|
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 16
حبيب هنا
الحوار المتمدن-العدد: 2056 - 2007 / 10 / 2 - 02:20
المحور:
الادب والفن
بالانفجار كل لحظة ، فيما كان فؤاد يشاركه الانفعال، ولكنه في الوقت ذاته يحاول التلطيف من الأجواء ، وإعمال الفكر في الخطوة المقبلة، على أن تأخذ بالحسبان إمكانية التصعيد في حال عدم الاستجابة، والإبقاء على التمترس خلف المواقف المعلن عنها . وقبل أن يغادر المحل علق قائلاً : - لابد من إعلام الوكلاء أولاً ؛ حتى لا يأخذوا علينا العبث في السوق، وإفساد الاستقرار ، وبعد ذلك سأقوم بتخفيض سعر البطاقات إلى أقل مما هي علينا حتى يتعرض الجميع للخسارة التي لن يتحملوا استمرارها طويلاً ، دون أن نضخ في الأسواق كميات تضاعف حجم الخسارة ، يكفينا بيع بضع مئات حتى تعم الفوضى ، وإذا لم يستجيبوا إلى نداء العقل، ويبتعدوا عن المضاربات التي أفقدتنا ثقة الزبائن ، نتوقف فترة عن التوزيع ثم نعاود الكرة مرة أخرى ، وهكذا حتى لا يستقر السوق ويتعرض المضاربون للخسارة الدائمة في اللحظة التي نكون نحن أقل المتضررين ، وإذا أدركوا لعبتنا وعملوا مثلنا نكون قد أجبرنا الشركة على التدخل جراء عدم تسويق الكمية السابقة، وعكوف الموزعين عن العمل بنفس الروح السائدة قبلاً . رد عليه أبو العبد موافقاً لكل ما قال : - نعم ، هذا ما أردت أن أوصله لك ، وأنت أقدر الموزعين على القيام بهذا الدور ، فضلاً عن أنني لن أدعك تخسر فأنا سأتحمل الخسارة كاملة . - لن أقبل إلا أن أكون شريكاً كاملاً مهما بلغ الأمر . - لازال عظمك رقيق ولا تتحمل الخسائر، ثم إنك تجري وراء توفير احتياجاتك في أوقات الإجازات حتى لا تثقل على أبيك ، فكيف لي أن أسمح لنفسي بأن أحملك ما لا طاقة لك به ؟ - لا عليك، نصيبي من الخسارة متساوٍ معك . - حسناً ، ولكن حسب سحوبات كل منا .. - هذه لك، وإن كنت لا أفضلها . - اتفقنا ،وسأقوم بإبلاغ الوكلاء بعد قليل ، ثم الاتصال بك ووضعك في صورة الأمر . - حسناً . * * * صباح ذو وقع متميز، يشد مختلف شرائح المجتمع إليه منذ الأمس، فيه عرس للأحبة، وحزن لمصابهم . الصحف المحلية تتأخر بالصدور عن الموعد اليومي المحدد بانتظار وصول آخر الكشوف؛ حتى تتمكن من إدراج الجميع في القوائم في صفحاتها الداخلية . المذيع يحاول طمأنة المواطنين على قرب وصول الأسماء ، الأغاني تصدح في معظم البيوت " الناجح يرفع ايده " وأفواج الطلبة والطالبات تجتاز مختلف الشوارع متجهة صوب مدارسها كي يحصلوا على النتيجة . وجوه يكسوها الفرح ، وأخرى يتسلقها القلق ، وثالثة تتقدم خطوة وتنكص اثنتان . حراك دائم محفوف بالحذر، ومزيد من السيارات تطلق أبواقها . أصحاب الحلويات استعدوا بما فيه الكافية؛ حتى يلبوا احتياجات الزبائن المتزايدة في مثل هذا اليوم ، بائعو المكسرات والمشروبات الغازية أكثر سعادة من الأيام التي تسبق الأعياد . إنه موسم حصد الأرباح التي تتبوأ رزنامة أعمالهم على مدار العام . خطوط أجهزة الجوال وشبكة الاتصالات لا تستوعب حجم الضغط الذي تتعرض له، والمواطنون يتدفقون على محلا ت بيع بطاقات ( صفر خمسة تسعة)، وميدان فلسطين؛ كي يتمكنوا من إضافة الأرصدة إلى أجهزتهم والاتصال ومعرفة النتائج . فؤاد لا يعبأ بكل ما يدور ، منغمس في بيع البطاقات، ويعرف النتيجة سلفاً . أي قدرة على ضبط النفس تلك التي تضخ الاحتمال إلى الشرايين ! المقربون منه في ميدان فلسطين يتساءلون : لماذا لا يعبأ بالمستقبل ؟ والمنافسون له قلقون : مصيبة لنا إن آثر العمل وترك المدرسة ، لن يدع لنا مجالاً للبقاء طويلاً ! وصبية من بعيد تنظر إليه باستغراب ، وحين تصل عنده تسأل : - لماذا أنت هنا في حين جميع الطلبة في مدارسهم بانتظار النتائج ؟ هل تنوي ترك المدرسة ؟ - النتيجة لدي معروفة سلفاً ، فلماذا أتوجه كالآخرين وأقف على أبواب القلق والانتظار ؟ الأم تتصل به : - أين أنت يا فؤاد ؟ - في ميدان فلسطين ! - لماذا لم تذهب إلى المدرسة ؟ لقد بدأ المذياع إعلان الأسماء والنتائج. - حسناً عندما يأتي على اسمي اتصلي بي وأبلغيني ! بعض الأصدقاء والزبائن يتصلون : - هل ظهرت نتيجتك ؟ الرد يحمل برودة الدنيا وحرارتها : - ميدان فلسطين يعج بالحركة والتفاعلات . جهاز الجوال يتصاعد رنينه مجدداً ، رنين مختلف لكنه مألوف للأذن . ينظر إليه ، البريد يعلن عن وصول رسالة . يفتح الصندوق ويفض المظروف الخارجي ، تأخذه نشوة القراءة عندما يقع نظره على كلمة مبروك : - مبروك . الرسالة الأولى لهذا اليوم . تهديك شركة الاتصالات الخلوية الفلسطينية جوال أطيب تحياتها، وتبارك لك بالنجاح وبالنتيجة التي حصلت عليها ، وتتمنى لك مزيداً من التقدم والنجاح . وتبلغك بوصفك أحد موزعيها لبطاقات ( صفر خمسة تسعة ) استعدادها التام لتحمل كلفة الأقساط الجامعية، وصولاً إلى إتمام الدراسة والتخرج . على أنك مطالب باصطحاب الوثائق المطلوبة خلال أسبوعين من الآن، والتوجه إلى مديرية التسويق والمبيعات لاتخاذ الإجراءات اللازمة ، وتسهيل المعاملة، وألف مبروك . لم يستطع الصمود أمام الفرحة، والبقاء في ميدان فلسطين ، كادت الدموع تفضحه . توجه إلى المدرسة ودخل إلى الساحة . كان المدرسون فاتحي الأذرع بانتظار احتضانه ، لثموا وجنتيه بالتوالي، وقدموا له كشف الدرجات . قال أحدهم : - ماذا تنوي أن تفعل الآن ؟ رد عليه آخر ممازحاً : - استمرار بيع بطاقات ( صفر خمسة تسعة ) . لم يعلق فؤاد ، اكتفى بأن قدم لهم جهاز الجوال قائلاً : - افتحوا صندوق الرسائل واقرءوا ! أصابهم الوجوم ، فيما كان مدير المدرسة يتابع انفعالاتهم الواحد تلو الآخر ، وعندما عجز عن معرفة ما الذي يدور، وما هي الرسالة التي يقرءونها ، قال متسائلاً : - ماذا هنالك ؟ رد عليه المدرس الذي يحتضن بين يديه جهاز الجوال : - الأفضل أن تقرأ بنفسك . قدم له الجوال وأخذ يرقبه . ارتفعت علامات الدهشة إلى آخر مداها ، قال : - إن فؤاداً يستحق الكثير ، وهذا ليس كثيراً ! ودعهم ومضى عائداً إلى البيت من أجل إبلاغ الأب والأم والأخوة، فيما كان عقله يقيس الأولويات ، وفجأة تذكر هديل ، قال في سره : عساها أن تحصد النتائج التي تطمح . اليوم موعد لقائنا ، فهل لها أن تحضر في مثل هذه الأجواء ؟ وفي البيت انهمرت دموع ألأم مدرارة . إنها دموع الفرح والتعويض عن الجهد ، ولأول مرة ، تحتضن الصبية أخاها، وتهمس في أذنه وعيونها مبللة : - مبروك . طقوس الفرح لا تشوبها الشوائب ، والسباحة فوق أمواج هادئة تدغدغ الحواس وتلهب المشاعر ،الأصدقاء يهنئون ، ورنين جهاز الجوال لا يتوقف إلاّ نادراً . الموعد مع هديل له وقع خاص ، ومدار الجدي لا ينفع معه ، يدخله إلى تفاصيل يخشى وقتها، وقيودها الصارمة تزج فيه في أتون يصعب التنبؤ بما ستؤول إليه وبمقدار لهيبها . والسؤال المربك ما زال واقعاً تحت تأثير المجايلة والتجانس وانفتاح المخبوء على عوالم غامضة ، والساعة الرابعة تقترب عقاربها من خطوط الموعد وضرورة ترتيب الأفكار والاستعداد لكل طارئ . هندم نفسه كمن يعطيها إجازة عمل عند حواف الدخول إلى حياة جديدة تأخذ بالحسبان المناخ والفضاء ومصاحبة الوقت والمكان ونسيج الذكريات . وبين ظلال أشجار المتنزه العام التي يحرسها الجندي المجهول ، تشابكت الأصابع وتصافحت العيون والقلوب ، وعزفت الأرواح لحناً خالداً يتكسر على أعتاب الصمت والحيرة، وبداية الحديث، والمداخل المفضية إلى دهاليز الحرص ، وتعقب العيون والرقابة الصارمة . ومن بين أمواج صخب القلق وانحسار ضجيجها المخيف ، نبت السؤال المعلق بين أنياب الاحتمالات فجأة ، فأعاد الأمور إلى وضعها المربك الذي حملته عندما جاءت أختها تحمل التحية، وموعد اللقاء ، والمكان الأول ، وعدم جدوى الاتصال بالجوال : - ما هي الضغوط التي تتعرضين لها ؟ - تم مصادرة جهاز الجوال من قبل الأهل . - لماذا ؟ - جاءتني رسالة عابرة ، لا أعرف مصدرها ، فكان الخوف عليّ مصادرة جهاز الجوال زيادة في الحرص . - وهذا اللقاء،ألا تخافين مغبته ؟ - أمي تعرف به، وتباركه . تدارك نفسه بعد الاطمئنان ، فذهب نحو نتائج الامتحانات قائلاً : - اربكني القلق عليك، ولم أسأل عن معدل النتيجة العامة. - ممتاز. ولكن نتيجتك أفضل . لقد تابعتها عبر المذياع ، وكنت محل فخر الأهل .. - ما هي الكلية التي تنوين دخولها ؟ - جئت أستشيرك، فأبعدنا الحديث، والخوف من المستقبل . - على صعيدي ، أرغب في دخول كلية الحقوق . - ولماذا الحقوق بالذات ؟ - من أجل الدفاع عنك وقت الحاجة ! - وأنا سأدافع عنك عندما تحتدم المعركة . - إذن ستدخلين الحقوق ! - نعم ، حتى نصبح متساويين . - لا بأس ، سنكون أفضل ثنائي داخل الحرم الجامعي . - ولكن يجب أن تتوطد العلاقة بين الأهل . يجب أن نعمل على ذلك . - اتركي الأمور تتطور من تلقاء نفسها أفضل . المصطنع دائماً سريع الزوال ! - متى ستذهب للتسجيل في الجامعة ؟ - على الأرجح مثل هذا اليوم من الأسبوع المقبل . - ليكن هذا موعداً بيننا . - اتفقنا . غادر المكان مع نمو الأحلام الكبيرة ، عقلان متفتحان على الأمل، وعيون تنظر إلى المستقبل دون أن تكف عن دراسة الماضي، والحديث عنه، وتأمله ، وعندما عاد إلى البيت أخذ كل واحد يرتب أولوياته مع الأهل . فؤاد أعطى أباه خبراً عن استعداد شركة الاتصالات دفع الأقساط الجامعية مكافأة للجهد الذي يبذله في تسويق بطاقات ( صفر خمسة تسعة ) ، وحصوله على درجة ممتازة تؤهله اختيار الكلية التي يريد ، فأخذت الفرحة أهل البيت وذهبت الغمة عن صدورهم ، ولم يعلق الأب على اختيار الكلية عندما علم بها ، فيما احتدم الصراع بين هديل وأهلها جراء هذا الاختيار ، ولكن الحسم في نهاية المطاف كان لصالحها . وهكذا استقر الأمر على الحقوق، وتم التسجيل في الموعد الذي اتفقا عليه بعد أن استوفيا الشروط الضرورية. وتسكعا داخل الحرم الجامعي يستطلعان الأبنية والوجوه والمناخ الجامعي خلال هذه النزهة القصيرة ، فوجدا اختلاف الحياة والمناخ والأمزجة ، آلاف الطلاب من الجنسين في أحلى زينة لهم ، يعتمرون روح الشباب وحيويته، والاندفاع المفرط أحياناً ، حواسهم متناغمة، وإقبالهم على الجديد يحفزهم للمغامرة ، وهناك دائماً ما هو جديد كل لحظة ! وقبل أن يغادرا الحرم الجامعي ، أخذتهم النشوة إلى مداراتها . تقاطعت العيون واللحظات والخطوط المرسومة ، وكان الانسياب البريء يتخلل المسام، ويحكي الحكاية من أولها : وجع الانتظار يفسد على العشاق حالة الاكتمال ! وعند مغادرة الحرم الجامعي قال فجأة بعد أن غرقا في الأحلام المبهمة : - سنلتقي في اليوم الأول للدوام الجامعي ، أما الآن ، فعليّ الذهاب إلي ميدان فلسطين من أجل تسويق بطاقات( صفر خمسة تسعة ) . ولم يضع يده في يدها . نظر في عينيها ملياً وقبل أن يذهب قال : - إنني أحبك! تمت / إبريل 2004
#حبيب_هنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 15
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 14
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 13
-
فصل من رواية : صفر خمسة تسعة 12
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 11
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 10
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 9
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 8
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 7
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 6
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 5
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة4
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة 3
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة2
-
فصل من رواية :صفر خمسة تسعة
-
الحداد أربعون يوماً
-
الفصل 16 من رواية كش ملك
-
الفصل 15 من رواية كش ملك
-
الفصل 14 من رواية كش ملك
-
الفصل 13 من رواية كش ملك
المزيد.....
-
ماذا قالت الممثلة الإباحية ستورمي دانيالز بشهادتها ضد ترامب؟
...
-
فيلم وندوة عن القضية الفلسطينية
-
شجرة زيتون المهراس المعمر.. سفير جديد للأردن بانتظار الانضما
...
-
-نبض الريشة-.. -رواق عالية للفنون- بسلطنة عمان يستضيف معرضا
...
-
فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين
-
من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت
...
-
تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف
...
-
قيامة عثمان 159 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 159 مترجمة تابع
...
-
-روائع الموسيقى الروسية-.. حفل موسيقي روسي في مالي
-
تكريم مكتب قناة RT العربية في الجزائر
المزيد.....
-
أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية
/ رضا الظاهر
-
السلام على محمود درويش " شعر"
/ محمود شاهين
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
المزيد.....
|