مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 2882 - 2010 / 1 / 8 - 13:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعود هستيريا البقاء من جديد لتسيطر على أسماعنا و وعينا , لا تنقص أمريكا و لا الأصوليون الرغبة و الشراسة أو الهمجية المطلوبة لخوض الصراع , و تخدم شراسة الخصم و همجيته هنا في إيصال قمع البشر إلى مستويات أعلى فأعلى , هكذا فإن شراسة الصراع تخدم غرضا أساسيا لدى طرفيه , و هو دفع الناس بعيدا عن التفكير في مشاكلهم و محاولة حلها بإغراقهم في البحث عن البقاء وسط الصراع الشرس للسيطرة على عالمهم و وسط الأزمات التي تتلاعب بحياتهم التي خلقتها القوى السائدة . في حرب مشابهة دارت في سوريا أواخر السبعينيات و أوائل الثمانينيات بين النظام و القوى الأصولية سجلت المعارضة الديمقراطية السورية يومها موقفا تاريخيا , تمثل في رفض تبرير قمع النظام بحجة المواجهة مع الأصوليين و رفض العنف الأصولي في مواجهة النظام كوسيلة غير ديمقراطية في خدمة غاية غير ديمقراطية هي استيلاء نخبة تعتبر نفسها مخولة بحكم البشر رغم أنفهم على السلطة , دعت المعارضة السورية اليسارية و القومية يومها إلى مخرج للأزمة يقوم على حرية الشعب أي إطلاق الديمقراطية للشعب في مواجهة قمع النظام و عنف معارضيه , و دفعت ثمن هذا الموقف سنوات طويلة من عمر أعضائها وراء قضبان سجون النظام . كان الصراع يومها مريرا أيضا و جرى وسط أزمة اقتصادية حقيقية ضربت سوريا لكن النظام تمكن في النهاية , بمساعدة غير مباشرة من همجية عنف الأصوليين و تبريراته الطائفية , من إنجاز استيلائه النهائي على المجتمع و إلغاء وسائله الدفاعية ضد تغوله المنفلت . إن النتيجة الأساسية لفوبيا أو رهاب البقاء الذي يستفزه إعلام القوى السائدة و قمعها المتناغم مع عنف الأصوليين هو تهميش الناس و قضاياهم و إنتاج رضوخهم مهما بلغت المعاناة التي تلف حياتهم أو في واقع الأمر انسحابهم النهائي من الفعل لجيل قادم على الأقل . في الحقيقة إن جزءا أساسيا من التهديد الذي استخدمته وسائل إعلام الإمبريالية كان وهميا أو مبالغا فيه على أقل تقدير , يكفي أن نذكر أن ضحايا الأمراض القابلة للعلاج في أمريكا و أوروبا نفسها يتجاوز بأعداد هائلة ما يمكن لأية أعمال إرهابية أن تسببه , خاصة بين الفقراء و المهمشين اجتماعيا , لكن الطبقات السائدة استخدمت هذا الخطر و ضخمته لخلق حالة من الخضوع العام و لتشدد من قبضة أجهزتها على البشر , لتلغي فكرة المعارضة و الاحتجاج و لتروج لفكرة أن كل الطبقات هي في قارب واحد في مواجهة خطر مشترك لكن بحيث تبقى قيادة هذا المركب بيد الطبقات السائدة , إن هستيريا البقاء التي أثارتها وسائل إعلام الطغمة المالكة و الحاكمة في الغرب الرأسمالي هي أساس هجومها على مكتسبات شعوبها بالذات خاصة في مجال الحريات و اقتسام أكثر عدالة لنتاج عمل الملايين و نهبها . لكن هذا الخطر الذي ضخمته وسائل إعلامها استخدمه الأصوليون بشكل ذكي تماما ليسجلوا فشل تلك القوى المهيمنة على العالم في استبعاد خطرهم التافه بالمقاييس الإستراتيجية و الهائل , بشكل غير اعتيادي , وفق توصيف إعلام القوى السائدة نفسها , فمثل هذا الخطر لن يمكن القضاء عليه أبدا بالإمعان في نهب الشرق و إذلال أبنائه سواء مباشرة أو بشكل غير مباشر عن طريق الديكتاتوريات الأشبه بالديناصورات في عالمنا العربي , لكن ليس أمام الإمبراطورية أي بديل , فأي بديل آخر يعني التراجع , ليس أمام الأصوليين , بل أمام البشر أنفسهم , ضحاياها , سواء في مجتمعاتها أم في المجتمعات التي تحافظ على تخلفها بواسطة منظومة النهب العالمي . لهذه الحرب وجه آخر , فالإمبراطورية غارقة في أزماتها , لا يفوت أحد هنا الشبه الغريب بين غورباتشوف و أوباما , جاء كلاهما في فترة أزمة عميقة في النظامين و اعتبر كلا منهما أن هدف سياساته هو إصلاح النظام رغم أنها انتهت لتدمير النظام نفسه في الحالة السوفيتية عندما تبين أن النظام كان عصيا على الإصلاح , و أن كلا منهما مخطئ في سياساته على أقل تقدير أو معادي للنظام , غورباتشوف بالنسبة للمؤسسة الحزبية و العسكرية و الدولتية البيروقراطية و أوباما بالنسبة للمحافظين الجدد , و قد لعب غباء هؤلاء السياسيين في روسيا الدور الأبرز في انهيار النظام , و يملك المحافظون الجدد ما يكفي من الغباء للقيام بدور مشابه في الإمبراطورية الأمريكية يتبدى في هجومهم المتواصل على أوباما و كل شيء في العالم خارج الإمبراطورية التي أقاموها منذ عهد ريغان , الذي يستخدم أسوأ ما في الترسانة العنصرية و حتى الفاشية من تهم و عبارات و تبريرات . لكن القضية الأساسية يتمثل في قدرة إدارة أوباما على تطبيق سياسات كنزية قادرة على تجاوز الأزمة و في قابلية المؤسسات التي أنشأها المحافظون الجدد منذ ريغان و التي قامت على إلغاء كل القيود أمام رأس المال لتحصيل الربح مقابل أي ثمن على تطبيق هذه السياسات . كانت النيوليبرالية ثورة النخب المالية و البيروقراطية و الاقتصادية و حتى الثقافية المرتبطة بها ضد النظام الكينزي القائم على العقد الجديد و قد عمل منذ بداياته ( منذ أيام صعود تاتشر و ريغان الأولى ) على تدمير النقابات و أية منظمات أو مؤسسات يمكن للجماهير أن تستخدمها للدفاع عن نفسها في مواجهة تغول رأس المال , دمرت هذه السياسات إلى حد كبير القدرة على تطبيق سياسات إصلاحية من قبل المؤسسة القائمة على رأس الإمبراطورية , فإن هذا سيعني أنها ستنقلب ضد ذاتها , و ثمن هذا قد يكون باهظ جدا . على الجهة المقابلة لا يمكن لعالمنا العربي أن يتحول إلى إمارة طالبان كبيرة , و لو أنه من الممكن أن تستولي قوى أصولية على السلطة في ظل عزلة القوى اليسارية و الحداثية عن الشارع و تحول أغلبها إلى مجرد تابع إما للأنظمة القائمة التي أصبحت تشبه ديناصورات لم تنقرض ليس بسبب مهارتها و مزاياها و حذاقتها بل لأن مرضها العضال قد انتقل إلى المجتمع و لأن إعلان موتها ينتظر ولادة حياة جديدة في مجتمعاتنا التي تمكنت هذه الأنظمة من إدخالها في حالة ركود أو كمون طويل , أو للنظام الرأسمالي العالمي الذي يغطي نهبه و قمعه بمزاعم الحداثة أو بأموال تستطيع ضم جزء هام من النخب المثقفة و المسيسة إلى مؤسسات المرتزقة التي يستخدمها , و قد يحدث هذا استنادا إلى شعبية حقيقية كما جرى في إيران 1979 لكن هذا يختلف أولا عن تحول مجتمعاتنا إلى إمارة طالبانية كبرى ( و هو خيار شبه مستحيل فعلا على الأقل بالنسبة لأغلب مجتمعاتنا ما عدا بعض البؤر التي قويت فيها القوى الأصولية و نفوذها غالبا بدعم و تحريض من الدولة القائمة و من ورائها النظام الرأسمالي العالمي كاليمن مثلا و أفغانستان ) و ثانيا لا يعني هذا نهاية لأزمة هذه القوى فالخلاص من القوى الشيطانية و فرض النظام المقدس يشكل البداية الحقيقية لأزمة هذه القوى , التي عليها أن تنتظر عندها دعم السماء لحل أزمات أرضنا و خاصة تلك الناتجة عن سيطرة تحالف البازار ( أو رأس المال المحلي ) مع بيروقراطية السلطة مع المؤسسة الدينية ( كما في إيران و السودان و مؤخرا العراق ) . لا يستطيع اليسار أن يتخذ نفس موقف المعارضة السورية بين النظام و الإخوان , إن انحطاط اليسار الستاليني أكثر من منطقي , إنه رغم استمراره في ممارساته الشمولية ضد أتباعه أساسا لا يشكل الملجأ الممكن لمناهضة الإمبراطورية و هو إما أن يمارس المديح للقوى الأصولية و الأنظمة التي تناهض هذه الإمبراطورية بما في ذلك أفكارها وممارساتها الشمولية أو أن يكتفي بالترويج لذكريات الماضي على أنه العهد الذهبي لمقاومة الإمبراطورية , أما اليسار المتلبرل فهو منفعل أيضا بما يجري , ليس أكثر من قوة تبرير إيديولوجية فقط عزلاء في مواجهة الشارع الذي يصمها بالعمالة للغرب و هو لا يرغب بفعل أكثر من التلاسن مع الأصوليين و بقايا اليسار الستاليني و الجديد , أما اليسار الجديد فهو ضعيف جدا و ذلك أساسا لأنه لم يمارس بعد نقدا جذريا كافيا لمرجعياته و ممارساته و أساليبه و بناه , لكن قضية دفاع الناس عن أنفسهم و عن حياتهم وحقوقهم ليست قضية حزبية أو قضية تنظيمية , إنها أساسا تتمثل في فضح هستيريا البقاء و همجية طرفي الصراع على عالم يصنعه ملايين البشر و يملكه و يتحكم به و يتنافس عليه عدد محدود جدا من السادة , في المشاركة الفاعلة في الدفاع الإيجابي ضد أي قمع و قهر واقع على الناس من أي مصدر كان , في فضح ثقافة القمع و القهر نفسها دون هوادة أو مساومة......
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟