أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - نعيم عبد مهلهل - مديح إلى مدينة العمارة .. ومعدانها أجداد هيرقليطس...















المزيد.....



مديح إلى مدينة العمارة .. ومعدانها أجداد هيرقليطس...


نعيم عبد مهلهل

الحوار المتمدن-العدد: 2568 - 2009 / 2 / 25 - 08:57
المحور: المجتمع المدني
    


( إلى فلاسفة القرن الواحد والعشرين جبار عبد الله الجويبراوي .. ومسعود العمارتلي .. ومالك المطلبي ، وجمعة اللامي ، ونعمة مطر ...وقاسم مُشكل إن كان حياً يرزق)

( ( هي العمارةُ، فجرُ العمر.. مُرضِعَتي ..... وما أزال رضيعاً حين تَنخاني
أُمّي.. ورَبَّةُ إنجيلي وقرآني ..... وأكرمُ ا لناسِ أهلوها وجيرَتُها
وأصدَقُ الناس هم في كلِّ ميدان ..... نُبلاً، وطيبةَ نفسٍ، وانفتاحَ يدٍ ِ
وخيرُها أنَّهم جذعي وأغصاني ..... وهم ملاجئُ روحي كلَّما اغترَبت
وهم مياهي.. وهم زرعي وبنياني...))
الشاعر رزاق عبد الواحد / قصيدة قمر في شواطئ العمارة
تقع العمارة في الطرف القصي من جنوب شرق كوكب عطارد، وتحيطها مدن غمرت بالماء والقصب وتواريخ مملكة سومرية قديمة تسمى ( ميسان ) ، حلم مرة الملك المقدوني الإسكندر أن يدك غرورها بسنابك خيله ومنها يستطيع أن يكسر جبروت جيوش كورش فارس ،لكن المنية مسكته من رقبته في بابل ،وظل قادته من بعده يحلمون بميسان ، لكنها أبت أن تكون كما ثمرة الكمثرى في فم مشتهيها ، وكذا هي منذ أن خلقها الله وحتى زمن المجالس المحلية ويافطات الأحزاب الألف ، ومن ذلك التاريخ البعيد للملك المقدوني ما تركته حملة واحد من قادة جيشه البحري المسمى ( نيرخس ) في حملته إلى تلك المناطق عام 325 قبل الميلاد والذي سجل فيها مشاهدته وإعجابه بصلابة سكان تلك المناطق في مقاومة الغزو الأجنبي ،وحتما عرب الأهوار من سكان تلك البطائح هم من أوقفوا حماس الاسكندر في النزول في حملته إلى جنوب بابل ، فهو حتما كان يحلم بضم مواطن الآلهة الأولى إلى ملكه ...
بدت المدينة الحالية كمركز حضاري في عام 1860 ميلادي ، وتتشابه في الولادة مع مدينة الناصرية 160 كم جنوب غربي العمارة. في مقاربة زمن تأسيسهما والسبب الذي دفع العثمانيون إلى بنائهما ، ودائما هو الخوف من ثورة العشائر العربية التي كانت تسكن هذه الأمكنة ، فبنيت مدينة العمارة لسبب هو أن تكون مقرا للقوات العثمانية وللسيطرة على تمرد وغضب عشائر بني لام وآل بو محمد.أما سبب تسميتها العمارة فيعود إلى قبيلة العمارات التي كانت تسكن المنطقة. وليس كما بقية مدن العراق الناشئة وسرعة قيام الأنظمة المدنية المتحضرة وبسبب التكوين العشائري الصارم لهذه المناطق ظلت العمارة خاضعة إلى تأثير الإقطاع وهيمنة مشايخ العشائر إلى عام 1958 وقيام ثورة 14 تموز التي جاءت بقانون الإصلاح الزراعي الذي جمد واخضع سطوة الإقطاع وهيمنته الاجتماعية والاقتصادية على سكان تلك المناطق.
أعطت العمارة من جسدها مالم تعطه أي أمراة من رحمها في مواكب صناعة تواريخ المكان ، فكان شهداءها وجنودها ومبدعيها لا يهجعون لخوف اللحظة الصعبة عندما تكون هناك حرب أو كارثة طبيعية أو أي هاجس آخر ، كما كان الجوع يصيبها في عهودها القديمة فتأكل من لب القصب ودموع السمك الناحل وتطبخ ( الخريط ) لسكان طفولتها ثم تتجاوز أزمتها لتعود مدينة واقفة ممتلئة الأثداء بحليب الصبر والأساطير وتواريخ الكلام الجميل لتلك الأسلاف المؤطرة بالزمن الحقيقي والأصيل لتلك المستعمرات المائية التي احتضن فيها المعدان خصوصية شعب يفكر بهاجس تسجله النظرة القدرية التي تصبغ ما تحت الجفن ليكتب وليفرد ثيكرز عنهم يوم عاش في أهوار العمارة كتابه المهم المعدان ( هؤلاء القوم من الأصالة بحيث يفوق قدمهم حتى الشعوب التي سكنت الأمريكيتين قبل اكتشافها )..
لم يسكن المعدان مدينة العمارة ، بل أحاطوها بمدنهم المائية التي صنعوها من القصب لتعوم على الماء كما يعوم القمر المكتمل في السماء ، ولم يخضعوا لمغرياتها الساحرة ويهجعوا إليها في سمر أو سكن ، ويأتون إليها فقط حين يشح السكر والدقيق ومراجعة الطبيب وغير ذلك فهم إلى زمن ليس ببعيد يكرهون حتى دفاتر الجنسية والجيش ، ويلجئون إلى الجنسية فقط عندما تملأهم رغبة التعلم لشعورهم البعيد انهم وريثوا ألواح الكتابة وذلك المجد الغابر التي سطرتها سلالات سومر واكد ولكش ولارسا ومملكة ميسان القديمة التي لم يُحفر في أطلال حلمها لحد الساعة وخاصة في الطيب وجلات والشيب والجزر التي تصعد على صدر الماء في مناطق عديدة ويعتقد أنها مسكونة بالجن والحيوانات الغريبة والتي تحرس كنوزا ما ، وهي ليست سوى أمكنة أثرية لتلك المملكة القديمة التي صنعت مجدها وامتدت إلى أمكنة بعيدة إلى شمال دجلة ،وكانت حارسة أمينة لبقية مدن العراق عندما كان العيلاميون يفكرون بألتهام مدنا عراقية لملكهم الكبير. فعندما احترقت أور على أيديهم في زمن الملك آبي ــ سين آخر ملوك سلالة أور الثالثة ، حملوا معهم ننار أله القمر الذي كان اله مدينة اور وحارسها الذي لا يعرف سبب تخليه عن مدينته في هذه المحنة .آخذوه إلى مدينة سوسة عاصمتهم ليعبدوه بدلا من السومريين فكان إن مر موكبه المحمول على كل بطائح ميسان التي ذرفت دموع الحزن على رحيل آلهة اور ، ويقال إن الميسانيون اعترضوا القافلة في اكثر من مرة إلا أن العلاميون كان لديهم جيشا جرارا من الصعب هزيمته ، وبرحيل ننار إلى سوسة انتهت آخر أزمنة عبادة هذا الإله في الجنوب العراقي لتبدأ عبادة اله آخر غيره مثل انو وانكي وابسو ومردوخ وانانا ، وكانت لبطائح ميسان حصة في عبادة هذه القوى التي سخرها العراقيون للسيطرة على هاجسهم الروحي القلق بسبب ما يسببه الماء والطبيعة من تأثير على البيئة والمكان فظلت مدن ميسان كما مدن الجنوب العراقي الأخرى تعيش هاجس الماء ومنها العمارة التي لم تشرب من مياه الأهوار كما غالبية مدن ميسان ، فقد كانت تروي عطشها من دجلة الذي يشق خاصرتها بوجع العشق والذكريات واراكيل ليال الصيف المستظلة بسعف النخيل وهو كما نحاة القواعد يصحح الأغلاط الإملائية في قصائد العشاق وخواطر مراهقي المدينة وحنكة الشيوخ وحكمتهم وهم يسردون وقائع أزمنة المدينة التي كان العراق يتطبب بهوائها ضد كل الأمراض التي تضرب الصدر والجهاز التنفسي.
ففي لحظة الوصول إليها يبدأ أغراء الاكتشاف يصيب الزائرين بدهشة انتظار ما بعد هذه المدينة حيث ممالك القصب الصغيرة وحياتها المميزة ، فتكون المدينة نقطة الوثوب إلى الضوء الأخضر المصنوع من مرئي امتزاج الماء بالقصب والنخل بلهجة المعدان وهم يستريحون تحت ظلاله بعد قيظ نهار يعوم فيه الإنسان مع حيواناتها لكي يوفر لها بهجة السباحة في تلك المياه الواقفة عند حدود النظر والأسطورة التي يصفها من ذات المكان عند خط الشروع المكتشف والرحالة البريطاني وليفرد ثيسكر الذي عاش في الأهوار من نهاية 1951 حتى حزيران 1958ولفترات امتدت لسبعة شهور أحيانا. عندما كتب في كتابه الشهير ( المعدان ) تلك اللحظة التي يمتلكها المرء عندما تصير العمارة قريبة من ذلك المكان المائي الذي يحمل بهجة حياة أناس بسطاء وطيبين أسيء إلى فهم وجودهم الاجتماعي بسبب عزلتهم وإصرارهم على العيش في الحياة كما يرونها ويريدونها هم لا كما تريدها الحضارة والمدينة : ( طوال الليل كان الهواء البارد القادم من الأهوار يهب من ثغرات القصب . كنت أستمع إلى الأمواج تلطم الجرف وأنا على وشك النوم. وحين خرجت فجراً ، رأيت صفحة المياه العظيمة ظلال أرض بعيدة .سواد يتضح بشروق الشمس .للحظة أخذتني رؤيا حفيظ ، الجزيرة الأسطورية التي لن ينظر أليها أحد دون أن يفقد حواسه ، بعدها عرفت أنني انظر إلى أجمات القصب العظيمة .يرسو على الضفة قريبا مني قارب رفيع أسود مشرئب ( المشحوف ) . الشيخ الذي يستخدمه في الحرب بانتظار أن يأخذني إلى الهور .
قبل أن تبنى القصور في مدينة اور خرج الرجال في الفجر من بيت كهذا ، دفعوا قوارب تشبه هذه ، مضوا للصيد هناك. كشفت حفريات ليوناردو وولي منازلهم القديمة ونماذج من قواربهم مدفونة عميقة تحت بقايا سومر أعمق من دلائل الطوفان نفسها ، خمسة آلاف من التاريخ هنا ، ومع هذا لم تتغير طريقة الحياة كثيراً )
وبذاكرة الماء وانتظارها لرياح المعطرة بضفائر القصب وبائعات القمر الآتيات بأواني ( الفافون ) المليئة بحليب الجاموس واللبن الرائب تقترب المدينة بثقافتها من إتقانها لحركة المتغير في كل شيء.
فقد كان هيرقليطس يقول :المتغير في حركة الموجة التي لا تثبت في المكان الواحد وهو ما يشمل الإنسان في رؤى العقل ونموه منذ الولادة وحتى الكهولة.وكذا المدن كما اعتقدته عندما قرأت كتاب أيتاليو كالفينو مدن لامرئية : إن المدن تعيش في عقولنا اكثر من النساء اللائي نعشقهن بقوة.
تقترب العمارة كمدينة من رؤية الفيلسوف الإغريقي فهي ملازمة لتحولات الموج منذ خليقة البدء العراقي ، هذه التحولات التي تحكي عنها طلل التراب والرمل التي تحيط في المدينة والتي ظلت مهملة من قبل المؤسسات الأثرية ولم يفكر أحدهم في التنقيب الجدي عن مدن وممالك عاشت أزمنتها الحضارية منذ النشوء الأول وكانت هي الامتداد الشمالي الشرقي لحضارة سومر واكد ومصدها القوي تجاه الحملات العيلامية والفارسية التي كان يتعرض لها العراق منذ قديم الزمان ، ففي مدينة العمارة وحولها يوجد حوالي 48 موقعاً أثريا لم تنال حظها الكامل من التنقيب وقد تتعرض في أحيان أخرى شانها شأن أماكن الأثر في الجنوب العراقي إلى قرصنة ( حرامية الآثار ) واللصوص الأميون الذي يحفرون بالمعاول البدائية وبدون طرائق علمية في تلك التلال والطلل الأثرية مما يؤدي إلى أتلاف الكثير من الآثار الخزفية والحجرية وألواح الطين..
أثر فوق أثر لتتوالى الطبقات وهي تنتظر معاول المنقبين لنكتشف العالم البعيد لمدينة كانت تأوي أحلام الجنوب النائي حتى في النفي السياسي للذين كانوا يقامون الأنظمة الفاسدة. فالمؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسيني ( رحمه الله ) الذي قضى فترة من فترات الاعتقال والسجن أيام الحكم الملكي في سجن مدينة العمارة الذي كان يعتبر واحد من سجون النفي بالنسبة لمعارضي الحكم الملكي ، وتحدث في لقاء تلفزيوني عن تلك الأيام وقال أن العمارة بطيبة أهلها ونقاء سريرتهم كانوا لا يشعرون ضيوفهم حتى لو كانوا سجناء بأنهم غرباء لهذا كان العراق كله موجودا في قواويش السجن وكان الجميع يشعرون انهم ( عمارتليون ) ، كما تحدث عن طيبة ونقاء هواء العمارة وجمال مناخها حتى أن الدولة في بداية حكمها الوطني أنشأت أول مشفى للأمراض الجلدية والمعدية في العراق في مدينة العمارة.
في جلسة حميمة مع واحد من أبناء مدينة العمارة الذين أرخ لتاريخها البعيد والقريب هو السيد عبد الجبار الجويبراوي في قاعة فندق بابل في مؤتمر الثقافة الأول بعد التغيير والذي أقامته اليونسكو بالتعاون مع وزارة الثقافة العراقية عام 2004 . كان الرجل يتحدث لي عن مدينة تتعدد فيها التكوينات والطبقات والثقافات والديانات أيضاً ولكنها تجمع كل تلك التلوين في كف دجلة ،وهو يذكر إن المدينة تدين بالعرفان لوجودها الحضاري الجديد إلى الكثير من الأساتذة الأوائل من الطائفة المندائية واليهود والمسيحيين أيضاً وله مقال تأريخي يؤكد أن المرحوم المندائي غضبان رومي هو أول معلم في العمارة وقد كتب في ذلك مراسيم استقبال مدينته ( قلعة صالح ) يوم صار معلماً (لم يسبق لسكان قلعة صالح- مسلمين ومندائيين- إن أقاموا احتفالا ضخما كالاحتفال الذي أقاموه عندما توجهوا بالسفن والزوارق إلى منتصف الطريق النهري الذي يربط القلعة بالعمارة في مقاطعة المزارع الكبير داود الحميد، وذلك في انتظار ابنهم البار المعلم الجديد غضبان رومي الناشي الذي قفز من السفينة التي كانت تقله إلى الشاطئ وهو يبكي فرحا، ويقبل أيادي الشيوخ الذين تجشموا عناء السفر من اجله ويشد بقوة على أيدي مستقبليه ويعانقهم بشوق وحرارة .)
وقد نشرتُ واحدا من بحوثه في هذا المجال في العدد الأول من مجلة الأهوار التي كنت أديرها وتصدر عن وزارة الموارد المائية العراقية وفيها تسجيلا لتلك الفترة الخصبة من بداية التعليم في العمارة وكيف كان لأولئك التربويون متعددي الطوائف والعراق الدور في إنشاء مدارس البنات والبنين ،وذكر لي إن شيوخ آل بو محمد هم أول من كسر طوق الحذر والممنوع في إدخال البنات إلى المدارس عندما سارعوا إلى تسجيل بناتهم في هذه المدارس التي بدأت ببنات بعدد الأصابع واغلبهن من العوائل المندائية واليهودية والمسيحية ولكنها تطورت لتشمل بنات المسلمين أيضا. وان أوائل أساتذتها من الصابئة كان من مؤسسي خلايا التنظيم الشيوعي في العمارة في ثلاثينيات القرن الماضي وتم اعتقال الكثير منهم ، واغلبهم من مدرسي مادة الرياضيات التي برع فيها الأساتذة اليهود والصابئة. وتمتاز مدينة العمارة التي شهدت مثل غيرها من مدن الجنوب العراقي بواكير التعليم إنها كانت تعطي أسماء مدارسها بأسم شيوخ عشائرها مثل المحمدية في مقاطعة شيخ آل بو محمد العريبي والمدرسة الفالحية في مقاطعة الشيخ فالح الصيهود وفي ريف المجر الكبير فتحت المدرسة المجيدية في مقاطعة الشيخ مجيد الخليفة وهم شيوخ قبيلة البو محمد وفي ريف المجر الصغير (الميمونة فيما بعد) فتحت المدرسة الشوائية في مقاطعة الشيخ شواي الفهد والمدرسة السلمانية في مقاطعة الشيخ سلمان المنشد وهما شيخا آل ازيرج وفي ريف كميت فتحت المدرسة الحاتمية في مقاطعة الشيخ حاتم غضبان البنية شيخ بني لام .ومثل هذه الظاهرة في حصر المسميات لم تكن سوى في لواء العمارة فأغلب المدارس الناشئة في الجنوب العراقي كانت تسمى بأسماء ملوك العراق في العهد الوطني أو بأسماء المناطق الجغرافية التي تقع فيها فمثلا كانت الفيصلية نسبة للملك فيصل الأول هو المسمى العام لأغلب المدارس الرائدة والتي تم تأسيسها في بداية الحكم الوطني.
كما كان لأبناء الطائفة المسيحية دور كبير في دفع عجلة التحضر في هذه المدينة ، أنا اكتشفت هذا في واحدة من صدف العسكرية الطويلة عندما عاشت أخيلة الأمل في رؤوس الجنود والخوذ أن نخرج سالمين من هذه الحرب التي لاترحم دمعة ألم وصلوات الآباء ونحيب أولئك الذين يؤلم الثلج أطراف أصابعهم فيمنعهم من تلمس خدود عشيقاتهم أو كتابة خواطر الحب أو عزف موسيقى السلام وسط أزيز الشظايا وعطاس البنادق وأوامر الرمي القادمة من الأفواه المرتعشة لضباط الرصد.
هناك نصف السرايا جنودها من الجنوب. فهو على حد تعبير ديورانت في كتاب قصة الحضارة الصانع الأمهر للمقاتلين. أولئك الذين كانت ممالك نيسان أور وشط العرب توشحهم برغبة الوجود عبر هواجس التوسل وأمنيات العري مع الآلهة الأنثى ،لهذا في الحرب كان اغلب الجنود من أهالي العمارة والناصرية والبصرة لا ينامون في ( يطغاتهم ) إلا ومعهم خيال لواحدة تتعرى بفتنة النخل والهور والأبوذية لا لتصنع بهجة للحرب ومسبباتها بل لتجعلهم أحياء ومتأملين رغبة العودة لتلك القرى التي رفضت أحلام كل اكاسرة الكون وصافحت بمودة جمالها وسحرها أبدية المكان وروحه الطقوسية المدهشة.
كان معنا في الفصيل جنديا مسيحياً أسمه ( نبيل ) ، كان طيبا وطباخا ماهرا ، كل أزمنتي معه من مودة التعاشر والصداقة والفة الربايا وتأمل النجوم في الليالي الصافية والإنصات إلى قداساته الخجولة ولهجته جعلتني انسبهُ إلى العاصمة وبالضبط كنت أتصور انه من كرادة مريم.فلا اسأله عن مدينته.
ذات يوم وفي ليلة ربيعية أمطرت حواسنا بلذة رائحة الورد الأتي من الوادي القريب. كنا نتحاور عن طبيعة البشر وتأثير المكان على هذه الطبيعة فسمعت منه أننا نتشابه في الطبيعة كوننا من جهة واحدة. قلت له أي جهة تقصد .قال : الجنوب .فأنت من الناصرية وأنا من العمارة.
ملأتني الدهشة والغرابة وقلت : مسيحيٌ من أهل العمارة..!
قال : عن أب وجد ،وعندما تنتهي الحرب سأصنع كل ذريتي في العمارة فهي الأصل دائما ، وهناك ليسوع قداس مع القصب فعشنا معه بسلام ، فليس أجمل من أن تعيش مع شيعة الأهوار لأن سريرتهم أنقى من دمعة المطر على خد الوردة.
أعجبني وصفه الشعري ، ولم أستغرب أن تسكن روح الشعر قلب مسيحي من أهل العمارة فالشعر يسكن في جسد المدينة منذ أزل الحياة.فتخليت صباحا ربيعيا هادئا تقرع فيه أجراس كنسية في العمارة وسألته إن كانوا هم من بقايا ما ترك المستعمر الإنكليزي في المدينة بعدما كانت مدينة العمارة منطقة امتداد وتجفل لجيوشهم يوم قررت بريطانيا غزو العراق وطرد العثمانيين منها وانطلقت بحملتها من البصرة برتلين أحدهما باتجاه الناصرية والآخر باتجاه العمارة ،فرد علي نبيل انه وأجداده في العمارة أقدم من أزمنة الإنكليز ويعتقد إن عائلته سكنت العمارة منذ أواخر القرن التاسع عشر ، فأبيه ذكر له ذلك.
لا أعرف أين هو الآن ، ولا اعتقد انه يسكن العمارة الآن فلقد فرقتنا نهاية الحرب ،ولكني واستذكارا لهذا المسيحي العمارتلي الطيب الذي جمعتني فيه ليالي الحنين لرقصات البط والشامات المرسومة على شكل نجوم واقمار تحت حنك بائعة القيمر الصباحية ، أستعيد مقالة جميلة لصديقي الشاعر الميساني جمال الهاشمي عن ( مسيحي مدينة العمارة ) والتي نشرها منذ زمن وهي بعنوان (أبناء الميزوبوتاميا في ميسان ) زمنها قوله :
وهل أنسى أصدقائي الكلدان في محلة التوراة وكنيسة أم الأحزان من اقدم الكنائس في الجنوب وزيارتنا لها أيام القداس ونذورنا أثناء النجاح ومازلت أنا وعائلتي وكل أبناء المدينة يحضرون الأعياد الدينية وبانتظار أبونا عماد القادم من البصرة لأقامة القداس ، ومازالت عائلة متي صليوة في العمارة أما رعد وبقية العوائل تسكن حاليا" في تلسقف ومن العوائل التي عادت في أواخر التسعينات إلى تلسقف غائلة المرحوم ألياس نيسان كتو والذي أقيم له اكبر مأتم في مدينة العمارة)
أما عن اليهود الذين سكنوا العمارة وربما منذ أول بابل عندما أتى بهم الملك البابلي نبوخذنصر فيتحدث الكاتب عنهم برغبة استذكار سريعة قوله ( ومازالت بيوت عوائل العمارة من الطائفة الموسوية من اليهود موجودة فبيت داود كباي وبيت ساسون مشعل موجود ومازلت أتذكر أبناء تلسقف الذين عاشوا معنا أيام الابتدائية أتتذكر اوكين شموئيل وعائلته الطيبة وبيت يوسف اوري).وهذا الكلام يؤكد على إن المدينة كانت موطنا للكثير من الديانات زمنها اليهودية ، وقد تكون المدينة محطة لرحلة العزير الكاتب ،النبي أو القديس اليهودي الذي مقامه اليوم في الناحية المسماة باسمه على بعد 70 كم من مدينة العمارة ، والمكان يحظى بتقديس المسلمون واليهود على حد سواء وله مواسم للزيارة وقد كان مزارا للكثير من الرحالة العرب حيث يعتقد أن العزيز قد توفى في هذا المكان أثناء سفره بين بابل وإيران أو بعض الروايات تقول انه كان قادما من القدس لتفقد أبناء طائفته في هذه النواحي ويقول المؤرخون انه توفي في عهد الملك الفارسي كورش أو (ارتحشته) (465ـ 425) ق0م ، وهذا المقام عشت معه في شهور الحرب عندما كان قاطعنا يسمى شرق دجلة وكنت أقرا في ذاكرة المكان صورة رجل تورع في حلمه التوراتي واتخيل لحيته الطويلة يتدلى منها صبره وارادته وهو يقطع الطريق بين بابل والعمارة ثم يود الوصول إلى اتباعه في قرى دهلران المحاذية لمنطقة الطيب جنوب العمارة ويقال إنها أيضاً كانت موطنا أزليا لأبناء الطائفة المندائية غير أن وجهته لم تقف عند ذلك المكان بل كان يريد الوصول إلى سوسة وبعض الروايات تقول انه أراد أن يتباحث مع الملك الفارسي أرتحشته حول أحوال أبناء الطائفة اليهودية في بلاد فارس. وعلى أية حال فأنا أتصور العزير النبي ( ع ) ، وهو ينزل راح الطريق وتعبه عند دجلة حيث العمارة اليوم وفيها تستريح هواجسه المتعبة من تأمله السماوي ومنها ينطلق إلى البطائح الخضراء التي من قصبها صنع نوح سفينة النجاة والملك كوديا بنى معبده الذي أمرته الآلهة ببناءه لحظة أطياف حلمه الشهير..
هذه المدينة الخصبة كما الأنثى التي لايمل غرامها من إنتاج الأجنة الجميلة.إنها آنية مزخرفة بأطياف اللون الاجتماعي والروحي لشتى المذاهب والديانات،فهذه المدينة الوحيدة من مدن الجنوب من تضم عوائل كثيرة من سوامرة( سُر من رأى ) فيقولون ( سوامرة العمارة ) ومنهم التربوي والمترجم المرحوم مؤيد عبد القادر السامرائي الذي عمل مدرسا للغة الإنكليزية في العمارة ثم أخذته السياسة إلى بغداد ليعمل دوبلماسياً في سفارة العراق في موسكو وقد ترجم كتب عديدة ومنها ما يخص الطاقة النووية صدرت عن دار المأمون للترجمة وهو أخ الناقد العراقي المعروف سليم عبد القادر السامرائي.
تلد المدينة وجدانها من تواريخ بشرها هكذا كان هيرقليطس يفكر بالمر عندما كان اليونانيون يحاولون معرفة خيال المدن كي ينجحوا في نسج مناديل العشق للآلهة التي تصنعها أخيلة المدن وخصوصا تلك التي تقع عند ضفاف النهر أو المحيطات أو البحار.
مدينة العمارة صاحبة الخيال الهيراقليطسي قفي تكوينها ، ولكن لم تكن وليدة العقل الإغريقي بل العثمانيون فكروا بصناعة مكان لخديعة المتمرد فولدت المدينة ، وكانت مدن الجوار تنظر إليها بحذر لأنها مدينة للعسكر والمدافع وثكنات التموين ، لكن المكان ( العمارة ) خرج من معطف الوالي والحاكم ( الأوغلم ) ليرتدي ثوب الطين والنخل والأثر البعيد لمجد سيوف أناس أدركوا مع الضوء والقصب واجنحة البط حركة الماء ليجدد من ذاكرته وليصنع حضارته ، فابتعد المكان عن نياشين الترك ليدخل في طيات ضفائر بنات الأهوار ولتكتسب كل الأرض من الطيب الى القرنه اسم المدينة وليعيش هذا الوجدان بالرغم من العوز الذي لاصقه بسبب سني الإقطاع والمجاعات والكوارث ولهذا عانت المدينة من حزن الهجرة لتزحف جموع فقراءها صوب العاصمة وليؤسسوا هناك واحدا من اكبر التجمعات الفقيرة في العاصمة وكانت في البدء بيوتاً من القصب والطين ولكنها عمرت بعد ثورة 14 تموز 1958 ومر المكان بثلاثة تسميات مدينة ( الثورة ، صدام ، الصدر ).
بعض البغداديون يعتبرون مدينة الثورة مجتمعا عمارتليا مصغراً بالرغم إن سكان هذه المدينة الفقيرة أتوا من ريف الجنوب كله ولكن الغالبية هم من أهل العمارة أولئك الفقراء الفلاحون الذين أصابهم قحط الخمسينيات وفيضانات خمسينيات القرن الماضي .
ظلت عادات العمارة ولهجتها وثقافتها تسيطر على اغلب قطاعات المدينة ومسميات أسواقها وشوارعها ، وبقى حنين الناس فيها وروابطهم تمد حبال المودة الى ذلك المكان الجنوبي الساكن لضفاف دجلة والذي كان الإنكليز يوم دخولهم إليها عام 1916 انهم دخلوا جنة ( عاد ) عندما صدهم سحر المكان وعذوبة أجواءه فكتبوا في دفاترهم خواطر جميلة عن غرابة ما شاهدوا من فطرة الناس وجمال النساء وأفياء نخل ذاقوا فيه حلاوة والطعم اللذيذ للبن الرائب ، فكتب أحد ضباط الحملة قائلا :انه تفاجأ في التركيبة الاجتماعية المتعددة للمدينة وان أهلها من ديانات عديدة عكس ما كنا نعتقد انهم مسلمون فقط ويجهلون أي شيء عن الحضارة والروحانيات ولكننا اكتشفنا إن المكان ليس تجمعا سكانيا بناه الأتراك للضرورة العسكرية ، فالمكان هو بقايا آثار عريقة من آثار بلاد الرافدين الساحرة.
تضج المدينة بغرائب سحرها ، وللغناء فيها طعم العسل الذي يقطر من شفتي فم المدينة وهي تمد نعاس لياليها على أرائك النهر وليس للعمارة إن تكون مدينة تتحدى أزمنة القساة والجوع وضريبة المذهب والطبيعة المجتمعية المميزة في صوت اللهجة والتقاليد ، فهاهو الموال والأبوذية يوشم خد المدينة بأساطير النغم ، وربما مسعود العمارتلي وقصته وشهرته تمثل إحدى غرائب ودهشة وجود المدينة في بحثها الأبدي عن أزل الموسيقى الذي يعود بجذورة الى قيثارات الذهب التي وجدها متناثرة بين حناجر الألواح وجدران المعابد ومسلات الملوك.
وقصة الأسطورة الغنائية ( الأنثى ، الذكر ) يعرفها الجميع وظهرت في مسلسل تلفزيوني جسد دور مسعود فيه الفنان سعدون جابر.
لكن أسطورية الحكاية والنغم تخلقان خصوصية ليس لمسعود وحده بل للمدينة ، فلكي تكون المدن خالدة عليها أن تنتج المطربين الخالدين ،ولأن الجنوب في كل الأرض منتج أزلي للغناء فلا بد أن تحمل كل مدينة خصوصية مع واحدة من حناجرها الطروبة ،وفي الجنوب السومري امتلكت الناصرية والعمارة بعض هذه الخصوصية المميزة دون غيرها من مدن الجنوب من خلال إنتاج تلك الأصوات الخالدة التي ظهرت في مرحلة طربية واحدة ( داخل حسن ، حضيري أبو عزيز ،مسعود العمارتلي ، ناصر حكيم وغيرهم ...)...
شكلت حنجرة مسعوده صورة الهاجس الخيالي لذات المدينة من خلال أطروحته الغنائية المتميزة التي تحدت ظروفا وتقاليد اجتماعية قاهرة.
ارتدت مسعودة ملابس الرجل فلم ينتبه الناس الى متغير الشكل بل كان الانتباه مأخوذا بسحر الصوت الذي جال في نواحي العمارة آتيا من مهد الولادة في الكحلاء.وقد قربت مجالس الشيوخ والأنس هذا الصوت ( المسترجل ) وكان صوته يضج بعذوبة المكان وخصوصيته واقترابه من حياة الناس وطبائعهم وهو يشد في بحة الحزن وجدان لوعته الذاتية فيما اختاره ليترك أنوثة الضفائر وبروز النهدين ليرتدي العقال ويقف على المسرح في دافع مفترض إن الرجولة قد تسمح له بتحقيق طموحه في الشهرة والانتشار والوقوف على مسارح ملاهي ومقاهي العاصمة وبالفعل دفعته شهرته واعتراف متذوقي الطرب الأصيل بصوته الى الوقوف جنبا الى جنب مع المطرب الشهير حضيري أبو عزيز وغنى معا في حفلات في بغداد وحلب وغيرهما من المدن وسجلا لشركة قامقجي الكثير من الأغنيات.
يذكر كالفينو في صناعة مجد المدن إن المدن تحيا ببهاء صوت منشديها ،فهم وحدهم من يصنعون للآلهة والأباطرة وقادة الجند مدنا ساحرة تعيش مع نشوة شعبها النادر.
ربما إنسان المدن الجنوب من الندرة بأنه يخضع لحسية الصوت قبل أي حس آخر لهذا كان الغناء يمثل الوجدان العميق الذي يفسر الحياة كما يتمناها الفقراء من الصيادين والمزارعين واصحاب الحرف.فكان مسعود يجسد تلك الرؤى في إبداعه ونضوجه الغنائي المبكر وفوقها كان يلحن أغانيه بنفسه من خلال الدندنة والأذن الموسيقية دون أن يكون عازفا أو أكاديميا ،وكأنه عند مقولة دافنشي :الإبداع الحقيقي تصنعه الفطرة الحقيقية ، لهذا خرجت من حنجرته ملحنة ومدوزنه أغانيه الخالدة التي تنقش كلماتها وأنغامها في ذاكرة الشعب كما نقشت ألواح سومر كلماتها وأنغام قيثارات أميراتها قبل مسعودة بآلاف السنين فجاءت أغانيه عبقة وحسية وطروبة كما في ( سوده شلهاني ) و( ذبي العباية ) و (خدري الجاي خدري ) و( بوية محمد ) و ( كصة المودة ) و( براضه أمشي براضه )..
في مزج إحساس المدينة بشخصية المطرب وصوته نحصل على طبيعة متجانسة وتوفيقية بين الإنسان وبيئته ، وربما ما فعله مسعود من تغير جنسه هو تعامل ودي مع الطبيعة لهذا لم يعاني من المتغير في مجتمع من الصعب كبح جموحه وتعديل نظرته وربما الفضل في ذلك يعود الى جمالية صوت المطرب وسحره وتأثيره على سامعيه لينسى الناس تبعية ما فعله ولينطلق في جسد المدينة ومسمعها صوتا يمتلك الحظوة والقيمة الطربية وليصبح يومه موعدا لمجالس لأكثر من وجيه وشيخ عشيرة وأريكة مقهى.
هذا المؤثر المهيمن على سطوة التقاليد لم يقف عند حدود ومساحة المدينة ، فما يزرعه الجنوب تحصده العواصم دائما ، فكان أن ذهب مسعود الى بغداد وليمثل هناك ظاهرة حسية ووجدانية في نقل إحساس مدينة حمل اسمها كلقب فكان النشوة في الصوت يمازج النشوة في سماع الأشم ( العمارتلي ) ، لتكون المدينة أول من تنتمي الى اللقب الفني المسموع ومعه المطرب عبد الأمير الأطوريجاوي الذي ينتمي الى بلدة طويريج قبل أن يشاع أسماء المدن الملتصقة في مطربيها كما ( الدراجي ، والبغدادي والبصري والناصري والحلي )ً.
لقد كان يقولون مهما فعلت العواصم بغر باءها فأن أعناقهم مشرأبت الى بيت الولادة ،ولهذا لم تأثر العاصمة في مسعود ولم تعطه الشهرة غرور التبجح والبحث عن سكن حضاري في واحد من أحياءها ،وربما ظل الشعور بازدواجية الجنس ملازما له وظلت الكثير من الإشاعات والتغميزات تلاحق نظرات سامعيه حتى وهم يصفقون في نشوة صوته الذي يصنع الموال المحمداوي بحرفة ماهرة وأخاذة ،واعتقد إن مسعود كان يعي هذا جيدا فأراد إثبات شيئا من فتنة الصوت والرجولة فعمد راجعا الى مدينته الكحلاء وهناك تزوج من واحدة ربما كانت مسحورة في صوته لتحدث تداعيات كثيرة ظلت مستورة ولم يكشف عنها ،ولكن التاريخ دائما يلصق في الكبار النهاية المأساوية ، فينتهي هذا الصوت الخالد بصورتين من النهاية واحدة تقول أن مسعود مات مسموما على يد زوجته بعد أن كشف أمره وشاع ارتداءه تلك الازدواجية في الجنس وكأن الزوجة حملت وزر هذا الأمر الذي قد يعتبر عارا في بعض وجهات النظر الاجتماعية فدست له السم ،ويقال انه مات متأثرا في مرض التدرن الرئوي وذلك عام 1944.
ومهما يكن ففي مجتمع عشائري مثل الكحلاء لم يكن توقع هكذا ردود فعل مفاجئة حتى مع مبدعا اشتهر على نطاق العراق كله ،لن الوضع الجسماني للمطرب ، وضع حساس وحرج وليمكن أن يتناسى حتى لو كان صاحبه ملكاً.غير إن مسعود العمارتلي أو ( مسعودة ) شكلت ظاهرة فنية متميزة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي ،وربما يكون هو واحدا من الريادات الغناء العراقي يوم تأسيس الإذاعة العراقية ( محمد القبنجي ،داخل حسن ، حضيري أبو عزيز ،مسعود العمارتلي).
سجلت تلك الدراما الحياتية والوجدانية تأثرا في الضمير الحي لدى الكثير من أبناء المدينة لكن أحد لم يفكر وقتها ليفسر ويغور في السيرة الذاتية والفنية لهذا المطرب ، لكن مقالة للروائي العراقي فيصل عبد الحسن وهو يتابع مختارات شعرية للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري والتي صدرت ضمن مشروع اليونسكو ( كتاب في جريدة ) قد تنبهت الى هذا الصدى الذي تركه المطرب في الوجدان الجمعي لدى الطبقة المثقفة والمتحضرة في ذلك الوقت عندما أشار الكاتب فيصل عبد الحسن الى اعتقاده إن الجواهري كان يقصد تغزلا المطربة مسعود العمارتلي في واحدة من قصائده قول الروائي فيصل عبد الحسن (( ومن قصائد المختارات - عبدة - التي وضع فيها أجمل عبارات الغزل بشخص مطربة سوداء ، نضيدة الأسنان - معسولة الشنب- وربما هي مطربة الجنوب العراقي المعروفة بأسم رجل هو - مسعود العمارتلي - ))
ومن بعض أبيات القصيدة قول الجواهري :
أعبدة يا أبنة الطرب ويا معسولة الشنب
ويا معزولة النصفي ن مبتعد ، ومقترب
كرجع الحائك النول بنسج المطرف القشب
ويا مهزوزة الخطوا ت لم تخطئ ولم تصب....
لم يكن مسعوده هو النتاج الخالد لهذه المدينة والذين جعلوا من العمارة اسما ملتصقا مع الفنان أينما حل وارتحل بل أن العمارة ظلت ملاصقة للكثير من الحناجر التي شاع الولع بأدائها في زمن انتشار الكاسيت وظاهرة التسجيلات التي عاشت عصرها الذهبي في زمن ظهور سلمان المنكوب وعبادي العماري وجلوب ونسيم عودة وغيرهم ، وحتما هؤلاء هم أحفاد بررة لذلك الصوت الخالد الذي أشاع مسحة الحزن والعشق والحنين واللوعة والتي مثله جيدا صوت المطرب سلمان المنكوب ، وكانت إذاعة القوات المسلحة في بداية سبعينيات القرن الماضي تذيع أغنيات هذا المطرب لاكثر من مرة في اليوم فلقد كان له التأثير الساحر والإيقاع الذي يبعد هومسك العزلة والخوف من شظايا الحرب عن الكثير من أبناء الجنوب الذين جندتهم الدولة في حرب الشمال المسماة ( حرب برزان )والتي التصقت فيها تلك الهوسة الشهيرة لواحدة من الأمهات العماريات آلائي ثكلن بأبنائهن في تلك الحرب بقولها يوم جلب النعش إليها قادما من ربايا الثلج الباردة الى دفئ القصب والماء في العمارة قولها ( طركاعه اللفت برزان ..بيس بأهل العمارة ) والطركاعة تعني في لهجة الجنوب المصيبة والصاعقة ..وكلمت بيس تعني أوغل ، والمعنى العام هو ( مصيبة وصاعقة ضربت الملا مصطفى البرزاني لأنه أوغل قتلاً بأهل العمارة من الجنود ).
يمثل الغناء بعض هوى الروح ( العمارتلية ) وكان الجنود يأتون بأطياف مدينتهم وظلال النخل وآماسي كورنيش دجلة من خلال طور المحمداوي الذي يجلب لهم كل صدى يتمنوه بدءا من الأمهات وانتهاء بحبيبات عيونهن أوسع من عيون جياد براري الشيب والطيب وجلات وكميت وعلي الشرقي والغربي ، وأرق من ريش البط الملون بتفاصيل مشتاي الأهوار الدافئة ،البط الصيني والاسكندنافي والكوري،وذكر بعض الجنود إن بطا كنديا كان يزور شتاء العمارة.
بين البط وأسطورة مسعود أصنع وجودا مفترضا لمدينة تصنع أثرها من دلال الأزمنة وتواريخ الجوع والعشق والصلوات المندائية لأولئك الروحانيون الذين كانوا يجيبون القرى والمدن ليكشفوا طالع الحلم وغسل الاجفان الحيرى بضوء النجوم.
أعترف أنني لم اعرف العمارة في صبى قراءة المراهقة إلا من خلال واحد من عشقاها الذين يؤسطرون مودتهم بأرغفة القصة ،وفيها يتخلصون من ألم الجوع والنفي والسجن السياسي ،عشقها لتكون حاضرة معه في وجدان الكلمة والحلم وليصنع منها بهاء عمره واغترابه وحنينه الذي يشبه حنين السمك الى وسادة الطين هروبا من شبكة الصياد.
مع قصص جمعة اللامي عرفت أن للعمارة بابا كبيرا صوب دلمون وأنها أفق مؤطر بأساور القصب ودخان مواقد القرى وأصيل الدمعة النازل على سعال الفقراء. هذا المبدع الميساني الذي يحمل في وجدانه صورة المدينة كما يتخيلها اله غاب في عتمة الشوق لمدن صنعها من طين قبلاته ونساها بسبب كأس خمر في ليلة مودة مع جارية تركها جلجامش في محطة من محطات دروبه التي يجوبها بحثا عن الخلود.
لهذا كانت قصص جمعة كشاف لخرائط مدين لم يلفها نسيان قبعات الحاكم والشرطي والسركال فقط ،بل لفها حزنها الأبدي وهي تصنع حقيقتها الخالدة لتكون أنثى جميلة من إناث الماء والنخل وسعادة الجواميس.
لقد كتب جمعة اللامي برقة الذي يتوارث بهجته من روح المدينة المشتعلة في طفولة أبناءها فوانيس ملونة ،لهذا فقد أغرتني قصصه وأشياءه ورحت اذهب معها لتخيل مدينة لاتشبه اور فقط بل تشبه دلمون أيضاً.
أولئك الذين يموتون كل يوم ويولدون كل يوم ، مجدهم أنهم صناع مدهشون لصناعة الأشياء البراقة ( النجوم ،أساور الفضة ،وشم الخد شظية الحرب وقصيدة الشعر ، هم وحدهم من يحق أن يطلق عليهم لقب أمراء الضوء ،الذين يمسكون أجفان الماء بأصابع الرعشة وزعانف السمكة وحركة سعف النخل ،هي ذاتها من تغفو على ظلها المدينة التي تضخ للعالم البيارق وبيوت الطين وعطاس البط ،العمارة تلك الحافلة التي لاتمل من الدوران حول مركز الكون لتصنع لعشاقها المنافي الخالدة ،أينما يكونوا فهم لها ،وأينما تكون فهي لهم ،عاشقة يغرقهم عريها ببهاء النوم في سكرة دجلة ليترنح العمر فيهم ويدخرون لأمنيات اللغة البهيجة التي يطلقها بحداثة الكلام عند الناقد والشاعر مالك المطلبي وهو يفك طلاسم مشفرته الأزلية في البحث عن الداخل التي يُرى ولا يُرى.ويلبسها ثوب الخجل القروي في الشعر الذي يطلقه عيسى حسن الياسري وهو يمد أسارير شعره السبعيني أيام دواوين وزارة الثقافة والأعلام عندما كنا نقرأ فيها ضمير الولد القروي الأسمر وهو يشد عاطفة الجنوب لطوف الطين وشتلات الرز ونحيب موتى من يرحلون بصمت الفلاسفة والمكتشفين. باذخة وأميرة وصانعة للخبز والدموع والشهقات .فيما تأخذنا كلمات الشاعر الشعبي مطر نعمة العلاف الى عذوبة الحالم بحلمه وهو يدق هيجان الشعر في جسد الغنية والأوبريت والدرامي الجميل.
تعيش حيث يعيش الوجدان وحيث تعيش الآلهة .لها المديح كله .ولها الحلم كله ،ولها الصلوات .....



#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شيوعيو مدينة الناصرية بين الانتخابات ومتحف لفهد....
- مقدمة ٌلتاريخ ِمدينةِ الناصريةِ .....
- جلجامش وملوك ورؤساء الجمهوريات ..
- البارسوكوليجي 2009
- انظر إلى غزة ...أنظر إلى العربي....!
- قراءة الباطن الروحي ( للمغربي ) شكسبير وتنظيم القاعدة...
- عيد ميلاد مجيد يا أهل ناحية الحَمارّْ ....
- طالما .. العراق حيٌ ..فأنت الحي وليس فلوريدا...
- قيصر والعراق وحبة التين
- الحسين ( عليه السلام ) ، وغاندي ( رحمهُ الله ) ، وكارل ماركس ...
- أشراقات مندائية
- شيء عن السريالية ، والغرام بالطريقة التقليدية...
- الفصيحُ لايشبه الصفيح .. وحنيفة لايشبه الصحيفة ....
- من أمنيات الترميذا يوشع بن سهيل
- الصابئة المندائيون وسوق الشيوخ وتشريفات القصور الرئاسية...
- ميثلوجيا العدس
- التاريخ الوطني لشركة أحذية باتا...!
- الانتحاريُ الجَميلْ ..وجَنتهُ التي عَرضُها السَمواتُ والأرضْ ...
- طلبان كابول ، وشرطي من أهل السويج ...
- فلفل أحمر .. وكحل تحت عيون نادية لطفي ...


المزيد.....




- أمريكا.. اعتقال أستاذتين جامعيتين في احتجاجات مؤيدة للفلسطين ...
- التعاون الإسلامي ترحب بتقرير لجنة المراجعة المستقلة بشأن الأ ...
- العفو الدولية تطالب بتحقيقات دولية مستقلة حول المقابر الجما ...
- قصف موقع في غزة أثناء زيارة فريق من الأمم المتحدة
- زاهر جبارين عضو المكتب السياسى لحماس ومسئول الضفة وملف الأسر ...
- حماس: لا نريد الاحتفاظ بما لدينا من الأسرى الإسرائيليين
- أمير عبد اللهيان: لتكف واشنطن عن دعم جرائم الحرب التي يرتكبه ...
- حماس: الضغوط الأميركية لإطلاق سراح الأسرى لا قيمة لها
- الاحتلال يعقد اجتماعا لمواجهة احتمال صدور مذكرات اعتقال لعدد ...
- مسؤول أمريكي: قرار وقف النار وتبادل الأسرى بيد السنوار.. وقد ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - نعيم عبد مهلهل - مديح إلى مدينة العمارة .. ومعدانها أجداد هيرقليطس...