أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)- 1














المزيد.....

أسير العبارة (رواية)- 1


عبدالحميد البرنس

الحوار المتمدن-العدد: 2865 - 2009 / 12 / 22 - 11:44
المحور: الادب والفن
    


أعطاني "جيري" وصايا السفر. "ليليان" أعطتني صورة لحفيدتها وأخرى تجمع الأم والبنت والحفيدة قبل أن تبقيني في حضنها مسافة. "جيف" أكد لي أنني بمثابة شقيقه برغم إختلاف اللون والدين.. ثم طلب مني طلبا غريبا.. أن أقف عند تقاطع شارعين حددهما بالإسم في محل إقامتي الجديدة وألتقط صورة ثم أبعثها له عبر عنوانه البريدي. أما " وين".. رئيسنا في العمل.. فقد كان وداعه لي رسميا تماما.
هكذا، أخذ يعاودني الإحساس بالتعامل مع الأشياء والوجوه الأليفة لآخر مرة، حتى أني شعرت بينما أكتب تقرير الوردية الأخيرة وكأنني أكتب وصيتي.
أقبل "جيري" يجر جثته البدينة عبر بهو بنك "إسكوتشيا" المغلق خلال عطلة نهاية الإسبوع، قادما من موقف السيارات أسفل المجمع التجاري الضخم، حيث يعمل لنفس الشركة التي أعمل لحسابها كحارس. كنت أرقبه وهو يتقدم نحو مكتبي من شاشة لشاشة، وقد استقر في نفسي شعور حزين، ذلك أني لن أرى هيئته تلك بعد ساعات قليلة إلى الأبد، إذ انني سأغادر تلك المدينة بعد أيام ثلاثة على الأرجح، وليس لي فيها شأن الغرباء المنفيين ما يجبرني على العودة إليها مرة أخرى، مع أن أماندا -فتاتي السابقة- ظلت تؤكد على مدى نحو الشهرين من إنفصالنا المأساوي أنها تحمل شيئا ما في بطنها، قبل أن تختفي منذ شهر بغير أثر يدل على أنها كانت في يوم من الأيام محور كوني وملاذي الحميم.
أخيرا توقف "جيري" أمام باب المكتب الخارجي. رأيته يخرج المفتاح رقم 14 من جيب بنطلون البحرية الأيمن. كان علي أن أنتظر دهرا ريثما يطوي الأقدام القليلة للطرقة الداخلية ذات الإضاءة الخافتة لأراه سادا فراغ الباب العريض الذي يطل على دورتي المياه بينما يجاور باب غرفة عمال النظافة المجاورة بدورها لغرفة التهوية التي تعلو أصواتها وتخفت بين فترة وأخرى.
ظننت في البداية أنه جاء كعادته لإستخدام دورة المياه. سألني بكياسته المتقنة عن سير الأحوال في مجال مسئوليتي. أخبرته أن الأمن مستتب تماما. وطرحت عليه من باب المجاملة ذات السؤال عن سير الأوضاع في موقف السيارات. قال:
- "لا شيء ذو بال يحدث على الجانب الآخر".
- "الأحوال تكون هادئة في مثل هذ الوقت من العام، ياجيري".
- "أتمنى أن تسير دائما كذلك".
- "بالطبع لا أحد يرغب في حدوث مشكلة ما".
- "لكنك تعلم أن الأحوال تسوء هنا خلال الشتاء، يا هميد".
- "نعم، مزيد من السكارى والمشردين وطالبي الدفء وما لا يعلمه إلا الله".
في هذه الأثناء، رأيت على إحدى شاشات المراقبة التابعة لمنطقة بنك "سي. أي. بي. سي" عاشقين يذوبان في قبلة طويلة. حين تطلعت إلى وجه "جيري"، الذي كان قد اتخذ مجلسه على مقعد متحرك إلى الجوار، رأيته مشدودا إلى نفس الشاشة. لا بد أنه تذكر بدوره في تلك اللحظة وجه فتاة "لا يريد أن يذكره"، ذلك أن "جيري" يعيش وحيدا بعد رحيل أمه في العام الماضي، لكني أذكر أن "ليليان" قالت شيئا ما عن علة في قلبه، قلت مبددا الوحشة التي هبطت دفعة واحدة على المكان: "دعهما، فهذا أمر لا يخل بأمن". هنا حدث أمر غريب. انفلتت الفتاة من أحضان رفيقها على حين غرة . واجهت عدسة الكاميرا عن قرب شديد. ثم أرسلت لاهية إصبعين من شفتيها. وكأن شيئا لم يكن. قال جيري: "هل ستغادر المدينة بالفعل"؟.
كنت قد أخبرته بذلك بعيد بداية الوردية عند منتصف اليوم تقريبا. بدا من رد فعله آنذاك أن "ليليان" قد نشرت الخبر على نطاق واسع. لكنه أبدى تقديره أنني أخبرته على نحو شخصي. وسألني إن كان لدي صداقات في العاصمة "أتوا". قلت له: "القليل.. القليل القليل.. يا جيري". وحكيت له طرفا من بعض ذكرياتي في القاهرة. هذا ليس زمن صداقات. هذا زمان التيه الجماعي الكبير. زمن المصالح الفردية الضيقة وموت القيم. قال لي: " لا تحزن". وأضاف بعد برهة: "أنت ذكي.. سنك لا تزال صغيرة.. وأنا على ثقة أنك ستحقق نجاحات عديدة هناك". لم أعلق بشيء، إذ أخذت أفكر حول أشياء حدثت هنا وهناك، حين أعادني إليه صوته المبحوح من جديد، وقد بدأ يسرد شيئا من ذكرياته في "أتوا" قبل عشرين عاما، لأكتشف مرة أخرى كيف أن وراء كل بدين في هذا العالم قصة حب جارف إلى الطعام.
لم تمض سوى أيام قليلة على وجودي في "أتوا"، حتى تبين لي ما طرأ على الصورة المتكونة في ذهن "جيري" عن المدينة، لقد جرت مياه كثيرة أسفل الجسر منذ أن غادرها قبل عشرين عاما أويزيد، لكنني وطنت نفسي في الأخير على ألا أخبره عما حدث للمدينة بعد ذهابه بفترة قد تطول أوتقصر، ليس من العدل أن أفجعه قائلا إن الصورة التي ظللت تحملها في رأسك يا عزيزي "جيري" على مدى عقدين من الزمان لم يعد لها الآن من وجود.
آن جلسة الوداع تلك، ومضت عيناه وراء النظارة الطبية، وملامح وجهه الطيبة بدأت التجاعيد تغادرها شيئا فشيئا، وخيل لي للحظة وكأنه يتحدث بجسده كله عن وجبات طعام غنية بثمن بخس في كافتريا البرلمان. كان من المحزن برغم زهدي العائد إلى تاريخ عريق من الفقر والفاقة ألا أبدي له إهتماما يفوق إهتمامه بالطعام، بل ورحت أسأله بجدية تامة عن كيفية النفاذ إلى مطعم الصفوة المتفسخة في "أتوا"، ولم يخب ظني، إذ رد علي بجدية أشد أنه لا بد لي من معرفة شخص يعمل داخل مبنى البرلمان، وبينما أخذ يبحث معي في نواح تفصيلية لبلوغ ذلك المأرب، بدأت أدعو الله بكل جوارحي ألا تنطلق تلك الضحكة المحبوسة في داخلي على حين غرة. وقد كان.






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرثية للطيب صالح
- إني لأجد ريح نهلة
- وداع في صباح باهت بعيد
- ملف داخل كومبيوتر محمول
- لغة
- نصّان
- زاوية لرجل وحيد في بناية


المزيد.....




- المقاطعة، من ردّة الفعل إلى ثقافة التعوّد، سلاحنا الشعبي في ...
- لوحة فنية قابلة للأكل...زائر يتناول -الموزة المليونية- للفنا ...
- إيشيتا تشاكرابورتي: من قيود الطفولة في الهند إلى الريادة الف ...
- فرقة موسيقية بريطانية تؤسس شبكة تضامن للفنانين الداعمين لغزة ...
- رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصا ...
- -ميتا- تعتذر عن ترجمة آلية خاطئة أعلنت وفاة مسؤول هندي
- في قرار مفاجئ.. وزارة الزراعة الأمريكية تفصل 70 باحثًا أجنبي ...
- -بعد 28 عاما-.. عودة سينمائية مختلفة إلى عالم الزومبي
- لنظام الخمس سنوات والثلاث سنوات .. أعرف الآن تنسيق الدبلومات ...
- قصص -جبل الجليد- تناقش الهوية والاغتراب في مواجهة الخسارات


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالحميد البرنس - أسير العبارة (رواية)- 1