أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى















المزيد.....

الفصل الثالث : مَنأى


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 2998 - 2010 / 5 / 7 - 04:28
المحور: الادب والفن
    


إنّ ما أقصّه هنا ، في كناش تذكرتي ، لن يقرأه أحدٌ غيري ، والله اعلم .
مضى نحو العام ، وأنا مقيمٌ في جزيرة الأروام هذه ، الكبرى ؛ مُسَرْغنٌ في واقع الحال . ولكنّ منفايَ ، الاختياريّ ، بدأ حقيقة ً قبل ذلكَ بسبعة عشر عاماً : مَضيتُ في سفارة ، سرّية ، إلى " جزيرة " أخرى ؛ هيَ بوطان ، التي كانت تختَ إمارة بدرخان باشا ؛ حاكم كردستان ، السابق . كنتُ وقتئذ على خطل الظنّ ، بأنّ سفارتي تلك ستكون مهمّة سهلة ً، نوعاً ـ كحال سابقتيْها في جبل لبنان ومصر ـ وأنها لن تستغرق أكثرَ من بضعة شهور . إلا أنّ هذا ، حديثٌ آخر .
وإذاً فالواقعة ، العجيبة ، التي سأقصّها الآن ، لن يُصدّقها من لم يكن مؤمناً بعقيدة محمّد ؛ على فرَض أنّ تذكرتي هذه ، العتيدة ، وقعتْ بين يديه وكانَ يُجيد العربية . إلا أنني مطمأنّ لحقيقة أخرى ، اختبرتها بنفسي ؛ وهيَ أنّ الحكاية قد اكتسَبَتْ المصداقية من لدن أغلب العامّة والخاصّة ، عندما أضحَتْ الشامَ الشريف قبلة ً لكلّ من كانَ يسعى للقاء وجه ربّه ، عند ساعة القيامة ، القريبة ؛ لكلّ من كانَ يوقنُ ، حقا ، بأنها مدينة الله وجنة الأولى والآخرة . نعم . لقد جرى الأمرُ ثمة ، في قبو منزل الشاملي ، لحظة هممتُ وإياهُ بمغادرته خللَ الممرّ ذاك ، السرّي . وكانَ المُضيف ، من جهته ، شاهداً على مستهلّ الواقعة ، على الأقل .
فحينما نطقَ آخرَ مفردات عبارته ، لحظ هوَ أنّ وجهي بدا على منقلب مُلغز ، مُحيّر ، وقد تناوبته ،على التوالي ، ألوان الصفرة والحمرة والزرقة . من ناحيتي ، أتذكرُ أنّ دفقا دموياً ، غزيراً ، كان لحظتئذ آخذاً بالتصاعد من قلبي ليغمرَ من ثمّ دماغي .
" لن يتبعنا أهلكَ ، إذاً . آه ، تذكرتُ أنّ هذا يوم جمعة ؛ ولا يجوز مُخالفة شرط عقد النكاح " ، خاطبتُ الزعيمَ باستهتار وكنتُ أشعرُ بأنني في بدء بحران لا حدّ له . إذاك ، رشقني الرجلُ بنظرة صارمة ومُشفقة ، في آن . ثمّ ما لبث أن كظمَ مشاعره وقال لي برويّة : " دَع عنكَ القولَ ، يا آغا . هيا لنلحق بجماعتنا قبل أن يفوتَ الوقتُ "
" وإذاً لم يفت الوقتُ ، بَعْدُ . فاصعَدْ إلى فوق ؛ إلى الحَرَمْلك ، لكي تنقذ أبنتكَ من براثن القاتل "
" إنكَ تهذي ، يا رجل "
" إنه هوَ من دسَّ السمّ لآغا القابيقول ؛ إنه من ذبحَ وصيفك ، أيها الزعيم "
" عليهما اللعنة ، معاً . فليكن مصيرهما جهنم وبئس المصير "
" ألا تريدُ أن تعرفَ حقيقة من سَرَق كتابكَ وغدَرَ بكَ في بيتكَ ؟ " ، قلتها بإصرار ثمّ اتجهتُ فجأة نحوَ الباب ذاك ، المُفضي للحرملك لأردف القولَ " أفتح البابَ لأبنتكَ ؛ أفتح البابَ لكي يخرجَ منه روحُ الله " .

ويتذكرُ الزعيم ، بأنني حالما مَسَستُ البابَ ، فقد رحتُ أترنح هنا وهناك ، إلى أن سقطتُ أرضاً . كانَ هوَ يحملُ كيسَ مُدخراته ، الثمين ، وعلى ذلكَ هُرعَ بأثر الآخرين طلباً للنجدة . بَيْدَ أنّ ما أذكره ، من ناحيتي ، كانَ مُختلفاً ولا شك . فلما صرتُ عند الباب ، الموصَد ، خيّل إليّ أنّ ثمة من يقف خلفه . ألتفتُ نحوَ المُضيف ، لكي أحثه ثانية ً على فتح سبيل روح الله ، وإذا به قد اختفى في غلسة ممرّ النجاة . في اللحظة نفسها ، إذا بيد تطرقُ البابَ بإلحاح. فمَيّزتُ بوضوح صوتَ مَعبودتي ، المتضرّع . لحسن الفأل ، كانَ والدها قد نسيَ المفتاحَ في موضعه ، فقمتُ إليه من فوري وعالجتُ به القفلَ . ما أن صرنا وجهاً لوجه ، حتى رَمَتْ ياسمينة نفسها عليّ وكانت تنشجُ بصوت عال . ضممتها بقوّة الشوق والتوق ـ كأنما هيَ أملٌ وحيدٌ على الأرض . أعضاؤنا لحَمَها العناقُ وشفاهنا أذابها الرشفُ . إنها المرة الأولى ، والأخيرة على كلّ حال ، التي يُتاح لنا فيها نعمة الضمّ ، والشمّ ، واللمْس ، والبَوس ، والعَض ، والقرْص ، والهَرش ، والمصّ ، والنيْك ؛ وأيضاً المُناغاة ، والمُناجاة ، والمؤانسة ، والمُداعبة ، والمُفاحشة .. وكلّ ما في قاموس الشهوة ، السرّي ، من مفردات وأفعال .
" يا حبيبي ، بحياتي عندكَ . دََعَني ألاعب أعضائي بهذا العضو "، قالتها برجاء وإغراء . رأيتني ، على خلاف المرة السابقة ، في مًساهلة بيّنة أمامَ رغبتها التلهي بالذكر ذاك ، المُصنع . كانت الآن مُستلقية ً فوق العتبَة ، المُحَجّرَة ، في ألق عريها ، الصاعق ، المَبْذول عضواً عضواً لوثن المُتعة ، الروميّ ، المَشغول من خشب مصقول بحذق وإتقان . من جعبة لحاظ عينيْها الأخاذتيْن ، الساحرَتيْن ، كانت إذاك تريَشُ نحوي السهمَ تلو الاخر ، فيما فمها المُنمَنم ، الزهريّ الشفتيْن ، كانَ يفتح بين حين وحين على أصوات آهاتها وتأوهاتها وتنهداتها وصرخاتها . حتى إذا جُننتُ غيرة ً من ذلك الغريم ، المَصنوع ،
فإنني هُرعتُ نحوها لأنتشلها بيدَيْ الرجولة ، القويتيْن ، فأرفعها في الهواء ثمّ أحطها من بعد في حجري . إذاك ، كانَ كلّ من جسدها المُثير ، المَسكوب من إبريز وفضة ، وشعرها المَحلول ، المدلوق من عسل وشهد ، يفترش لحمَ جَسَدي ، العاري . وإذا بنا نباغتُ بوقع أقدام ، هيّن ، آخذ بالطرق على درجات السلم ، الحجريّ ، الموصول بمدخل الحَرَمْلك . كانَ ما أبصرته ، من ثمّ ، على شيء من الهَوْل ، حتى أنني لم أكد أصدّق عينيّ .

" أنتَ هنا ، أيها الغلام ، وأنا أبحثُ عنكَ فوق في حجرتكَ ؟ "
توجهت المرأة نحوَ ياسمينة بقولها ؛ بفحيح صوتها ، المُرعب . للوهلة الأولى ، كانَ قد خيّلَ لوهمي أنها المُربية ، العجوز ، من تراءى إلينا عند عتبة ذلك الباب . إلا أنّ نور الشمسيّة ، الخافت ، ما عتمَ أن جلا منظرَ المرأة ، المَجهولة . كانت كاملة الوجه والبدن ، زرقاء العينين . فما لبثَ داخلي أن هتف مروّعاً : " إنها الجنيّة ، خصْمُ الصّبْيان ؛ إنها التابعَة " . لقد تذكرتُ بلمحَة ما قرأته ، مرة َ، عن وصف هذه الغول ، التي صادفها رسولُ الله في أحدى الليالي ، فلعنها ووعدها بنار السّعير . نعم . إنها هنا ، الآنَ . ولكنني فكرتُ عندئذ ، مُطمئناً نوعاً ، أنّ الأمرَ أشكلَ على الجنية ؛ حينما تاهتْ في أنحاء المنزل بحثاً عن بغيَتها . أما ياسمينة ، فكانت في حال عَدَم من الفرَق والارتياع والترقب ـ كأنما تنصتُ إلى داعي المَنيّة وهوَ يهمّ بنعي خبَرَها . بحركة عفوية ، مدّتْ فتاتي يدها إلى ثوبها الحريريّ ، الرهيف ، المُلقى إلى جانب فسَترَت جسدها به ، ثمّ خاطبَتْ الغول بصوت ضعيف ، واهن : " أنظري ، يا سيّدتي . أنا لستُ غلاماً ؛ بل امرأة "
" أعرف ذلك ، يا حمقاء . إنني كنتُ أتحدّث مع أبنك وليسَ معك " ، فحّتْ الجنية مُجدداً وكانت ترمي بطنَ ياسمينة بشرر أزرق من حدَقتيْها الشريرتيْن . ما يُنكي ، أنّ وجودي لم يكن يعني شيئاً لهذه المخلوق ، المسخ ؛ أو أنها عَميَتْ عنه لسبب ما . وعادتْ الفتاة تتوسّل مُنتحبة ً: " دَعيني ألده ، أولاً ؛ فهوَ روحُ الله " . فما أن سَمعَتْ الشريرة اسم الخالق جلّ وعلا ،حتى فارقتْ هدوءها إلى منقلب طائش ، لا يُحمَدُ عقباه . إذاك ، انقضتْ على ياسمينة ، المسكينة ، فأمسكتْ يَديْها وصارتْ تكتفهما ، ثمّ سَحَبَتْ الثوبَ وشرَعَت تقمّطها به . من جهتي ، كنتُ مشلولَ الإرادة ، مسلوبَ الفكر ، مُكوّماً على عريي بالقرب من بقعة صراع المَصير هذا . ولكنّ مَولانا ، قدّسَ سرّه ، كانَ ثمة ، إلى الأخير ؛ وأجازَ لي بعلامة من حضوره : وكانَ الخاتمُ ، في بنصر يدي اليمنى ، هوَ العلامة ، المَطلوبة . لقد استعدتُ وعيي بلمحَة ، فتذكرتُ أنّ السيوطي ، في مؤلفه " كتاب الرحمة " ، أوحى بطريقة نجاة ، وحيدة ، للخلاص من براثن التابعًة .

" أواه ، عيني . أواه ، ماذا فعلت يا فاجرة ؟ "
صرختْ الجنية برعد صوتها ، الهادر والمُرعب . تأكدتُ إذاً من أنها لم تلحظ وجودي ؛ ولغاية في نفسه سبحانه وتعالى . وكنتُ قد تناولتُ الذكرَ الخشبيّ ، المُهمل أرضاً ، فهويتُ به بضربة قوية ، ماحقة ، على مكمن السّحْر ، الأزرق ؛ على عيني الغول . برأس الذكر ، المُدبّب ـ كنصل سيف رومانيّ ـ طعنتُ أولاً العينَ اليسرى ، ثمّ سحَبته بلمحَة وثنيتُ على العين الأخرى . " هيا ، لنفرّ من هنا " ، هتفتُ بحبيبتي في اللحظة التالية . وكانت الجنيّة ، عمياءَ ومَسعورة ، قد أفلتتْ الفتاة من يديها وأخت تصرخ وهيَ تشدّ بكفيها على العينيْن ، المَدميتيْن : " تعالَ يا أخي شمْهورَش ؛ تعالَ يا قاضي الجنّ وخذ بحَيْفي من هذه البغي ". كنتُ وفتاتي في الممرّ السرّي ، المُعتم ، نركضُ بأقصى سرعة أقدامنا ،عندما سَمعنا خلفنا ما يُشبه دمدمَة ، مُزمجرَة ، لدابّة ما ، مفترسَة ، تجري بأثرنا . وبما أنني كنتُ لا مرئياً لجماعة الجنّ ، فإنني حثثتُ ياسمينة أن تواصلَ ركضها وألا تلتفتَ خلفها .
" وداعاً ، يا حبيبي . ربما نلتقي ثمة ، في الحياة الآخرة . لا تفرّط بالكناش ، وعشْ سعيداً " ، كانَ هذا ، ويا للحَسْرَة ، آخر كلمات الحبيبة ، المَعبودَة ؛ وبالتالي ، آخر عهدي بها في الحياة الأولى . فما أن غابَ صوتها ، حتى تجسّمَ قاضي الجنّ ذاك ، بهيئة آدمية ، فحاذاني دون أن يلمَحَني فيما كان يهرولُ نحوَ هدفه. إلى ظهر هذا المَخلوق ، المسخ ، قذفتُ خاتمَ النجاة رأساً وبكلّ توقي لإنقاذ ياسمينتي . ترنحَ الغولُ ، وما لبثَ أن وقعَ أرضاً . وكنتُ بدوري قد حاذيته راكضاً بأنفاس لاهثة ، متقطعة ، فالتقطتُ خاتمي بهداية بصيص من نوره ، القدسيّ ، ثمّ تابعتُ الجَري . " الشكرُ لله " ، صرتُ أرددُ في سرّي لازمَة المؤمن في كلّ حين . حتى إذا بدا لي أنني وصلتُ إلى نهاية الممرّ ، فقد فاجأني ثمة مرأى طرق أربع . كلّ من تلك الطرق ، كما تأكدَ لعينيّ ، كان عبارة عن ممرّ بدوره ، أضيقَ قليلاً من الممر الأصل ، وكان يؤدي إلى جهة مختلفة عن الأخرى .
" آه ، إنها المَتاهة " ، ندّتْ عني بنفخة قنوط . ولكن ، يا لسَعد من يكون شيخه حليفاً . إذ كانت هناك ، في سقف النفق ، كوى مُضاءة بشمس النهار ، الساطعة . عند ذلك لحظتُ كتابة بالعربية ، منقوشة ضمن إطار حجريّ ، مثبّت عند مدخل كل ممرّ : " الوزير " لليافطة الأولى ؛ " القاتل " للثانية ؛ " الكتاب " للثالثة ؛ و" ياسمينة " للرابعة . هنا ، عند هذه اليافطة ، الأخيرة ، راوحتُ قدميّ وأنا في منقلب الحال من الأمل إلى اليأس . نعم . كان مدخل ممرّ ياسمينتي مَسدوداً بجدار زجاجيّ ، مُصمّت ، لا يكاد يُرى . وكنتُ قد حاولتُ عبثاً ، بمعونة الخاتم وبدونها ، أن أخترقَ حُجُبَ هذا العائق ، الطاريء . أشتعلَ غضبي مرارة ً ، فإذا بي أقذف بالخاتم إلى الخلف . عندئذ ، حَدَثٌ أمرٌ آخر ، عجبٌ ، يَمتّ لعجائب هذا اليوم ، المًستطير . فقد بَرَقَ فوقي سقفُ الممرّ ، المُجَذع برقائق الخشب ، ثمّ أعقبَ ذلك دويّ مُرعد . مُباغتاً ، ألتفتّ إلى وراء لأجدَ الممر الثالث ، المُحاذي ، مُناراً بضوء ساطع ، مُبهر : وكانَ كناش الشيخ ، البرزنجي ، هناك في صدر المكان ذاك ؛ الذي بدا بسقفه المُرتفع ، المُزخرف ، وباتساع باحته ، المُرخمَة ـ كما لو أنه قاعة مكتبة ، رَحبَة ، في منزل أحد السّراة . كانَ الطريق مفتوحاً ، ميسوراً ، فاتجهتْ نحوَ كتابي بتصميم وثقة وجسارة .

" أفتح البابَ لأبنتكَ ؛ أفتح البابَ لكي يخرجَ منه روحُ الله "
هكذا كنتُ قد خاطبتُ الزعيم ، عندما همّ بتركي وحيداً عند مدخل الممرّ ذاك ، السرّي . وفيما بعد ، حينما سيذاعُ على الملأ خبرُ الواقعة ، فإنّ اسمَ ياسمينة حذفَ منه ببساطة . وكانَ ذلك لسببيْن ، كما قدّرتُ ؛ أولهما ، أننا مسلمون ، عثمانيون ، ولا مكانَ للأنثى ، باعتقادنا ، في أصل النبوّة ؛ وثانيهما ، أنّ رمزَ " العذراء " ، كان يوحي لنا بعقيدة أهل الصلبوت ، الكفار .
وعلى كلّ حال ، فإنّ بعضَ أتباع الأرفاض ، من الشيعة الغاليَة ، زحفوا إلى لقائي آنذاك بوهم أنني " الباب " ؛ أنني المُنذرُ بظهور من يؤمنونَ بأنه الغائب ، المُنتظر . أما أخواننا ، السنة ، فإنهم على اختلاف فرقهم ومذاهبهم قد أجمعوا على الاعتقاد ، يقيناً ، بأنّ روح الله ، المُبَشَّر بوراثة الأرض ، إن هوَ إلا الخضر عليه السلام .
وليغفر الربّ لهذا العبد ، الذي يخط كلماته هنا ، إذا أعتقدَ ، بدوره ، أنه التقى البشارة في مكان آخر ، غير الشام . وسأذكرُ نتفاً من اللقاء ، الذي حصلَ هناك ، في الآستانة . فقبل عام مضى ، كنتُ في قصر الأمير بدرخان ، حينما دخلَ علينا رجلٌ أربعينيّ ، مكتس بملابس خضراء ، وكانَ النورُ يتلألأ في قسماته الدقيقة ، البهيّة . آنذاك ، كانَ الأميرُ ينتظر قرارَ سَرْغنته ، بعدما حصلَ على عفو مولانا السلطان ، وكانَ قصرُهُ مَحَجََّ كثيرين من أبناء قومه ؛ من المقيمين في تخت السلطنة ، خصوصاً . كانَ من زواره الوجهاءُ والملاكُ والضباط وموظفو الدولة ، الكبار . وأيضاً كان بينهم الفقراءُ ، من حرفيين وحمالين وموسيقيين ومطربين وشعراء . من هذه الفئة ، الأخيرة ، كانَ ذاكَ الرجل ، الأخضر ـ كما قدّم نفسه . لقد حَمَلَ الشاعرُ هديّة لأميره ؛ نسخة من مجموعة قصائده ، التي كانَ ينوي طباعتها في العاصمة ، والمُتصدّرة بهذا العنوان ، " ديوان نالي " .
" إنّ اسمَ الكتاب ، ولا غرو ، يُنبي بأنّ صاحبه في حال من الجَوَى والألم " ، توجّه الأميرُ إلى الضيف بنبرَة وديّة ، دافئة . صوت الشاعرُ ، كانَ عميقاً بحق ، وكأنما صادرٌ من أغوار مغارة ، مُستحيلة . وبهذا الصوت ، ردّ على تحيّة مُضيفه بالقول : " إنه اسمُ خادمكم ، يا سيّدي ". ولقد أكرمَ الضيفُ ، كما كانَ شأنُ بقية ضيوف القصر ، ثمّ أنصرفَ إلى حال سبيله . وكنتُ في تلك الأثناء قد تحادثتُ مع الرجل بلهجته، المميزة ؛ بما أنني أنحدرُ ، مثله سواءً بسواء ، من أحدى قصبات إمارة بابان . وعلمتُ منه أنه سبق وزارَ الشام ، عقب خروج المصريين منها ، وأنها كانت وقتئذ من سوء الحال، أنّ أهلها كانوا على يقين بقرب القيامة ، وينتظرون نذيرها . وطالما أنّ الشاعرَ كانَ مُريداً ، نقشبندياً ، فقد وجَدَ مأوىً في أحدى حجرات تكية مولانا ، الجاثمة في سفح جبل الصالحية ، فبقيَ هناك حوالي ثلاثة أعوام . هذا ما كانَ من أمره في الشام . أما هنا ، في الآستانة ، فما مضى أسبوعٌ على الأثر ، إلا والعيون تنتشر في أنحاء المدينة ، بحثاً عن ذلك الشاعر." إنّ لهذا الديوان شأناً خطيراً ، في قادم الأيام ؛ إنه سيكونُ قرآنَ الكرد " ، هتفَ الأميرُ بنبوءته لحاشيَة مجلسه . من جهتي ، كنتُ أكثر اهتماماً بأمر آخر ، عرفته تواً ؛ وهوَ أنّ اسمَ الشاعر ، الحقيقي ، كان " الخضرُ ".

> مستهل الفصل الثالث من رواية " الأولى والآخرة " ..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13
- الأولى والآخرة : مَرقى 12
- الأولى والآخرة : مَرقى 11
- الأولى والآخرة : مَرقى 10
- الأولى والآخرة : مَرقى 9
- الأولى والآخرة : مَرقى 8
- الأولى والآخرة : مَرقى 7
- الأولى والآخرة : مَرقى 6
- الأولى والآخرة : مَرقى 5


المزيد.....




- فنانة تشكيلية إسرائيلية تنشر تفاصيل حوار خطير عن غزة دار بين ...
- مغني راب أمريكي يرتدي بيانو بحفل -ميت غالا- ويروج لموسيقى جد ...
- فنانو أوبرا لبنانيون يغنون أناشيد النصر
- 72 فنانا يطالبون باستبعاد إسرائيل من -يوروفيجن 2025- بسبب جر ...
- أسرار المدن السينمائية التي تفضلها هوليود
- في مئوية -الرواية العظيمة-.. الحلم الأميركي بين الموت والحيا ...
- الغاوون:قصيدة (مش ناوى ترجع مالسفر )الشاعر ايمن خميس بطيخ.مص ...
- الشاعر الفلسطيني مصعب أبو توهة يفوز بجائزة -بوليتزر-
- الثقافة العربية بالترجمات الهندية.. مكتبة كتارا تفتح جسرا جد ...
- ترامب يأمر بفرض رسوم جمركية على الأفلام السينمائية المنتجة خ ...


المزيد.....

- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى