أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)- 14














المزيد.....

أسير العبارة (رواية)- 14


عبدالحميد البرنس

الحوار المتمدن-العدد: 2878 - 2010 / 1 / 4 - 00:54
المحور: الادب والفن
    


شغلتني الدنيا عن ياسر كوكو طويلا.
كنت تائها في صحراء الرغبة. يكاد يقتلني الظمأ. "أماندا" ماء السراب. "تبدو ولا تبين". ظلت لمدى عامين تقريبا، بعد تلك السهرة مع عمر و"جيسكا"، تشعل الحرائق داخل سراويلي الناشفة، قبل أن تتسرب من بين أصابعي مثل ذرات الرمل الناعم. كنت أطفيء ما اندلع بعلاقات عابرة زادت وهج تلك الحرائق بسعير حرائق أخرى. لعل ذلك ما أرادت وخططت ونفذت بشوق سفينة تتهادى بين الصخور صوب مرساها الأحب بحكمة. آناء ذلك، كانت تشاركني الأنخاب، تجالسني لساعات، تمنحني إمكانية أن أكتشف مفاتيح قوامها المتناسق في رشاقة عارضة أزياء، لكنها أبدا لم تمكني من رؤية النبع لثانية واحدة. كنت سائرا على حافة اليأس والأمل. كانت تؤمن بحكمة أن الرجال إذا ما قضوا وطرهم يقلعون باكرا صوب مصبات أخرى.
لا شيء يخفف من أوجاع المنفي الغريب قليلا سوى الغناء:
بحياتك يا ولدي امرأةٌ
عيناها، سبحانَ المعبود
فمُها مرسومٌ كالعنقود
ضحكتُها موسيقى و ورود
لكنَّ سماءكَ ممطرةٌ..
وطريقكَ مسدودٌ.. مسدود

متأنق. موفور الصحة. يبدو عليه دائما أنه أخذ قسطا كافيا من النوم. جلده لامع من أثر النعمة. يمضغ طعامه ببطء ومتعة. يؤدي وظيفته كحارس كما لو أنه يعمل مديرا للمخابرات الأمريكية. "اللون الأحمر عنوان هذه الوردية". "طواريء على جميع مداخل ومخارج المحل التجاري". "قابِلني بعد عملية المسح الشامل عند النقطة رقم 17". كان يحلو له كمتحدر من أصل انجليزي أن يحيط نفسه بسياج كثيف من قصص أقربائه الذين يتولون مناصب عليا في الدولة.
في المرات القليلة التي رأيتها معه فيها، بدت نحيلة، متعبة، شاحبة، تتحدث فتحس كما لو أنها توشك على البكاء عند أدنى بادرة، لا تعني بثيابها كثيرا، عيناها حزينتان، لكن في نظرتها شيء أقرب إلى الحنان. شفتاها، حين تقابله أوتودعه، كان يشع منهما حب وديع مسالم، فلا تملك إلا أن تقول في قرارة نفسك: "يا لها من قُبلة خاطفة".
"لكأنه يتغذى عليها، مصاص الدماء"!.
هكذا، بعبارة واحدة، وهي تعبر عن ضيقها القديم به، لخصت "ليليان" علاقة "جيف" مع زوجته "دون فِيشر"، وقد ارتسم على وجهها تعبير طفولي غريب. "ليليان"، كان أكثر ما يزعجها في هذا العالم إلى جانب معاناتها من آلام اللثة أن يتم تغيير جدول العمل كما يحدث عادة وتعمل مع "جيف" في نفس التوقيت أوالوردية. "اللعنة، هذا الرجل ممل، اللعنة، هذا الرجل يتحدث مثل كتاب، اللعنة، من أين أتى بكل هذا الشعور بالأهمية "؟.

جئت إلى كندا لاجئا، مترعا بالخيبات والأحزان، متخما بمشاكل لا حلول لها، غنيا عن صنع عداوات جديدة. الغرباء يمشون في خوف، يأكلون خائفين، يعاشرون بخوف، الخوف غريزة للبقاء في عالم المنفيين الغرباء. ربما لهذا، ظللت أشتري، بحكمة كاهن، من "ليليان" و"جيري" والرئيس "وين" و"جيف"، مشاعرهم تجاه بعضهم البعض كزملاء في بيئة عمل ضيقة. لم أكن أمتلك كغريب ترف أن أكون بائعا. كنت في كثير من الأحيان بمثابة مقلب القمامة المؤتمن على مشاعرهم السلبية. لا روائح تفوح مني. كل شيء يعتمل متعفنا في داخلي. كانوا كلما يقذفون بزبالة يمضون لحال سبيلهم وقد ارتسم على ملامحهم شعور بالراحة كما لو أنهم تخلصوا من شيء كريه. لم يكن يهمهم شيء من حياتي. لكن أغلبهم أبدى لحظة أن غادرتهم مشاعر طيبة. لعله إحساس الفقد بمقلب قمامة مؤتمن و"جيري" المحب نسيج وحده. حتى الآن، لا أدري لماذا يكون الناس، في لحظات الوداع، على هذه الدرجة العالية من المشاركة أوالطيبة؟.
كانت "دون فيشر" تعمل في مصلحة حكومية غير بعيد من ذلك المجمع التجاري الضخم. كانت في بداية الثلاثين. لكنك حين تراها تضيف لها عقدا. البيض تظهر عليهم آثار السنوات. ينضجون ويهرمون مبكرا. تصادف فتاة في العشرين، أوحتى أقل بكثير، وأنت عند أعتاب الأربعين، تكون هي قد راكمت من خبرات هذا العالم ما يجعلك تطالب بحياة أخرى كيما تقوم بترميم البناء النفسي الهش في دواخلك. أذكر أني قابلت منفيا في القاهرة، كان في أواخر الأربعينيات، وقد قدم للتو من ليبيا، كان يتحدث بصورة غير مباشرة عن سمو أخلاقه، قائلا إنه لا يعرف حتى الآن كيف تبدو المرأة "من تحت". بعدها بأيام، أوردت الصحف المصرية نبأ رجل على مشارف الخمسين قام بقطع عضوه الذكري بعد أن أصابه اليأس من تخزينه كل هذه السنوات. كان محظوظا حين ترك باب الشقة مواربا ولحق به أخيه كرسول من القدر. أفادت "أخبار الحوادث" وقتها أن الأطباء قاموا في ما يشبه المعجزة بإعادته إليه. لم يوضح المحرر ساعتها إمكانية استخدامه لأغراض خارج وظائف التبول العادية. ما كان يشغلني وقتها إمكانية وجود قطة في المكان بعد عملية القطع البشعة تلك.
في الأيام، التي ظللت أعمل فيها مع "جيف" خلال نفس الوردية، كانت "دون فيشر" تأتي إلى المجمع التجاري، حاملة في يدها شنطة قماش خضراء متوسطة الحجم، تحتوي على طعام داخل عُلب بلاستيكية صغيرة وأكواب فارغة، كان وقت راحتها المخصص لتلك الوجبة النهارية ساعة بالتمام، بينما لا يتجاوز الوقت المخصص لنا نصف الساعة. كانت تقوم بتدفئة الطعام قبل أن تحضر مباشرة. تجلس على مائدة من موائد "كافتيريا" المجمع التجاري الجنوبية الواسعة في الطابق تحت الأرضي. تضع العلب على المائدة في هدوء. تزيح أغطيتها واحدا واحدا. تملأ كوبين بماء مغلي من ماسورة ملحقة بالكافتيريا. تسكب على الكوبين من صرة صغيرة مسحوق شوربة صينية مجففة تفوح منها رائحة بهارات قوية. كانت تفعل ذلك بتساو دقيق. لكأنها تزن أمرا أقرب إلى الذهب. لا ريب أنها كانت مليحة في مطلع شبابها. آثار الجمال القديم على وجوه النساء يصيبني بنوع من الأسى. أخيرا، حين يقبل نحوها "جيف"، قبل خمس دقائق من بداية وقته المخصص للراحة، وكان يسترق مثلها بعد انتهاء الزمن المحدد له؛ يجدها في العادة تنتظره مطرقة، تضغط على أصابعها بعصبية خفية، وهو كان ينحني، يقبلها خطفا، وقد ارتسم على وجهه ذلك التعبير الإنساني الخالد: الجلوس إلى المائدة.





#عبدالحميد_البرنس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسير العبارة (رواية)- 2
- أسير العبارة (رواية)- 3
- أسير العبارة (رواية)-4
- أسير العبارة (رواية)- 5
- أسير العبارة (رواية)- 6
- أسير العبارة (رواية)- 7
- أسير العبارة (رواية)- 8
- أسير العبارة (رواية)- 9
- أسير العبارة (رواية)- 10
- أسير العبارة (رواية)- 11
- أسير العبارة (رواية)- 12
- أسير العبارة (رواية)- 13
- أسير العبارة (رواية)- 1
- مرثية للطيب صالح
- إني لأجد ريح نهلة
- وداع في صباح باهت بعيد
- ملف داخل كومبيوتر محمول
- لغة
- نصّان
- زاوية لرجل وحيد في بناية


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)- 14