مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 2862 - 2009 / 12 / 18 - 15:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
1 – تبدأ كل إعلانات المعارضة السورية بنفس المقدمة , الحديث عن أزمة غير مسبوقة تتهدد الكيان السياسي القائم , تستخدم هذه المقدمة التقليدية كمبرر للحديث عن ضرورة التغيير الديمقراطي , و هي في الحقيقة إعلان لتقاسم المسؤولية عن الوطن بين النظام و المعارضة . اللافت للنظر أن الجميع ( بما في ذلك أو خاصة المعارضة ) تستخدم مفهوم الوطن بنفس المعنى الذي يستخدمه الخطاب السائد للنظام . هذا لا يؤكد فقط أننا ما نزال أسرى خطاب النظام و مفاهيمه عن الوطن و الشعب أو الخطاب القومي أو نسخته الوطنية القطرية ( كما يصفها القوميون ) الذي جيره النظام و استخدمه كخطاب رسمي له , هذا الخطاب الذي يضطر معارضيه لتبرير نقدهم له و نتائجه من قمع و نهب منفلتين . هذا نراه أيضا في الرغبة الملحة عند القسم الأوسع من المعارضة كمؤسسة قائمة في إنتاج إجماع وطني "شامل" و "ملزم" موازي أو جديد كبديل عن الإجماع الوطني الذي يروج له النظام حول قمعه و نهبه للمجتمع و للبلد . يجب أن نذكر أن الصراع حول إعلان دمشق دار حول مفاهيم تتعلق بهذا الإجماع كالهوية و غيرها , و أن هذا الصراع كان إيديولوجيا – سياسيا في الأساس , عن هوية عربية أو هوية سورية , يحشر هذا الصراع الواقع مرة أخرى في أشكال إيديولوجية مسبقة يضعها فوقه و قبله , الضحية الأساسية هنا هم البشر العاديون , الذين لا مكان لهم في هذه النسخ السائدة إلا كضحايا و كوقود للإيديولوجيا و المصالح السياسية و الاجتماعية "العليا" التي تحدد لهم هويتهم و سلوكهم الذي يجب أن لا يتجاوز الخضوع و السمع و الطاعة , فالأساس هو الخضوع لاشتراطات "الإجماع الوطني" الذي صاغته النخب الاجتماعية و الدينية و السياسية والفكرية كشرط أولي ليس فقط للنشاط السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و حتى الفكري بل لوجود الكيان نفسه , مع ضرورة الاعتراف بالفوارق الكبيرة بين درجة السمع و الطاعة التي يفرضها النظام و تلك التي يتحدث عنها القسم الأوسع من المعارضة ) . في أي مجتمع يتألف من مجموعات مختلفة بل و متناقضة في هويتها الدينية و الطائفية و القومية ( و هذا يعني عمليا كل مجتمع إنساني ) يعني الإجماع الوطني سيطرة قيم مجموعة بعينها على سائر الجماعات مقابل نفي قيم الجماعات الأخرى أو تهميشها على الأقل , هذا سينتهي إلى أحد حلين : إما ديكتاتورية صريحة أو محاصصات فوقية تتقاسم فيها النخب المهيمنة على كل جماعة الثروة و السلطة على مستوى المجتمع , في الحقيقة يمكن مواصلة هذا الجدال لكن ليس بصيغة البحث عن إجماع وطني إلزامي , بل بصورة "ديمقراطية" فعلا هذه المرة يبحث في أشكال إنتاج مؤسسات سياسية و عقيدية و فكرية لا تضمن للجماعات المختلفة فقط حقها في التعبير و التفكير و الفعل بحرية بل تضمن هذا الحق لكل فرد , هذا الإجماع الوطني المزعوم لا يهمش قيم و أشكال حياة الجماعات المقهورة قوميا و دينيا و اجتماعيا فقط بل إنه موجه أساسا ضد فردانية كل فرد أيا كانت هويته "الجمعية" , إنه يريد من جديد فرض ثقافة القطيع الشمولية و تجريم و تكفير أية مقاربة نقدية للخطابات السائدة...
2 – إذا كانت معاناة الجماهير السورية جراء سياسات النظام و نهبه في نسخة النظام عن الإجماع الوطني أكثر من أن تكون ضرورة , تارة في سبيل ممانعة اختزل فيها شعار المقاومة الذي اضطر النظام للتراجع عنه تحت ضغط واقع عجزه من جهة و واقع المساومات التي يجريها مع مراكز النظام الرأسمالي العالمي , و تارة في سبيل مسخ حداثي تضطلع بمهمة حمايته سجون و مخابرات النظام . فإن تهميش القضايا الاجتماعية للجماهير حاضر أيضا في خطاب القسم الأوسع من المعارضة لصالح أولوية السياسي ( السلطوي ) البديل هذه المرة , يعني هذا أن حياة السوريين العاديين ستبقى ثانوية أو تابعة لضرورات الإجماع الوطني المفترضة . دور هذا الإجماع الوطني المفترض هو إنتاج مركز للحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية , مركز يخضع له البشر العاديون بالكامل , تذكروا هنا أن حديث النخب المعارضة سابقا و الحاكمة اليوم عن أولوية العملية السياسية في العراق أو بناء دولة مركزية في لبنان ( كخطابات بديلة عن خطاب النظام الصدامي الشمولي أو هيمنة أجهزة النظام السوري في لبنان ) أعادت إنتاج جوع الناس العاديين و فقرهم و قهرهم الاجتماعي حتى أصغر تفاصيل القهر اليومي كانقطاع الكهرباء و الماء و .... لكن بشكل مبرر جدا هذه المرة بالنسبة لما كانت تعتبر نفسها معارضة لنظام صدام أو للوجود الأمني للنظام السوري في لبنان....
3 – هذا يترافق مع نقطة مركزية في خطابات القوى المعارضة , قومية أو ليبرالية أو يسارية , و هي أنها لا تقدم نفسها كقوة تغيير , إنها قوى تبرير إيديولوجي للواقع أو للتطورات المحتملة للوضع السوري السياسي و الاجتماعي المأزوم , فما يعنيه التغيير في كل الخطابات السائدة هو إما تغيير يبادر إليه النظام ( طوعا أو كرها ) أو تغيير يفرضه الخارج , و في الحالتين يسمى هذا التغيير بتغيير ديمقراطي , أما الناس العاديون , السوريون العاديون , أهم ضحايا النظام , فهم بالنسبة للخطابات السائدة يشكلون خطرا أو تهديدا على هكذا "تغيير" أكثر من أن يكونوا هم القوة التي ستفرض هذا البديل , و لهذا تجد القوى السائدة في المعارضة تروج لضبابية مفهوم الجماهير و صعوبة أو استحالة تحديدها و تعريفها أو تعريف مصالحها أو صياغة مشروع خاص بها مستقل عن النخب أو سائر البناء الفوقي السياسي في مقابل سهولة وأولوية تحديد النخب و الإيديولوجيات التي تمثلها , هذا المنطق النخبوي صريح في استهتاره بالناس العاديين و هو يمارس تهميشهم هذا عن قصد و وعي كاملين . لا يمكن للمعارضة الليبرالية و لا القومية و لا اليسارية أن تضطلع بدور لا تريد هي أصلا أن تلعبه , لقد حرص الجميع على جعل التغيير الشعبي من الأسفل قضية عسيرة جدا , يشترط القسم الأكبر من الماركسيين مثلا أن يتعلم كل عامل ( و فلاح في بعض النسخ الماركسية ) رأس مال ماركس و الدولة و الثورة للينين و أن يؤمن بعصمة المكتب السياسي للتنظيم الماركسي ليبلغ الناس العاديون مستوى الوعي الذي يؤهلهم للثورة , الليبراليون يريدون إذعانا كاملا مشابها لصيغتهم عن العلمانية و التفافا شبه إجماعي ( بما ينسجم مع مفهومهم عن الديمقراطية البرجوازية ) حول خطاباتهم و مؤسساتهم النخبوية و إيمانا لا يتزعزع بعصمة النخبة الحاكمة من خلال مؤسسات تمثيلية يساوي إن لم يبز عصمة الصحابة في الفكر السني أو عصمة الأئمة في الفكر الشيعي . و لذلك لا تجد هذه النخب التي تخشى الجماهير بصيغتها الواقعية ( العسيرة على التعريف بالنسبة لخطابها أو على الاحتواء لنكون أكثر دقة بعيدا عن وجود طاغ لأجهزة قمع ضرورية ) إلا المساومات الفوقية مع النظام أو القوى المهيمنة في الخارج , هذا يتناقض طبعا مع ما يبدو لأول وهلة بأن الشرط الأساسي للتغيير المفروض من أسفل هو أن يجمع عدد كاف من البشر , العاديين هذه المرة , على القيام بالتغيير . يحتاج التغيير إلى قوة تغيير بالفعل هي الجماهير نفسها في هذه القراءة , و هذا تعبير عن حقيقة أن الجماهير هي الضحية الأولى لسياسات النظام أو للقوى المهيمنة في العالم أو في مجتمعاتنا كلا على حدة , يتوقف كل شيء في النهاية على الجماهير نفسها , النخب لا يمكنها أن تلعب أكثر من دور حفاز للتغيير , و موقف أية قوة يحكم عليه من مدى اقترابها أو ابتعادها عن هذا التغيير الفعلي و الجذري الذي تشكل الجماهير أداته و غايته . لا شك أن التغيير من الأسفل ليس حلا سحريا و أنه كأي شيء يمكن تجييره لصالح قوى مهيمنة جديدة , يجب أن نتذكر أنه في أيام الحكم الديمقراطي في أثينا , الأفضل بما لا يقارن مع واقع الديمقراطية البرجوازية في أفضل حالاتها اليوم في أوروبا أو أمريكا , شاعت الخطابة الديماغوجية كشكل من أشكال التأثير على الجماهير و خداعها , و التي يعادلها في المجتمع البرجوازي المعاصر وسائل الإعلام الجماهيرية التي تمارس ذات الديماغوجيا لصالح القوى السائدة التي تملكها أو أبواق إعلام الأنظمة الشمولية التي تدار بمنطق الكذب و التلفيق الغوبلزي عدا عن أن ممارسة الديماغوجيا الشعبوية قد أدت يومها لظهور الديكتاتوريات الشعبوية لكن من المؤكد أيضا أن دمقرطة وسائل الإعلام لا إسكاتها و إخراسها كما فعل الستالينيون و القوميون يضمن للناس في نفس الوقت فرصة أكبر للتعبير و التفكير الفردي و الجماعي لن توفرها أية مشاريع أو مؤسسات نخبوية شرط وجودها الأول هو خضوعها غير المشروط لنخب بعينها و ممارسة خداع الجماهير لصالح تلك النخب , الفارق هنا هو أن احتمالات أن تتمكن الجماهير من بناء مؤسسات جديدة قاعدية , أكثر ديمقراطية بما لا يقارن من أي برلمان يحتكره الأغنياء ظهر حتى اليوم , هي احتمالات حقيقية مقارنة بأي تغيير فوقي يحافظ على تبعية البنية التحتية للفوقية و يعيد باستمرار إنتاج سلطة فوقية ذات خطاب سياسي و فكري شمولي و محكومة "بالتطور" إلى طغمة فاسدة عاجزة , إننا نعيش في ظل الديكتاتورية و البدائل المقترحة هي أشكال مخففة من أوليغاركية النخب السائدة أو الطامحة المحكومة بالانحطاط وفق المفهوم الخلدوني و وفق دروس الواقع القريب و البعيد , البديل الجذري الوحيد هو ديمقراطية الجماهير , بالمناسبة يستخدم بعض التروتسكيين أطروحة الاشتراكية من الأسفل فقط ليعيدوا تعريف الاشتراكية السلطوية بشكل أكثر ديمقراطية.....
4 - للمعارضة السورية , كأية معارضة في العالم , وجهان , الأول هو مؤسسة المعارضة القائمة و هي نتاج ظروف موضوعية و ذاتية خاصة و لهذه كأية مؤسسة نقاط قوتها و ضعفها , بما في ذلك خطاباتها و مشاريعها و أساليبها و علاقتها بالجماهير و تعريفها للتغيير , و الثاني هو تعبير عن حقيقة بديهية تتجاوز التعريفات الجامدة السائدة و تقول بأن كل ضحايا أي نظام يشكلون المعارضة الحقيقية له . يقول الواقع أن معظم السوريين العاديين على اختلاف طوائفهم و أديانهم و قومياتهم و الذين ينتسبون واقعيا إلى أسفل الهرم الاجتماعي , يعانون نتيجة سياسات النظام و نهبه و قمعه البنيويين و أن معاناتهم تتفاقم بتسارع هائل , و حقيقة أنهم اليوم يشكلون الجزء الأعظم الصامت من المعارضة لا يغير شيئا من هذه الحقيقة...
5 – المعارضة السورية كمؤسسة قائمة تضم خصوم النظام التاريخيين و الاجتماعيين و السياسيين , لكن الحديث عن هذه المعارضة هنا لا يعني , من منطق التغيير الجماهيري المفروض من الأسفل , الخوض في أفضل أشكال تشكيل نخبة موحدة لهذه المعارضة , بقدر ما هو البحث عن أشكال عمل للنخب المعارضة تمارس دور هذا الحفاز للعمل الجماهيري المستقل . نقطة أخرى هامة جدا يجب الحديث عنها و هي أن نقد الطابع النخبوي الفوقي للمعارضة السورية يجب ألا يسمح بتبرير قمع النظام لهذه المعارضة , و لا حتى التورط في الصمت عن هذا القمع المتصاعد , إن النضال من أجل ديمقراطية الجماهير هو في الأساس نضال ضد النظام و قمعه و سياساته و بنيته الديكتاتورية.....
5 – عند الحديث عن الديمقراطية يجب التذكير أن القضية الأساسية تتعلق بمدى تدخل الناس العاديين في تحديد مصيرهم أو علاقتهم بالمؤسسات السياسية القائمة , و لأي درجة يحدد هؤلاء خيارات هذه المؤسسات , هذا التحديد ضروري جدا لنجنب شعار الديمقراطية الأقرب إلى شعار الحرية المقدس مصير كل الخطابات النخبوية الرائجة حتى اليوم ( و على الأغلب حتى في المستقبل ) التي ركبت الموجة الرائجة و تحدثت بشكل ضبابي عن مشاريع جوهرها سيطرة نخبة ما على حياة البشر , ليتبين في نهاية المطاف أن الأميرة فائقة الجمال التي كان يجري الحديث عن وجودها في قصر ما بعيد و محروس جيدا ليست إلا كائنا فائق القبح بل و ذا رائحة شديدة القذارة , تذكروا معسكرات الاعتقال و القبور الجماعية التي خلقتها المشاريع النخبوية السابقة , هذه المرة ليس المطلوب البحث عن ممثلين للناس العاديين , بل أن يمارس الناس حريتهم مباشرة , ليس المطلوب مركز جديد بشكل مختلف , لأن مجرد وجود هذا المركز يعني تركيز السلطة و الثروة بيد أقلية ما , المطلوب أن يملك كل إنسان ما يكفيه من السلطة و الثروة ليعيش كإنسان.............................
مازن كم الماز
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟