أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - وليد ياسين - ناجي فرح يروي حكاية وطن ضاع يوم -قامت لِقْيامِة-















المزيد.....


ناجي فرح يروي حكاية وطن ضاع يوم -قامت لِقْيامِة-


وليد ياسين

الحوار المتمدن-العدد: 2998 - 2010 / 5 / 7 - 15:04
المحور: القضية الفلسطينية
    


في الجزء الأول من كتابه "ذكريات مهاجرة، زمن يتكسر"، يتوقف الكاتب الشفاعمري ناجي فرح، عند ذلك اليوم الذي أسماه "اليوم الآخر" موضحا انه ليس يوم الحساب والحشر، يوم القيامة بمعناها الديني، بل القيامة بمعناها الشعبي، تلك "لِقـْيامِة"، بحذف الألف وكسر اللام وتسكين القاف، التي بدأت حين كان يجلس على مقاعد الدراسة في حيفا، وما لبث أن لعلع الرصاص. كان ذلك بعد أيام من قرار التقسيم، فقرر المدير صرف الطلاب إلى بيوتهم لتبدأ رحلة الطالب ناجي فرح، "الرحلة المرعبة"ـ كما يسميها، في طريق العودة الى البيت في شفاعمرو. يحكي ناجي فرح كيف أنقذه سائق الباص الشفاعمري جبران الخوري (أبو العبد) حين لمحه قرب صيدلية ابراهيم دميان، وقد أصابه الاضطراب والخوف، فأوقف الباص، وأعاده الى شفاعمرو مجتازا كل المخاطر التي تربصت على جانبي الطريق..
وينهي ناجي فرح كتابه على لسان الراوي، كأنه يحاكم التاريخ الذي "أخذ يعبث بحياة الناس، وقد وقف على رأسه وهو يقهقه هازئا، لا يسمع أنينا ولا شكوى".. ثم يضيف بضع كلمات عن العاصفة التي "هدرتْ وزمجرتْ" والمذابح التي "شحذت سكاكينها"، فبدأت فصول المأساة وتصدع الزمن وتكسّر، وحام في الفضاء شبح النكبة... التي يعد القراء بأن يأتي عليها في حديث لاحق.
عندما قامت "لِقـْيامِة" على حد تعبيره، كان ناجي لا يزال فتى لم يتجاوز الرابعة عشر من العمر، لكن الذي يقرأ "ذكريات مهاجرة" التي كتبها في السبعينيات من عمره، والذي يستمع إليه وهو يروي ما شاهده بأم عينه، يدرك كم عميقة هي ذاكرة الطفل، وكم بقيت راسخة في ذهنه صور النكبة الرهيبة التي عايشها على جلدته.
هذا الأسبوع، التقيت به بعد أكثر من 30 عاما بقليل، في بيت شقيقته بهية فرح، حيث ينزل خلال زيارته إلى شفاعمرو. وبيت بهية أعرفه ويعرفه أبناء جيلي منذ كانت أمهاتنا ترسلنا إليها لتسليمها قطعة قماش كي تحولها بأناملها الدافئة إلى فستان فيه من الروعة ما ينافس أشهر دور الأزياء في حينه. وصلت إلى منزلها برفقة شقيقي زياد، وما لبث أن لحق بنا شقيقنا الأكبر عصام، فعلاقتنا مع ناجي فرح ليست علاقة صداقة فحسب، بل يمكن القول إنها علاقة أسرية. استقبلتنا بهية، أمد الله في عمرها، بابتسامتها الوادعة، وما لبثت أن أطلت أم خالد مرحبة، ثم دعتنا إلى الجلوس في الصالة، بانتظار الأستاذ ناجي، الذي ما لبث أن دخل، فشعرت وإنا أعانقه وكأن الزمان توقف قبل 30 عاما. صحيح أن الشيخوخة تركت بعض بصماتها على سحنة وجهه، لكن البسمة واشراقة العيون، تؤكدان أن العامل الزمني، والهجرة والتغرب استسلمت كلها أمام شكيمة ناجي فرح.
بدون مقدمات، وكأن 30 عاما لم تفصل بيننا، أخذنا الحديث إلى تلك الأيام التي سبقت ذلك القرار الصعب الذي اتخذه وأسرته حين قرروا الرحيل.. وسرعان ما يدرك المستمع إلى ناجي وهو يحكي بعض ما حدث، أن هذا الرجل وان كان قد حمل ما تيسر من متاعه وهاجر مكرها، فما زال هنا، معنا، يعيش أحلامنا، يداعب شظايا زمن تكسر، ويتفجر قلبه دفئا وهو يروي مشاعره الجياشة ازاء ما لقيه من حب ودفء بعد هذه السنوات الطويلة من الغياب.
ذهبنا للتسليم عليه فجرنا الحديث وانقضت عدة ساعات، كان لا بد من توثيقها كي لا ننسى ولا تنسى الأجيال القادمة بعدنا ما حدث.
• أنا رايح على شفاعمرو
لن أسرد هنا الكثير الكثير مما سمعناه من ناجي فرح، وسنترك ذلك للأيام، أو لذاكرته التي وعد بمواصلة فتح أبوابها على مصراعيها في كتابين قادمين، على الأقل، الأول يكمل حكاية النكبة والتهجير، وأيام الحكم العسكري، ويوم الأرض، وبعض المحطات الهامة من حياته، حياتنا كشفاعمريين، والثاني، قال سيكرسه لتوثيق ما حظي به من حفاوة من قبل الأصدقاء والأهل منذ وطأ أرض المطار وحتى انتهاء الزيارة. قلت له خلال الحديث المتبادل إن عشرة كتب لن تستوعب ما يحمله في ذاكرته، فكل حكاية رواها على مسامعنا وهو يعدد فصول كتابه القادم يمكنها أن تغطي مئات الصفحات.
في كتابه "ذكريات مهاجرة" بدأ ناجي يحكي روايته من حيث انتهت هنا وبدأت هناك.. سرد بعض ما حدث خلال الأيام الأخيرة التي سبقت رحيله، وبعض ما واجهته العائلة وهي في طريقها إلى الغربة حيث كانت البداية في كندا.
وعلى طريقه، ارتأيت بدء الحكاية من حيث انتهت، الآن، حكاية وصوله إلى البلاد التي رواها وما استطاع أن يخفي الدموع في عينيه.
لقد تحدد موعد سفره إلى البلاد ليوم التاسع عشر من نيسان، قبل يومين من الموعد المقرر لزفاف ابنه خالد. أعدت العائلة كل ما تطلب وانتظرت ساعة المغادرة. 30 عاما وبعض الخطوات كانت تفصل بين ناجي وشفاعمرو. لم يكن الأمر مشابها بالنسبة لإفراد أسرته الذين زاروا البلاد مرارا خلال هذه السنوات، لكنه بالنسبة له كان كاسترداد الروح، وربما كي يستعيد شفاعمرو التي غابت منذ حمله الدرج الكهربائي إلى الطابق العلوي من المطار، فغابت وجوه من رافقوه لوداعه شيئا فشيئا..
30 عاما، لم تتوقف فيها حركة الطيران بين كندا والوطن، لكن ناجي لم يفكر مرة في الصعود إلى الطائرة والعودة ولو للزيارة. وفجأة، وحين جاء ما يلزمه على العودة، بدا وكان العالم كله، بل وتجندت الطبيعة أيضا، كي تقف حائلا بينه وبين تحقيق الحلم. ففي الأسبوع الذي كان مقررا للسفر، أعلنت أوروبا كلها وقف حركة الطيران تخوفا من غيمة بركان أيسلندا، التي لم يحلُ لها التحليق في الأجواء وتغطية سماء أوروبا إلا حين كان ناجي سيسافر إلى شفاعمرو. "وَلْ.. ما إجا على بالها تـِطـْلع إلا لـَما ناجي قرر يـِرجع على شفاعمرو"، قالها فغلبته الدمعة وصمت.. وبعد أن جال بعيونه في أرجاء الغرفة، محدقا بوجوهنا، نحن المشدودين إلى كلماته، واصل قائلا: "اتصلت بزوجة صديقي، وطلبت منها أن تقلب الانترنت رأساً على عقب وتجد لنا رحلة مسافرة إلى البلاد.. ولم أهدأ إلا عندما تلقيت محادثة منها في الساعة الرابعة من بعد الظهر، تبشرنا فيها أنها عثرت على رحلة مسافرة إلى البلاد وأن موعد إقلاعنا سيكون عند منتصف الليل".
"حين غادرنا المنزل في تورنتو، وكنت أحمل حقيبتين صغيرتين من حقائبنا، صدقت أني آت إلى شفاعمرو.. نظرت إلى ندى (ابنته) وقلت لها: "أنا حاسس فعلا اني رايح على شفاعمرو".. ومرة أخرى تفر الدمعة من عينه فيتكئ إلى الخلف ويعود ليجول بنظره في وجوهنا..
ثم يواصل وهو يحاول مصارعة الدموع التي بدت واضحة في مقلتيه، "هبطنا في المطار وشعرت وكأن الأرض تشدني إليها. تجمدت، اقترب مني خالد (ابنه) وطلب مني جواز السفر كي يذهب إلى شباك ختم الجوازات، لم اعرف كيف أصل إلى الجواز، كنت مشدودا إلى الأرض... وحين خرجنا أخيرا ووقعت عيني على أديب جهشان، (زوج تغريد أبو رحمة قريبة ناجي) انهمرت الدموع كالمطر. هجمت عليه وكأني أشم فيه رائحة الوطن.. لقد بللت ثيابه بدموعي".
منذ اللحظة التي وطأت فيها قدماه ارض شفاعمرو، لم يتوقف سيل المعارف والأصدقاء، الذين جاؤوا لاستقباله والترحيب بقدومه، "ساعات طويلة تمضي والناس تغمرني بمحبتها.. حقيقة لا أعرف كيف اعبر عن هذا الحب الجارف" يقول.. ثم يحدثنا عن فكرة كتابة كتاب يكرسه فقط لهذه الزيارة.
• ذكريات عائدة
لم تخنه الذاكرة، فما زال يتذكر كل حجر في شفاعمرو، ليست تلك التي غادرها في أواخر السبعينيات، وإنما، أيضا، تلك التي ضاعت يوم ضاع الوطن، حين عبث التاريخ بحياة الناس و"قامت لِقـْيامِة". قلت له إن ما تسميه "ذكريات مهاجرة" هو في الواقع سيرة ذاتية تستعرض جزءا من حياتك كطفل وما دار من حولك حتى بدايات النكبة، فيوافق إلى حد ما. ويقول: "بالضبط.. حاولت أن استعمل هذا الكلام حتى أعلق عليه مشاعري وتحليلي للقضية".
• ولكنك توقفت عند بدايات النكبة، ماذا تعد الآن؟
• اولا، لقد بدأت بكتابة الجزء الثاني من هذه الذكريات، وانتهيت من كتابة عدة فصول. بدأت أولا بتصوير المرحلة التي تلت قرار التقسيم وبداية المناوشات، وما سمي فيما بعد بحرب الـ 48، اليهود يسمونها "ملحيمت هشحرور"، ما شاء الله! نحن نسميها حرب الـ 48 تلطفا، فهي عمليا الحرب التي أدت إلى النكبة، بدأت في تصوير مرحلة الفراغ السلطوي ما بين خروج الانجليز ودخول اليهود إلى شفاعمرو التي كانت تمثل شريحة من شرائح البلد. رغم أن الخامس عشر من أيار كان الموعد الرسمي لانتهاء السلطة البريطانية في البلاد، إلا أنه لم يكن لهم وجودا في كثير من المدن والقرى قبل ذلك التاريخ. لقد بدأ الجيش البريطاني ينسحب تدريجيا، قبل الخامس عشر من أيار. من حيفا مثلا انسحب في نيسان، ولذلك كان هناك فراغا سلطويا، في هذه الفترة أريد تصوير وضع الناس، مخاوفهم، ردود فعلهم على أحداث الحرب وتطوراتها. سأكتب كيف احتار والدي وعمي أبو عزيز ما الذي سيفعلانه بنا، نحن الأولاد الذين بتنا بلا مدارس. نحن من بيت يحب العلم، أخي لبيب كان في الصف الرابع ثانوي، (الثاني عشر)، وعليه أن يتقدم إلى الامتحان الحكومي "المتريكوليشن"، ولذلك قررا أن لبيب يجب أن يكمل دراسته وأرسلاه إلى القدس، إلى مدرسة صهيون الانجليزية. إنا كنت في الصف الأول ثانوي، وأبي ما كان ليرضى، ولا أنا، بأن لا أكمل تعليمي، وكذلك ابن عمي هاني، واذكر أنهما، والدي وعمي، دبرا لنا رحلة إلى القدس، وقد سافرنا عن طريق نابلس، تحاشيا للطريق الرئيسية، حتى دون أن نتسجل للمدرسة هناك، ثم بدأنا ندرس في المدرسة التي التحق بها لبيب.
في تلك الفترة وقعت أحداث مخيفة في القدس، شهدناها بأمهات عيوننا، بل عايشناها، المدرسة التي درسنا فيها كانت تطل على تلة، والبوابة تؤدي إلى دهليز طويل في عمار عتيق، كله ركب وأقبية، يقود إلى مقبرة البروتستانت، في هذه المقبرة كان المناضلون العرب يطلقون النار من وراء السور على المستوطنة المقابلة للمدرسة، وحين كنا نحن الطلاب نرى الجيش الانجليزي قادما، لملاحقة المناضلين، كنا نعمل سلسلة تلفونية بشرية، نتناقل النبأ من واحد إلى آخر حتى تصل الرسالة إلى المناضلين، فيغادروا المنطقة قبل وصول الجيش الانجليزي. كنا نقوم بذلك العمل وكأنه وظيفة نعتز بها، إلى أن تدهورت الأوضاع أكثر في القدس. وفي احد الأيام قام المناضلون بتلغيم مستعمرة "مونتفيوري" القريبة من المدرسة، فتصدعت ركب بناية مدرستنا العتيقة، وشعرنا بالخوف، فقرر مدير المدرسة إرسالنا إلى الناصرة وسمح لطلاب الصف المتقدم، صف لبيب، بالبقاء، تحت الخطر، كي يتقدموا للامتحان الحكومي.
عدنا إلى شفاعمرو، ولم تكن آنذاك قد شهدت أي احتدام مباشر، وهذه الفترة سأصورها أيضا في كتابي القادم، سأحكي عن وجود المناضلين، عن جيش أبو محمود، ثم مجيء شكيب وهاب ورأيي في هذه الفرقة "العظيمة"(قالها بسخرية) سأحكي عن المعارك، معركة هوشة بالذات، كيف قررت أنا وابن عمي هاني أن نذهب لمشاهدة المعركة، للمشاركة. كان عندنا بارودة ألمانية اشترتها العائلة بمائة ليرة فلسطينية. وكنت أنا وهاني نعتز بها. وكان عمي أبو عزيز صياد ومحارب قوي، رجل يختلف عن أبي، فأبي كان تاجرا يدير المتجر وله دوره الاجتماعي لكنه لم يعرف كيف يحمل البارودة ولا حتى الفرد أو الحجر. وأذكر أن عمي أبو عزيز حمل البارودة، نيابة عن العائلة، وذهب ليحارب. وكان يحكي لنا أنه وصل الى ياخور البقر في رمات يوحنان وكان يسير خلفه قائد فصيل من جيش شكيب، من اولئك الذين كانوا ينامون عندنا. في حينه قتل جارنا فضل لويس، فأراد أبو عزيز أن يزحف ليرى ما أصاب جاره، لكن قائد الفصيل، ذلك الذي ذكرته من جيش شكيب، صاح به: "الى أين يا أبو عزيز"؟ قال له "هذا جاري"، فرد عليه "إذا تقدمت خطوة سأقتلك". كان هناك شعور بأن مؤامرة تحاك على بلدنا، لا أملك أية تفاصيل، لكنني أروي ما شهدناه، وما شاهده الناس".
*يوم سقوط اللد والرملة أصابنا الانكسار
ويواصل ناجي رواية ما سيسرده في كتابه المقبل، ينتقل من حدث إلى آخر، بدون مقدمات، فالسيرة كلها مدونة في ذاكرته، ولسانه يحكيها كما لو كان يعايشها هذه الساعة. في أكثر من مرة كرر "أنا عم بحكي عن أشياء شايفها أمامي". ويحكي عن ذلك اليوم الذي شعر فيه الشفاعمريون، ومعهم كل أهل فلسطين بالانكسار.
"دار الدر كانوا يملكون مكبر صوت، وكانوا يضعونه على الشرفة، وحين يحين موعد بث النشرات الإخبارية الثلاث، في الصباح وعند الساعة الواحدة ظهرا، ومن ثم عند الساعة السابعة أو الثامنة مساء، كانوا يبثون النشرة عبر المكبر، فتجد "باب الحواصل" يعج بالناس، كلهم ينصتون إلى الأخبار. وكان أكثر خبر أثر فينا هو خبر سقوط اللد والرملة. كنت أقف أنا ولبيب مع الناس في ذلك اليوم، وحين أذيع النبأ، نظرنا حولنا فلم نجد أحداً، لقد شعر الناس بالانكسار، وانصرفوا جميعا إلى بيوتهم.
أذكر أنني حين عدت إلى بيتنا، كنت شديد الحزن والغضب، كان بيتنا القديم يقع على طرف الحسبة، البيت الذي تقوم فيه اليوم جمعية الأمل بإدارة الأستاذ الياس جبور، كانت العائلة تجتمع في الطابق السفلي طلبا للسلامة. وعندما وصلت الى البيت ركلت الباب بقدمي، فصاح والدي "ولك، شو عم تعمل"، قلت: "سقطت اللد والرملة"، فقال "شوووووووو"، "وانكسر.. ".. شعرت بانكسار أبي، وانكسار الناس والخوف الذي اجتاح نفوسهم كان بالغ الوضوح. فبسقوط اللد والرملة تضاءل الأمل بأي انجاز وخصوصا بعد أن كنا قد سمعنا عما حدث في نيسان في دير ياسين. صرنا نشعر بنوع من أنواع التأثير المزدوج: خوف من مذابح وحشية، وعدم ثقة بالقوة المتواجدة عندنا، عدم ثقة بمساهمة العرب في مساعدتنا، هذين التيارين المزدوجين حطما الناس تحطيما كاملا. لم تعد هناك ثقة في من يأتي (من جيوش العرب)، وهذا انعكس فعلا بعد فترة صغيرة باحتلال البلد.
• هناك إجماع لدى كل من أرخ للنكبة تقريبا على أن سقوط اللد والرملة أحدث انكسارا في نفسية الناس، لماذا بالذات جاء هذا الانكسار بعد سقوط اللد والرملة، وليس بعد مذبحة دير ياسين مثلا؟
• أولا، لأن سقوط اللد والرملة جاء بعد دير ياسين، الصدمة الأولى كانت في دير ياسين وما حدث من تنكيل بعدد كبير من القرى بعد دير ياسين، كانت دير ياسين عنوانا للوحشية التي كان يقصد منها، طبعا، تخويف الناس، وهذا ما حدث فعلا.
ثانيا: كان هنالك أمل عند بعض الناس، بعد 15 أيار، بأنه لا بد للجامعة العربية، أو "العرب اللي حوالينا" وبشكل خاص الجيش الأردني، الذي كانت تتواجد منه فرق قوية في الرملة، أن تقف وتضع حدا لهذا الانهيار الذي كان يتم أثناء وجود البريطانيين. سادنا نوع من الاعتقاد بأنه بعد خروج البريطانيين، الذين بدءوا فعلا بمساعدة اليهود، سيتاح المجال أمام العرب كي يتدخلوا لصالحنا ويساعدوننا على مواجهة الوضع القائم، ولذلك فان اللد والرملة كانت العنوان الأخير لبداية المأساة. فقبل سقوط اللد والرملة كان لدينا بعض الأمل أما بعدها فقد شاهدت النكسة، شاهدتها في أعين الكبار، في عيون أبي وعمي وجيراننا، الناس كلها فقدت الأمل، وبعضهم بدءوا يحملون متاعهم ويرحلون، ولكن قلائل هم الذين رحلوا طواعية، أما الأغلبية الساحقة فقد طردت، حملوها على شاحنات وكبوها خارج الوطن.
• كيف نجت الناصرة من التهجير؟
ويرحل ناجي بذاكرته عائدا إلى كندا، حين يبدأ الحديث عن مخطط التهجير. ويروي أن كنديا سأله "لماذا لم يطرد اليهود كل عرب الجليل". وكما لو كان السائل يجلس أمامه الآن، ينتفض قائلا: " أولا، هناك شواهد على أنهم كانوا ينوون تحميل أهل الجليل وطردهم، ثم، لماذا يطردون أهل الجليل، هل كان الجليل لهم؟ " ويتذكر كتابا صدر في كندا قبل سنوات لمؤلفه بن دونكلمان، العسكري الكندي اليهودي الذي تطوع في جيش اليهود أيام النكبة. في كتابه، ( صدر في إسرائيل، ايضا في عام 1977، عن دار شوكن، تحت عنوان "ولاء مزدوج") يحكي دونكلمان كيف منع مخططا لطرد أهالي الناصرة. "كان دونكلمان قائد الفرقة التي احتلت الناصرة، وهذا الرجل بمفاهيمه الكندية اعتقد أن الجيش اليهودي يتحلى بالشرف العسكري. بعدما احتلت القوات الصهيونية شفاعمرو وصفورية خرج وجهاء الناصرة لتسليم مدينتهم لدونكلمان، فأعطاهم تعهدا خطيا يضمن سلامتهم الشخصية وسلامة أملاكهم إذا أخلدوا إلى السكينة. ووصل الخبر إلى القائد العام للجيش، حاييم لاسكوف، فأصدر أوامره إلى دونكلمان بتنفيذ مخطط طرد أهالي الناصرة، لكن دونكلمان رفض تنفيذ الأمر، ودار نقاش بينه وبين لاسكوف على مدار أسبوعين، اعتقد انها كانت السبب في منع تنفيذ أمر الطرد الجماعي لأهالي الناصرة."
• طردنا الوالد من البيت خشية أن نقتل أمامه
بين حكاية وحكاية، يتنقل ناجي بين المحطات، وكأني به يقول لنا: "أعطيكم شذرات كي احتفظ بالبقية لكتابي".. ولكنه يعرف أن ذاكرته حين تفيض لا يمكنه التوقف عن الحديث حتى عندما اطرح عليه سؤالا أو أقاطعه، أجد يده تسارع إلى الإمساك بيدي، ثم يواصل الحديث الذي لا ينتهي وكأنه يجلس أمام آلة تسجيل ويفرغ فيها كل ما تحويه ذاكرته. وفجأة يرجع بنا إلى بيت أسرته.. فيحكي لنا ذلك الموقف القاسي الذي واجهه والده بعد سقوط اللد والرملة. ذلك اليوم الذي قرر فيه إخراج أولاده من البيت خوفا على حياتهم، حتى وان كان يعرف بأنه يرسلهم إلى المجهول. "كنا نجلس في الطابق السفلي من البيت، أنا وأبي وأمي، وأخي لبيب وأخواتي سلمى وبهية وليلى، عندما بدأت المدافع تقصف المدينة.. أكثر من 75 قنبلة سقطت على البلد، كان واضحا أن الهجوم على البلد بات قريبا. في تلك الأيام انقطع العمل، وذاقت الناس الأمرين. فتح والدي محفظته وأخرج كل ما احتوته من نقود، وكانت ورقة من فئة عشر ليرات فلسطينية وورقتان من فئة الخمس ليرات، وورقة من فئة الليرتين. نظر إلينا وكان واضحا لنا مدى ارتعابه خوفا علينا. كنت أنا الأصغر من بين أولاده، وسلمى كانت أكبرنا، اكبر مني بـ25 سنة. قال: "يابا اطلعوا من هون" قلنا: "إلى أين"؟. قال: "لا اعرف، المهم اطلعوا من هون". ثم وزع الليرات علينا، أعطى عشرة للبيب وعشرة لليلى ولي ولبهية كل واحد خمسة، وصاح: "اطلعوا لا أريد أن أراكم تقتلون أمام عيوني، ولا أن أرى أخواتكم تغتصبن أمامي، انتم اخرجوا، وإنا وأمكم وأختكم الكبيرة (سلمى) باقون هنا".
ثم يصمت ناجي للحظة، كمن يستعيد ذلك الموقف المأساوي الذي فرضه عليهم والدهم. "تصور" يقول "تلك النفسية لرجل ببعث بأولاده إلى المجهول، وأحدهم عمره 14 عاما، هذه النفسية هي التي أصابت الفلسطينيين جراء عدم الثقة بأحد بعد اللد والرملة."
ثم يعود بذاكرته مرة أخرى إلى الاجتماع العائلي: "قال لنا اطلعوا.. لوين بدنا نطلع. مش مهم، اطلعوا، ". هذه النقطة سأثيرها على أنها تصور المأساة الإنسانية، كيف يصل الأمر باب تعلق بأولاده الى حد كبير، وبفعل الخوف مما رأى وسمع عن وحشية هؤلاء القادمين، يقول لهم: اطلعوا إلى المجهول".
"واطلعنا، لم يكن أمامنا أي مفر.. ولحسن الحظ أو لسوئه وجدنا الدبابات أمامنا. اجتزنا الطلعة المحاذية لدار رحيب الحداد، ودخلنا إلى السوق، ومن هناك واصلنا إلى الكنيسة. نظرت في أرجاء الكنيسة التي كانت تعج بالناس، من مختلف الفئات والطوائف، ورأيت عمي أبو الياس، هذا الذي كان وجيها من الوجهاء الكبار في البلد، وبمرتبة المختار أبو حمادة، وحسين النمر، هذه الطبقة الطيبة.. هذا الرجل الذي كنا ننظر إليه كما لو كان جبلا في الصمود والهيبة، رأيته يجلس على الأرض منهارا، قلت لنفسي: " يا لطيف، لقد أصبح هذا الرجل جبلا منهارا".. شعرت بالفزع، فإذا كان عمي، هذا الذي كنت أشعر بأن الهيبة، تقطر من أذياله، كما يقولون، أراه منهارا أمامي، فكيف بحالي أنا الولد.. لقد ازداد انهياري لكنني كنت واعيا لما يحدث.. وهذه سأرويها في كتابي بكل حذافيرها، ليس كتطور للحدث بقدر ما أريد تصوير الانعكاس في نفسيتي وفي نفسية من حولي من هذا الحدث. أنا أريد التركيز على البعد الإنساني، وليس البعد السياسي فقط. الكل يفهمون البعد السياسي، أما البعد الإنساني، فلا يفهمه إلا من ذاق مرارة المعاناة.."
ويتوقف ناجي للحظة عن الحديث مع دخول ضيف آخر... ثم يرجع إلى حكاية والده.. "أنا أتحدث إليك الآن وأرى والدي أمام ناظري.. أرى صورة وجهه وهو يقول لنا "اطلعوا يا ولاد"، لوين نطلع؟؟ سؤال كبير، نمر عليه اليوم كمر الكرام، ولكن لوين نطلع؟"



#وليد_ياسين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شفاعمريون - من يخلد هذه الأسماء؟
- وداعا أخي احمد سعد، أيها الراسخ كحجارة البروة في وجه العاصفة
- حكاية يوم الأرض 1976
- كلينتون، صمتت دهرا ونطقت عهرا
- المواطنة مقابل الولاء لاسرائيل ورموز الصهيوينة، مشروع قانون ...
- عيد العشاق... الأحمر في فلسطين لون الحب... والحقد
- أجنّة لم ترَ النور في العدوان الأخير على غزّة... أنابيب موال ...
- لماذا يجب أن نصوت في انتخابات الكنيست ولمن؟
- عندما ينتفض أطفال 1948... أمام حقيقة أنهم فلسطينيون!
- التفجيرات الانتحارية والعمالة ...وجهان لعملة البطالة الفلسطي ...
- لماذا هذا الاستغلال؟ رسالة مفتوحة الى بيت الشعر الفلسطيني
- الفلسطينيون ضحايا 11 سبتمبر أيضاً... أي كارثة ونكبتنا مستمرة ...
- قصيدتك الأخيرة
- أربعة طيور حطت على شجرة
- الباحثة العراقية د. سعاد العزاوي: الأمراض السرطانية والتشوها ...
- إليك هناك في بيروت
- بدأت بأغاني فيروز وجالت في أراضي 1948 ... أمل مرقس تحتضن عطر ...
- مونودراما تروي قصة والده يجسّدها أياد شيتي ... ناظم الشريدي ...
- قصص سلام الراسي على مسرح الميدان في حيفا ... «حكي قرايا وحكي ...
- «فتوش» لقاء ثقافات بنكهة المحمّر والقهوة الحيفاوية


المزيد.....




- -الطلاب على استعداد لوضع حياتهم المهنية على المحكّ من أجل ف ...
- امتداد الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جدي ...
- توجيه الاتهام إلى خمسة مراهقين في أستراليا إثر عمليات لمكافح ...
- علييف: لن نزود كييف بالسلاح رغم مناشداتها
- بعد 48 ساعة من الحر الشديد.. الأرصاد المصرية تكشف تطورات مهم ...
- مشكلة فنية تؤدي إلى إغلاق المجال الجوي لجنوب النرويج وتأخير ...
- رئيس الأركان البريطاني: الضربات الروسية للأهداف البعيدة في أ ...
- تركيا.. أحكام بالسجن المطوّل على المدانين بالتسبب بحادث قطار ...
- عواصف رملية تضرب عدة مناطق في روسيا (فيديو)
- لوكاشينكو يحذر أوكرانيا من زوالها كدولة إن لم تقدم على التفا ...


المزيد.....

- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري
- ‏«طوفان الأقصى»، وما بعده..‏ / فهد سليمان
- رغم الخيانة والخدلان والنكران بدأت شجرة الصمود الفلسطيني تث ... / مرزوق الحلالي
- غزَّة في فانتازيا نظرية ما بعد الحقيقة / أحمد جردات
- حديث عن التنمية والإستراتيجية الاقتصادية في الضفة الغربية وق ... / غازي الصوراني
- التطهير الإثني وتشكيل الجغرافيا الاستعمارية الاستيطانية / محمود الصباغ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - وليد ياسين - ناجي فرح يروي حكاية وطن ضاع يوم -قامت لِقْيامِة-