أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)- 12















المزيد.....

أسير العبارة (رواية)- 12


عبدالحميد البرنس

الحوار المتمدن-العدد: 2876 - 2010 / 1 / 2 - 01:10
المحور: الادب والفن
    


قدمت إلى تلك المدينة الكندية ذات مساء ممطر بعيد. كان في استقبالنا عراقي من مركز "إعادة توطين اللاجئين الجدد" وسائق من شرق أوربا وُجِدَ بعد عدة أشهر مذبوحا في شقته من الوريد إلى الوريد. قيل وقتها أن في الأمر إمرأة. الموت هنا أمر عادي قلما تشعر به. الناس لا يتوقفون عنده طويلا. لكني ظللت أفكر في ذلك الوجه العابر لمدى أكثر من عام. وجه مأكول مسحوب إلى أسفل بذقن مدببة حادة. تتصدره عينان كبيرتان تطل منهما دائما عذابات مجهولة تختبيء في مرات عديدة وراء دخان سيجارته الرمادي الكثيف المتصاعد في خطوط متعرجة أشبه ما تكون بالمتاهة. الغرباء يبحثون أحيانا عن قبور بعيدة وجنائز صامتة.
بعد نحو ثلاثة أيام من وصولي، سألني منفي كان قد سبقني إلى المدينة بنحو شهر تقريبا: "لماذ لا تتواجد في مجتمع المنفيين حتى الآن"؟. كنت لا أزال أقطن في السكن المؤقت التابع لمركز "إعادة توطين اللاجئين الجدد" بعمارة "كمبرلاند" الضخمة. عمارة يكاد يملؤها القوادون وتجار المخدرات الصغار وبائعات الهوى وما لا يعلمه سوى الله. "وكيف أعثر عليهم"؟، سألته بحيرة لا تخلو من غرابة. قال: "المسألة بسيطة. لديهم برنامج شبه ثابت. يتجمعون عصر كل يوم قبالة هذه العمارة هناك في حديقة "سنترال بارك". يمكنك رؤية الحديقة من هنا. ظهرا يتوافدون إلى محل تجاري ضخم يدعى "بورتج بليس". على مرمى حجر من هنا. ليلا عادة ما يسهرون في شقة عادل سحلب ناحية مقرن النيلين "الفوركس". وهكذا دواليك، يا صديقي". تلك ذات الشقة التي تناهى إليَّ فيها صوت "أماندا" عبر الهاتف لأول مرة. كان ذلك بمثابة نقطة تحول في حياتي كلها. تحول اتخذ مجراه العميق لاحقا، عندما طلبت مني "أماندا" أخيرا أن أنزع وصلة الهاتف عند منتصف تلك الليلة، قائلة بأجفان أسدلتها لذة السُكر على أبواب لذة أخرى: "هذا وقتي الخاص، يا وليم".
كانت صفحات وجوه أولئك المنفيين تتفاوت من منفي لآخر. ثمة صفحة تشعر كما لو أنها كُتبت تحت تأثير خوف غامض من أسفل لأعلى. صفحة أخرى رُسمت على حواف الملل بأحرف منمقة. صفحة ثالثة تتخلل كلماتها على خلفية من توجس لا مبرر له آثارُ شطب عديدة. صفحة رابعة بانت أحرفها ممحوَّة في أكثر من موقع من جراء دمع الحنين أوالأسى. كان ياسر كوكو، الذي جاء معي إلى كندا بطائرة واحدة، لا يزال يحتفظ بصفحة وجه بيضاء، كما لو أنه لم يغادر جبال النوبة في غربي السودان قط. كان يشعر على نحو ضبابي بوجود خلل على تلك الصفحات. ربما لهذا أغرق نفسه رويدا رويدا بين أفخاذ العابرات بتلك العمارة. لم يكن يفقه كلمة إنجليزية واحدة. لكن فراشه لم يكن يخلو منهن ليلة واحدة. كانت شقته مقابلة لشقتي. كان يتناهى ضحكهن في أنصاف الليالي متخللا ما يشبه الونسة. حين أسأله في الصباح عن سر ما تناهى إلى مسامعي. كان يجيبني بجدية وصدق حقيقيين أنه كان يلقي عليها نكتة بلغة النوبة. طرق باب شقتي مرة بعد الثالثة صباحا بصحبة كنديتين على قدر عال من الملاحة. قال وسط ضجيجهما المرح إنه عثر بهما في ناد ليلي وإنه يطلب أن أنضم إليهم. سألته في فحيح تلك الرغبة إن كان بحوزته عازل طبي لي. ضحك وقال "لا". لكنه أكد لي بجدية أثارت ذعري دفعة واحدة أنه قام مرة باستخدام كيس المخدة كعازل طبي. بعد أيام، سألته كيف وافقته الفتاة آنذاك. قال كانت ميتة من الضحك. كنت دائما أشعر بخيط إخاء متين بيني وبينه. كان محميا بقوة الصدق في أكثر لحظاته الكندية حلكة. لم يكن من عينة أولئك المنفيين الذين يجلسون في "بورتج بليس" ويطالعون العالم من حولهم وكأن بينهم وبينه حواجز غير مرئية.
بدأت علاقة عمر و"جسيكا" تشهد منعطفا خطيرا.
في الواقع، لم تكن ثمة علاقة بينهما. كان بينهما تعاقد خفي أقرب إلى الحاجة البحتة المجردة من أدنى قدر ممكن من المشاعر التي يمكن أن يعثر عليها المرء عادة بين عاشقين. كان عمر يرى في "جيسكا" مجرد عاهرة لا بد منها إلى حين وصول زوجته وبناته الثلاث من السودان في بحر عام أويزيد. لم يكن عمر بالنسبة لها في الغالب الأعم سوى محل صغير داخل العمارة يليها في الطبقة الدنيا يمكن أن تطرق بابه في أي وقت لتناول حاجتها كعاطلة من الطعام مقابل أن تباعد ما بين ساقيها لدقائق. "أماندا" أخبرتني مرة أن "جيسكا" لا تعود إليه عادة إلا في أقصى درجات حيرتها. كانت اللغة غائبة بينهما لكن مشاعر الاحتقار المتبادل كانت تفوح بينهما كلما التقيا. عمر كان يلقي باللوم عليَّ على خلفية من حسد غير معلن وهو يراقب بحسرة مسار العلاقة المتصاعد بيني وبين "أماندا". كان يراني "رجلا أفسدته الكتب". "يا حامد، كيف تعامل حتى الشراميط بتهذيب وأدب"؟. "سيأكلنك لحما ويقذفن بك عضما". "كن مهذبا فقط مع المهذبين وود حرام مع السفلة". "الدنيا دي لو ما وضعت كل واحد في محله الصحيح سوف تندم حيث لا ينفع ندم". كان من مآسي عمر، منذ أن درج على مضاجعة إناث الحمير بعد بلوغه مباشرة في قريتهم صعيد خزان سنار، أنه يغرق في غضب يأخذ شكل الإنفجار، كلما لم يجد تصريفا لبركان الشهوة المستعرة في داخله. وقتها لم تكن إناث الحمير يطالبنه بمقابل و"جيسكا" مثل حوض الرمل في نهار إستوائي قائظ. لا ترتوي حاجتها من الطلبات، البتة.
لم يتبق في عمر الوردية سوى القليل. كنت أتقدم تلك المرأة الأربعينية بمسافة تسمح لها بالهرب عند أدنى بادرة هجوم. حلقي جاف. أطرافي ترتعش كما لو أنني أسير عاريا في عاصفة ثلجية نشبت قاب قوسين أوأدنى من القطب المتجمد الشمالي. الذعر سيد العالم في هذه اللحظة. كانت غريزة البقاء تجذبني إلى الوراء بشدة والواجب الثقيل قوة غامضة تدفع بي إلى الأمام بلا هوادة. يا لمأزق المنفي الغريب. لعلي أسير صوب حتفي الآن. كان رأسي في تلك اللحظة خالية تماما من أشباح ماركس. كنت مهموما فقط بمصيري الخاص. أي شيطان دفع بذينيك المشردين إلى تخوم مسؤولياتي فلم يعد الأمن فجأة مستتبا داخل ذلك المجمع التجاري الضخم؟. كان هناك شيء يتدفق ببطء بين أقدامي. ربما هو البول. ربما كانت سوائل أخرى. لا أدري. كنت فقط أتخيل منظر إبرة تشهر نحوي في اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت. إبرة ملوثة بداء عضال لا شفاء منه يدعى "الإيدز". هؤلاء الهنود الحمر ينتشرون في كل مكان مثل نفايات لا تصلح لشيء. إنهم الآن مجرد ضيوف في أرضهم لا رغبة فيهم. لم أتصور من قبل غريبا يمنعني من دخول داري الخاصة قبل أن يرميني إلى رحمة الشارع بأعصاب باردة حتى من غير أن يطرف له جفن. لقد تم تدميرهم من قبل هؤلاء البيض قبل مئات السنوات وها أنا فجأة كحارس قادم من وراء البحار للتو أقوم بدفع ثمن لشيء لم أناله. كنت أدعو الله مخلصا له الدين وقارب حياتي يتقاذفه الخطر من كل حدب وصوب. كان من الممكن الآن أن أكون كأبي مزارعا صغيرا في احدى قرى الجزيرة. أزرع القطن صيفا والقمح في الشتاء. أذهب إلى الصلاة في المسجد بانتظام. أشارك الناس أتراحهم وأفراحهم الصغير ولا شيء يحول بيني وبين النوم بسهولة. لكن الغرباء يبحثون أحيانا عن قبور بعيدة وجنائز صامتة. التفت نحو المرأة بصعوبة. كانت المسافة بيني وبينها كافية لأن ألتقط أنفاسي وأستجمع ما تبقى لي من قوى خائرة قبل أن أخاطبها بصوت لا يعلم سوى الله أي جهد بذلت في تلك اللحظة لأجعله يتناسب ووضع حارس في بلاد متقدمة: "ها أنتِ ترين، لا أثر لهما هنا بالمرة، لعلهما هربا منذ فترة".




#عبدالحميد_البرنس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسير العبارة (رواية)- 13
- أسير العبارة (رواية)- 1
- مرثية للطيب صالح
- إني لأجد ريح نهلة
- وداع في صباح باهت بعيد
- ملف داخل كومبيوتر محمول
- لغة
- نصّان
- زاوية لرجل وحيد في بناية


المزيد.....




- دور السينما بمصر والخليج تُعيد عرض فيلم -زهايمر- احتفالا بمي ...
- بعد فوزه بالأوسكار عن -الكتاب الأخضر-.. فاريلي يعود للكوميدي ...
- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...
- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)- 12