحد الآن - انك في تلك المداخلة أفصحت عن رؤيا متشائمة ، حول مستقبل الشعر العراقي ، اذ قلت بالحرف الواحد : " لا أتوقع ان تظهر تجارب مهمة في الشعر العراقي في المستقبل " فهل هذا لأن مَن سبق من الشعراء قد استنفذوا كل اشكال التجارب الشعرية ، فلم يعد هناك ماهو جديد تحت الشمس ، أم أنك تعتقد أن نبع المواهب الاصيلة قد جف ، فلم يعد هناك ، في مجراه ، زورق شعري ، بامكانه ان ينقل ، خلال صراعه مع التيار ، تجربة شعرية مهمة ، أم ماذا ؟ من جانب آخر : ماذا نقصد عندما نقول: تجربة شعرية ؟ حقاً ، ما هي التجربة الشعرية ؟ هل هي تلك السنوات التي يقضيها المرء في كتابة الشعر ، معزولاً عن العالم وعن الحياة ؟ أم هي تلك المخاضات ، عديدة التجليات ، التي يكابدها المرء من اجل ان يكون شاعراً ؟ أم هي هذي الادعاءات الفارغة من أيّ محتوى ، والتي تغطي هاماتنا كلما ضغطنا على زر الحاسوب ليطفر أمامنا مفهوم سائب ، مهلهل ، وغير مسؤول ، عن التجربة وعن الشعر ، وكأننا حفنة من المغفلين ، أو التلاميذ ، أو الاميين ؟ على هذا المنوال هناك أسئلة كثيرة ، بات من الضروري اثارتها ، في خضم واقع اعلامي خطير ، كانتشارالشبكة العنكبوتية - النت مثلاً ، وهي ظاهرة عالمية ، وفي خضم واقع اعلامي عراقي جديد ، يتمثل بتعدد المنابر الاعلامية : المجلات ، القنوات الفضائية ، والاعداد الهائلة من الصحف المتنوعة ، والتي جميعها تولي للشعر وللشاعر اهمية استثنائية ، غالباً مايتضح انها ناجمة عن حاجة ماسة ، لملأ الفراغات في الصفحات الثقافية ، أو في بعض المواقع الالكترونية التي انتشرت كوباء ، كسرطان ، لايمكن ايقافه ، ناهيك عن بعض المواقع الشخصية لـ " شعراء وشاعرات " - هناك استثناء طبعاً لأصوات أصيلة - رأس مالها الوحيد في الانتشارهو المراهقة ، والعلاقات الاخوانية ، والصبيانية ، تحت يافطات فجّة ومجانية ، في ماراثون من الادعاءات الفارغة التي لم يسبق لها مثيل ، اذ لاتقاليد ثقافية أو شعرية ولا خبرة - ولو بسيطة – بالنشر ، لأن النشر هو الآخر ، يمثل عملية خطرة ، خطورة كتابة قصيدة ، او رسالة حب الى امرأة ، وليس هو نشر ثياب غيرمغسولة جيداً على حبل غسيل : هل هذا هو الشعر حقاً ؟ أم نكتة كونية ، كنكتة تحول التحرير الى احتلال ؟ نصيف: هل الشعر رسالة ؟ خاطرة ؟ حب عاثر ؟ محاولة للتعبير ؟ طريقة ما في الاستغفال أو التفكير : ضحك على الاخرين ، وجرجرتهم الى القيعان المنخفضة للسادة الزعماء ، أو هو فكّ اشتباك مع الأشياء ؟

نصيف الناصري: طالما شكوت من أساليب الوصايا الفجة والتهميش الذي يمارسه البعض ضد مشروعات الشعراء في المغامرة والتجريب والبحث عن أشكال وموضوعات جديدة ، وقد نشرت شكواي هذه في مجلة "الأقلام " عام 1993، ضمن عدد مخصص للتجارب التي أعقبت تجارب الشعراء الذين أصطلح النقد على تسميتهم بـ الشعراء الرواد . بعد ربع قرن في الحياة مع الشعر والاخلاص للعملية الشعرية ومعايشتها ، سواءا في العراق أو بلدان العالم العربي ، أستطيع الآن أن أطلق حكماً خاصاً بي حول راهن ومستقبل هذا الشعر ، ويأتي تشاؤمي حول مستقبل الشعر العراقي الذي أشرت اليه في { استفتاء ايلاف } من خلال قراءة دقيقة لوضع وتاريخ وتقاليد هذا الشعر . يحلو للبعض من العراقيين أن يقول بصلف وخيلاء : أن العراق بلد الشعر { موريتانيا بلد المليون شاعر ههههههههههههه وليس فيها أيّ شاعر حقيقي) . طيب ، كتبت مرة دراسة طويلة عن شعرنا العراقي بعنوان { وهم الايديولوجيا ووهم الشعر } نشرت القسم الأول منها في صحيفة { القدس العربي } ولم أنشر القسم الثاني الذي ضم جداول احصائية للأسماء الشعرية واصداراتها ومصائرها . اكتشفت أن عدد شعراء الخمسينات كان 33 شاعراً : شعراء الستينات 64 شاعراً . شعراء السبعينات 73 شاعراً . شعراء الثمانينات 123 شاعراً ، أما الشعراء الذين ظهروا في التسعينات فلا أملك أية معلومات عنهم باستثناء قلة قليلة جداً . أود هنا أن أسأل هذا السؤال : كم عدد العقول الشعرية الكبيرة التي منحت شعرنا العراقي ديمومته واندفاعاته ، منذ سنوات الخمسينات الى الآن ؟ لقد استنفذ الكثير من الشعراء الذين سبقونا كل امكانياتهم الشعرية ، وتكرست في الواقع الثقافي تجاربهم وأشكالهم ومشروعاتهم ، وبالتالي فان الحصيلة الابداعية التي خرج فيها شعرنا الآن ، هي حصيلة تثير الرثاء ذلك لأن أغلب هؤلاء الشعراء لم يصلنا منهم { إلاّ ايصال بخدعة } . لم يعد الآن ماهو جديد تحت الشمس ، وتكاد تجف جميع الأنهار التي اعتقدنا انها ستظل تفيض دائماً ، وهنا ينبغي لي أن أستثني بعض التجارب الكبيرة والحقيقية التي مازالت تواصل مشروع الابداع دائماً ، من دون الحاجة الى ذكر الأسماء لأنها معروفة جداً . والتجربة الشعرية التي أعنيها هي تلك الحياة الكبيرة التي يعيشها الشاعر ، ونقرأها نحن عبر ابداعه في المغامرة الدائمة. { ليس الشاعر الحقيقي رجل يجلس في مكتبة } انه المغامر ، جوّاب الآفاق ، المجنون ، العاشق ، {المريض الكبير } المفكر ، دليلنا الى المجهول ، الغريب ، المنفي في الداخل والخارج . لم يعد الشعر انعكاسا لواقعنا المتردي بكل أشيائه السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، بل هو كشف وتعرية لكل أشياء العالم والزمن والتاريخ، وأعتقد أن الشعر ، لولا الموت ، هو حب من طرف واحد . قبل أسابيع أصبت بحالة قرف شديدة ، عندما قرأت أن أحد شعراء مصر السبعينيين ، قد أصدر المجموعة ال 16، وهذا الشاعر المسكين لا يتذكر له القارىء قصيدة واحدة الآن ، وأحد شعراء الثمانينات العراقيين الرديئين جداً ، قد دفع مالاً وطبع { أعماله الشعرية الكاملة } في بيروت ،ولا يتذكر له القارىء أيضاً قصيدة واحدة . نحن لسنا حفنة من المغفلين والأميين حتى يستطيع هؤلاء وأمثالهم أن يضحكوا علينا ، وسترمى كل خزعبلاتهم قبل موتهم الى النفاية . أما شعراء الانترنت فحدث ولا حرج ، وبصراحة أنا أقرأ القليل في الانترنت للذين يقرزمون الشعر . أقرأ فقط : الشعراء الذين لهم تجربة حقيقية ، كرسوا لها حياة بأكملها ، وهم قلة، يحتاج اكتشافهم- بالنسبة الى القارىء الجديد- الى مرشد أو كشاف ، وسط هذا الضجيج من الأسماء .

عادل كمال: سنبقى في الاستفتاء الذي اقترحه موقع ايلاف ، فهو يؤكد في ديباجته على أن الشعر بقي رهين القول باولئك الذين لايعبأون به، كممارسة اجتماعية أو نفعية : رهين أولئك الفارين من الخدمة الاجبارية لكتابته ، تحت طقوس من الهرولة الى النشر والشهرة الزائفة المجانية ، والتنظير المفلس ، حين تحول الشعر الى ثكنة ، و" الشعراء " فيها جنوداً : عرفاء ، أو مدبجي مقالات عن " شعر الحرب وأدبه " ولست ، بالضبط هنا، أريد أن أفتح ملفاً سبق للآخرين فتحه ، بقدر ما أريد أن توجز لي رأيك في سؤال هام : هل الشاعر مؤسسة بحد ذاتها ، أم هو ابن المؤسسة ، أم هو شيئاً آخ ر، خارج الوصف ، وهذا الخارج عن الوصف لا يعني فوق تاريخيته ، أو قدسيته المطلقة : لقد وصف الشاعر رينيه شار شاعراً خالداً مثل رامبو بما يلي : " أن من جميع التسميات التي اطلقت عليه حتى الآن - أيّ على رامبو -: رامبو الرائي ، رامبو الأزعر .. الخ ، لن نحتفظ بأيّ تسمية ، ولن نرفض أيّ تسمية ، بكل بساطة هذه التسميات لاتهمنا ، سواءا كانت صحيحة أم لا ، لأن شخصاً كرامبو ، وبعض الآخرين من جنسه ، يحتويها بالضرورة جميعها . الصفة الوحيدة التي نطلقها عليه هي : رامبو الشاعر ، وهذا يكفي ، هذا مالانهاية له: انه شاعر فقط ، وهل هناك أكبر من هذا النعت ؟ "
لا حظ أن شار اكتفى بهذه الكلمة : شاعر، ولم يضف اليه أيّ امتياز آخر ، سوى تعليق بسيط وعميق معناه : الا تكفي كلمة شاعر امتيازاً لرامبو ؟ من هذا الجانب بالذات - وفق ماعشناه ونعيشه الان - الا ترى أن كلمة " شاعر " قد باتت مجانية ، وهي أكثر الكلمات او الصفات الفنية عرضة للانتهاك ، وسط هذا الكم المجاني من " الشعر والشعراء " ؟ الا ترى أن بعض نشطاء المؤسسة النقدية - ان صح التعبير - قد ساعد على ترسيخ هذا الانتهاك ، حتى صار المرء منّا في حرج من القول بانه شاعر ، رغم اصالة موهبته وعمق وصدق تجربته : ربما يتذكر البعض من أصدقائي الشعراء ، اني القيت من على جسر الرشيد ، الى نهر دجلة ، مخطوطة شعرية ، صارخا بأعلى صوتي : يا للعار أنا شاعر ، شعوراً منّي بالقرف مما آلت اليه الأمور ، في بداية التسعينات تحديداً . نصيف ، أيها الصديق : ما الشاعر ، ان لم يكن كما يراه شار في حالة رامبو ؟

نصيف الناصري: لا يمكن للشاعر الحقيقي أن يكون ابناً لأيّة مؤسسة ، مهما كانت طبيعتها وتوجهاتها . انه مثل ما قلت : خارج الوصف وخارج أيّة مؤسسة ، واذا استثنينا بعض العقول الشعرية الكبيرة في كل العصور ، والتي تلطخ البعض منها قليلاً برماد المؤسسة { مثلاً حالة المتنبي في ثراثنا العربي والذي قتله مشروعه السياسي } فسنجد أن الشعراء الأصلاء الذين استبطنوا محنة الوجود والانسان في العالم ، كانوا هم المنارات التي أضاءت للبشرية الدهاليز المظلمة في تحولاتها وصيروراتها بعيداً عن كل سلطة ومؤسسة ، مهما كانت وظيفتها وادعاءاتها والوهم الذي ترفعه وتعتبره مقدساً . وتأكيد استفتاء { ايلاف } على أن العملية الشعرية الحقيقية ظلت رهينة القول بأولئك الذين لا يعبأون بها كممارسة اجتماعية أو نفعية ، هو تأكيد ذكي جداً ونتاج بصيرة مثقفة وواعية لجوهر ووظيفة الشعر التي فرّط بهما أصحاب العقول الغبية ، من الذين يبحثون عن تأسيس كيانات اجتماعية لهم على حساب الابداع والجوهر الأصيل للفعالية الشعرية في العالم ، وبما أن جوهر الشعر الحقيقي لا يمكن تدجينه أو ترويضه من قبل المؤسسات والقائمين عليها ، لا يمكن أن تكون له أية فعالية اجتماعية أو سياسية أو نفعية ، ذلك لأن الفعل الشعري الأصيل هو دائماً نتاج تلك العقول الخلاقة التي تفرّ من مؤسسات القطيع البليد ولا يمكنها أن تلبي الاحتياجيات الآنية والزائلة ، لأن مهمتها في الحياة أعمق وأكثر قداسة من طبيعة وعمل المؤسسة المنشغلة بخواءها وترهاتها ، ووصف رينيه شار لرامبو الشاعر هو وصف دقيق ويبتعد عن خواء اللغة التي يستخدمها شار ، وهو الملهم الكبير في عمله الشعري . وهنا أود أن أتحدث عن مشكلة تقلقني منذ زمن طويل ، تتعلق بفاعلية اللغة واستخدامها في مؤسساتنا التي فقدت كل علاقة حقيقية مع الواقع والتاريخ واللغة . اللغة باعتبارها معطى اجتماعي له وظيفته المعروفة دائماً . أقرأ أحياناً على شاشة التلفاز ، مثلاً: { تأليف الكاتبة الصحفية فلانة } وهنا أتساءل : ما معنى الكاتبة الصحفية ؟ هل هناك وظيفة اسمها : الكاتبة الهندسية أو الكاتبة الميكانيكية أو الكاتبة الاقتصادية والأزيائية اوالزبالية... الخ ، وهذه المفارقة اللغوية التي أشاعتها المؤسسات المصرية المختلفة ، مثلما أشاعت أوصاف مثل { الاستاذة الراقصة المبدعة الكبيرة } و { الاستاذ الشاعر الكبير أمير الشعراء } و { كوكب الشرق } و { موسيقار الأجيال } قد اتسعت الآن اتساعاً يفوق حدود الوصف ، ويبدو هنا وصف شار لرامبو مفارقة حقيقية ، اذا قرأنا في الصحف أو المجلات أو في الانترنت ، ما يفعله الكثير من المتطفلين على الشعر ، وتذييل ترهاتهم بصفة { شاعر وكاتب } و { شاعر وناقد } و { شاعر وصحفي } و { شاعر ومترجم وباحث } . يا للمسكين رامبو : لقد كان شاعراً فقط ، وجاء رينيه شار وألصق به التهمة الحقيقية ، التي اتهم بها دائماً : شاعر . أنت تعرف انني عندما كنتُ في العراق ، كنتُ أخجل من القول بانني شاعر . كان الضباط والجنود في وحدتي العسكرية يسخرون مني لأنني لا أظهر على شاشة التلفاز وأقرأ شعراً عن الحرب ، مثلما يفعل الكثير من الشعراء، وكانت مجموعاتي الأربع منشورة بخط يدي ، ومطبوعة بالتصوير بالدفلوب ولم تطبع على الورق الملون الذي كانت تطبع فيه الكتب التي تصدر عن { دائرة الشؤون الثقافية } في وزارة الثقافة. كانت المؤسسة التي أسميتها أنت بتحفظ { النقدية } ، هي التي تمنح الصفات والألقاب للشعراء ، وهكذا شاعت عندنا ألقاب { شاعر القادسية } و { شاعر القوات المسلحة } و { شاعر المعسكر } الذي كتب عنه الناقد مدني صالح في مجلة { ألف باء ؤ عندما نشر قصيدته { صباح الخير أيها المعسكر } : انه { أعظم الشعراء الذين جاءوا الى الشعر بعد عبد الوهاب البياتي ونزار قباني } وهنا نلاحظ بوضوح خبل اللغة التي استخدمها هذا الناقد الجهبذ عندما اعتقد أن أعظم الشعراء هما البياتي والقباني فقط ، وألغى بالتالي الكثير من القامات الشعرية العالية والحقيقية ، ولا عجب في اعتقاده أن هذ الشويعر المتواضع هو شاعر عظيم . من جهة ثانية أود أن أتحث عن عقول شعرية كبيرة مازالت تعيش بيننا وتضيء ليل حياتنا دائماً ، عبر ابداعها الأصيل، وهي بينها وبين المؤسسة هوة عميقة جداً : هل تستطيع مؤسساتنا الشعرية في العالم العربي المهووسة بخنوعها وخزعبلاتها عبر مهرجاناتها وجوائزها التي لا قيمة لها ، أن تتذكر شعراءاً كباراً وأصلاء ، مثل : شوقي أبي شقرا ، وأنسي الحاج ، وسركون بولص ، ومؤيد الراوي ، والأب يوسف سعيد ، وأنور الغساني ، وعبد القادر الجنابي، وسليم بركات ، وجليل حيدر ، وفاضل العزاوي ؟ بالتأكيد لا تستطيع هذه المؤسسات تذكّر وتكريم ودعوة هؤلاء الشعراء لأن الذين يشرفون على فعالياتها سينكشفون، وسينكشف زيفهم وادعاءاتهم الفارغة أمام حضور هؤلاء الأدلاء الكبار .

عادل كمال : حسناً ، لنذهب الى منطقة أخرى : أنت قلت : أن هناك حاجة الى كشّاف ماهر : يأخذ على عاتقه مهمة الانارة ، وسط هذه العتمة ، فهناك اسماء شعرية – الأصح : لاشعرية – ولدت ، وشاعت واشاعت نفسها من دون معرفة ولو أولية ، بمغزى استخدام النثر كوسيلة شعرية ، عبر كتابتها لـ " قصيدة النثر " التي يعرف كل من خاض في قيعانها بصدق ، أيّ عرق تنزفه الروح من أجل احداث ازاحة شعرية في لغة يومية منتهكة من كل وسائل الاعلام ، مشاعة للكل ، دون استثناء . هذا الكشّاف الماهر أين يمكن ايجاده ، او اختراعه ، ابتكاره ، في ظل فهم متخلف عن الغاية التي من أجلها استخدم النثر كوسيلة شعرية ؟ من جانب آخر لقد لاحظت انك - وهذا شيء أفعله أنا ، والشاعر حسين علي يونس ، وقلة قليلة من شعراء قصيدة النثر ، ربما لايرغبون أن اذكرهم بالأسماء - كثيراً ما تجري تغييرات جوهرية على قصائد لك ، كانت منشورة سابقاً : وقد قرأت بعض الملاحظات المضادة لهذه الممارسة ، فالقصيدة - عند بعض أو أغلبية من يزاول كتابة قصيدة النثر أو قراءتها – لا تزال مقدسة ، لايجب مسّها أبداً ، فيما استخدام النثر - هكذا أرى - بحد ذاته ، كوسيلة شعرية ، يتحمل أن تجري عليه : " تحريراً "، أيّ أن تمسه من الداخل والخارج كنص قابل للتغيير : قابل للاضافة وللحذف وللشرح . وقصيدة النثر تحتمل مثل هذا الاجراءات المارقة ، والمخالفة للسائد والمألوف - ليست هناك قصيدة نثر عصماء ! - بحس تجريبي عال ، عكس البعض ممن يكتبها بذاكرة عمودية أو جاهلية أو تفعيلية - أيّ كقصيدة التفعيلة : أيّ انها عند هؤلاء " معلقة " يجب أن تعلق على جدران الكعبة : كأيّ قالب أو شكل فوق تاريخي ، لايمكن التلاعب فيه ، أو تدنيسه : انني هنا أريد أن أنقل حواراً ، أو رأياً مشتركاً دار بيننا ذات يوم ، مفاده أن قصيدة النثر تبقى مفتوحة شكلاً ومضموناً على احتمالات عديدة ، شكلاً ومضموناً ، مثل شريط سينمائي قديم يعاد بنائه واخراجه وفق رؤيا وتقنية جديدة مبتكرة وحديثة ، وهي بذلك- أيّ قصيدة النثر - تحمل معها بذرة نسفها أو اغنائها ، أو ثباتها ، أو انشطارها ، وهذه الاحتمالات متعلقة بمهارة الشاعر : خبرته ورؤيته المتجددة : قلقه ، تجربته ، ومعرفته بمادته الأولية ، التي يبني بواسطتها عمارته الشعرية : اللغة ، و بالصيغ اللغوية التي يمكن أن يفتح بها العالم عبر وسائل استخدامه لظواهر وصفات تخص اللغة ذاتها ، كظاهرة الترادف ، أو امكانية تقديم الفاعل على الفعل .. أو البناء على المجهول ... الخ .. وكل ذلك له صلة بعمق وصدق تجربة الشاعر ، والا فان هذه العملية ، لو جرّدناها من دافعها الابداعي ، سوف تتحول الى استعراض بهلواني لعضلات الالفاظ ، أو استعراض لحيل وتقنيات فارغة المحتوى ، كتلك التي أنتجت فيما أنتجت ، بعض " شعر " التعمية في ثمانينات القرن العراقي ، أيام الحرب ، بالرغم من أن هذا الأخير كان رداً طبيعيا ازاء موجة من الشعري التعبوي الذي مات أصحابه بموت الحرب ، أو بكلام أدق بموت الدينار العراقي الذي كان يغذي موهبتهم الزائفة ..

نصيف الناصري : كتبت في كتابي { معرفة أساسية : الحرب ، الشعر ، الحب ، الموت } المنشور الان في موقع " عراق الكلمة " : انني قمت بتمزيق 7 مجموعات شعرية كتبتها في سنوات الثمانينات ، واعتبرتها تمرينات لما هو لاحق . وهذه المجموعات التي مزقتها . ذكرها قبل سنوات الناقد ياسين النصير أثناء حديثه عن مجموعتي { أرض خضراء مثل أبواب السنة } التي صدرت على نفقة المرحوم عبد الوهاب البياتي ، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1996، حيث ذكر الاستاذ النصير: انه اطلع مرة على 9 مجموعات لي لم أتمكن من اصدارها في العراق ، بسبب المناخ المتعفن الذي كان يدمر الشعر والثقافة الحقيقية وقتذاك . أردت من خلال تمزيقي لهذه المجموعات ، والبعض منها عزيز جداً عليّ ، أن أبدأ من جديد ، لكن هذه المرة بوعي مسؤول عن طبيعة جوهر ووظيفة الشعر . من المعلوم أن قصيدة النثر لها شروطها المعروفة ، وبما أن أغلب الذين يكتبونها الآن لا يعرفون هذه الشروط . يا للمفارقة ، فقد وقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه رواد الشعر العربي الحديث ونقاده عندما اعتقدوا أن ما يسمى بالشعر الحر ، الذي بدأت به نازك الملائكة والسياب والبياتي وسواهم ، هو شعر حر ، لكن الحقيقة أن ما قدموه لم يكن شعراً حرّاً ، بل كان موزوناً . الآن يحدث نفس الخطأ : يكتب البعض كتابة لا تعريف لها { مجرد هذر وهذيان رخيص } ويطلق عليها قصيدة نثر ، ثم تطور الأمر حتى صرنا نقرأ نماذج بـ بعشرات الصفحات يسميها أصحابها { النص المفتوح } أو كما يسميها ادونيس { كتابة الشعر نثراً } وهذا الخلط في المفاهيم الشعرية والنقدية ، يدل دلالة واضحة على فقر الثقافة العربية وضحالتها منذ عقود طويلة ، بسبب عدم أصالتها وخواءها الذي يتشدق بجلاله الكاذب الكثير من المفكرين الأميين في أوساطنا الثقافية . لا يمكن كتابة قصيدة نثر حقيقية من قبل شاعر يستخدم نفس القواعد والصيغ والمفاهيم اللغوية والشعرية السائدة التي كانت سائدة ، ذلك لأن الجدة والطرافة هنا بحاجة الى عقل مغاير ، والى رؤيا مغايرة ، تنأى عما هو مألوف وسائد في النظر الى الفاعلية الابداعية التي هي مغايرة أيضاً لكل شيء ثابت وجامد . وأود هنا أن أعطي دليلاً لكلامي هذا : قرأت مرة قصائد لمجموعة من الأصدقاء الشعراء في مقهى " حسن عجمي " وبعد الانتهاء من القراءة ، راح الشاعر مالك المطلبي يسخر من قصائدي ويقهقه . طبعاً هو محق في سخريته وقهقهته ، لأنه كان ومازال استاذ اللغة العربية في كلية الفنون الجميلة ، واطروحته للدكتوراه عن الصيغ اللغوية عند نازك والسياب والبياتي ، وبالتالي فلا يمكن أن يتقبل هكذا شعر . عموماً ، دفعت هذه القصائد الى مجلة { الكرمل } ونشرت في العدد 18، وكان هذا أول ظهور أدبي لي . أما بالنسبة الى مسألة " التحرير " في القصيدة ، فأعتقد أن المشروع النهائي لكل قصيدة لا يتم إلاّ بموت الشاعر ، باستثناء بعض النماذج القليلة التي يعتقد انها اكتملت نهائياً ، وما يثير استغرابي دائماً هو تلك الردود التي تأتي بين آونة وأخرى وتطالبك متسائلة : لماذا أجريت تحريراً على قصائد سبق وأن نشرتها في الصيغة التي ظهرت فيها أولاً ؟ وقد كتب شخص قال : انه اكاديمي، قبل اسابيع عن 4 قصائد لي نشرتها بتحرير جديد ، يلومني على حذف وتعديل الكثير من السطور والكلمات ، ولست أدري علام لومه مع انني نشرتها بصورة أراها أفضل من السابق ، فقصيدة النثر قصيدة شخصية بحتة ، ومن هذا الجانب بالذات - اضافة الى ماذكرته أنت - لا يمكن لنا أن نعتبر قصيدة النثر التي نكتبها مقدسة ونهائية ، بل هي تبقى مشروع قابل لاعادة الصياغة والشطب والحذف . أكثر ما يثير فزعي الآن هو اصرار الكثير من الشعراء الرديئين على اصدار المجموعات التي لا يقرأها أحد ، وعلى حسابهم الخاص من دون أن يراجعوا تجاربهم ، أو أن يفكروا قليلاً بجدوى هذا الاصرار ، وهؤلاء الكائنات الهلامية طفح جلدي في أوساطنا الشعرية الحقيقية التي تركلهم في كل حين ، لكن وجودهم ضروري أيضاً ، وآمل أن يبلغ عددهم 3 ملايين شاعر لأننا ، على الاقل، بحاجة الى قرّاء للقصيدة التي نكتبها ، لكن هل يقرأوننا فعلا، أم هم ولدوا هكذا شعراء من دون ارث يسبقهم ؟ لاحظ : عندما انتهت الحرب العراقية- الايرانية وهدأت طبولها نهائياً ، اكتشفنا اننا لم نكن نكتب شعراً حقيقياً ، بل كتابات رديئة تتخذ التعمية هدفاً رئيسياً ، وتخلو من أي طابع ابداعي وانساني . لا مضامين ، لا أشكال ، لا أهداف واضحة في الفاعلية الشعرية ، ويبدو أن هذا عائد الى أننا كنا نعاني حالات عزلة مع مجمل التواصل الشعري والمعرفي مع الخارج . تصور: بدأ معي الكتابة منذ عام 1980: 123 شاعراً ، لم يبق منهم الآن إلاّ 4 أو 5 شعراء يواصلون الكتابة بجدية حقيقية ، وأتساءل الآن : أين ولّت تلك الأسماء ، وما هي مصائرها الآن؟ وأين ذهبت صرخاتها واصداراتها ؟ الى القمامة بالتأكيد ، لأنها كانت كاذبة وجاهلة واتخذت الشعر وسيلة آنية لتحقيق طموحات اجتماعية سخيفة على حساب الهم الشعري الذي لا يقبل الخديعة مهما كانت . انني اتفق مع رأيك : تبقى قصيدة النثر مفتوحة دائماً على شتى الاحتمالات ، وهذه ميزتها العظيمة بالتأكيد ، لكن تبقى المهمة الأساسية لكل عمل ابداعي هي المغامرة الدائمة المستمرة والتي لاتتوقف عند سد معين : أن هذه المغامرة هي الطوفان بكل تأكيد ، حيث لانوح ولاسفينته : الاعصار فقط لاغير، يقول كفافي: " حالما يهدأ الاعصار في نفسك يبدأ الموت " .

عادل كمال : عودة الى السؤال الاول الذي بدأنا فيه الحوار، أرى انك لم تنتبه الى اجراء هام اتخذه النظام الثقافي العراقي بعد انقلاب عام 1968، سيما بعد أن استلم شفيق الكمالي حقيبة وزارة الثقافة العراقية ، وكان ذلك الاجراء يتعلق بقصيدة النثر بالذات ، بحجبها، وبتهميش من يتداولها كتابة أو قراءة ، حتى ليبدو أن مشروعاً ، كمشروع مجلة الكلمة ، أو مشروع مجلة شعر 69 هو جزء من سياسة الاحتواء - احتواء الأصوات النافرة ، وكنس الماضي الدموي من ذاكرة الشعب - التي كانت تمثل تكتيكاً آنياً ، للزحف على الحياة الثقافية والسياسية ، تتوج بخدعة " الجبهة الوطنية " أولاً ، ثم انتهى الى تشغيل وتنشيط اصولية ثقافية تقدس كل ماجاء به الماضي من خدع ومؤامرات سافلة ، سيـّدت ، في الأخير ، أكثر رؤساء الجمهورية في العالم تخلفاً : صدام حسين ، الهاً تقدم له القرابين على هيئة أرواح وقصائد وأناشيد وأغان . ومن عاش تلك الفترة ، سيما مابعد عام 1975 يلاحظ أن المجلات والصحف العراقية لم تنشر قصيدة نثر واحدة ، ونتيجة لذلك فأن عدداً كبيراً ، او هائلاً من شعراء تلك الفترة ، اضطر الى تبني وجهات نظر ماضوية عن التاريخ والتراث والحداثة ، وبل وكافة حقول المعرفة التي كرّست لها مجلات شهيرة كآفاق عربية أو الأقلام او الطليعة الأدبية ، مع سبق اصرار متفق عليه : أن النشر في الصحف والمجلات العراقية آنذاك ، هو حكر خاص بمن يؤمن بأهداف الحزب والثورة : اللازمة المعروفة . مداخلتي هنا متشعبة : بين سلطة " وضعت " عقلها مع قصيدة النثر بحيث صارت سبّة أو تهمة مريبة تلاحق الشاعر وكأنه متآمر ان كتبها ، وبين شعراء مارسوا كامل الانصياع والامتثال لأوامر المنع ، ومن ثم - يا للمفارقة - صاروا ـ بعد عام 1986 – أسياداً ، لهم اليد الطولى في الكتابة والتنظير لقصيدة النثر – لا أعرف لِم لم يطلق عليها قصيدة نثر بعثية على غرار علم الجمال البعثي ! - بعد أن سمحت لهم السلطة الثقافية بذلك ، استجابة لظروف الحرب من جانب ، ومن جانب آخر لاحتواء موجة من العصيان مارسها عدة شعراء جدد ، لم يمتثلوا إلاّ لهواجسهم في كتابة قصيدة خاصة ، خارجة عن " النمط " الذي اقترحه النظام الثقافي طيلة سنوات ادارته لمهرجانات شعرية الغرض منها التعبئة ، ومع ذلك لم ينجح هذا الاحتواء ، أو لم يلبِ مقاصد سلطة كانت تريد توطيف كل شيء لحربها مع ايران - لاحظ انهم أعادوا تأهيل شكلا فجا للشعر الشعبي لنفس الغرض - في هذا الصدد اتذكر اني سمعت عن تجربة لك ، مع الشاعر ناصر مؤنس ، في اصدار مجلة الرصيف ، التي بقدر ما اود أن يعرف عنها القارىء شيئاً ، بقدر ما أريد أن أقول : أن السلطة حينذاك ، بسياستها القمعية والاصولية ، صنعت سدوداً أمام نهر التجارب الشعرية الجديدة ، مخالفاً بذلك رأيك بحفاف النبع ، أو استنفاذ التجارب ، فلا زلت أعتقد وأتوقع أن تظهر مواهب وتجارب جديدة في الشعرية العراقية ، رغم هذا المخاض العسير الذي نمر فيه ..

نصيف الناصري : ليس نظام البعث وحده من ساهم بالتضييق على مشروع قصيدة النثر في العراق ، بل اشترك معه حليفه الأساسي الحزب الشيوعي في { الجبهة الوطنية } المزعومة التي أضفت الطابع الثوري الزائف على نظام البكر- صدام ، الذي أوصل العراق الى ماهو عليه الآن . ومن المعلوم أن كل القوى القومية والشيوعية وسواها ، كانت ضد مجلة { شعر } اللبنانية التي أطلقت مشروع قصيدة النثر في الستينات ، وكانت هذه القوى تعتبر أن تجمع { شعر } والقائمين عليه أصحاب أهداف شعوبية مشبوهة وامبريالية وبورجوازية وغربية وغيرها من المسميات التي كانت شائعة في الأدب الثوري حينها ، واعتبرت أن هذا المشروع يسيء الى تراث الشعرالعربي الذي تمجده هذه القوى خصوصاً القومية منها ، واذا كانت سلطة البعث قد أسهمت بفاعلية في حجب مجلتي { الكلمة } و { شعر 69 } من أجل السيطرة التامة على الأصوات الكبيرة في الشعر العراقي آنذاك وتدجينها ، فأن الحزب الشيوعي قام من جهته بدور كبير في التضييق على الشعراء الحداثيين من خلال مهاجمة مشروعاتهم وتشويه انجازاتهم والاساءة اليهم ، حتى أصبحت مقهى { المعقدين } سبّة ولعنة من جراء اطلاق الحزب الشيوعي هذه التسمية عليها ، لأن هؤلاء الشعراء الأحرار الذين واصلوا المغامرة مع قصيدة النثر ، كانوا يرتادونها وكانت عرضة لمداهمات رجال الأمن البعثي دائماً . ولو نعود قليلاً الى الوراء لفهم الظاهرة الاصولية التي بدأت بعد انشاء { الجبهة الوطنية والقومية التقدمية } ونتصفح تلك الانطولوجيات العقائدية البائسة التي أصدرها الناقد طراد الكبيسي ، والشاعر علي العلاق { مختارات من شعراء الطليعة } التي ضمت أصوات انقرضت الآن من المشهد الشعري تماماً وكانت تتغنى بأمجاد الأمة والنهوض القومي والنضال العربي ، عبر رؤيا شعرية فقيرة اتخذت نموذج القصيدة العمودية مثالاً ، وكذلك الانطولوجيا العقائدية البائسة التي أصدرها الشاعر منذر الجبوري { مختارات من الشعر العراقي } وكانت أغلب قصائدها عمودية وتتغنى أيضاً بقيادة صدام { واستراتيجته العظيمة وحكمته وووالخ } . أقول : لو عدنا الى تلك الفترة لوجدنا أن الطائفية الثقافية السياسية قد أنشأت لها نظامها الخاص في الثقافة وقضايا الابداع من خلال نظرة سياسية متخلفة لمجمل العملية الابداعية ، حيث كانت منابر الثقافة في العراق تسير على هذا النحو : أنشأت سلطة البعث لكتابها وشعرائها مجلات { آفاق عربية وألف باء والطليعة الأدبية } وصحف { الثورة والجمهورية } وأنشأ الحزب الشيوعي لكتابه وشعرائه مجلتي { الثقافة الجديدة والفكر الجديد } وصحيفة { طريق الشعب } وكانت قطعان الشعراء تمارس نفس الوظيفة القديمة التي كان يمارسها شعراء القبائل العربية في عصور ما قبل الاسلام وما بعده ، في التغني والاشادة والدفاع عن طروحات الأحزاب السياسية المهمومة بخرابها وديموغوجيته . كيف تستطيع صحفنا ومجلاتنا الثقافية بعد عام 1975 أن تعنى بقصيدة النثر كمشروع حضاري جديد ورؤيا شعرية ضرورية ، طالما أن الأحزاب تطالب الشعراء بالكتابة عن { العمل الشعبي وتحرير فلسطين وتأميم النفط وأطفال شيلي وقضايا العمال والفلاحين وحرب فيتنام } ؟ بصراحة اذا استثنينا بعض العقول الشعرية الكبيرة المعروفة للجميع والتي أفلتت من هذا البؤس. نجد أن أغلب الشعر الذي كتب آنذاك كان عبارة عن عرائض وتفاهات عكست ثقافة الشعراء والسلطة والأحزاب في تلك الفترة التي نتحدث عنها ، لم يضطر ذلك العدد الكبير والهائل من الشعراء { نستثني هنا أولئك الذين غادروا العراق وحملوا معهم طموحاتهم ومشروعاتهم الى المنفى } الى تبني وجهات النظر السلفية اضطراراً . بل كانوا يمارسون مشروعاتهم بحرية وقناعة تامة ، ذلك لأنهم كانوا متخلفين منذ انطلاقتهم الأولى حد النخاع في الرؤيا الى التاريخ والتراث وقضية الحداثة التي أسيء فهمها بشكل تام حينذا. وبالنسبة الى الايمان بأهداف سلطة حزب البعث والنشر في منابرها . نعم كان النشر فيها حكراً على البعثيين أو المحسوبين عليهم ، لكن في الجانب المقابل كان شعراء الحزب الشيوعي لهم منابرهم الأخرى كما ذكرت من قبل ، وكانوا ينشرون نتاجاتهم في تلك المنابر وتقام لهم ندوات وجلسات شعرية في اتحاد الأدباء بالاشتراك مع الشعراء البعثيين، ويحضرها جمهورهم من خلال البلاغات الحزبية الملزمة . بالنسبة الى الشق الثاني من مداخلتك ، أود أن أذكر هنا بعض الأشياء التي ربما هي خافية على البعض . أنت تقول : أن { سلطة البعث وضعت عقلها مع قصيدة النثر بحيث صارت سبّة أو تهمة مريبة تلاحق الشاعر وكأنه متآمر } هنا يجب أن أزيح جانباً البكر وصدام ووزراء نظامهم البعثي وأتحدث عن فرسان الثقافة البائسة الذين كانوا يديرون مؤسساتها في العراق ، والذين تعتقد أنت انهم { مارسوا الانصياع الكامل والامتثال لأوامر المنع } فيما يخص مشروع قصيدة النثر . هؤلاء لم يمارسوا الانصياع ولم يمتثلوا لأوامر المنع قط ، بل كان الانصياع راسخ الجذور في تفكيرهم منذ البداية بسبب طبيعة الثقافة الفقيرة والضحلة التي شكلت شخصياتهم الأدبية والسياسية ، وكانوا هم الذين فرضوا أوامر المنع في مؤسسات السلطة وأجبروا الآخرين على الانصياع لطروحاتها التافهة والشوفينية ، وهم الذين رسخوا سلطة البعث ، وبالتالي فأن صدام حسين هو نتاج فكر وثقافة هؤلاء تحديداً . كان النقابي البعثي حميد المطبعي رئيس تحرير مجلة { الكلمة } شخصية غير متوازنة ثقافياً ، واذا كان يحسب له أن مجلته قد اهتمت بالنتاجات الحداثية الرائعة لشعراء وكتّاب الستينات ، فلا ندري كيف نفسر عمله لاحقاً في الكتابة عن التصوف والعشائر وأجراء الحوارات مع أشخاص سياسيين لا علاقة لهم بجوهر الثقافة الذي نادت به مجلة { الكلمة } حينذاك ، ومن جهة أخرى في العودة الى مجلة { شعر 69 } فمشروعها يبدو ملفقاً منذ أول خطوة ، ولست أدري كيف تسنى لأولئك الذين وقعوا البيان الشعري الذي كتبه فاضل العزاوي بمفرده وحمل أسماءهم ، التوافق التام على ما ورد من طروحات ورؤى في ذلك البيان الذي حمل كل الأحلام النبيلة في تأسيس شعرية جديدة ، مع اعتراضي على الكثير من فقراته وخصوصاً في ما يتعلق بالجانب السياسي منها ووظيفة الشعر . ولنا أن نتساءل الأن بعد 35 عاماً من صدور العدد الأول من مجلة { شعر 69 } الذي تصدّر البيان الشعري الشهير صفحاتها الأولى : ما الذي أضافته تلك الادعاءات لشعرنا ؟ بشرفي لا شيء ، وتبقى تجاربهم خارج سياق الروح الكبيرة للشعرالعراقي والعربي بسبب تقليديتها ومحافظتها وعدم مواكبتها الحساسية الشعرية التي تتجدد في كل حين . واذا أردنا أن نكتشف الحصيلة الابداعية الحقيقة لشعرنا ، فاننا يجب أن نذهب الى تلك الكوكبة المضيئة والمتألمة في تاريخنا الشعري القريب. أعني جماعة كركوك التي مازلت تواصل مشوار الابداع بحرص وصمت ، غير مكترثة للأضواء والشهرة والاصدارات المنتظمة وحضور المهرجانات التي تقتل الابداع .
كانت قصيدة النثر لا يكتبها في العراق ، من بعد الستينيين، إلاّ الشاعر عقيل علي الذي يعيش في { الناصرية } ولا يستطيع النشر ، والشاعر الحاضر الغائب عبد العظيم فنجان ، وشخص اسمه سلمان السعدي يعمل في القسم الثقافي لاذاعة بغداد ، وعيسى اسماعيل العبادي ، الذي كان يكتب في النقد التشكيلي ، و الشاعران رياض ابراهيم وناصر مؤنس . في عام 1980 افتتح صدام البرلمان العراقي المزعوم قبل بدء الحرب مع ايران ، وكانت السلطة قد أحضرت مجموعة كبيرة من الشعراء لحضور الافتتاح وانشاد القصائد للاشادة بقيادة صدام وديمقراطيته الكاذبة ، وبعد نهاية العرس الديمقراطي دعا صدام جميع الشعراء الى وليمة تقام في القصر الجمهوري . أثناء تناول الشعراء الطعام، كان صدام يمر على الموائد ويجامل الشعراء ويستفسر منهم عن أشياء يريدها ، وحين وصل الى المائدة التي يجلس عليها سلمان ، شكا له من أن قصيدة النثر ممنوعة ولا يستطيع هو أن ينشر أيّة قصيدة ، وطلب منه أن يتدخل حتى تقوم الصحف والمجلات بنشره . هنا انبرى أحد شعراء الستينات ، وقيل في وقتها : انه خالد علي مصطفى وراح يشرح لصدام تفاهتها ، وأن من يشيعها في العالم العربي شعراء ضد العروبة وضد القومية العربية ، وهكذا أسقط في يد سلمان الذي بلع شكواه وصمت . وبعد أن نودي على سامي مهدي من باريس في عام 1980 حين بدأت الحرب العراقية الايرانية ، ليصبح أولاً مدير { دائرة الشؤون الثقافية } في وزارة الثقافة والاعلام. كانت هناك نية عند مجلة { الطليعة الأدبية } في أن تصدر عدداً خاصاً لآول مرة في العراق عن قصيدة النثر ، لكن استلام سامي لمنصبه الجديد ألغى المشروع تماماً ولم يوافق على اصدار ذلك العدد أبداً ، لكنه راح يكتب فيما بعد قصيدة النثر حين ترسخت وتجذرت بقوة في أرض الشعر العراقي ، وفي مجموعته { حنجرة طرية } 6 قصائد نثر واحدة منها مكتوبة عن غورباتشوف . بالنسبة لمجلة الرصيف التي ذكرت انني اصدرتها مع صديقي الشاعر ناصر مؤنس . لم أصدر مجلة بهذا الاسم أو أي اسم آخر مع ناصر ، ولأول مرة أسمع بهذا الكلام ، لكن كان هناك مشروع لي حول اصدار مجموعة مشتركة مع ناصر مؤنس والمرحوم رياض ابراهيم في بيروت ، أردنا أن نكتب لها بياناً مشتركاً صاخباً ننسف فيه ، حسب ادعاءاتنا آنذاك كل مفاهيم الشعر العربي السائدة ، وكانت أعمارنا تتراوح بين 20 و23 عاماً ، بعد الحوارات الصاخبة التي أجراها معنا صديقنا الكاتب حميد المختار في عام 1983، تم نشرها في مجلة { اليمامة } بعددين متتاليين { حوارات ومختارات } لكن المشروع أجهض بسبب دائرة الرقابة ومناخ الحرب الذي هيمن على وسطنا الثقافي والشعري ، وكان ناصر الذي يلح على هذا المشروع وضرورة اخراجه للنور ، قد دفع مجموعته الشعرية الأولى الى دائرة الرقابة ، فأحالتها الى جبرا ابراهيم جبرا الذي رفضها رفضاً تاماً بحجة أن طريقة كتابتها وطباعتها تشوه الخط العربي ، وكان ناصر المعروف بالتجريب قد كتبها بطريقة تشكيلية عرف بها لاحقاً ، ولم يستطع اصدار مجموعته هذه إلاّ بعد ان غادر العراق بسنوات .
كان أول ظهور جدي وخجول لقصيدة النثر في عام 1986، حين صدرت انطولوجيا { الموجة الجديدة } التي أعدها وقدم لها سلام كاظم وزاهر الجيزاني وصدرت عن دائرة الشؤون الثقافية والتي اشترك فيها 51 شاعراً ، ولم تضم من قصائد النثر سوى 6 قصائد لستة شعراء ، وعلى الرغم من مهاجمتها من قبل الكثير من النقاد الذين اعتبروا قصائدها تافهة ، فقد ألقت حجراً وسط البركة الآسنة للشعر الذي كان يمجد حرب صدام حسين وفضحته وعرّته من كل ميوعته ودجله في التغني بالانتصارات التي كانت تميت وتشوه الشعب العراقي المبتلى بالطغيان . الغريب أن دوائر السلطة الاعلامية التي جندت كل شيء في مشروعاتها التهريجية للحرب ، من الشعر العمودي الى الشعر الشعبي ، الى شعر البند والهوسات . ظلت ترفض وتحاصر قصيدة النثر طوال سنوات الثمانينات ، وكانت الأمكنة الأساسية لها هي مقهى { حسن عجمي } و { الأقسام الداخلية للطلبة } و { خنادق الجنود } في جبهات الحرب . في الأخير أود أن أثني على مخالفتك لوجهة نظري حول جفاف النبع ونفاد التجارب الأصيلة الآن في العراق ، لكني أود أن أوضح هنا وجهة نظري تلك بالقول : أنني عندما طرحت رأياً متشائماً حول مستقبل الشعري العراقي في استفتاء ايلاف ، كنت أنطلق من معطيات أساسية بدت واضحة أمامي حول ما يكتب الآن من شعر في العراق ، ولكي لا أكون متطرفاً في حكمي ، أقول : أن نفس العقليات والمفاهيم والمشروعات الشعرية التي رافقت انقلاب سلطة البعث عام 1968، قد عادت الآن بثياب ومسميات ورؤى آيديولوجية جديدة .

عادل كمال : بعض ماذكرته كنت معاصرا له وشاهداً على بعضه أو الكثير منه ، وأجد أن اعادته أمر ضروري ، تأريخياً على الأقل ليطلع الكثير ممن استسهلوا كتابة قصيدة النثر بالذات ، و ليعرف العالم العربي أيضاً ، وسط أيّ حراب ومدافع وطائرات حربية ، كان البعض منا يعيش على قوت هواجسه الجمالية والشعرية ، مصرين على تكوين مشروعهم الخاص ، وان على انفراد ، بتكتم وسرية ، كمنفذي مؤامرات ودسائس ، ستأتي بالعم سام بكل عنجهيته عام 2002، في مفارقة مضحكة ، فلم نكن سوى مجموعة متفرقة من الشعراء المفلسين ، والفارين من الحروب ، متوزعين بين المدن والقصبات والخنادق التحت أرضية والحانات ، لاهم لها سوى الكتابة بعيداً عن ضجيج الايديولوجيا ، وعن أناشيد الحروب : هنا لايجب أن ننسى كتاباً هاماً ، تحدث عن القمع الذي مورس ضد قصيدة النثر بالذات ، وأقصد به كتاب عبد القادر الجنابي " انفرادات الشعر العراقي " رغم انه اعتمد على شهادات ستينية ، وللاسف فهذا الكتاب لم يأخذ ما يستحقه من القراءة والمعاينة ، سيما في داخل العراق ، ولو انه أدى الى رد فعل مضاد ، توّجه سامي مهدي في كتابه " الموجة الصاخبة " الذي كان عبارة عن جهد تلفيقي -هذا ارحم وصف له - كُتب تحت وطأة الاحساس بالفضيحة ، خاصة بعد ان أصبحت قصيدة النثر ، في التسعينات - صاحبة شخصية خاصة في الشعرية العراقية ، لم تتردد أيّ صحيفة حكومية في نشر نماذج جريئة منها ، وطبعاً كان الغرض من ذلك هو اظهار النظام السياسي والثقافي على انه نظام ديمقراطي منفتح ، خاصة بعد المؤتمر الصحفي الذي أقامه الشاعران زاهر الجيزاني وصلاح حسن في دمشق أوائل التسعينات- على ما اعتقد - وفيه فضحا كل الممارسات القمعية التي كان الاصولية البعثية تقوم بها ضد الشعر والشعراء والمثقفين بشكل عام ، وعلى اثره - أيّ المؤتمر - اجريت عملية جراحية ، على الطريقة البعثية ، في " كنس " ديناصورات انتهى دورها ، وتأهيل ديناصورات شابة ، جاءت بعد حلّ منتدى الادباء الشباب ، وتأهيل طاقمه لقيادة اتحاد الأدباء ، بديلاً عن أولئك .
من هنا تأتي شهادتك اعلاه مكملة لما جاء به الجنابي في كتابه ، ومساندة لما طرحه الجيزاني وصلاح حسن ، ومن هنا - بناء على ماجاء في بقية مداخلتك - ربما حان الوقت المناسب لأن نطالب باعادة النظر في المناهج الدراسية ، لمرحلة مابعد صدام ، واقصد بالذات - فيما يخص الحديث عن قصيدة النثر - المناهج الادبية الموزعة بين محتلف المراحل الدراسية ، ابتداء من الابتدائية ، وانتهاء بالدراسة الجامعية . اعتقد أن اجراءا مثل هذا سيوقف تدخل السياسي وتداخله وتطفله على الثقافي ، والشعري منه بالذات ، خاصة وقد اصبحت قصيدة النثر واقعاً شعرياً له جمهوره العريض ، لكن وسط مفارقة حادة ، هي أن ثمة " ادارة ثقافية سياسية " تدير البلد وفقا لذائقة قطيع من محبي المدائح والمراثي . وكما جاء في مداخلتك في استفتاء ايلاف، فإن ثقافة اخرى بدات تنشر اذرعها الاخطبوطية ، عبر " أدب اللطميات " والبكائيات العامية ، واضعة كل ماهو جديد : خلاق ومبدع ، بين مطرقة وسندان الساسة الجدد ، الذين لا يفقه معظمهم شيئاً عن العملية الابداعية ، في ظل محتل هو أصلاً من دون تراث من جانب ، ومن جانب آخر فهو مصر - أيّ المحتل - على مسك عملية التحول الديمقراطي من عنقها ، في مفارقة عجيبة ، اذ حوّل العراق برمته الى مستنقع للعنف اختلط فيه طالب الحق مع طالب الباطل ، من دون أن يشيع ، على الأقل ، شيئاً من ثقافته الانسانية ، فليس ثمة وايتمان في خوذ الجنود ، أو فوهات بنادقهم الموجهة الينا كأهداف محتملة القتل في أيّ لحظة ، وهذا يعكس بنية العقل الذي يدير دفة السفينة : سفينة المتاهة العراقية ، حيث لانوح رغم الطوفان . هنا تبدو قصيدة النثر ، بسعة امكاناتها ، قابلة لأن تكون مجسّاً عالي الحساسية للكشف وخلق السفينة أو تحديد شكلها وابعادها ، في واقع مزر لايمكن التعبير عنه إلاّ بجنون عاصف ، خاصة في هذا الوقت بالذات . وكملاحظة عن السوق الثقافي هذه الأيام في شارع المتنبي ، لم اعثر على كتاب اميركي طليعي ، أيّ على عمل - دعائي ولو - يبشر بما يمكن ان نطلق عليه " قصيدة النثر الاميركية ". وفي توافق غريب من نوعه تماماً، لم تتخل عنه ، حتى المجلات التي تصدر عن دار الشؤون الثقافية ، وعن نمطيتها ونهجها الاجتماعي في النشر ، واستمرت مغلقة كلياً على التجارب والاصوات الشعرية الجديدة . أن اسلوب المحاصصة الحزبية والطائفية ، اذا كان منهج المحتل في تفتيت الصوت العراقي الواحد ، وتحويله الى نبرات ناشزة ، فان نفس المنهج صار هو الفاعل عراقياً في توزيع المناصب والمسؤوليات الثقافية في دائرة شؤون الثقافة ، عدا استثناءات بسيطة جداً . لقد كانت لي تجربة بسيطة ، لكنها هامة ، مع احدى المجلات الأدبية العريقة في العراق ، فقبل حوالي ستة اشهر " تطوعت " بالمساهمة في نشر عدة نصوص لشاعرة ممتازة ، تقيم في الخارج ، وفعلاً أخذت قصائدها مسروراً بها - أنا المعروف بصعوبة ذائقتي الشعرية - لكني فوجئت أن من بين الطاقم الذي يجب أن أمرّ به ، من أجل نشر قصائد هذه المتطلعة للنور ، أقول : فوجئت بأن نشر هذه النصوص في تلك المجلة ، يتعلق بشخص كان " متعاوناً " مع السلطة الفاشية بل وقد كان مرشح حزب البعث ذات يوم ، في أحد الانتخابات الصورية التي كانت تجري كل عام في اتحاد الادباء. فأرجأت محاولتي على بساطتها الى مابعد تشكيل حكومة جديدة تعيد النظر في المناصب الادارية التي فرضها اسلوب المحاصصة ، ولن أسهب أكثر في التفاصيل ، فاسلوب المحاصصة سيكون علامة عارنا الثقافي الجديد تحت ظل أيّ حكومة قادمة ، وهو الذي جاء بهذا " المتعاون " السابق مع السلطة الى هذه المجلة ، لأنه قريب عائلياً من أحد ساسة أو معارضة أيام زمان ، وكأني أنا لم اكن معارضاً أيضاً ، لكن ثمة فرق طبعاً بين من يركب الدبابة الاميركية ، وبين من يعود في سيارة اجرة ، لا يملك حتى ثمن علبة تبغ : برأيك يا نصيف - وأنا اعتذر لتلك الشاعرة العزيزة ، رغماً عن كل شيء ، عن كل وعودي لها سابقاً ولاحقاً ، فقد تبين أن المستقبل ليس لنا كما أقنعتها ذات يوم ، بل هو لخدمة السلاطين أبداً – برأيك ، أيها الشاعر ، هل من الممكن أن نكتب شعراً على دبابة اميركية ونحن لم نكتبها على دبابة عراقية يوماً ؟ وهل نحن بحاجة فعلاً الى اعادة نظر في تربيتنا الوطنية التي منها اعادة النظر في معاينة الحاضر ، والتي منها أيضاً تغيير المناهج الدراسية برمتها ؟ على الأقل من أجل أن لا نخجل من قولنا : اننا شعراء ، نكتب شعراً لا ينشر إلاّ برعاية المحتل أو بموافقة مقاول لا يفقه شيئاً ؟ ربما ، مثل هذا السؤال لا يخطر في بال أصدقائنا خارج البلد ، لكن أليس ضرورياً أن نتوسع في السؤال : هل الاحتلال ظرف مكاني أم زماني ؟ أم كليهما ؟ بكلام آخر هل للاحتلال بعداً ابداعياً ، ينسف المكان والزمان ، فيينتجنا هكذا : نكتب شعراً بلا هوادة ، وبدون توقف .. ولا نعرف الى أين نحن سائرون ؟ هل تريد سؤالاً أكثر جرأة يأخذني الى سجن أبو غريب، أم أن القصد واضح ؟ أن مطالبتي بتغيير المناهج الدراسية أو اعادة النظر بها ، ويشمل ذلك تربيتنا الوطنية ، لها أسبابها ، ولأضرب مثلاً : مرة كنت حاضراً في جلسة توزعت فيها المناصب الادارية لجريدة صدرت بعد الاحتلال - أنا مصرّ على كلمة احتلال ، ولذلك أنا مفلس دائماً !- لم اكن متطفلاً ، فقد كنت من ضمن المدعوين ، لكني فوجئت - مع صاحبي حسين الصعلوك - أن أحداً ما من الحضور لم يلتفت الينا ، وكأننا كنّا قد حشرنا أنفسنا في موضوع لا يخصنا : على أيّ حال لقد تقاسم الحاضرون ساعتذاك الجريدة الوليدة تلك كالغنيمة ، الأمر الذي جذب انتباه ممولها ، فسأل مستنكراً على الحضور عن سبب عدم التطرق الينا - أنا وحسين - أو ماهي الغاية من وجودنا بينهم ؟ فكان الجواب مثيراً للشفقة : أما هذا - يقصدوني - فهو من أفضل الشعراء العراقيين ، وأما حسين على يونس ، فهو شاعر ممتاز أيضاَ .
المثال أعلاه أسوقه لأقول : أن عقلية الغازي ، أو روح الغزو ، لازالت متغلغلة في أعمق أعماقنا ، وقد جاء اسلوب المحاصصة الاميركي ليغذيها بمبررات ودوافع ، كي تصبح طريقة في الحياة والتفكير عند عدد كبير من المثقفين - هنا أخصص هذه الفقرة لتساؤل رفعته الى شوارعي الخلفية ، مثقفة عربية تقيم في الجزائر- هذه الروح هي التي يجب أن ننتزعها أولاً، لارساء دعائم انسان راق ، يعي لحظته ، فيتخلص من " بنية الادعاء " التي تتحكم في سِيرنا القلمية والكتابية والانتاجية ، وهو أمر عانينا منه طويلاً ، ودفعنا ثمنه فادحاً ، في مراحل حياتنا الثقافية والسياسية والاجتماعية المختلفة ، لعل في انتزاع هذه الروح ثمة روح افضل تحل محلها ، تساهم فيه ، بالتأكيد ، المناهج الجديدة: من أجل انتاج الشعر الأصيل ، والثقافة الانسانية التي تحترم القارىء وتعيد الاعتبار لمحنة الابتكار الذي صدأت روحه نتيجة تنميط اصوليات ثقافية ، فكرية ، وسياسية ، تغلفه حتى أعمق الأعماق..

نصيف الناصري : لا أود هنا أن أتحدث عن أشياء ومواقف ووقائع يعرفها الجميع ، لكني سأركز جهدي في الحديث عن الفاعلية الشعرية في العراق خلال العقود الأخيرة . نعم ، كان كتاب { انفرادات } عندما وصلت منه نسخة أو أكثر الى العراق ، فضيحة حقيقية لمجمل التراث الشعري الذي تم فرضه خلال سنوات السبعينات والثمانينات في العراق من قبل شعراء السلطة الذين يحسبون على جيل الستينات ، وبما أن الكتاب تم منعه من قبل المؤسسة الرسمية ، فقد تم استناسخه من قبل أولئك الذين كانوا يتابعون نتاجات الشعراء الذين ضمهم الكتاب ، ومازلت أذكر النقاشات العصبية والمتشنجة في مقهى { حسن عجمي } واتحاد الأدباء والآراء الانفعالية والمتحاملة التي أبداها الناقد طراد الكبيسي وسامي مهدي وخالد علي مصطفى وسواهم ، بخصوص كتاب { انفرادات } ومحتوياته ، والشيء الطريف في تلك الآراء ، انها كانت تصور لنا أن الشعراء الذين ضمهم هذا الكتاب هم شيوعيون كلهم ومن دون استثناء. ولست أدري لماذا أطلقوا عليهم هذه الصفة ؟ حقاً كان { انفرادات } حين وصل الى العراق في تلك السنوات الملتهبة أشبه بضربة قوية على رأس المؤسسة المتعفنة والمهمومة بتآكلها . وهنا أختلف معك بخصوص : { تدخل السياسي وتداخله وتطفلهعلى الثقافي ، والشعري بالذات } ، ذلك لأنه في كل تاريخنا العراقي كان المثقف والشاعر تحديداً ، هو من يقوم بتمهيد التدخل والتطفل للسياسي على الثقافي والشعري ، بسبب شيزوفرينيا مزمنة في النظام الثقافي والمعرفي في العراق ، من جهة أخرى يجب أن نفرق بين الاحتلال الأمريكي العسكري وبين الثقافة الأمريكية ، التي هي جزء من ثقافة العالم ، ولا يمكن لنا أن نقول أن أمريكا ليس لديها تراث ثقافي ، مثلما كانت تشيعه الأدبيات الثورية المشوهة ، أو أن أمريكا هي والت ويتمان فقط . أمريكا حاضنة معرفية وثقافية عملاقة ، وأشعر بالخجل الآن عندما أردد بديهة معروفة تتعلق بقصيدة النثر الامريكية . ليس هناك مفهوم معين يسمى قصيدة نثر أمريكية ، والشعر الأمريكي هو من أهم التيارات الكبيرة في الشعر العالمي . أخيراً أود القول أن قضايا الابداع في شتى المجالات ، تسير بمعزل عن أمية وغباء السياسي . لقد رحل نظام حزب البعث وانطفأت برحيله كل المفاهيم الثقافية الفاشية التي أوجدها ورسختها مؤسساته المشوهة ، لكن الأبداع الحقيقي والثقافة الأصيلة ظلت تمارس سيرها الانساني النبيل ، على الرغم من الحصار والمنع والمصادرة والتعتيم ، ولا يمكن اطلاقاً أن نفرض مناهج دراسية للشعر في المدارس ونجبر الناس على دراسة أشياء لا علاقة لهم فيها ، لأنّ جمهور الشعر في كل العصور ، هو جمهور محدود العدد ، وارستقراطي التفكير ، وهذا هو السر في حيوية ونبل الشعر الذي لا يمكن له أن يلبي متطلبات القطيع الذي تقوده الايديولوجيات .

عادل كمال : لابد من الاعتراف انني اختلف معك في جملة أمور: قصيدة النثر الاميركية ، مثلاً ، وكذلك قضية التفريق بين الثقافة الاميركية والاحتلال ، فالاحتلال ثقافة أو هو الشكل العملي للثقافة بعيداً عن كل تنظير ، ولا يعني ذلك أن الثقافة الاميركية بشكل عام هي ثقافة احتلال ، بقدر ما عنيت بمداخلتي أن الاحتلال الاميركي لم يأت ليطور أو أن ينقل ثقافة لشعب عريق الاصول بالحضارة ، بقدر مافعل - المحتل - فعلا لا يليق بالثقافة الاميركية أصلاً ، حين حوّل العراق الى مستنقع لاصطياد نشطاء القاعدة ، وعلى رأي بريمر أن محاربة الارهاب في العراق أفضل من محاربته في اميركا ، وهو ما يجري الآن ، وما اسلوب المحاصصة في تقاسم ادارة الحكومة العراقية بين الأحزاب ، إلاّ احدى الوسائل التي من خلالها يظل اللاعب الاميركي هو الماسك بخيوط اللعبة أساساً ، وواحد من أهم خيوط اللعبة هي الثقافة التي تدخلت في بنينتها طريقة المحاصصة الطائفية والحزبية ، ولذلك ليس غريباً أن يحتل فلان الفلاني موقعاً ثقافياً هامّاً مادام مؤدياً ناجحاً لدوره على مسرح متحرك في مسرحية مفتوحة : نص مفتوح ، مطلوب منك تمثيله من دون مراجعته حتى ، فهناك ملقن من فوق سيديرك حتى لو توقف لسانك عن النطق . لكنني لا أريد أن أتوقف عند هذه الاختلافات ، ربما خصصت لها وقتاً آخر ، وانما أريد أن يعرف القارىء الآن من هو الشاعر الذي أحاوره : نصيف الناصري أنت خريج مركز محو أمية ، بمعنى انك في عمر لاحق ، من دون أقرانك ، تعلمت القراءة والكتابة ومن ثم فجأة انهمكت في كتابة الشعر . لو افترضت - جدلاً - انك لم تتعلم القراءة والكتابة ، فهل ستكون نصيف الناصري الشاعر ، أم نصيف آخر ، لا أعرفه ، ولا أحاوره ، والأهم من ذلك : ليس هذا نصيف الذي أتحايل عليه كي يزرع اسمي في ذاكرة حبيبته الجميلة انخيدوانا ؟ من جانب آخر من أين جاءت اليك صعقة الشعر ؟

نصيف الناصري : لا أود أن أبدي هنا آراء في السياسة ، لأنني لست سياسياً بصراحة وسوف لن أكون في يوم ما منهمكاً بأي عمل يمت للسياسة بصلة . أعتقد أن مشروعي الشعري الذي أخلصت ومازلت أخلص له ، أهم عندي من كل ذرائع ومشروعات وشعارات الذين يشتغلون في السياسة . عندما كنت في عمّان خلال سنوات التسعينات ، عملت مع فصيل عراقي معارض لنظام صدام حسين وكان الشاعر الراحل جان دمو كلما يصادفني في الطريق أو يراني مع الأصدقاء في مقهى أو في أيّ مكان آخر ، يبصق في وجهي ويشتمني ويقول لي: { لماذا تخون مشروعك الشعري يا حمار؟ } وظل على هذا الحال حتى تم طردي من ذلك الفصيل بسبب صعلكتي وعدم التقيد بما تتطلبه السياسة من تملق واظهار الجدية الزائفة والتعالي على الآخرين . أردت منذ البداية أن أكون شاعراً فقط ، وحين تم افتتاح مركز لمحو الأمية وتعليم الكبار بمدرسة { الجبل الأخضر } قرب بيت أهلي في مدينة { الثورة } عام 1975 ذهبت الى هناك وسجلت اسمي في الدراسة الليلية ، وكان عمري 15 عاماً . أمضيت هناك 6 شهور ، ومنحوني شهادة { يقرأ ويكتب } وصدقت تلك الاكذوبة التي جعلتني انهمك في قراءة كتب الشعوذة وكتب الثقافة الشعبية والصحف . في بداية عام 1980 ذهبت الى سوق السراي ، حيث عالم الكتب السحري والعجيب ، وبعد أن تبضعت عرجت على مقهى { البرلمان } التي كنت أتهيب دخولها ، وهناك رأيت لآول مرة في حياتي الكثير من الشخصيات التي كنت أقرأ لها ، فأدمنت الذهاب اليومي الى تلك المقهى ، وتعرفت على الكثيرين من الشعراء والفنانين والكتاب ، لكن المشكلة التي واجهتني مع هؤلاء في البداية ، هي انني عندما كنت أقرأ لهم قصائدي أو أعطيها لمن يريد قراءتها ، يشفق عليّ، ذلك لأنني كنت أغلط في النحو بشكل فظيع ولا أعرف أي وزن شعري ، والمصيبة الأخرى انني كنت أكتب اسمي بصورة مغلوطة أيضاً . كنت أكتبه هكذا { نحيف الناحري } لكنني تخلصت من هذه المشكلة فيما بعد ، وكان الشعر الذي أكتبه لا يعتبر شعراً لأنني عندما دخلت المقهى ، كنت أعتقد أن السياب والبياتي شاعران عباسيان ، وأن المتنبي شاعر سوري حي ويقيم في دمشق ، ولقد أنقذني من هذه الورطة صديقي الكاتب جنان جاسم حلاوي ، الذي صحح لي معلوماتي بعد أن أعرته 12 كتاباً في التصوف { طبعاً لم يعاد لي أي من هذه الكتب حتى الآن } .
لو لم أكن شاعراً - لا سمح الله - لكنت مثل بقية البشر الأسوياء : عندي زوجة وأطفال وبيت ووظيفة ووالخ . أما صعقة الشعر فقد جاءت من خلال اكتشاف الموت . في سنوات مراهقتي هيمن عليّ الدين هيمنة كاملة ، مع أن عائلتي غير متدينة . كنت أبحث عن الخلاص من الموت في الدين وكثرة الصلوات واداء الطقوس الدينية وزيارة المساجد والكنائس وأضرحة الأولياء وقراءة الكتب المقدسة ، وبمرور الزمن ، ومن خلال القراءة ، اكتشفت الشعر أو هذا ما أعتقدته ، واكتشفت فيه خلاصي ، فقررت أن أترك الدين وأكون شاعراً ، حتى لا يكون موتي مثل موت مليارات الذباب والديدان التي عاشت حياتها على هذه الأرض بلا طائل . منحني الشعر القدرة على فهم الموت ومعايشته ومصالحته ، وبالتالي لم يعد موتي يشكل لي حالة صراع دائم مع العدم واللاجدوى في ظلمات الوجود ، وأحتاج الآن الى 25 سنة قادمة لكي أصبح شاعراً بالمعنى الحقيقي للشعر ، حتى أظل عائشاً في الزمن . لا أؤمن بالخلود بمعناه اللاهوتي ، ولا أريد الشهرة ، ومسألة موت البشر وجميع الأشياء على هذه الأرض الفقيرة ، تكبل ضميري وتثقل كاهلي، وكون الانسان يعيش 15 سنة أو 200 سنة أو 1000 سنة لا يهم عندي ، طالما أنه يستحيل علينا التواجد في الأرض . لا فرق بين موتنا وموت الحيوان .

عادل كمال : اننا ياصديقي جميعاً ، مع الشعر أو بدونه نواجه كوناً ووجوداًيفرضان وجودهما علينا بالقوة ، ولذلك المسالة - من وجهة نطري – هي : أن نكون أو لانكون ، كما في هاملت ، وأنت وجدت في الشعر ، أو اكتشفت فيه طريقاً لأن تكون أنت ذاتك ، أن يكون لك انسانك الداخلي الخاص ، الذي نجد بعض تجلياته في شعرك ، والسؤال المطروح هنا يتعلق بهذا الخيار ، رغم أهميته ، لماذا الشعر وليس شيئاً آخر ؟ هذا من جانب ومن جانب آخر - كما كان تصوري عن الشاعر حسين علي يونس - أنك لم تكن تحمل معك أو فيك بذرة أن تعمل في حقل السياسة ، ليس لأنها لا تصلح كطريقة في فهم الموت ومعايشته ومصالحته - حسب تعبيرك أعلاه – فقط ، وانما سمّوك كنصيف الناصري لايبدو واضحاً إلاّ على تلك الشاكلة التي عرفناك بها : قارىء جيد للشعر ، وغارق حتى اذنيك في الافلاس ، وغزير الكتابة ، غير مكترث بمن جاء أو ذهب ، قدر اكتراثك بالتعرف على شاعر أو كاتب ، حتى انك غزوت الوسط الثقافي العراقي بزمن قياسي ، كل ذلك مع نكهة من البساطة الريفية ، والنكتة والقفشة الخاصة بك ، رغم علمي انك أكثر الشعراء الذين أعرفهم حزناً من الداخل ، ربما كان حبك الشهير واخفاقاتك المتكررة فيه أحد اسبابه ، كما هو أحد اسباب خصبك بنفس الوقت . لذلك ربما كان توبيخ دمو الدائم لك ، سيما وأنت من خلصائه ومريديه ، وقد كان يرى فيك - كما جاء في آخر حوار معه في العراق - أقول: كان يرى فيك ، وفي عدد محدود جداً من الشعراء المخلصين ، مؤهلاً لوراثته . وهنا ينبغي أن نطرح سؤالاً هامّاً ، أو أسئلة هامّة كثيرة هامة أخرى : ماذا كان جان دمو بالنسبة لك ؟ وما هو الارث الذي تركه ورائه بعد رحيله ؟ وهل يمكن محو شاعر مثل جان دمو من ذاكرة الشعر العراقي الحديث ، سيما وقد انحسرت - بعد رحيله - الأصوات النافرة عن جوقة القطيع ، وظهرت أصوات جديدة تكتب الشعر بربطة عنق وحذاء لامع ، في أجواء مكيفة بما لذ وطاب ؟
انني لقربي منك روحياً أفهم لم كتبتَ في جان دمو أكثر من اربعين قصيدة ، هل هو توله ؟ وما قيمة كل هذا ، اذا لاحظنا انك تعيش في السويد ، بعيداً عن تلك المناخات التي ساهمت في خلق ظاهرة " الصعاليك " في بغداد ؟ وهل أنت على استعداد للتبرؤ من هذه التهمة " الشائنة " : نصيف الصعلوك ، أم أنك تبرأت منها ، سيما وأنت تخاطبني عبر الماسنجر : أتمنى لو تكون معي الآن ، نحتسي هذه البيرة المثلجة من على شرفتي ؟ أنت تطلب مني ذلك ، وأنا اتدبر أمر الألف دينار ، الذي يجب أن أدفعه ثمناً لاستخدامي الحاسوب ودخولي الى شبكة النت بصعوبة .. أيّة مفارقة نصيف ؟ لكن لأني شاعر مثلك ادعك تشرب بيرة متلجة هناك ، فيما أسكر بدلاً عنّك بتأثير ما تشربه مثلجاً.. خاصة عندما ينقطع التيار الكهربائي فجأة ، وأنا في ذروة الانتشاء ، فألعنك متذكراً أيام زمان.. هل تذكر ؟


نصيف الناصري : من الصعب محو جان دمو من الضمير الشعري العراقي ، وكونه ظاهرة فريدة من دون انجاز فهذا لايعني انه سيموت ، ذلك لأن هذه الظاهرة لن تتكرر في يوم ما . جان كان أحد الأدلاء الكبار في شعرنا العراقي ، وقد أرشدني في بداياتي الى المنابع الأصلية للشعر . حين تعرفت اليه عام 1980 في مقهى { البرلمان } كان أبي وأمي قد أكملا استعداداتهما لتزويجي من ابنة عمتي وكنت أرتدي دائماً الملابس الأنيقة واستلم راتبي من وزارة النفط . سحرتني شخصيته الصعبة المتحررة والنبيلة منذ البداية . دعوته الى حانة ، وحين بدأ يسكر تجرأت وقلت له : هل أستطيع أن أقرأ لك قصيدة كتبتها قبل أيام . قال : حسناً اقرأ . قرأت قصيدتي وقبل أن اكمل ، صرخ في وجهي : اسكت يا حمار ، يا قاذور ، هذا ضراط وليس شعراً . في نهاية الجلسة وكان يترنح وعدني انه سيعيرني في المرة القادمة قصائد لعبد القادر الجنابي وسركون بولص ومجموعات لسعدي يوسف وانسي الحاج وتوفيق صايغ وشعراء آخرين { طبعاً لم يقدم لي أية مجموعة لكنه دلّني على هؤلاء الشعراء } . في اليوم التالي استلمت خرقة التصوف من جان وخلعت ملابسي الرسمية وخسر أهلي مشروع زواجي واعادتي اليهم الى الآن . طوال 18 عاماً مع جان استطعت أن اكتشف الجوهر الحقيقي للشعر ، وعرفت انه لا يكمن في تلك الأصوات المشهورة والمهووسة بالمشاريع القومية والخزعبلات السياسية ، وحتى الآن مازلت أعرف أن الشعر الأصيل والذي يبقى ولا يزول ، هو ذلك الشعر الذي يكتبه أولئك الذين ابتعدوا منذ البداية عن طلبات القطيع ومشاريع السياسين ، وأود هنا أن اذكر حادثة تتعلق بما أقول : أقيمت أمسية للشاعر سميح القاسم عام 1996 في غاليري الفينيق بعمّان وحضرها جمهور كبير غصت به القاعة حد التخمة . أخبرنا سميح انه سيقرأ لنا قصائد من مجموعته { الكتب السبعة } الصادرة حديثاً {عن دار الجديد } ، وقال : انها مجموعة جديدة في رؤاها وموضوعاتها وأساليبها ، وراح يقرأ. ظل الجمهور واجماً طوال نصف ساعة ، وبدأ البعض يتململ والبعض الآخر خرج من القاعة ، وحين تنبه سميح الى حالة الجمهور قطع القراءة ، وقال : سأقرأ لكم الآن قصيدة عن فلسطين . أظن أن عنوانها { جئتم أولاً } وحين بدأ يقرأ هذه القصيدة التهبت القاعة بالتصفيق الحاد ، وعاد أولئك الذين خرجوا. بصراحة لقد أشفقت على سميح في تلك الأمسية حين تخلى عن قراءة قصائد من مجموعته الجديدة وراح يلبي ما يريده هذا الحشد الذي يجهل الشعر .
الشعر ، ياصديقي ، من أصعب وأقدس الفنون التي تستطيع كشف وتعرية الوجود والموت والميلاد ، ولذلك نلاحظ أن المنجز الأصيل في جميع العصور قليل جداً . لا يمكن للشعر أن يكون وثيقة أو تسجيل وقائع آنية ، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نعول على جلاله ومجده . أردت عام 1987 أن أحيي جان دمو وصداقته من خلال الشعر ، فكتبت عنه 37 قصيدة ضمتها مجموعة { ولاء الى جان دمو } وذكرت في كتابي { معرفة أساسية } أن أختي الكبرى كانت تسخر مني عندما أهرب من الخدمة العسكرية وأعيش متخفياً خوفاً من عقوبة الاعدام ، وتقول لي : { لماذا لا تكتب مجموعة ولاء الى الريس حتى يتم نقلك الى بغداد في دائرة التوجيه السياسي؟ } .
كانت الصعلكة مع جان بالنسبة لي اختياراً واعياً وحراً ، لأنها تمنحك فرصة أن تعيش للشعر وحده وتكرس كل حياتك له بعيداً عن الالتزامات السياسية والاجتماعية وسواها ، وحتى هنا في السويد حيث أعيش منذ 8 سنوات ، لم يتغير شيء في حياتي أو نظرتي للشعر والحياة . تصور انني مطرود هنا من كل الجمعيات المسماة زوراً { الجمعيات الثقافية } ذلك لأنني لا أستطيع أن ألبي ما تطلبه هذه الدكاكين السياسية مني ، ويسمونني الصعلوك وفاتهم أن هذه الكلمة شريفة جداً في اللغة العربية . مع ذلك ، اعترف : لقد حاولت أن أتبرأ من تهمة الصعلكة عدة مرات لكنني أخفقت . ماذا أفعل ؟ لقد تشكلت حياتي على هذا المنوال منذ جان دمو ، وبالنسبة للافلاس فلا شيء تغير هنا . ينبع حزني الدائم، وهو حزن سري من اللاجدوى وخواء الحياة الانسانية في هذا العالم الذي يستلبنا في كل لحظة . يظن الانسان انه خالد ، لكن الحقيقة أن هناك أشياء في الوجود أعمق من الخلود . تسألني لماذا الشعر وقد أجبتك عن سؤالك من قبل . لكن بحثي عن الشعر الذي كلفني حياتي كلها ، كان شبيهاً بالبحث عن الذهب وسط أكوام عظيمة من التراب والرمال والقمامة . لم أعثر على القصائد الأصيلة والبهية ، على الرغم من ملايين الشعراء العرب إلاّ عند أولئك الشعراء العظام القلائل الذين أداروا ظهورهم منذ أول حرف كتبوه ، للمؤسسات بكافة أشكالها . هذه المؤسسات المنحطة التي لم تقدم أي منجز حقيقي طوال ربع قرن في العالم العربي ، وأسألك هنا : ماهي الرواية العظيمة أو المجموعة الشعرية أو المجموعة القصصية أو أي كتاب آخر له علاقة بالفكر ، استطاع أن يشدك ويجبرك على قراءته طوال هذه المدة ؟ هل تعلم أن الشعراء في العراق الآن بعد زوال نظام البعث ، قد بدأوا يكتشفون تجارب هؤلاء الذين أعنيهم . كانت أعمال هؤلاء الشعراء تكاد أن تكون شبه مجهولة بسبب منعها والتعتيم عليها في سنوات الطغيان . ويطيب لي أن أذكر لك هنا هذه الحادثة التي تتعلق بالشعر الأصيل . أردت مرة بعد التعرف على جان دمو ، أن أشتري ديوان محمود درويش ، وفي الطريق الى المكتبة صادفني جان في شارع الرشيد ، فأخبرته بالأمر . اقترح علي أن نذهب الى غرفته المقابلة لمقهى { حسن عجمي } ليبيعني كتاباً عن السوريالية وفيه ملحق عن عبد القادر الجنابي يتضمن سيرة ومختارات ، ونشرب الخمر بالثمن . أضاف لي هذا الكتاب الكثير ودلّني على الينابيع الشعرية التي لم تلوثها العنتريات العربية الثقافية ، حتى انني عندما طلب مني أن أشترك في ملف { فضاء الحداثة } الذي أعده صديقنا الشاعر سلام كاظم بعد سنوات ، ونشر في مجلة { الطليعة الأدبية } وخصص ل5 شعراء . سطوت على كتابة عبد القادر فيما يخص سيرته ونسبت اسلوب كتابتها وطريقتها الى نفسي . هذا الكتاب الذي عرفته من خلال جان دمو ، هو الذي جعلني أكتب تلك القصائد التي ظنها ذلك الجهبذ انني قد سرقتها من الشعر الفرنسي. لقد منحني جان فرصة مناسبة لكي اقترب قليلاً من السوريالية وابتعد عن الشعر الجماهيري الآني .

عادل كمال : لقد اختصرت الاسطورة في حالة جلجامش ، الخلاص من الموت بعشبة اوتونابشتم ، وها أنت بطريقة ما ، تختصر نفس الخلاص بالقصيدة ، وأنا أتفق معك تماماً في ذلك ، لكني من قلة تؤمن بالقصيدة الكبيرة ، أكثر من ايمانها بالشاعر الكبير : اذ نحن في حيز من عالم خاص – الشعر ، البقاء فيه ، العيش تحت سمائه ، هو رهن القصيدة الكبيرة الهائلة التي تبعث فينا الشعر طازجاً وحيّاً ، ومحفزاً على مواجهة محنة وجودنا في هذا الكون ، وتلك القصيدة ينتجها الشاعر الحقيقي : المبتكر الخالق المجنون ، كبيراً كان أو صغيراً ، معروفاً أو مجهولاً : تلك هي حكمتي وخلاصة أسبابي بعدم الانبهار بأيّ اسم أعرفه أو لا أعرفه ، مالم أتعرف أولاً على ما يقوله في قصيدته الجديدة . مرة قال لي جان دمو في معرض كلامه عن الشاعر سركون بولص الذي اعتبره واحداً من أسلافي ، وكان في قمة صحوه : أحياناً تشرق بين يدي هذا الملعون القصيدة - يقصد سركون - وأحياناً تولد مطفأة ، أمّا الجنابي فمجنون في الشعر ، وجنونه حار مثل حياته الصاخبة ، انه مخلص ، وليس هنا بيت القصيد ، فاخلاصه مكرس لهذا الاشراق الذي تتمتع به حتى مادته النثرية ، ولادخل للسليقة في ذلك : انها دربة ومران طويل على كسر المألوف ، يتوفر عند سركون أيضاً ، سوى انه يبدو مستعجلاً أحياناً ، فلا تشرق بعض نصوصه بكامل شمسها . هذا الاستطراد ضروري تمهيداً لأن استنطقك ، أو لأعرف منك مرجعياتك الشعرية ، اذا صدقنا بمقولة بورخس- وهو من أسلافي المهمين -: كل كاتب من الكتاب يبعث اسلافه من الكتّاب السابقين: دعني أسألك يا نصيف يانصري : من هم أسلافك ؟ وبالتالي مَن تجد فيه، من الشعراء ، يعمل على بعث أسلافه الخاصين في هذه المرحلة ، خاصة وأن بعض الأصوات الشعرية - اناثا أو ذكوراً- تكونت شخصياتها الابداعية بعيداً عن أرض الوطن ، في بلاد الله الواسعة ، ولست أريد ان أحدد لك اسماً معيناً ، أو أسماء ، على سبيل المثال ، لاعتبارات اجتماعية ، كي أقطع على البعض الطريق القول بأن غايتي في هذه المداخلة ، هي أن أروّج لشاعر أو شاعرة ما ، أجد فيهم تلك الروح المفقودة التي أبحث عنها شعرياً ، بقدر ما أريد ، من قارىء هذا الحوار ، أن يتذكر دائماً بأنني مصر على أن القصيدة الكبيرة اهم من الشاعر الكبير ، فليس ثمة كبير أو صغير في الشعر كما أعتقد ، بل أنا متطرف في هذه المسألة جداً : وعلى رأي الشاعر رينيه شار - وهو من أسلافي أيضاً -: " ليس هناك شاعر هناك الشعر ، وليس هناك مناضل هناك قضية الانسان "

نصيف الناصري : الآن بعد هذه التجربة الطويلة مع الشعر ، لم يعد لي سلف صالح كما هو الحال من قبل . لقد تخليت عن أسلافي الأوائل كلهم ، واستبدلتهم بأسلاف جدد . وتكمن مشكلتي مع هؤلاء الأسلاف الأوائل ، في انني الآن لا أستطيع أن أقرأ لهم إلاّ مجموعة أو مجموعتين من كل أعمالهم الكثيرة . أقرأ الآن ، في لحظات الحصار النفسي ، سعدي يوسف وأدونيس وأنسي الحاج وتراث جماعة كركوك . القصيدة الكبيرة الآن ياصديقي لا تأتي من الشعراء الكبار ، بسبب جفاف ينابيعهم وكتابتهم الشعر بحكم العادة التي تعودوا عليها . انما الآن في الوقت الحاضر ، فهي تأتي من أولئك الذين يجب علينا أن نبحث عنهم دائماً وسط أكوام القمامة المسماة شعراً في راهننا الشعري .







أجرى الحوار :

عبد الكريم العامري



نصيف الناصري ، أو كما يحلو له ان يُطلق عليه الشاعر الغجري ، شاعر اختط طريقه في زمن كان الطريق مليئاً بالألغام ، بسحنته الجنوبية تشعر أنك أمام كاهن سومري ، يحمل في رأسه مفاتيح الكون .. سفره طويل ، وحياته مليئة بالتساؤلات ، هو يبحث عن اجابة لسؤاله الأزلي: { كيف يتسنى لنا أن نتسلل بهدوء من الأفق المعتم للعالم ، صوب أفق آخر أكثر رحمة ورحابة ؟ } لكنه يجد اجابة واضحة في مخاضات زمن أبعده عن وطنه الأم ، وعاش يتأمل أيامه التي أحرقتها الحروب ونسى بعضاً منها في غرف التوقيف لانضباط الحارثية يوم كان الهروب من خدمة محارق الموت لصيقاً به.. اختصرنا معه كل المسافات ، وجمعنا كل السنوات لنلقيها أمامه في سلة واحدة من البوح العراقي الصادق.. فكان هذا الحوار :

• كيف يقدم الشاعر نصيف الناصري نفسه للقراء بعد سنوات الغربة عن العراق..؟

- عشت حياة عاصفة ولا انسانية في الماضي . { 12 سنة جندي هربت فيها عدة مرات وعشت حياتي متخفياً . 3 سنوات بعد تسريحي من الجيش أمضيتها ببغداد على الرصيف في الصعلكات والكحول من دون وظيفة معينة . 4 سنوات تشرد في العاصمة الأردنية عمّان التي لم أستطع أن أكتب فيها سوى قصيدة واحدة عن موت صديقي الشاعر المرحوم رياض ابراهيم }. في مدينتي السويدية هذه التي يعيش فيها بشر من 165 دولة . استطعت أن أجد الوقت الكافي للتأمل والقراءات العميقة وتطوير مشروعي الشعري عبر العزلة التي حرصت عليها في سنواتي الأولى هنا . بعد العودة من المدرسة الاجبارية { سوق العمل مغلق في السويد دائماً ويتوجب عليّ الذهاب كل يوم الى دراسة اللغة من أجل أن يدفعون لي نقود الطعام وايجار البيت } أغلق بابي ولا التقي أحداً باستثناء صديق أو صديقين من الكتّاب العراقيين . حاولت التخلص دائماً من الماضي المؤلم الذي دمّر حياتي في الحب والحنين والأشواق ، وأستطيع القول انني بعد أنجزت 9 كتب خلال 10 سنوات هنا ، أشعر انني أصبحت أكثر دقة في عملي الشعري وتنظيمي الحياتي . العزلة والبحث منحاني أشياء عظيمة ، لكن ربما يكون العامل الثاني أقل شأناً وسأوضحه الآن . بعد نهاية دوام المدرسة اليومي أعود الى البيت وأبقى الى اليوم التالي مع القراءة والكتابة والموسيقى والتأمل وحيداً { قبل تعرفي الى شبكة الانترنت } . أحياناً التقي صديق أو أكثر أثناء النزهات المسائية لمدة معينة وأعود من حيث أتيت . في المدرسة أثار انتباهي ذلك الحديث السريع والجمل الطويلة التي لا تنقطع في كلام الناس الذين يعيشون مثلي بمفردهم . اكتشفت أن العزلة تجعلني أتكلم كثيراً جداً حين التقي الناس في الخارج للتعويض عن ساعات الصمت الطويلة في البيت ، وبما انني كنت معجباً في الشاعر الأمريكي آلن غينسبرغ وحاولت في الماضي أن تكون جملتي الشعرية طويلة كما هي عنده ، فقد استثمرت هذه الحالة الغريبة وواصلت المران الدائم في الكتابة حتى تجلت أخيراً في مجموعاتي الجديدة . الوعي الشعري الذي يتطور باستمرار عبر التجارب والأحاسيس المختلفة ، كان له الدور الأساسي في انتاج هذه اللغة التي أستخدمها الآن من دون قصدية .

•هل تشعر ان للقصيدة تاثير في تغيير الواقع العراقي الملبد بالعواصف والمتناقضات..؟

-الواقع العراقي بعد التغيير أوجد أساطيره ورموزه المتناقضة والعاصفة ولا أعتقد أن للقصيدة أيّ دور في تغيير هذه المتناقضات . ومن فضائل شعرنا العراقي الآن انه لا يسير وفق الأهواء الايديولوجية أو تلك المضامين التي تسعى الى أن تكبله بترهات الواقع اليومي . أتابع التجارب الشعرية العراقية الجديدة دائماً وأرى انها تحاول تلمس ما وراء الواقع عبر شعر يحنو على الاخلاص للتجربة الروحية للشاعر وامتداداتها المعرفية والجمالية . قلتُ في مناسبة ما أن الحصيلة الابداعية للفعل الشعري في كل العصور كانت قليلة بسبب الجوهر الحقيقي للشعر وهذا هو سرّ الابداع الذي يحافط عليه هذا الفن العصي . هل تهمنا الآن تلك القصيدة العمودية المتحجرة والمتخلفة التي يكتبها الوكيل الأقدم لوزارة الثقافة جابر الجابري المهموم بمهرجاناته التافهة ؟ وهل تهمنا تلك المجموعات البائسة والمنحطة التي أصدرها بالعربية بعد سقوط النظام ، الوكيل الثاني لوزارة الثقافة فوزي الأتروشي وهو يقلد فيها نزار قباني ؟ بالطبع لا تهمنا ترهات هؤلاء الأدعياء الذين يهيمنون على مؤسساتنا الثقافية الآن بسبب الطائفية والمحاصصة وستكنس رياح الابداع العراقي كل أفعالهم ومشروعاتهم الحقيرة التي تحاالتغطية على النسيم الابداعي الأصيل بالعراق الآن .

• امتازت قصائد الناصري الاخيرة بالعمق والنظرة الفلسفية للحياة، هل تعد نفسك فيلسوفا..؟

- كنتُ ومازلت أطمح الى أن تكون القصيدة ذات محتوى فكري عميق وتعالج المسائل الكبيرة في الحياة والوجود ، بعد أن شوهت مفاهيم الشعر وقيمه الأهداف الايديولوجية للقوى التي هيمنت على واقعنا الثقافي والسياسي منذ عهود طويلة . لا أعتبر نفسي فيلسوفاً ولا مؤرخاً ولا مشتغلاً في الفلسفة . ما يهمني هي تلك الموضوعات التي تشغل بالي في الزمن والموت والحب والتحول والصيرورة وماوراء الوجود . هل لي أن أتحدث عن المطلق في لغة صحفية مباشرة ؟ ما يعوز شعرنا الآن هي الأفكار واللغة الجديدة والنظرة العميقة للأشياء في العالم ونحن نحاول أن نقدم قصيدة تسعى الى التصالح أو سبر الأغوار العميقة لتجاربنا ومخاوفنا وآمالنا في هذه المتاهة المعلقة ما بين لحظة الولادة ولحظة الموت . المضامين العميقة في القصيدة والنظرة الفلسفية للعالم والأشياء التي نسير بين متاهاتها . تأتي عبر المرجعيات المعرفية للشاعر وقلقه الدائم من التحول والصيرورة وهو يحاول أن يكتشف معنى الكينونة وسط هذا الركام من الأفعال والأحلام المتناقضة في العالم والراهن اليومي الذي يحيّرنا في كل حين وهو نحاول أن نتلمس الفجر البعيد لحياتنا وأحلامنا في الوصول الى السرّ الحقيقي للوجود . في محاولاتي الدؤوبة أسعى الى لغة وصياغات ومضامين لقصيدتي غير تلك اللغة والصياغات التي تأتي عبر قراءة التجارب التي سبقتني . كل شرارة حقيقية في الابداع تأتي عبر الاضافات للتجارب الماضية ولا نستطيع أن نضيف شيئاً جديداً ونحن نكتب وفق الصيغ والأشكال التي سبقتنا . ماعاد موتي يهمني الآن بعد أن تدربت عليه طويلاً من خلال فهمه والاحاطة به عبر الموقف الفلسفي للتحول والصيرورة ، وفي قصيدتي أسعى الى العيش بتوازن مع اللحظات القليلة الممنوحة لي في العالم من أجل أن يكون لحياتي ذلك المغزى العميق الذي بحثت عنه دائماً . التشابه الحاصل الآن في أغلب التجارب الشعرية يجعلني أسعى للبحث عن المختلف والجديد من خلال قلقي وصراعي مع الزمن والموت والتجددات الدائمة للطبيعة واللحظات التي تعبر بخفة في الزمن . لا يمكن الآن كتابة القصيدة بمعزل عن الرؤيا والموقف من العالم . التجارب الشعرية التي تتوخى البساطة والعاطفة الخاوية لا مكان لها الآن في الفعل الشعري ، وما عادت مفاهيم الشعر التي سبقتنا تلبي الحاجات العميقة لانسان عصرنا المبتلى بالقلق والسأم وهو يواجه المصير البائس لنهايته في هذا العالم المتغير والمتحول دائماً . كل قصيدة هي رؤيا للعالم ومعرفة ، ومن خلال المعرفة ينشّط الشعر الذاكرة العاطلة للانسان ويمنحه وعد ورجاء في ظلمة العالم الذي يستلبنا في كل حين . جئنا من العدم والى العدم ننتهي . لماذا يظن الانسان انه خالد في هذا العالم ؟ حيواتنا تمرين دائم لتعلم الموت . ينبغي أن لا نقرف من الحقيقة المرّة . ينبغي أن نحيا اللحظات القليلة الممنوحة لنا في الحياة ببراعة وخفة دم رشيقة من أجل الجمال الساحر للفصول وتنوعها والتعدد البرّاق لأجناس الطبيعة غريبة الجمال ، ومتعة السرور التي نخلقها نحن في تخلينا عن الطمع والقسوة والبخل . الرهان الدائم عندي حول المران الطويل في الكتابة هو الذي يجعلني أواصل المغامرة والتجريب من أجل خلق لغة وكلمات وأنساق خطابية جديدة للقصيدة التي اكتبها عبر الصراع الطويل مع اللغة وانزياحاتها وبلاغتها . ما عادت الطريقة الغنائية الآن في النص الشعري تلبي الحاجات النفسية والشعورية للشاعر . لا يمكنني أن أكتب جملة من سطرين أو أكثر وأنا أحاول التعبير عن محنتي الدائمة من زوال الأشياء في العالم ، أو استحالة وجود الانسان على الأرض كما يقول هايدغر . أنا أعيش حيرة كبيرة ووعي مدمر في التحولات وصيرورة الانسان والعالم والزمن والطبيعة . عندما صدرت مجموعتي { أرض خضراء مثل أبواب السنة } عام 1996 كتب عنها الشاعر خيري منصور في صحيفة { الدستور } الاردنية أن لغتها محتدمة . أنجزت بعدها 5 مجموعات وواصلت التصعيد والاحتدام عبر التجريب الدائم لأن المشاكل التي واجهتني في الحياة وتجاربها تطلبت مني أن أغيّر في كل حين طرائقي الكتابية وقاموسي اللغوي والانساق الخطابية في النص .

• للحب صورة اخرى قد تختلف عن صور مجايليك من الشعراء بماذا تبرر ذلك..؟

ربما لعلني عاشقاً طوال حياتي وقد أضفيت قيمة زائفة على المرأة التي أحببتها من خلال الشعر وحوّلتها الى رمز لكي أحتفظ في الجوهر المثالي للحب . للحب كما هو معلوم طاقة عظيمة في الشعر وهو أحد الموضوعات الكبرى طوال التاريخ وفي سعينا الدائم الى امتلاك المحبوب ، نعرف اننا مرضى وأنا أعتبر نفسي من مرضى الوجود . حاول الكثير من شعراء الثمانينيات تقديم قصيدة حبّ لكنهم فشلوا ولا نتذكر الآن أيّ قصيدة حبّ لشاعر منهم والسبب يعود الى انهم كتبوا قصائد حبهم وفق التقليد والذاكرة الجمعية للشعر العربي والتجارب التي سبقتهم . امتزج حبي دائماً في الموت والتحولات الكبيرة في الزمن ولذلك بدت قصيدتي وكأنها محاولة للخروج من نفق الموت / الزمن ، وعلى الرغم من امتلاكي لنساء كثيرات في حياتي وآخرهن اوروبية شقراء تعيش معي منذ 8 سنوات ، لكن صورة تلك الفتاة السمراء التي أدعوها { الشفيعة } ظلت عالقة في ضميري طوال حياتي . نعم انها تجربة عاثرة وحب من طرف واحد ويبدو انني أحبّ الحبّ وليس امرأة واقعية من لحم ودم . يكمن عزائي الآن في العيش بالجوهر الحقيقي للحبّ عبر معايشتي له في الأحلام والأشواق والذكرى الحارة لصورة المحبوب وأنا أتكبد الخسائر الكبيرة في ناره ورماده . وفي سعيي للخلاص من هذه النار وهذه المتاهة اكتشفت انني لم أقطع علاقتي مع فتاتي هذه وظل تواصلي الحميم معها يتم عبر اللقاءات العابرة والرسائل الدائمة والمحبة التي تستعر جذوتها عبر كل لقاء وكل همسة أو لمسة . حبي هذا كان وما زال أحد الينابيع الشعرية في حياتي ولولاه لكنت قد تحجرتُ أو انتحرت . العشق في الزمان النفسي طاقة مبطنة والسهر تحت ظلالها يمدّنا بالقوة الدائمة. للتسلط على لحظاتنا الخائبة في العيش . ينبغي للانسان أن يقذف نفسه في البركان وأن يعشق وأن { يكون وحيداً في العالم مع المحبوب كي يحتفظ الحب بطابعه كمحور اشارة مطلق } هكذا يقول سارتر في { الوجود والعدم } .

• في قصيدتك ظل للثمرة المتعفنة لحركة التاريخ تقول { عبرتُ في شبابي حقول ألغام كثيرة ، وعشتُ حياتي كلها في قلب الفوضى } هل هو اقرار بفوضوية الحياة التي عشتها وحلمك بحياة أكثر استقراراً..؟

-اكتشفتُ الشروط الحقيقية لمواصلة مشروعي الشعري وتجاربي مع الكتابة حين غادرت العراق باتجاه المجهول وحين قذفت نفسي في البركان . عشت حياتي الماضيى في قلب الفوضى واستلبتني مرارة الواقع العراقي دائماً . أمضيتُ كما قلت في عمّان 4 سنوات مشرداً وجائعاً ولم أكتب فيها سوى قصيدة واحدة عن موت صديقي الشاعر رياض ابراهيم عام 1996 . حين أنظر الآن الى صورة حياتي الماضية أشعر بالاشمئزاز والقرف بسبب تأديتي للخدمة العسكرية الاجبارية التي كنت أهرب منها دائماً وعيشي متخفياً من عيون السلطة الغاشمة وخوفي من القتل وضياع أيام شبابي في جبهات الحرب والمعسكرات والبارات والمعتقلات . { 12 سنة خدمة اجبارية . 7 مرات هروب . سجن عدة مرات } . عام 1980 قبل بداية الحرب العراقية الايرانية كنت أستلم راتبي من وزارة النفط وأذهب مع صديقي الشاعر ناصر مؤنس الى { اورزي باك } ونشتري الاسطوانات الموسيقية ونحلم في مستقبل أفضل . جاءت الحرب وتمت عسكرة المجتمع العراقي وأغلق ال { اورزدي باك } ومنُعت الكتب التي تصدر في القاهرة وبيروت ودمشق من دخول المكتبات العراقية وتحولت دور السينما الى مسارح لتقديم العروض التهريجية . هنا وجدت نفسي شأني شأن بقية العراقيين أعيش في الفوضى والخواء الروحي وظلام الثقافة التي أوجدها نظام صدام حسين . الآن بعد أن توفرت لي الشروط الانسانية لمواصلة مشروعي الكتابي . عدتُ الى اقتناء ما حرمت منه في الماضي . بيتي الآن مليء بالكتب والاسطوانات الموسيقية الكثيرة واللوحات التشكيلية والأفلام التي حلمت دائماً في مشاهدتها . من خلال صديقتي آنّا تعرفت على جوانب مختلفة من الثقافة الاوروبية في مناحيها الروحية السامية .

•من خلال سعيك للبحث عن المختلف والجديد هل وجدت ضالتك.. وكيف تقنع الراهن الشعري العراقي الذي تخندق من جديد بخندق الكلاسيكية بالتجربة الحديثة..؟

- لا أدعي انني وجدت ضالتي حتى الآن لكنني أطمح الى أن أتلمس طرائق جديدة للتعبير الشعري في هذه المتاهة التي تتشابه وتتكاثر فيها الطحالب والأشنات . دعني هنا أن أقدم الى القارىء ما ذكرته عن القصيدة في كتابي { سنبلة قمح لم تولد } حتى يطلّع على ما أطمح اليه :{ قالت لي آندريه شديد مرّة وهي تناولني أحد كتبها . لا يمنحنا الشعر الشهرة ولا الجاه ولا السلطان ، لكنه معلق بين أهدابنا ويدلنا على تلمس الفجر . منذ تلك اللحظة العظيمة التي التقيت فيها آندريه . قبضتُ بقوة على الجمرة المشتعلة للكتابة وواصلت طريقي الطويل في الظلام من أجل أن أتلمس الفجر ، لكنني حتى هذه اللحظة لم أكمل عبور الطريق وفجر حياتي ما يزال بعيداً ، بعيداً جداً . بعض الشعراء الحمقى يتأثر في الشخصيات التي يقرأ نتاجاتها ويكثر من الاستشهاد منها . مصيبة الشعر العراقي الراهن انه خاضع لمفهوم الاشاعة . الاشاعة الآيديولوجية والثراثية واشاعات الخدائع المتواصلة التي تركتها لنا الأجيال الشعرية الماضية . قال شاعر ما { أظنه بودلير } في احدى شطحاته الصوفية وهو يعرّف الشعر انه { الطفولة المستعادة قسراً } . أصبح هذا المفهوم الخاص و هذه الاكذوبة والهلوسة البودليرية حقيقة مؤكدة في أوساطنا الشعرية التي تقدس ثقافات الأحزاب السياسية والدينية . وصلت الى حدّ أن يعنون أحد شعراء السبعينيات مجموعته الأولى بسطرين من قصيدة للشاعر الاسباني انتونيو ماشادو { أنا صحوت من الطفولة . لا تصحو أنت أبداً } واعتقد أن كلمة { أبداً } هنا خاطئة والأصوب هي كلمة { قَط }. الفهم خاطىء والترجمة خاطئة والفعل الشعري خاطىء أيضاً . ما العمل الآن من أجل ترك الشعر يحلق بعيداً عن الأقفاص التي يحاول البعض حشره فيها ؟ تبقى القصيدة غير مكتملة حتى وان نشرت في صحيفة أو مجلة أو كتاب . لا تكتمل القصيدة التي هي مشروع محو واعادة كتابة دائمة إلاّ بموت الشاعر . تضجرني قراءة قصائد الشعراء الرسميين الأحياء في طبعات { أعمالهم الكاملة }. قصيدة الشاعر الحيّ في كتاب ، أشبه بجثة في تابوت . في قصيدتها { شبح قايين } تقول إيدث سيتول في أحد السطور { صوت سنبلة قمح لم تولد }. كل قصيدة قبل موت شاعرها ينطبق عليها سطر ستول هذا . مرض شعري عراقي جديد بدأ يتوسع الآن بتأثير من بيئات وعصابات شعرية مصرية ولبنانية وخليجية. شاعر مزعوم يتوسل حد الخنوع هذا وذاك من أجل الكتابة عن شخابيطه وشاعريته الحلزونية . أغلب هذه الكتابات يقوم فيها هواة صحافة وليسوا نقاداً. يقوم هذا البغل الشعرور بعد ذلك باعادة نشرها في صحف ومواقع كثيرة ومن ثم يطلب من أحد ما كتابة مقدمة لها وتصدر على حسابه الشخصي في الأردن أو لبنان. لماذا يتكلف هذا الطحال المنفوخ كل هذه الخسائر في التنطع والجهد والوقت والمال؟ { هل لأنه عديم القيمة } وخفيف . خفيف كصخرة .

• كيف تنظر الى الواقع الثقافي والادبي للعراق بعد 9 نيسان 2003..؟

- على الرغم من العتمة التي تخيّم على الواقع الثقافي والأدبي بالعراق منذ التغيير . أرى أن هناك بعض التجارب المضيئة قد بدأت في التكوّن والظهور ، وهذه التجارب هي ما نعول عليه للخلاص من العتمة والثقافة الشعبية المنحطة التي أوجدتها الأحزاب الطائفية عبر التهريج وما يسمى الشعر الشعبي . سعت الثقافة والابداع العراقي دائماً الى الجمال والمحبة بعيداً عن ثقافة السلطة التي تروج الى أهدافها البعيدة عن قيم الحق والخير ، وفي تواصلي الحميم مع الثقافة بالعراق أعرف حجم التحديات التي تواجهها هذه الثقافة والتعتيم عليها من خلال التشويه والتشويش وعدم قدرة المؤسسات الثقافية في العراق الى مساعدتها والاهتمام بها . لا يمكننا أن ننتظر من هذا الوزير أو ذاك المدير أن يأخذا على عاتقهما النهوض بالواقع الثقافي . الثقافة الآن تسير وتحفر في الصخر من أجل ردم كل المستنقعات التي أوجدها النظام السابق والنظام الحالي .

• هذا يجرنا الى سؤال ، كيف ترى المربد القادم الذي سيقام نهاية ابريل/ نيسان الحالي وأين تضعه في قائمة المهرجانات الدولية ..؟

- المربد مهرجان بائس وكل المهرجانات بائسة أيضاً لأن من يتولى اقامتها يطمح الى غرض إما دعائي أو الترويج لبضاعة سياحية معينة . أنشأت سلطة حزب البعث مهرجان المربد في بداية استلامها السلطة عبر الانقلاب المشؤوم ومن ثم راح نظام صدام حسين يقيمه كل عام من أجل التمجيد والاشادة بحروبه واجرامه . الآن بعد زوال نظام طاغيتنا مازال أولئك البؤساء الجدد الذين هم على شاكلة صدام وثقافة حزبه يحاولون اقامة هذا المهرجان . ينبغي الغاء مهرجان المربد من ذاكرتنا الآن وترك الشعر يسير بعيداً عن المهرجانات وثقافة السلطة الرسمية .

• كنت وما زلت مبدعاً دون ان تتوفر لك أدنى الشروط الانسانية خلال هروبك وتجوالك في مدن مختلفة فهل عوضك هذا ما كنت تبحث عنه أم انك تشعر أن ما خسرته من سنوات لا يمكن ان يعوض..؟

- ليست هناك قوانين معينة في الابداع عبر الألم والسرور وسواهما من الأحاسيس . الألم الذي تحدثت عنه في كتابي { معرفة أساسية – الحرب . الشعر . الحب . الموت } عاشه أغلب الناس والشعراء الذين ابتعدوا عن المؤسسة الثقافية الرسمية في عراق الثمانينيات . من الصعب الآن قراءة الواقع الذي عشته في الماضي ، ذلك لأنني كما أوضحت في حوار أجراه معي الشاعر عبد العظيم فنجان ونشره في موقع { ايلاف } قد قمت بتمزيق 7 مجموعات شعرية لي عندما كنت في الأردن عام 1996. أردت في عملي هذا أن أبدأ من جديد واعتبرت أن ما أنجزته في السابق هو مجرد تمرينات لما هو قادم . ولكن يمكن التعرف الى بعض الألم الذي عشته في الماضي من خلال مجموعتي { أرض خضراء مثل أبواب السنة } التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1996، وكذلك مجموعتي { في ضوء السنبلة المعدة للقربان } التي صدرت عن دار بابل في دمشق عبر اصدارات المركز الثقافي السويسري العربي عام 2007 ، وهو ألم يبدو لي الآن مازال مستمراً ولا أستطيع التخلص من جذوته المشتعلة دائماً . كل كتابة تحتوي على عاطفة أو انفعال غير مسيطر عليه . لا عمق فيها وتشبه تلك المنحنيات المعوجة وغير المتناسقة في فن عمارة عصر الباروك . الانفعال يهدم { التوازن التماثلي } لجمال اللغة ويضفي طابعاً دينياً على النص . يجب التخلص من هذه الدمامل حين نرغب في تقديم ما يتوق الى الظهور ونحن نغطس في الأعماق السحيقة للحلم أثناء لحظة الكتابة .



#نصيف_الناصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كتاب { العودة الى الهاوية } في الشعر العربي الراهن
- مجموعة { في ضوء السنبلة المعدة للقربان }
- مجموعة { نار عظيمة تحمي الياقوت }
- مجموعة { الأمل . أضداده . خيّاط الموت . نار الأبدية }
- كتاب { الأنهار الكبيرة المتعرجة } ردّات واندفاعات الشعر العر ...
- كتاب { خديعة السنبلة . شهادات } في شؤون وشجون اللحظة الراهنة
- كتاب { معرفة أساسية . الحرب . الشعر . الحب . الموت }
- أشياء ما بعد الموت
- مرثيتان
- ما ينشده الشيوخ المحقى
- كتاب صوت سنبلة قمح لم تولد
- مرضعات الموتى
- العتمة اللامتناهية للفناء
- يموت الدكتاتور ويبقى الشاعر
- سهر الشجرة وعطورها المنذرة
- أجمل العيش ، عيش التشاؤم والشقاء
- للخلاص من رطوبة السنوات التي عشناها
- عندما ارتعد عدي صدام من قصيدة دادائية
- حوار السيد والعبد
- قصيدتان


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نصيف الناصري - تجربة مع الموت