|
الفصل 3 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ..
حبيب هنا
الحوار المتمدن-العدد: 2773 - 2009 / 9 / 18 - 21:38
المحور:
الادب والفن
3
طويت أيام الأسبوع المهترأة ، ولم يتبق سوى السبت .. اغتلت الأزمنة التي تعكر صفو الحاضر ، وكأنها مقطوعة عن السياق التاريخي ، ولم أجرؤ للتعرض ليوم الغفران .. انتهكت أنسجة خلايا الشهيد الاستنساخية ، ومنعتها من إعادة إنتاج نفسها ، ولم أرأف بحال أُمٍ شيعت ابنها الأخير إلى مثواه ، ثم انطوت على نفسها في البيت .. تآمرت على ما تبقى من أحلامي عندما تأخر بزوغ الفجر ، ولم يسعفن ضعف نظري من قراءة ما يخبئه الغد .. نسيت " الباهر " تماماً ولم أتذكره إلاّ بعدما استشعرت طعم الذل .. قلت لنفسي : إما أن تتعود طعم الذل إلى أبد الآبدين ، وإما أن تقتفي أثر " الباهر " الذي ما زال يجوب البلاد طولاً وعرضاً غير عابئ بالانحسار والبحث الدائم عنه .. وحين وصلت إليه كان قد تكاثر فأنجب " الحازم " و" الصارم " و " المتوكل " وبدأوا يدبون على الأرض ويجددون الوعد ، وامتلأت السهوب والجبال بهم ، فصارت ثورة من جبال الخليل حتى أنفاق رفح ،مما أعادنا إلى البدايات الأولى ، والرصاصات الأولى ، ودخول غرناطة ، و الاستجمام على السواحل الإسبانية .. ولما اقتربت من مدخل الصحراء ، سمعت الهتافات الممزوجة بالزغاريد والصيحات ، تتجلى بوضوح ، عندها أيقنت أن أُمّاً تودع ابنها ، أو زوجة تودع زوجها ، أو أطفالاً يودعون أباهم ، أو كلهم مجتمعون يودعون الشهيد الذي آثر قبضة تراب عن قبضة ريح ، وفضل الترنيم معها عند همسات الفجر عن هرس حصاها والدب فوقها كلما طاردته أطعمة الحياة الفاسدة . وقبل أن نغادر الصحراء ونودع قبور الشهداء ، أنا و" غادة " سمعت " الحازم " يخاطب " المتوكل " قائلاً : ـ فيما مضي كان الكبار ، أيها " المتوكل" ، يرحلون إلى مثواهم الأخير عندما يحين الوقت ، والصغار إلى مدارسهم ، وكانوا عندما يقرع الجرس يصطفون طابوراً واحداً بانتظار انطلاق النشيد
وترديده . أما الآن فالكبار يحتضنون جدران البيوت الباردة خشية التداعي والسقوط ، والصغار يتصدون للرصاص بصدورهم ثم يرحلون إلى القبور بعيون مفتوحة تطمح بالحرية ورفع العلم . مضى المشيعون بعد انتهاء المراسم فيما بقيت أنا و " غادة " نتفقد قبور الشهداء دون تحديد الهدف من وراء ذلك ، وفجأة دار سؤالها في رأسي دورته الجنونية ، وكانت قد سألته منذ اللحظة التي حطت فيها أقدامنا أرض الصحراء وشاهدنا القبور ، ولم أجب عليه : ـ بماذا تشعر عندما تنظر إلى قبور الشهداء ؟ وهل المشاعر ذاتها تنتابك عندما تقف أمام القبور المختلفة ؟ عندها كنت أقف أمام قبر أبي .. دار السؤال دورته ، وفتح في عقلي إجابات لا حصر لها ،لخصتها في جملة واحدة : إن الحياة لقذرة ، ولو لم تكن كذلك ، لما استقبلها الطفل الوليد الذي يغادر رحم أمه للتو بالبكاء ! شبكت ذراعها في ذراعي ، لأول مرة ، في أعقاب اقتراب أحد المتسولين بثيابه الرثة وملامحه الغائرة في القدم إلى بداية التكوين .. مد يده قائلاً : ـ تصدقوا عليّ رحمة عن أمواتكم . لم أعتد هذا النوع من الصدقة ، غير أنني فعلت استجابة لرغبة " غادة " بعد أن قالت : ـ إنه إنسان مسكين ، بسيط ، أعطه ( شيكلاً ) كي يمضي .. أنقدته ( شيكلاً ) فيما بقيت أذرعنا متشابكة ، ننظر إلى القبور ونسير بينها .. نتأمل العالم الراهن ونحن بين كفي العالم الآخر .. هي غارقة في تفكيرها الخاص ، وأنا غارق في الكينونة .وفجأة ، ضممتها إلى صدري وسمعت أنفاسها الصاعدة إلى الفضاء ، ودقات قلبها التي تؤكد استمرار الحياة ، دون أن تعترض أو تتمنع كما لو أنها تحتمي من خوف داخلي بالتصاقها بي . وكانت البذرة المغروسة بجوار القبر قد أضحت شجرة فردت ظلها علينا فغدونا شاهداً واحداً لقبر مجهول ، وكان أبي يسمع همسنا ويبارك هذه اللحظة ، فيما أخذنا نحن الاثنان غادة وأنا نقرأ الفاتحة على ضريحه ونترحم عليه..!! في خضم هذه المشاعر ، أخذ عقلي يقيس أهلية التعايش مع اثنتين ، و المضي في التجربة حتى نهايتها الغامضة .. لقد فكرت أن أجمع بين طرفي المعادلة ، وأسير بهما في آنٍ معاً؛ أن أبقى مع زوجتي التي أحب ، ومع " غادة " التي لم أتصور فقدانها لحظة . ولكن كيف ؟ كيف لي أن أفعل ذلك ، وأنا محاصر بكل أوهام اليقين !! حين كنت انفرد معها في مكان بعيد عن أعين الناس ، لا أدري ، كيف ألبس شخصية غير ما عرفت به من وقار ، فأبدو متوحشاً، كما لو أنني أرى المرأة لأول مرة ! كنت أتحدث معها بكلمات تصيب القلب ، وكانت فوراً تذكرني بزوجتي ، في وقت أعرف فيه ، أن هذا التذكير يوحي بحجم الإصابة التي طالت قلبها فتحاول الهرب ، ومع ذلك ، كنت أواصل حديثي فأقول : - أنت جزء مني ، وأنا كذلك .. ولكن لماذا نخشى من الإعلان أننا نكمل بعضنا ؟ ولماذا نسمح للوحش الرابض في أعماقنا، الذي نسميه الخوف التحكم في حبنا و إبقائه في الظل ؟ ونظرت إلى عينيها ، فجأة ، في لحظة خارجة عن العقل و لا تخضع لأي منطق ، فرأيت كل أسراري تلتمع فيهما ، كما لو أنني عارِ تماماً وليس هناك ما يستر عيوبي .. في هذه اللحظة بالذات ، نزف جسدي من العرق ما يكفي لنظم قصائد ( امرئ القيس ) في عقد يتزين به كل المحبين ، بعد أن يرموا همومهم خلف أمواج البحر المتلاحقة التواقة إلى التلامس دون جدوى . وتعلمت السباحة في عينيها ، نعم ، هذه هي الكلمة المناسبة ،تعلمت السباحة و الغطس إلى أعماق المشاعر الإنسانية ، ولكن دون النفاذ إلى قرارها ، غير أنني أخيراً أمضيت عطلة نهاية الأسبوع بين طبقات صوتها ، دون أن أقدر على قول كلمة واحدة تمزق هذه اللحظة ، أو تنقلنا إلى أخرى مخالفة لها بالحجم ، ومضادة لها بالاتجاه . وجعلت نفسي أتصورها تمشى على التراب عارية القدمين ، فإذا به يستحيل إلى قطرات ندى بعد أن جمعته في وعاء بلوري شفاف بإمكان العشاق ، فقط ، مشاهدة لحظات اللذة وهي تتراقص من خلفه ! كانت أكثر من نصف ذكية وأقل من مطلقة الذكاء.. تعرف ماذا تريد ، ولا تفتح مجالاً لكل الشباب كي يفكروا بها .. تصد البعض عندما يحاول الاقتراب منها ، وتطرب عندما يلاطفها البعض الآخر .. تتوقد باهتياج العشاق عندما تكون بصحبة اللواتي أقل منها جمالاً ،وتنكمش عندما يندفع المولعون في تصورها بين أذرعهم ، وعيونهم تتطاير شرراً ..كانت شديدة النعومة و تثيرك بتمنعها المتعمد ، مما يجعل أمر التفكير فيها دائماً . وكنت دائم الاشتهاء لها . ومع كل يوم جديد ، أكتشف المدهش والمثير ليس فقط على صعيد صفاء بشرتها ونعومتها ، بل أيضاً على صعيد نمط التفكير و النظر إلى الحياة . كانت تؤثر العطاء ومساعدة الآخرين ، بكل ما تستطيع ، عندما يطلبون منها ،حتى وإن كان ذلك على حساب أولويات أخرى على مستواها الخاص . وكانت كلما خلت مع نفسها – معي – تطلعني على أدق التفاصيل ، على موقف البعض بالرد على الجميل بالجحود ، وعلى ازدياد تعلق البعض الآخر بها جراء الجميل . وكنت أكبر فيها هذا التصرف كما لو أنها تضع قدميها في المكان الذي يضع فيه الآخرون رؤوسهم . كان الصمت قد أطبق أسنانه على حضورها ، فبدت كأنها غارقة في بحيرة من الذكريات المؤلمة ، وبصعوبة استطعت اغتصاب ابتسامة من بين شفتيها ، بعد أن وضعت يدي فوق يدها ، فإذا بها ترتجف .. عدت بالذاكرة إلى الوراء ، إلى المنعطف الأول ،وراء الفكرة الحمقاء التي جعلت من قلبي يتوثب ، كأنه بانتظار فجيعة غير متوقعة على وشك الحدوث دون مقدمات ، ولكني أحس بها على نحو غامض . عندها عرفت الفرق بين نقطة المطر الساقطة من السماء كي تغسل الشجر و الحجر ، الإسفلت والناس من الأوساخ العالقة بها ، وبين نقطة الدمع المتكورة على طرف رمش العين ، أو قرص الخد كي تغسل النفس البشرية من العذاب . و عندها ، فقط ، كان يتعين عليّ أن أقول شيئاً بغية إخراجها مما هي فيه من تفكير وخوف وذكريات مؤلمة ، فقلت : - إن رجفة يدك لا تعبر بالضرورة عن الخوف و التوتر ، بل قد تكون جراء ازدياد حجم عشقك لي .. انهمرت الدموع وفعلت فعلها ، مما ترك أثراً بليغاً في مساحيق التجميل ، فأحالها إلى خطوط تشبه السيول التي تحدثها الأمطار الغزيرة ، عندما تتساقط على صفحة الرمال الصفراء المنحدرة قليلاً ..ولما مددت يدي حتى أعيد للوجه نضارته ، رمت نفسها في أحضاني ، وتركت رأسها يتكئ على كتفي في نفس اللحظة التي غزت فيها نوبة بكاء حادة كيانها وجعلت جسدها كله يرتجف .. ومن بين زخات البكاء والارتجاف سمعتها تقول : - إنني خائفة من المستقبل ! ظلت بين ذراعي ، لا أنا قادر على اعتصارها، ولا هي تملك حق فك الارتباط .. !!
#حبيب_هنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل 2 من رواية الإنتفاضة العشيقة الزوجة ...
-
الإنتفاضة العشيقة الزوجة ...رواية
-
مازال المسيح مصلوبا فصل :9_10
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 16
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 15
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 14
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 13
-
فصل من رواية : صفر خمسة تسعة 12
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 11
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 10
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 9
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 8
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 7
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 6
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 5
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة4
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 3
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة2
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة
-
الحداد أربعون يوماً
المزيد.....
-
مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة
...
-
”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا
...
-
غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم
...
-
-كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
-
«بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي
...
-
إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل
...
-
“قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم
...
-
روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
-
منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا
...
-
قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|