أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - صباح ابراهيم - من ذكريات الماضي .... ايفادي الى ارض الموت















المزيد.....

من ذكريات الماضي .... ايفادي الى ارض الموت


صباح ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 3001 - 2010 / 5 / 11 - 16:53
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


المعروف في نظام الوظائف الرسمية في الدولة ، ان يوفد الموظف داخل البلد او خارجه للدراسة او التدريب او التفاوض لانجاز عقود معينة او انجاز عمل ما او حضور مؤتمر او ندوة او غيرها من الامور التي تخص الدائرة اوالوزارة. والنتيجة هي جني فائدة معينة للصالح العام .
ولكن ان يوفد موظف فني بمهمة غير ضرورية وقد يواجه الموفد من جراءها الموت المحتم ، فهذا من غرائب الزمن في عراق البعث والقائد الضرورة .

كنت اعمل مهندسا في احدى دوائر الدولة في بغداد والتي اشرِكَت بواجب اسناد المجهود الحربي اثناء الحرب العراقية الايرانية ، رغم انها دائرة مدنية صرفة لاعلاقة لها بالحرب .
في 11 آذار عام 1985 اندلعت معارك عنيفة في منطقة الحدود العراقية الايرانية قرب محافظة ميسان ,وسميت بتاج المعارك لشدتها وعنفها وكثرة الخسائر التي قدمها الطرفان المتحاربان . وكان هدف العدو من هذه العملية قطع الطريق العام بغداد - العمارة ـــ البصرة والاندفاع إلي منطقة (هور الحمّار) .

تقدم الجيش الايراني داخل لاراضي العراقية بحيث اصبحت قذائف مدفعيته تقع على جانبي طريق العمارة - البصرة الرئيس، وكانت منطقة قلعة صالح وناحية الكسارة من المناطق المشمولة بتساقط قذائف المدفعية الايرانية حتى ان كل الاهالي سكان تلك المنطقة هربوا منها الى اماكن بعيدة اكثر امنا , واستغل الجنود تلك المنازل ليسكنوا فيها .

في صبيحة احد ايام تلك المعارك الشرسة ، اتصل بي مدير عام الشركة ليخبرني انه اصدر امرا بايفادي مع مهندس ميكانيك الى العمارة بناء على برقية وصلت ليلا من ممثل الوزارة في العمارة لغرض تصليح الاضرارالتي اصابت ناظم الكسارة الملاحي على احد انهر العمارة الفرعية من جراء القصف المدفعي الايراني .
ابلغني المدير العام انه خصص لي سيارة لاندكروز تحت تصرفي ولابد من السفر اليوم ودون اي تأخير.
كانت الاناشيد الحماسية تنطلق في الاذاعة والتلفزيون ، والبيانات العسكرية تتوالى ، ولم يكن امامي للوفاء للوطن في اثناء الاعتداء علي قدسية اراضيه واختراقها من قبل العدو، الا ان استجيب لنداء الواجب فورا دون نقاش .
اخذت عدة العمل ونطلقت من بغداد الى العمارة ،ونحن نستمع طول الطريق الى الراديو وهو يعيد النشيد الحماسي :
ها يا اهل العمارة ... هاي اجمل بشارة
اليوم كلنا جنود .... عن الحدود نذود
وعلى النصر عبارة
وصلت مع زميلي المهندس فوزي ليلا الى دائرة ممثل الوزارة في العمارة لتسجيل المباشرة و معرفة تفاصيل الواجب . وقيل لي ان موقع ناظم الكسارة الملاحي مهم للجيش في هذه الضروف ولابد من اصلاح الاضرار الناجمة عن القصف المدفعي الايراني واعادة القابلوات الكهربائية المقطوعة وتشغيل بوابات ناظم الملاحة دون تاخير لاهميته الكبيرة اثناء المعركة .
انطلقتُ في صباح اليوم التالي مبكرا ، لتفقد الموقع واجراء كشف بالاضرار ووضع خطة العمل . كنت مندفعا ومتحمسا لاقصى حد لانجاز الواجب ، تدفعني غيرتي الوطنية للدفاع عن وطني الحبيب في ضروف الحرب وتعرضه للعدوان الايراني.

في الطريق الى ناظم الكسارة، كانت قوات الجيش العراقي قد حفرت الخنادق والملاجئ للدبابات والمدرعات والجنود ، والكل في حالة استعداد قتالي لان المعركة كانت حامية الوطيس وعلى اشدها ، الايرانيون مصممون على الاندفاع لقطع طريق العمارة البصرة مهما كانت الخسائر، والعراقيون لديهم العزيمة والاصرار للدفاع عن ارض الوطن مهما كان الثمن .
كنت امر بالسيارة متوجها الى موقع الواجب بين خنادق الجنود ودبابات الحرس الجمهوري والمدفعية المتمركزة لاستقبال العدو الايراني وكأني في ميدان الحرب ولست داخل احدى مدن العراق. وكانت القذائف التقيلة لمدفعية ودبابات وهاونات الايرانيين تتساقط امام وخلف وفي كل اتجاه تسلكه سيارتنا. لاننا كنا في ارض معركة حقيقية.
بعد اجراء الكشف على ناظم الكسارة تبين انه بناء يضم اجهزة ومعدات كهربائية وهيدروليكية تستخدم لفتح وغلق بوابات حديدية كبيرة تغلق النهر بالعرض لتنظيم هويس الملاحة لمرور القوارب النهرية .
كنت اعمل نهارا لغاية الغروب ثم اتوجه ليلا للمبيت في فندق بمدينة العمارة ، اكملتُ اصلاح الاضرار بفترة قياسية خوفا من سقوط القذائف الايرانية الثقيلة علينا ولضرورة تشغيل الناظم بسرعة كما قيل لي ، وقبل ان نسجل ضمن الخسائر. ونعتبر من ضمن مئات الالاف من الشهداء ولانكسب غير كلمة ( الله يرحمه ) .

في مساء احد الايام وانا في موقع العمل بالناظم ، لاحظت ان كل الجنود القريبين منا يرتدون الاقنعة الواقية من الغازات السامة . فقد وردت برقية من قيادة الفيلق بتوقع ضربة كيمياوية من قبل الايرانيين على قطعاتنا . وكنت انا وزميلي المهندس فوزي بدون كمامات واقية، وبالملابس المدنية العادية . اعترانا خوف شديد ان نكون من ضحايا الغازات الكيمياوية ، ولم يكن احد يهتم لوجودنا اوتزويدنا بالاقنعة الواقية او تحذيرنا لترك الموقع . كل منشغل بحماية نفسه .
فقلت لزميلي :( ياروح ما بعدك روح ) سنموت فطيس هنا ولا احد يسال عنا . لنغادر الموقع فورا الى العمارة ونعود غدا لنرى مالذي حصل . وفعلا غادرنا مسرعين . وفي اليوم الثاني وعند عودتنا للموقع ، وجدنا دبابات وجنود بعض قطعات الحرس الجمهوري التي كانت متمركزة بقرب موقع عملنا، قد تناثرت اجزاءها بفعل القاذفات ضد الدبابات التي استعملها المتسللون الايرانيون في تلك اليلة وبقايا ملابس الجنود المحترقة واحذيتهم واجزاء من اشلاء الجثث المتقطعة متناثرة هنا وهناك على الطريق الترابي الذي كنا نمر فيه كل يوم .

انجزت العمل المكلف به واعدت اجهزة الناظم الكهربائية الى حالة التشغيل . لكن تبين لي ان البوابات التي تحجز ماء النهر لاتتحرك من مكانها ابدا عند التشغيل ، وبعد الاستفسار من المسؤولين في قسم صيانة النواظم في العمارة ، اخبروني ان معدات الناظم لم تشغل منذ اكثر من خمس سنوات وان عشرات الاطنان من الطين قد تراكم بارتفاع مترين على البوابات مما يعيق تحركها مالم يتم تنظيف وكري النهر وازالة الاطيان .

لم اكن اندم وقتها على العمل في ضرف خطر مثل هذا لخدمة وطني ، ان كان عملي سيثمر لخدمة المعركة او الصالح العام . ولكن ان ارسل موفدا على عجلة الى ارض الموت لتصليح اضرار ناظم متوقف عن العمل ومهجورمنذ عدة سنوات وليس له حاجة ضرورية لتشغيله في تلك الايام ، وقد تراكمت الاطيان امام بوابات الملاحة. هذا فقط جعلني اشعر بالاسى على هؤلاء المسؤولين الذين يستخفون بارواح الناس ويتحكمون بمصيرهم ليسجلوا عملا يكافؤون عليه على حساب ارواح الاخرين. هذا الموقف اشعرني بأني كنت ضحية تباهي بعض المسؤولين بانهم انجزوا عملا ما ليحصلوا على مكافأءة اونوط شجاعة او ترقية حزبية على حساب ارواح الاخرين الذين لاقيمة لحياتهم ان قتلوا من جراء القصف حيث يسجلون ضمن الخسائر وينتهي الامر.
اصلحت الاضرار وقدمت تقريرا بذلك الى المدير العام وممثل الوزارة في العمارة ولكن الناظم لم يعمل ولم يكن احد بحاجة اليه، ولم يأت اي مسؤول ليسأل عن تشغيل الناظم او تنظيف ممر الملاحة من الاطيان المتراكمة رغم كثرة المذكرات التي رفعتها للمسؤلين .

اذا لماذا تم ايفادي الى ارض الموت من بغداد الى العمارة ، دون ان تستفيد الدولة من عمل فني قمتُ به تحت القصف المدفعي والصاروخي للعدو وانا موظف مدني ولست عسكريا. علما ان هناك دائرة مختصة لصيانة النواظم والسدود النهرية في العمارة وفيها مهندسوكهرباء وهذا العمل من صميم واجبهم.
وبقى هذا الناظم بعد المعركة مهجورا لسنوات دون ان يهتم احد به.

سؤال كان يراودني دائما : هل كانت دمائنا رخيصة الى هذا الحد ؟



#صباح_ابراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من ذكريات الماضي ..... مقتل نوري السعيد
- من ذكريات الماضي ..... في قاطع الجيش الشعبي
- من ذكريات الماضي ... في البصرة
- الخلايا الجذعية
- ايران هي التي تشكل الحكومة العراقية
- الاخطاء النحوية في القرآن
- غرورالعقل البدوي السلفي
- هل يسكن روح الله في السماء فقط ؟
- الحالة النفسية وأثرها على صحة الانسان
- من يقتل ويضطهد مسيحيي العراق
- حروب الردة في الاسلام
- الكيل بمكيالين ... مروة الشربيني ومذبحة نجع حمادي
- العناصر المشتركة بين المسيحية والاسلام - الجزء الثاني
- العناصر المشتركة بين المسيحية والاسلام
- الاسلام دين مميز
- طالب دكتوراه سعودي يقتل المشرف على أطروحته
- يوسف القرضاوي وكراهيته لشجرة الكريسماس
- حلال على المسلمين وحرام على غيرهم
- حقيقة الادعاء بتحريف الكتاب المقدس
- وحدة العرب وكرة القدم


المزيد.....




- ما هي صفقة الصواريخ التي أرسلتها أمريكا لأوكرانيا سرا بعد أش ...
- الرئيس الموريتاني يترشح لولاية رئاسية ثانية وأخيرة -تلبية لن ...
- واشنطن تستأنف مساعداتها العسكرية لأوكرانيا بعد شهور من التوق ...
- شهداء بقصف إسرائيلي 3 منازل في رفح واحتدام المعارك وسط غزة
- إعلام إسرائيلي: مجلسا الحرب والكابينت يناقشان اليوم بنود صفق ...
- روسيا تعلن عن اتفاق مع أوكرانيا لتبادل أطفال
- قائد الجيش الأمريكي في أوروبا: مناورات -الناتو- موجهة عمليا ...
- أوكرانيا منطقة منزوعة السلاح.. مستشار سابق في البنتاغون يتوق ...
- الولايات المتحدة تنفي إصابة أي سفن جراء هجوم الحوثيين في خلي ...
- موقع عبري: سجن عسكري إسرائيلي أرسل صورا للقبة الحديدية ومواق ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - صباح ابراهيم - من ذكريات الماضي .... ايفادي الى ارض الموت