أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - شاكر خصباك - ستون عاما من الابداع(2-3)















المزيد.....



ستون عاما من الابداع(2-3)


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2566 - 2009 / 2 / 23 - 10:04
المحور: سيرة ذاتية
    


بمناسبة صدور (صراع)(*)
□ أ. د. علي جواد الطاهر
(1)
كما أن الكلام على فوائد الأدب أصبح من فضول القول.. كذلك أصبح الكلام عن فوائد القصة. ولا غرو فهي فرع حيّ؛ نابض، فاتن.. أجل فاتن، وهل هناك من ينكر السحر الذي يسيطر عليه وهو يقرأ القصة، السحر الذي يغريه فلا يستطيع معه قطع القراءة.. ثم السحر الذي يدخل إليه فكرة القصة شعوراً ولا شعوراً.. ثم السحر الذي يفعل فعله في توجيه حركاته وسكناته؟
ولكن ليس هذا مجال الكلام على فوائد القصة، بل لم يعد يمثل هذا الكلام مجال.. وقد قطع (العالم) ثمار القصة مادياً ومعنوياً. ولِمَ لا والقصة عنصر أساسي في آدابهم؟! أما نحن، في أدبنا العربي فأين القصة؟! وأين فعلها؟! وأين مكانتها؟!.. أين؟! إن القصة الحقيقية معدومة في أدبنا القديم. أما الحديث -وحتى في مصر ولبنان- فالحكم نفسه يكاد يكون نافذاً.. أو قل إن القصة بعيدة عن بلوغ الدرجة المطلوبة. وإذا كان هذا في مصر ولبنان حيث لمسنا محاولات مشكورة، وأحياناً ناجحة، فواحسرتاه على العراق؟! العراق بعيد.. بعيد.. بعيد..
أجل، إنه بعيد وهده حقيقة مرة (تزعل) الكثيرين. ولكن يجب أن تذكر ويجب أن تسجل ويجب أن تعلن.
أجل، إن النثر الفني عامة والقصة الفنية خاصة معدومة في العراق؛ وإلا فأين القصّاص المتفنن؟! وأين القصة الفنية؟! وأين أين؟! كل ما لدينا لا يتعدّى محاولات عابرة تحقيقاً لشهوة مرفقة بخبرة هزيلة.. وإذا كانت (كل) هذه موجعة فضع محلها (جل) من قبيل المجاملة، وبئست المجاملة.

(2)
أقول هذا؛ بمناسبة صدور (صراع). وما هو (صراع)؟! لعلك عرفته قبلي.. إنه (مجموعة قصص عراقية) ألفها (شاكر خصباك) وطبعها في مصر، وأهداها لأستاذه الكبير محمود تيمور. وقدّم لها الأستاذ عبد المجيد لطفي. وكان مما جاء في هذه المقدمة: «لقد بدأت القصة في العراق بداية حسنة ولا ريب في ذلك.. فقد استطعنا أن نكتب في القصة بنجاح يبشر بأمل وارف..». وهنا لا أريد أن أسأل الأستاذ عن «هذه البداية الحسنة!» ولا أريد أن أسأله عن هذا النجاح. ولا أريد أن أسأله تعداد أعلام القصة العراقية، لا.. فجواب هذا معروف لديّ! إنه صفر دون شك.. لا.. لا أريد ذلك.. وإنما أريد أن أنقل قوله «ومن هؤلاء الناجحين الذين نتوسم فيهم بشائر النبوغ، وننتظر منهم تقدماً واضطراداً في هذا المضمار صديقنا الأستاذ شاكر خصباك صاحب هذه المجموعة القصصية الرائعة، وهو شاب حدث قرأت له قصصاً ناجحة في بعض المجلات فأعجبت بها فائق الإعجاب. وقد كتبت إليه مبدياً هذا الإعجاب فما خيّب ظني به، إذ وجدت نفسي بعد هذا أمام هذه المجموعة من القصص العراقية الجديدة». فهل هذا الذي قاله (الأستاذ لطفي) صحيح؟ وأن في (الأستاذ شاكر) نبوغاً؟ وأن في أسلوبه حيوية وروعة وإخلاص؟ سنرى ذلك فيما بعد، بل سنراه الآن، فما أريد أن أقف عند (صراع) قصة قصة ألخصها وأحللها وأنقدها.. فإني أحب أن أترك ذلك لغيري من القراء. فها هي ذي المجموعة أمامهم: (صراع - عجيب - دكتور القرية - بداية النهاية - لقمة العيش - أحلام ضائعة - بوبي - عذاب - خطيب الحرية - ضحية - أحلام الشباب).
هذه هي المجموعة أمامهم، ولهم أن يقرأوا، لهم أن يمدحوا، ولهم أن ينتقدوا ولا شك أنهم فاعلون.
أما أنا.. فأود أن أسجل ملاحظات عامة. وأول ما يجدر ذكره أن تسمية الكتاب بـ(صراع) مشتقة من اسم القصة الأولى. ولكن ذلك لا يعني أن القصص الأخرى بعيدة عن (الصراع).. لا فكل ما في الكتاب صراع.. صراع الجنس، وصراع الاقتصاد، وصراع التقاليد.. وكل هذه الصراعات في مفهوم العصر الحاضر أمر واحد.. بل كلها يؤدي إلى نتيجة واحدة.. هي التقدم إلى الأمام، وأنا متأكد بأن شاكر هدف إلى هذا.. لأنه من القصاصين الذين يحملون فكرة ويهدفون نحو غاية ويسيرون بوعي.
ومن ينكر أثر القصص التوجيهي؟! القصص الذي يشرب قلبك الحب والخير والجمال، القصص الذي يشحنك ثورة على الدعارة والشر والقبح؛ القصص الذي وفر رواء الأسلوب وصحة الفكرة.
أجل.. الأسلوب والفكرة.. أجل.. لا يفعل القصص مفعوله في الإصلاح الاجتماعي ما لم يوفر الأسلوب الفني والفكرة الصالحة، أما إذا فقد أحد هذين الشرطين فهو إما قصة فنية هدامة.. وإما فكرة معقولة لا تغري المجموع ولا تستهويه ولا تشحذه، وقد دار برأس عدد من حملة الأفكار أن يغروا الناس بأفكارهم بتقديمها باسم القصة، ولكنهم لم يحظوا بغير الفشل لبعدهم عن الفن.. أجل.. الأسلوب والفكرة يجب أن يتوفر للقصة التوجيهية الناجحة. الفكرة والأسلوب يجب أن يسيرا فيها يداً بيد. يجب أن يتمازجا. يجب أن يكوّنا شيئاً واحداً.
وقد حاول شاكر التوفر على هذه الوحدة. وقد نجح نجاحاً ملحوظاً. ولكن بعد أن آمن بضرورة هذه الوحدة. وهذا أحد العوامل الأساسية التي تميّز قصصه في (صراع) عن قصصه الأولى. أجل؛ فأسلوبه حسن وأنا متأكد بأنه سيكون في أقرب وقت أحسن وأحسن، بل لم لا نقول إنه أحسن. إنه أسلوب قصصي ناجح.
فأنت تلمس الروح القصصي جلياً في كل مكان. إنك أمام قصاص في كل ما تقرأ. إنك أمام قصص لها طابعها الفني لا حكايات على السلاطين وكيفما اتفق. بل إنك تؤمن تماماً أنك أمام قصاص منذ الجملة الأولى لأية قصة، ولا غرو فإن شاكراً قد وفّر ما كان يسميه أجدادنا النقاد ببراعة الاستهلال. أجل، إن من مزاياه الأساسية براعة الاستهلال القصصي. وحسبك لتتأكد من هذا؛ أن تقرأ أي مطلع لأية قصة من (صراع).
على أن القضية ليست قضية مطلع فحسب. لا. فهناك أيضاً براعة العرض وبراعة الختام. ومن هنا وهناك جاء عنصر الإغراء، فإنك ما تكاد تقرأ الجملة الأولى حتى تواصل وتواصل وتواصل إلى الجملة الأخيرة حيث تدري ولا تدري. واللطيف في أمر هذا الإغراء، أن عوامله خفية، فهو إغراء سام ليس من ذلك النوع الرخيص الذي يزجه بعض القصاصين زجاً بالإكثار من المفاجأة البهلوانية استجداء لإثارة انتباه الصبيان وسعياً وراء اللعب بعواطفهم أملاً بأن يقال فلان قصاص مغر.
لا، إن عوامل الإغراء في قصص شاكر خفية، وهذا شرط في القصة الناجحة، هي خفية، هي نتاج عوامل عدة سارت يداً بيد، وتمازجت وتوحدت. منها ما كان مأتاه الفكرة الصحيحة الصادقة الصالحة ومنها ما كان مأتاه التأكيد الخاص في الضرب على وتر الغريزة الجنسية، وفعل الدينار، واصطراع الأجيال، مع ثوب فني مرصع بالاستعارات المناسبة ومزين بالأخيلة الملائمة ومحلّى بالألوان الأخاذة. بل، ومنها ما كان مأتاه ما أوضحه الأستاذ لطفي في مقدمته أن هذه القصص «..منتزعة من صميم حياتنا ومن بين أهلينا وأصحابنا وجيراننا، ومن بين التعساء والأشقياء والمعذبين والجهلاء، ومن بين الأغنياء المتبطلين الذين لا يرون الحياة غير معدة يجب أن تملأ بما لذّ وطاب، ويأبون رؤية النور والحياة الصادقة وما فيها من جميل التضحية والإصلاح». ومن أن هذه القصص «تضعنا وجهاً لوجه مع حقائق مرة كثيراً ما حاولنا التهرب منها وخشينا إزاحة النقاب عن وجوهها الكالحة المغبرة، لكن الأستاذ شاكر خصباك وجد الجرأة ليقول كل شيء بصراحة أظن أنها لا تطاق لدى البعض أكثر الأحيان». ومن أن هذه القصص «تتحدث عن طائفة من الناس - عن مآسيهم وآمالهم وذكائهم وبلادتهم، بيد أنه لم يتحدث عنهم كأفراد إلا لأنهم يمثلون عدداً كبيراً من نظرائهم.. وقد استطاع قاصنا أن يصف التفاصيل في حياة شخصياته بدقة وبراعة وأن يحلل نفسياتهم تحليل المقتدر حتى لتكاد تراهم وتعرفهم في الحياة العامة وتحسب أنه يتحدث عن أناس سبق أن عرفتهم وبلوتهم، وهذا توفيق كبير حقاً، بل إنه البراعة القصصية ذاتها».
على أني نسيت التأكيد على ناحية أخرى من نواحي القصة الناجحة ومن نواحي قصص شاكر، ومن نواحي الإغراء، ذلك هو الحوار، فقد أجاده شاكر إجادة ملحوظة.
كما أني نسيت التأكيد على ميزة أخرى في قصص شاكر، نسيت أن أذكر أنه يأخذ الصغير، الذي ينظر إليه كأمر تافه حقير، لا يستحق عناية ما، يأخذ، ويوليه عنايته، وما يزال به حتى يقدمه إليك بشكل يدفعك للاهتمام به! ولعل في ملاحظات الأستاذ لطفي شيئاً من هذا.
هذه بعض مزايا (صراع)؛ هي بعض ما أعرف؛ وأصارحك بأني لم أقصد إليها في كلمتي هذه، وإنما أخذت طريقها عفواً فأهلاً وسهلاً. أما قصدي الأول فهو للتحدث عن (شاكر) نفسه.
شاكر.. ولد شاكر في الحلة عام 1930 معمّاً مخولاً فكلا البيتين من آل خصباك وآل شهيب، بيت كريم مثقف؛ يتذوق الأدب بل يمجده، بل ينتجه، هذا إلى التحرر الكافي الذي يتسم به الأب والذي كان بموجبه أن متع ابنه بقسط كبير من الحرية، وراح يهيئ له حاجياته، ويحقق له طلباته، ويحترم له حركاته. وحسبك أن الابن كان يستطيع أن يشتري أي كتاب ويناقش في أي فكرة، ويكتب في أي موضوع، أقول هذا وأنا أعرف أن الكثيرين من الآباء عندنا يصبّون على أبنائهم سوط العذاب إذا ما نشروا قصة غرامية أو تكلموا في قضية سياسية أو نقدوا قاعدة اجتماعية.


وإذا ذكر فضل الأب فلا تنس فضل الإخوان، فضل الدكتور جعفر، الذي اهتم بأخيه ووجهه منذ الدراسة الابتدائية إلى مطالعة القصص، وقد كان لمجلة (سمير التلميذ) مكانها الأول من هذا!
وقد حدث في هذا التاريخ أن تأسست (المكتبة العامة) في الحلّة، وكنت كلما دخلتها وجدت طفلاً مكباً على المطالعة! من هو؟ لم أكن أعرفه قط، بل إني لا أراه إلا في المكتبة، ولكن صورته بجرمه الصغير ذائباً في كتابه أمام هذه المنضدة الكبيرة التي لا يكاد يحصل على راحته فيها، صورته هذه لا تزال واضحة المعالم في مخيلتي، وأكبر الظن أنه كان يقرأ كل شيء ويخص القصص بالدرجة الأولى.
كان يوالي الدراسة في المكتبة، ويوالي اصطحاب الكتب، ويوالي شراء المنشورات، وهو تلميذ. أقول (وهو تلميذ) لأننا ألفنا التلميذ -مع الأسف- أحد اثنين: إما لاهياً لاعباً عابثاً. وإما آلة تعيد في قراءة الصفحات المحدودة من دروسه وتبدي، (يدرخ) ويصم ويحبر. همه الوحيد أن يأخذ العشرة من عشرة. ومن المؤسف أيضاً أن هذا الأخير بفعلته هذه كان ينال العشرة من عشرة، وينال ثناء المدرسين وينال احترام الجميع. وأقل ما يثني به عليه أن فلانا (تلميذ صدك)، تلميذ بكل معنى الكلمة، تلميذ لا يعرف غير دروسه. ولو عقل القوم لاحتقروا هذا (الفلان) ولعلموا أنهم إنما يعدمون مؤهلاته بهذا الثناء الغلط، ولعلموا أن قاعدة «أما ترى الحبل بتكراره بالصخرة الصماء قد أثرا» قاعدة لا تصلح إلا للأغبياء والبلداء.
هذا هو التلميذ عندنا. أما شاكر فما رضيت نفسه أن يكون هذا الفلان. إن المدرسة ومدرسيها وكتبها ليست إلا ناحية واحدة من هذا الكون الواسع. ما قيمة هذه المدرسة بالنسبة لما تزخر به المكتبات ولما تنتجه المطابع كل يوم ولما تبدعه القرائح كل لحظة؟ إن عليّ أن أقطف الثمر من أكثر من بستان واحد، عليّ أن أخرج من محيط المدرسة الضيق، عليّ أن أقرأ أكثر ما يمكن، بل عليّ أن لا أتأخر عن الشر عند الحاجة.
وهذا ما حدث بالفعل. فقد نشر شاكر قصصه في سن مبكرة جداً. بدأ في النشر وهو في الثانوية بل في المتوسطة، ولا تتصور أن المجلات الكاسدة هي التي تخص شاكر. لا، فقد فتحت له أمهات المجلات العربية صدرها وحسبك منها (الطريق) و(شهرزاد) و(الرسالة) و(الأديب). بل إنه زاد على المطالعة والنشر بأن كوّن صداقات أدبية لها أثرها الكبير. وحسبك أن يكون على رأس هؤلاء الأصدقاء الأستاذ الجليل محمود تيمور، ومكانة تيمور من القصة أظهر من أن يدلّ عليها والذي يجدر ذكره أن الأستاذ تيمور كان -ولا يزال- يحترم شاكراً، وكانت نسخة شاكر تصل العراق من مؤلفات تيمور. ولهذا لا أراني أخطأت حين قلت عند تشرفي بزيارة تيمور فسألني عن شاكر: «إن شاكراً هذا إذا أصبح -وسيصبح فعلاً- شيئاً، فإن لتيمور فضله الواضح في تكوين هذا الشيء». أجل، إن تيمور عامل واضح في تكوين شاكر، وتبدو لهذه العوامل في أسلوب شاكر آثار، ولا غرو فتلمذة الكتب والمراسلة تفوق تلمذة المدرسة.
وهذا وذاك.. يدل على أثر له قيمته، يدل على أن الكفاءة تثبت نفسها بنفسها. فمع أننا في عصر الوساطات إلا أن شاكر كان يبعث قصته لمجلة ما فتنشرها له دون أن تعرفه. ثم يدل على أثر آخر له قيمته أيضاً.. يدل على أن إنتاج شاكر لم يكن هزيلاً، لا يكاد المحرر يقرأه حتى يضحك ويرميه في سلة المهملات وهو يردد: «كم ابتلاني الله بهؤلاء الذين تحدثهم أنفسهم بأمور ليسوا منها في شيء». إنه يقرأ، فيعجب، فينشر.
ولكن.. ولكن هل كان هذا (الولع) بهذا النوع من النشاط يعوق تفوق شاكر المدرسي؟ لا. أبداً، فهو دائماً في الطليعة. في الأمام. الأول، وهذا يكفي لإقناع الآباء والمدرسين والتلاميذ لأن يقلعوا عن ضلالهم القديم.
على أن الحق يقال أن النظريات التربوية قد تقدمت وأن بعض المدرسين كان يشجع شاكراً ويقدره ويحترم سلوكه. وإني لأحسد إنساناً له هذا النشاط، إنساناً ينهمك في كتابة القصة ليلة الامتحان ثم يدخل (البكالوريا) في الفرع الأدبي، ويخرج منه متفوقاً مرفوع الرأس، أول زملائه، وإذن فالبعثة حقه الطبيعي.
أجل، حقه الطبيعي، وكان حريّاً بأولي الأمر أن يلحظوا موهبة شاكر ونشاطه الخاص، وتفوقه الخاص، فيبعثوه بما يتسق وطبيعته؛ ولكن ذلك لم يقع وإنما بعث شاكر لدراسة الجغرافية في مصر.
ولكن للفطرة التي استفادت من ظروف كتلك التي مرّ ذكرها، وهيأت لها من الأجواء كتلك التي سلف الحديث عنها، واخترقت من القيود كتلك التي مر الكلام عليها، أقول إن هذه الفطرة وحدها كفيلة بأن تقوّي الأمل بأنها هي هي نفسها ستعرف كيف تستفيد وكيف تهيأ وكيف تخترق. وهذا ما حدث فعلاً، فإن شاكر ما كاد يصل مصر حتى اقتنع أن في الجغرافية مجالاً جديداً للقصاص. ثم إن له في مصر أصدقاء مرموقين في دنيا القصة العربية، وإذا كنت قد عرفت الأستاذ تيمور فاعرف الآن نجيب محفوظ وعبد الحميد السحار.
ثم إن عليه أن يراجع قصصه السابقة ويضيف إليها تعديلاً ويزيد عليها جديداً، وينشرها في الناس. وهذا ما حدث فعلاً إذ طلع علينا بأولى مجموعاته (صراع).
طلع علينا (بصراع) وعمره.. كم عمره؟ أتدري كم؟ لقد سألت أحد الأدباء الذين قرؤوا لشاكر فقال إنه لا يقل عن الأربعين. ولاشك في أنك إن قرأت قصصه ووقفت على ما فيها من أفكار وما لها من أسلوب، ولن تستطيع أن تقدره بأقل من الأربعين. إن عمر شاكر يصلح لأن يكون مسابقة أدبية، ولكن (الأستاذ لطفي) أفسد علينا طرافة هذه المسابقة، إذ كتب في المقدمة ما كتب من أنه (شاب حدث). أجل، إنه شاب حدث، إنه دون العشرين.
وهذا دليل جديد على أن الرجل مفطور على القصة. أجل القصة فطرة؛ القصة موهبة خاصة، وهذه الموهبة الخاصة هي العامل الأول في تكوين القصاص، أما ما عداها فمهذبات ومشجعات ومعجلات.
أجل القصة فطرة يا شاكر، أُخاطبه بالذات لأنه طالما أنكر ذلك وادّعى أنها مران. وهذه الفطرة، وهذه العوامل، وهذا الصراع؛ كل ذلك يؤيد أن (القطر) سينهمر، وأن الفجر سيصبح، وأن النواة ستثمر.
(3)
ولكن هل إن شاكراً يخلو من مناطق ضعف؟ أستغفر الله ما قلت هذا! فإني طالما صارحته بأنه لن يكون القصاص الكامل ما لم يتوفر على إتقان تام للغة أجنبية واحدة على الأقل. وإني أرى أن يتأنى قليلاً في إخراج قصصه الأخرى قدر ما يقتضيه الإتقان؛ وقدر ما يستلزمه التوفيق بين الجغرافية والقصة، وقدر ما قطف من ثمار تأخير إصدار صراع مدة تقترب من عام كامل، بل إن غلاف صراع مع ما يدل على جمال فكرة الرمز وهي الصراع بين القبح والجمال، بين الظلام والنور، والشيطان والملاك؛ إلا أن المرأة فيه -مع مزيد الأسف- لا تمثل المرأة العراقية كما هي ولا كما يجب أن تكون، هذا إلى أن تكوينها مصري، على أن السبب في هذا يرجع إلى الرسام بالدرجة الأولى.
أجل، ما قلت أن شاكراً يخلو من ضعف، لا، وإنما كل ما في الأمر أني أخذت الكلام من ناحية وتركت لغيري الكلام في النواحي الأخرى من محاسن ومساوئ.

مجموعة (صراع)(*)
□ غائب طعمة فرمان
..ومما جاء في المقال: والكتاب الذي أعرضه على القارئ الكريم الآن هو (صراع) لقصّاص عراقي شاب ولا أكون مغالياً إن قلت إنه خطا خطوة رائعة في مضمار القصة العراقية. بعض المآخذ يبرز بين القصة العربية الناجحة عالي الرأس.
والمؤلف شاب له أحلامه ونزعاته وميوله ونفس متوقدة حساسة تستلهم الحياة فيبرز لنا نواحي خير ما يقال فيها إنها تقع في محيطنا ولكننا نتغاضى عنها لأننا نحفل دائماً بالحوادث والمفاجآت.. بأقاصيص البطولة والشجاعة. أما الحوادث الصغيرة الساذجة الغنية بالأحاسيس والانفعالات النفسية فإننا نضرب كشحاً عنها ولا نعيرها أي التفات. لكن الأستاذ شاكر خصباك يدرك تمام الإدراك هذه الحقيقة في فن القصص فنراه لا يحفل بالحوادث والمفاجآت بل يخلق من الحوادث الصغيرة عملاً فنياً بإطار من التحليل النفسي، ويخلق الجو المشوّق الذي يدفعك إلى الاعتراف بأن للكاتب موهبة فنية ووعياً عاماً في جميع الأمور.. وأغلب أقاصيص الأستاذ شاكر حافل بهذا النوع من التحليل النفسي. وتلك فضيلة أسجلها للمؤلف من غير إجحاف. ففي الكتاب أقاصيص أول ما يطالعك فيها تحليل نفسي موفق وجو قصصيّ كامل وموهبة فنية رائعة وحياة عامرة بالمشاعر وحركة في نبض الحس وفيض الشعور. وخلاصة المطاف أن هذا الكتاب نصر جديد للقصة العراقية ومحاولة موفقة لإنشاء قصص عراقية ناجحة في رأي الفن ورأي الحقيقة».
ولقد كتب غالب طعمة فرمان مقالاً آخر عن (صراع) في مجلة (العالم العربي) المصرية دافع فيه عن الكتاب ضد هجوم شنّه عليه فؤاد الونداوي، وهو الكاتب الوحيد الذي هاجم الكتاب، ومما قال فيه: «لا ريب في أن الأدب العراقي الحديث يحتاج إلى كثير من الرعاية وإلى كثير من نكران الذات وإلى كثير من الإخلاص لكي يستكمل شخصيته ويكوّن كيانه ويصبح ذا طابع قومي صادق. والمعلوم أن النقد الأدبي -في معناه المتداول- يقف حكماً عادلاً ومرشداً موجهاً للأدب يقوّم معوجّه ويحكم عليه حكماً لا يميل مع الهوى ويوجّه الكاتب إلى مواضع الضعف فيه وينبّهه إلى مواقع الجودة والبراعة. وفيما عدا تلك الأحوال لا يعتبر الكلام المتحامل المهدم المفتري نقداً أدبياً بل هو معول للهدم يورث الحقد ويزرع بذور الشقاق والنفاق ولا يكسب الأدب منها شيئاً. وأعيذ الأدب العراقي الحديث بالحق من شر هذه الآفة.
إذا سلمنا بذلك كانت كلمة السيد فؤاد الونداوي في عدد مجلة (النفير) الصادرة في 15/1/1949 عن كتاب (صراع) لشاكر خصباك ما هي إلا تحامل لا مبرّر له وهدم لا يورث إلا الحقد. وكل منصف قرأ تلك الكلمة رأى أثراً مما يبعث في الصدور المخنوقة المهشمة من الغيظ. ولا يقف أمام أعيننا إلا معنى واحد لهذه الكلمة وهو أن الكاتب يحمل للمؤلف ضغناً وحقداً وموجدة.. والأدب يأبى أن ينحط إلى درك التقاذف والسباب والتحامل والحقد. وقد ساءني كثيراً أن أقرأ هذه الكلمة لاسيما وأننا في بدء نهضتنا الأدبية. وإن طبيعة الدور الذي يمرّ به أدبنا يستلزم منّا الصدق في القول والإخلاص في الحكم والالتجاء إلى مقاييس شريفة عادلة حين نحكم على الأشياء. ولكن بعضنا من أمثال الونداوي يضرب صفحاً عن تلك البدهيات ويلتجئ إلى ما في قلبه من حقد وبغض ويجعلها مقياساً للحكم والنقد. فكيف نعلل وجود مثل هذا التحامل؟ فإما أن يكون المتحامل جاهلاً أو أن يكون حاقداً وكلا الأمرين بليّة وآفة. فليس للجاهل الحق في الكتابة وليس للحاقد الحق في إلقاء الأحكام. وعندي وعند كل الناس أن الحاقد جاهل وليس أدل على ذلك من إبراز حقده في مواضع مقدسة. والحقد ينشأ من أن يكون الحاقد أدنى مرتبة من المحقود عليه أو ذو مواهب لا يستطيع أن ينالها الحاقد. وكل تلك الأشياء تقف أمام قارئ تلك الكلمة.
ولست بصدد إلقاء حكمي على الكتاب فلي مقالة فيه ستنشرها مجلة (الرسالة) وهناك أضع محاسن الكتاب ومعايبه. ولكنني أمام كلمة آلمتني فأجرت على قلمي هذه الكلمات وكل شيء لا يبررها أبداً. بل إنها أوقفتني أمام شيء ممقوت وهو الكراهة. فالسيد الونداوي ألقى أسدالاً على قلبه ووجدانه وخط هذه الكلمة الشوهاء وأبرز هذا الحقد المقيت. فإذا بذلك الإنتاج المبارك الذي يستحق كل تشجيع وتقويم ورعاية (مفاجأة سيئة)... لماذا؟! لا لسبب، فالأديب المتحامل لم يعلل لنا ذلك ولم يقنعنا بل حاول تحطيم الكتاب وتمزيقه إذا صح أن مثل تلك الكلمة تحطم كاتباً وتمزق كتاباً.. إن مثل أحكامك الجائرة هذه يا سيدي الكاتب لا يجوز أن تنشر لأن القارئ يقرأ الكلمة ولا ينتهي إلى شيء، بل كل ما هنالك بعض الألفاظ التي أعتقد أن الأديب المتحامل لم يفهمها بل جاءت على لسانه لا لشيء إلا لأنها متداولة شائعة على ألسنة الأقلام. ولأنها لا تكلف جهداً ولا تشتري بطاقة بل هي خلاصة (الموضة) العصرية في اصطناع النقد.. فالحقيقة أن معظم القصص التي اشتمل عليها الكتاب تنمّ عن موهبة عظيمة وتبرز جهداً مشكوراً، ولكن المتحامل لم يقل هذا بل راح يتحامل من غير سبب.. وقد لاحظت التكلف الوارد في آخر الكلمة ظاهراً جلياً. ولست أدري ما الصلة بين الحكم على الكتاب وبين نقد ناجح للمؤلف لبعض الكتب. إن كل ذلك يبرهن على أن كلمة الونداوي عبارة عن تحامل لا مبرر له».

صراع(*)
□ الكاتب المصري/ كمال منصور

(صراع).. مجموعة من القصص العراقية للأديب الأستاذ شاكر خصباك.. وكل ما في المجموعة صراع قويّ عنيف.. صراع بين الجسد الملتهب وبين الضمير الطاهر المتيقظ.. صراع بين التقاليد البالية والتجديد المتوثب.. صراع بين النعيم والحرمان. إنها شحنة ذات هدف وغاية تدفعك معها إلى الأمام. وهي مجموع منتزعة من صميم الحياة العراقية، من عشيرة المؤلف وأصحابه وجيرانه وقومه. وهذه المجموعة وإن كانت تنطوي على حقائق مرّة فقد وجد من يعالجها في صراحة تامة. والقصص بأجمعها تزخر بدفقات قوية من الصراع النفسي الذي يحلق بك إلى القمة دون أن يهبط في لحظة من اللحظات.
وإذا ما عرفنا أن العراق لا يزال بعيداً عن طور القصة استطعنا أن ندرك القيمة الأدبية للأستاذ شاكر خصباك بالنسبة للأدب المعاصر في العراق.
أما أسلوب المؤلف فهو حيّ متدفق لا يتعثر ولا يسفّ بل ينساب كجدول رقراق.
هذه هي مجموعة (صراع)، التي اشتملت على محاسن وومضات فنية ونزعات إنسانية. وهي تبشر بنهضة طيبة للأدب والمعاصر في العراق وتجعلنا نؤمن بأنه بدأ يأخذ بنصيبه من القصة بحظ كبير.

صراع(*)
□ الكاتب السوري/ عدنان بن ذريل (الذهبي)

(صراع) مجموعة من القصص العراقية أخرجها الأستاذ شاكر خصباك. والظاهرة الفنية التي تلفت نظر الناقد عندما يجرّب معرفة موضوعات هذه القصص أو معرفة أشخاصها هي الواقعية التي تطبع هذه القصص بطابعها الخاص، أي قربها من الحياة المحيطة بمؤلفها.. الحياة اليومية بجوانبها وشخوصها.. الحياة العادية التي ينقلها المؤلف عن مجتمعه.. المجتمع العراقي. وإذ أقرّر هذه الظاهرة الفنية لهذا الكتاب، أي واقعية قصصه، أقول إن الذي يعطي لهذه القصص قيمتها إنما هو توفر الجانب السايكولوجي لها في حرص مؤلفها على استقصاء وتحليل نفسيات أبطاله. وإن هذه الناحية الفنية قد أثرت في أسلوب هذه القصص.. هذا الأسلوب الذي نراه أسلوباً فنياً ليّناً هو أسلوب عرض وتحليل أكثر منه أسلوب مفاجآت وعنف.

صراع(*)
□ ذو النون الشهاب

يسرّنا وقارئ هذه القصص محاط بجو فني من قصص وآراء قيّمة عن فنّها أن نقدم هذه المجموعة القيمة التي سطّرها يراع الأديب الموهوب السيد شاكر خصباك. فقد جاءت متعة للقارئ وطرفة للأديب وتحفة تغري بالمطالعة والتأمل بما حوت من أفكار نابضة بالقوة والحياة زاخرة بشتى العواطف الجياشة.
ولقد آن لنا حقاً أن نفخر بأن في العراق قاصين متمكنين من فنهم، بارعين في تسطير أفكارهم، قادرين على التغلغل في حنايا النفس الإنسانية الرهيفة ليطلعوا أفراد المجتمع على ما اعتور حياتهم في مسرّاتها وأتراحها. فمؤلف هذه المجموعة نال كل الجدارة لأن يقف وكبار كتّاب القصة في العراق وبقية الأقطار العربية. وعسانا نظفر له بمجموعات أخرى تحقق فيه ظننا.

صراع(*)
□ يوسف نمر ذياب
الأستاذ شاكر خصباك قد تخصص بعلم الجغرافية، لكن شهرته قاصاً أقرب إلينا من كونه أستاذاً.
لقد كان لشاكر خصباك في مجموعته القصصية (صراع) التي صدرت سنة 1948، ثم في مجموعته (عهد جديد) منحاه إلى التحليل النفسي، حتى عدت (سيكولوجية) قصصه كانت تسيء أحياناً إلى البناء الفني في قصته، وبخاصة في (صراع) باستفاضات غير ضرورية، وغير فنية.
وعلى الرغم من ذلك إننا لا نرى رأي الدكتور سهيل إدريس في قصص (صراع): إنها سطحية، وما أخذه الدكتور إدريس على القاص من اهتمام بالضخم، والشاذ، والغريب من الأحداث هو مادة القصة النفسية ومحور اهتمامها، ووسيلة رمزها.
وقد نتفق مع الدكتور إدريس في أن بعض قصص (صراع) الثلاث عشرة، قد خلا من الأهمية، والتقنية مثل قصة (خبر في جريدة) التي لا تعدو أن تكون وصفاً اعتيادياً لأيام رجل ريفي في ملاهي بغداد، غير أنا لا نتفق معه في أن قصة (عجيب) واحدة من هذه القصص الاعتيادية، فهي -في رأينا- صورة من صور أحلام الهروب التي يلجأ إليها المحرومون في اليقظة، والمنام، وقد كان خصباك موفقاً في شد القارئ إلى متابعة غرابة ما يروي من حلم الشحاذ المتعلق بأسباب الغنى من قصر، وسيارة، وخدم، وأموال.

ولعل من المناسب أن نذكر أن القاص غائب فرمان قد سبق الدكتور سهيل في مقالاته المنشورة في (الأدب) سنة 1952، فقد نشر فرمان مقالته في مجلة (الرسالة) سنة 1950، ومما هو جدير بالتنويه أن الأستاذ فرمان قد سبق الدكتور إدريس في تقسيم القصة العراقية إلى ثلاث مراحل، وأعطى أحكاماً، وذكر أسماء أعاد ذكرها إدريس، وزاد عليها.
وقد ذكر الأستاذ غائب فرمان أن أغلب قصص (صراع) حافلة بالتحليل النفسي، وعد ذلك من فضائل القاص، كما أشاد بقصة (عذاب)، وعدها أروع الأقاصيص العربية، وتابعه بالإشادة بهذه القصة الدكتور سهيل إدريس، وهذه القصة تقدم وصفاً بارعاً لمعاناة شاب، وندمه بسب امتناعه عن إنقاذ طفل يغرق خشية أن يفسد الماء بدلته الجديدة.
ولشاكر خصباك ميزة أخرى هي قدرته على الوصف الخارجي لمسرح الأحداث: الشارع، والحارة، والبيت مما عرف به القاص نجيب محفوظ، ومما نفتقره في كتاب قصة كثيرين.
إننا نعتقد أن القصة العراقية قد حرمت من إسهام قاص بارع كان يمكن أن يعطي الأكثر لولا تخصصه الأكاديمي.

(صراع) والقصة العراقية(*)
□ القصاص/ عبد المجيد لطفي
تستأثر القصة اليوم بالكثير من وقت الأدباء والمؤلفين، وتنتشر بين القراء انتشاراً واسع النطاق. وهي بحق وسيلة مفضلة لدى الكاتب والقارئ معاً. إذ ينشر الكاتب القاص في قصصه أفكاره وآراءه ويدعو إلى المثل التي يراها أنفع للحياة الاجتماعية في إطارها الخاص والحياة الإنسانية في إطارها العام. لذلك يخطئ من يحسب القصة ملهاة أو متعة ذهنية عديمة الجدوى. إذ أنها بما فيها من عناصر الإغراء والتشويق خير مسرح لإظهار الشخصيات التي ينتقيها المؤلف ويلتقطها من الحياة التي يعيش فيها كل قارئ ويضع على أفواههم خلاصة ما عنده من ثقافة وذوق وأدب.
وفي اعتقادي أن من يهاجم القصة ويراها نوعاً من الأدب المزيف أو غثاً لا فائدة فيه هو أحد اثنين: إما مؤلف فاشل أخفق في كتابة القصة أو قارئ جامد الحسّ لا يريد أن يرى ما في الحياة من أصداء وتجارب وآلام تجليها القصة التي كتبت بلباقة كاتب ذكي حر جميل الأسلوب.
ومن حسن الحظ -حسن حظ الفكر- أن هؤلاء الشامتين بالقصة عن جهل والموسمين إياها بما هي براء منه هم قلة ضئيلة، وأن الزمن وتطور الحياة المتجددة يدفعهم ويسحقهم ويفرقهم.. فما من قوة تستطيع صدّ تقدم القصة الماشية مع الحياة والمعبّرة بتفصيلات دقيقة عما فيها من مآسي وعما يجب أن تكون عليه. وقد أثبتت القصة في هذا الأمد الطويل أنها قوية حية، حيث ساهمت بقسط وافر في تحفيز الهمم ونشر المبادئ النافعة.
ثم إن القصة مرنة وقابلة للتطور وسباقة في ذات الوقت. ذلك لأن كتّابها أوسع أفقاً وأرحب خيالاً من غيرهم. وإن مداركهم لتمتد فترى الشيء الكثير مما يخبئه المستقبل أو ما ستكون عليه حياة الناس. وهي أبداً دعوة للتجديد والحرية، فما تقدم العلم خطوة حتى كان الأدب القصصي إلى جانبه يعززه ويدفعه ويدعمه. فهذا علم النفس وهو علم جديد في مرحلته الأولى وجد النماء والحياة بسرعة عندما وجد مؤازرة فعالة من القصة. والقصة التحليلية التي تتسم بالفحص العميق والاختبار البعيد للحالات والنفسيات التي مرّ بها المؤلف هي خير معوان في زيادة اختبارات علماء النفس وتنميتها. وكثير من المبادئ الإنسانية أو مبادئ الاقتصاد أو النظريات العلمية أصبحت مفهومة ومقربة إلى ذهن القارئ العادي، لأن القصة ألقت عليها روحاً جديداً ورونقاً أخاذاً محبباً وأنقذتها من صلابة العلم وجفافه، وبذا أصبح العلم مخضل الجوانب وارف الظلال.
أما المشاكل الاجتماعية المعقدة والمآسي الأخلاقية المؤلمة فقد ظهرت بأنصع صورة في القصص. فلقد وضع القلب البشري تحت شمس ساطعة وعرف ما يدب فيه من حقد ورغبة وانخذال وغرور. وقد عرفنا ذلك في ما نقرأ من قصص لكبار القصاصين والأدباء، أولئك الذين تزودوا أحسن الزاد من الثقافة والتجارب ووهبوها لنا بإخلاص وإغراء.
والواقع أنني لست بحاجة -كما أعتقد- أن أنبري للدفاع عن القصة. فالقراء يعرفون ما أعطتهم وما وجدوه في قراءاتهم الشخصية من متعة وفائدة ولذة وتوجيه وحقائق رائعة. ولست أجد كذلك ما يدعو لذكر ماضي القصة لأن أول قصة كانت قد حكيت عندما وجد على البسيطة رجل وامرأة. وستختم القصة عندما يلفظ أنفاسه آخر إنسان على الأرض. وقد كتبت آلاف القصص وحكيت الملايين منها، وستكتب آلاف وتحكي ملايين إلى أن تنتهي الحياة في كوكبتا هذا. فالإنسانية تعبر من الماضي إلى الحاضر ومن الحاضر إلى المستقبل على جسر من القصص والحكايات الطريفة والمؤلمة، المأساة والملهاة والمهزلة.
وفي المرحلة الأخيرة التي عاشتها القصة تطورت كثيراً وأصبحت ذات فن وأساليب ومدارس. واستفادت من اختبارات المئات الذين مارسوا كتابتها. ومع أنني أؤمن أن للقصة أو لكتابتها بعض الشرائط والقواعد إلا أنني لا أصدق بأن هذه القواعد والشرائط هي الكل في القصة الناجحة. إذ هناك روح الكاتب وأسلوبه ودقته في التعبير. فنحن نقرأ أحياناً قصصاً تتوفر فيها كل عناصر القصة الفنية الحديثة ومع ذلك لا نجد فيها ما يريحنا كثيراً في حين نقرأ قصصاً أخرى انعدمت فيها الشرائط الفنية لكننا نجد فيها حلاوة ولذة وفائدة. والواقع أنني مع المعتقدين أن شرائط كتابة القصة شيء أصولي تواضع عليه النقاد، ولا يمكن أن تستمر هذه الشرائط إلى الأبد، بل لابد من تطورها وتغيرها أيضاً، ولا يستطيع ذلك بالطبع غير العباقرة الأفذاذ والحياة غنية بهم دوماً. فنحن نعرف أن قواعد الموسيقى المرعية من قبل كبار الفنانين والعازفين قد خرقت مراراً. حتى أن أخطاء بتهوفن نفسه أصبحت قواعد مرعية فيما بعد لدى العازفين! وهكذا الأمر في جميع فنون الفكر.
هذه مقدمة وجب عليّ ذكرها لكي أرجع إلى القصة عندنا. ولا أقصد بهذا القول القصة العربية عموماً، بل القصة العراقية المحلية، لأنني على وشك تقديم مجموعة من هذه القصص؛ عراقية المنشأ والاتجاه والأبطال. فقد بدأت القصة في العراق بداية حسنة ولا ريب في ذلك. فمع أننا في بدء نهضتنا وبدء تخلصنا من قيود القدماء وأفكارهم المحدودة، ومع أننا في بدء فهمنا للحياة العصرية فقد استطعنا أن نكتب في القصة بنجاح يبشر بأمل وارف. وحين أقول ذلك أترك ورائي عدداً كبيراً من القصص الفاشلة، وعشرات من الكتّاب والأدباء الذين أرادوا أن يكونوا قصاصين فخابوا، وإنما أتحدث عن أولئك الذين بدؤوا بكتابة القصة مزيجاً من الحسّ والاختبار وحسن الأداء. ومع أن هؤلاء قلة الآن فإننا نجد لحسن الحظ أن عددهم في تكاثر، وأن عدد من نتوسم فيهم النجاح والنضوج أكثر من عدد المخفقين والمتضعفين والمتكلفين. ومن هؤلاء الناجحين الذين نتوسم فيهم بشائر النبوغ وننتظر منهم تقدماً واضطراداً في هذا المضمار صديقنا الأستاذ شاكر خصباك صاحب هذه المجموعة القصصية الرائعة. وهو شاب حدث قرأت له قصصاً ناجحة في بعض المجلات فأعجبت بها فائق الإعجاب، فكتبت إليه مبدياً هذا الإعجاب، فما خيّب ظني به، إذ وجدت نفسي بعد حين أمام هذه المجموعة من القصص العراقية الجديدة. وإذ أقبلت على دراستها في عناية ألفيت أنها كتبت بأسلوب حيّ رائع وروح متحررة مخلصة ونفس تحرت الحقائق وعاشت في محيط واقعي محض. ولذلك جاءت تلك القصص واقعية أصيلة، منضوية تحت لواء خير مدارس القصة الحديثة. وإني إذ أقول واقعية فلأنها تجردت من الرومانتيكية الباكية وما فيها من بث النجوى والمغازلات الرخوة، ولأنها تخلصت أيضاً من حبائل الكلاسيكية التي لا تريد أن تعترف بتقدم أو تطور وتضع العقل في حجر يصعب الخروج منه.
فالقصص التي ستقرأها إذن منتزعة من صميم حياتنا ومن بين أهلينا وأصحابنا وجيراننا، من بين التعساء والأشقياء والمعذبين والجهلاء، ومن بين الأغنياء المتبطلين الذين لا يرون الحياة غير معدة يجب أن تملأ بما لذّ وطاب، ويأبون رؤية النور والحياة الصادقة وما فيها من جميل التضحية والإصلاح.
ولا أريد بالطبع تلخيص هذه القصص فإن التلخيص يخرجها من الروح التي كتبت فيها. ولكنني بوسعي أن أقول لك إنك ستخرج من قراءتها بأفق أوسع ونفس مليئة بالسخط على البعض من أبطالها وطافحة بالرضى عن البعض الآخر.
والواقع أن هذه القصص تضعنا وجهاً لوجه مع حقائق مرة كثيراً ما حاولنا التهرب منها وخشينا إزاحة النقاب عن وجوهها الكالحة المغبرّة، ولكن الأستاذ خصباك وجد الجرأة ليقول كل شيء بصراحة أظن أنها لا تطاق لدى البعض أكثر الأحيان.
وسترى أيها القارئ أن القضيلة والرذيلة والفقر والثراء في صراع دائم بين أبطال هذه القصص. وأنت ملزم بحكم الذوق أن تكوّن طرقاً مع هؤلاء الأبطال فتؤيد وتنتقد وتغضب وترضى. وفي جميع هذه الحالات يكون المؤلف قد بلغ مبتغاه ووضع أساساً مكيناً لنجاحه في هذا الفن.
ومن الواضح أن الأستاذ خصباك قد وضع أمامنا طائفة من الناس وتحدث عن مآسيهم وآمالهم وذكائهم وبلادتهم. بيد أنه لم يتحدث عنهم كأفراد إلا لأنهم يمثلون عدداً كبيراً من نظائرهم. وقد وفق -والحق يقال- أيما توفيق في إبراز النواحي الاجتماعية في حياة أبطال قصصه. إذ كانت صوره لبقة بارعة تفيض بالحس والجمال. حتى المآسي المرة الموجعة كانت ذات روعة خاصة.
وقد استطاع قاصنا بأسلوبه الحيّ المتدفق حماساً وقوة أن يصف التفاصيل في حياة شخصياته بدقة وبراعة، وأن يحلل نفسياتهم تحليل المقتدر المخلص الصادق، حتى لتكاد تراهم وتعرفهم في الحياة العامة، وتحسب أنه يتحدث عن أناس سبق أن عرفتهم وبلوتهم. وهذا توفيق كبير حقاً، بل إنه البراعة القصصية ذاتها.
ومع أنني من المؤمنين أن القصة أغزر وأجمل في الحياة الاجتماعية المعقدة وأن القصاص يجد أمامه مادة أغزر وأكثر في الحياة الصاخبة كحياة الغربيين وما يكتنفها من حركة وتطور ومادية ومطامع، أقول مع ذلك كله فإن الأستاذ شاكر خصباك قدم لنا قصصاً ناجحة جداً من حياتنا ومن أبناء وطننا بفقرائه وأغنيائه وسادته وعبيده.
وإني لسعيد كل السعادة حين أتركك أيها القارئ الآن مع هذه القصص، لأني واثق أنك ستجد فيها ما وجدته أنا فيها من متعة ذهنية ولذة قلبية وسترى ما رأيت فيها من حقائق أزيح عنها الستار بقلم نابض بالحياة.
ولا يسعني في ختام هذه المقدمة إلا أن أقول بأن قصص هذه المجموعة ظفر للأدب القصصي الحيّ، وظفر للحماس في الكتابة المجدية.

مجموعة (عهد جديد)(*)
□ من مقال للأستاذ الدكتور صفاء خلوصي

..كنت أريد أن أقول كلمتي وإن كانت موجزة في كتابك الأخير (عهد جديد). أتريد كلمة مطوّلة فيها شتّى النعوت الفارغة والاسترسال الذي لا طائل تحته أم تريدها كلمة مختصرة؟ إذا كانت الأخيرة فإليكها. لقد كتبت في قصتك (عهد جديد) شيئاً خالداً بحق. فهذه أوّل قصة عراقية محليّة بحتة يجيد فيها قاصّ عراقي ويبرع في تصوير أدق دقائق حياتنا العائلية. وباعتقادي أنك لو لم تكتب شيئاً آخر سوى هذه القصة، والتي من الخطأ أن يطلق عليها الإنسان (أقصوصة) لطولها ولطبيعة موضوعها، لحقّ لك أن تحمل لقب (قاصّ). وأجمل ما أعجبني في قصتك هذه وصفك الرائع لحياة رجل محدود التفكير وقابليَّتك في إبراز ما يسمّيه الغربيون (اللمسات الخفيفة) في القصة.

ومن عجب أنني قرأت لأحد الكتّاب في نقد كتابك هذا بأن قصصك يعوزها شيء من العمق وتفهّم لعلم النفس! يا عجباً! كيف تكون قصة أعمق من (عهد جديد)، وكيف يقال عن مؤلفها ذلك وهو الذي صوّر نفسية أسرة عراقية برمّتها بهذه المهارة والحذق وقوة التعبير؟! لا يا أخي.. لا. إنه أراد أن ينتقد فأخطأ وجه النقد. كان عليه أن يقول فقط إن العنوان لا يليق بهذه القصة العظيمة. ولقد أبديت براعتك حقاً حين لم تعتمد على موضوع الحب وحده في عقد قصصك بل وذهبت إلى أنك جردت بعض قصصك من عنصر الحب إطلاقاً دون أن تفقد القصة رواءها وروعتها وأخذها بجماع القلوب كما فعلت في قصة (عهد جديد)، و(الدخيل)، و(الرهان)... إلخ.


..وأخيراً إن بقيت لي كلمة أقولها فهي تهنئة صميمة مشفوعة بمصافحة حارة على هذا المجهود الذي إن لم يكن خير ما ستنتجه فهو من خير ما أنتج في عالم القصة العراقية حتى الآن».

عهد جديد(*)
□ الكاتب المصري/ عباس خضر
هذه مجموعة قصصية لكاتب قصصي جديد، هو الشاب العراقي الأستاذ شاكر خصباك.
أعرف نزعة شاكر مما قرأته له من قبل في (الرسالة) وفي مجموعة سابقة. وأعرفها منه صديقاً طالما التقيت به في القاهرة خلال السنوات التي قضاها طالباً بجامعة فؤاد الأول. فلما أصدر مجموعته هذه صدر هذا الصيف وقبيل رحيلي إلى المصيف، كانت مما احتقبته، عسى أن يذهب عن نفسي ما ألمّ بها فأشتاق إلى المتاعب المتعة.
أحب من الأدب -أكثر ما أحب- ذلك النوع الذي يتخذ كاتبه أخاه الإنسان موضوعاً له، على أنه أخوه.. أخوه كيفما كان، لا يرتفع عنه لأن الأقدار أو الأسباب الاجتماعية أرادت له الحرمان والجهل وسوء الحال، لا يتخذه ألهية ولا طرفة يلهى بها ويطرف، بل يراه أخاً له يرثي لحاله ويأسو جراحه ويلتمس له -كمطلق الإنسان- البرء والسعادة.
وعندما قلت «أعرف نزعة شاكر» كنت أعني تسديده إلى ذلك الهدف الذي أحببت أن أرافقه -بقراءته- في الاتجاه إليه.
هذه قصة (عهد جديد) -وهي قصة كبيرة جعلها في مقدمة المجموعة وسماها باسمها- تعرض لنا أسرة جزار عراقي جعل الكاتب نفسه أحد أبنائه وتحدث بلسانه كدأبه في سائر القصص، ولابد أنه يتخذ هذه الطريقة -طريقة التحدث بضمير المتكلم- استكمالاً للاندماج في جو القصة، وهو وإن كان تخيلاً إلا أن ظلال شخصية الكاتب تظهر في كثير من قصصه، كالقصص التي يصور فيها حياة شباب ينزلون في القاهرة لدى أسر (بنسيون).
نعود إلى قصة (عهد جديد) فنراه يصور لنا حياة تلك الأسرة تصويراً ينقلنا إلى ذلك البيت الصغير الذي تعيش فيه، وكأننا نجالس الرجل وابنيه ونؤاكلهم على الحصير الذي يفترشونه في مدخل البيت. والحادثة التي تدور عليها القصة في غاية البساطة وهي تتلخص في أن الجزار يعامل أسرته بخشونة وغلظة، وخاصة زوجته وابنه الكبير، فلا يفتأ يوبخ الولد على كل تصرفاته ويوجه إلى أمه قوارص الكلم. فيثور الابن وينفجر في وجه أبيه محتجاً على إهانة أمه في إحدى المرات، ويغادر المنزل والبلدة (الحلة)... وتمر أيام لا يعلمون له مقراً ولا مرتحلاً، حتى يهتدي الوالد إلى أنه رحل إلى كربلاء ليعمل عند قصاب هناك على أن يستدعي أمه لتعيش معه بعيداً عن أبيه الفظ الغليظ، فيجزع الرجل ويلين جانبه ويخفض صوته ويحسن ألفاظه، ثم يبعث بزوجته إلى كربلاء، فتعود بولدهما، وما يراه الأب حتى يخرج من صلاته ويتجه إلى ابنه فرحاً قائلاً بصوت متهدج: الحمد لله على السلامة يا نجم.
الوقائع الظاهرة قليلة بسيطة، ولكن الكاتب يأخذنا إلى وقائع أعمق وأحفل، هي التي تجري في نفوس أفراد الأسرة جميعاً. فبعد أن عرفنا شخصية كل منهم عن طريق تصرفاته جعل يحركهم عندما وقعت المحنة التي زلزلت أركان البيت، وهي اختفاء نجم، جعل يحرك مشاعرهم ويصف حركاتهم وفقاً لطبيعتهم، فالأخت البكاءة (أم دمعة) لا تنفك عن البكاء، والأخت الجامدة تعبر عن التياعها لاختفاء أخيها بجمودها.. على طريقتها. وقد أفاض في وصف المعالم الظاهرة والدقائق النفسية، وهو في كل ذلك يسير في خطة القصة المؤدية إلى نهايتها والمعرب عن عقدتها وهي تغير الأب من حال إلى حال واستئناف الأسرة عهداً جديداً صار فيه الرجل الجافي إنساناً رقيقاً.
وتتمثل في هذه القصة خصائص الكاتب الشاب، وأولاها نظرته الإنسانية، فقد نقد الأب وصور حماقته نقدا وتصويراً بَالغَين في الروعة ولكنه ما تخلى عن العطف عليه كإنسان مسكين ضل سواء السبيل ثم اهتدى أو هدي إليه.
وثانية الخصائص للأستاذ شاكر دقة الرسم مع تجنب الفضول، فقد عرفنا بكل شخصية من الشخصيات حتى كأنهم من معارفنا الأقدمين وحتى لأحسبني إن ذهبت إلى (الحلة) سأبحث فيها عن منزل ذلك القصاب واسأله عن أفراد أسرته لأطمئن على حالهم جميعاً. وهو يفيض بالحديث عن أشياء كثيرة فلا يمل لأنك تشعر أنك في طريق القصة لم يعرج بك إلى هنا أو هناك، وفي خلال هذا الحديث تتجسم لك أصالة الكاتب في تصوير البيئة، وفي إجراء الكلام على ألسنة الأشخاص بما يناسب حالهم، فالجزار مثلاً يشبه زوجته بالنعجة، وابنه بالخروف، وأبناء هذه الأيام بالجاموس الهائج.
وثالثة الخصائص التي ألمحها في قصص شاكر خصباك هي النقد الاجتماعي. فليست واقعيته من قبيل (التصوير الفوتوغرافي) وإنما هو ينظر إلى ما وراء الظواهر لينفذ إلى الحقائق ويلقي الضوء على ما يعترضه من مظاهر الحياة الإنسانية، وفي كثير من قصصه أهداف بعيدة، كقصة (أغلال) التي يثير فيها قضية حب بين صعلوك وإحدى طالبات المدارس، فيصور الفارق الاجتماعي بينهما عائقاً ظالماً. أليس للصعلوك قلب كغيره من الناس.
وأنت بعد كل ذلك تحس روح القصاص العذبة وظله الخفيف وطلاوته التي تأسرك وتشوقك إلى النهاية، على رغم ابتعاده عن الإغراب وافتعال المفاجآت.
وقبل أن أنظر إلى (الكفة الثانية) أحب أن أهنئ عالم الأدب العربي الحديث بهذا الشاب الذي يرجى أن يكون فيه من أعلام القصة المبرزين.
وهاك ما أراه من محتويات (الكفة الثانية):
1- لاحظت في بعض القصص اهتمامه بما يشبه التعليق على النهاية أو الزيادة على النهاية بما لا داعي إليه وأحياناً تفسد الزيادة الموقف، وذلك كما في قصة (الرهان)، و(قلب كبير) فقد عني فيهما بالتعبير عن ألمه بعد الخاتمة التي كان يحسن السكوت عليها، والحالة النفسية مفهومة وينبغي أن يدع القارئ يدركها من طبيعة الموقف. وفي قصة (حب بالإكراه) كانت نهايتها مصرع الفتاة التي أثارت حنقه وغيرته، وكان يحسن صنعاً لو أنه ترك القارئ يفكر في هذا المصرع وكيف وقع، ولكنه راح يتساءل: هل اختل توازنها أو أنه دفعها بيده؟ فأفسد الموقف احتمال دفعه إياها أي قتلها. وفي رأيي أن القصاص غير مسئول عما يحدث بعد أن يعرض صفحة معينة من الحياة هي التي انفعل بها وتعلق بها موضوعه، فليس مطالباً بأن يجعل الأبطال يعيشون في (التبات والنبات) ويخلفون صبياناً وبنات، أو يلحق بهم مفرق الأحباب وهادم اللذات...
2- لاحظت في بعض القصص مجانبة لمنطق الواقع، ففي قصة (الدخيل) سكن غرفة في شقة تسكنها أرمل توفي زوجها منذ شهر، اسمها (ثريا) فلم يمض الأسبوع الأول حتى تأبط ذراع الزوجة وذهبا إلى السينما. فلو فرضنا أنها (استلطفته) بهذه السرعة استلطافاً أذهب الحزن من قلبها بهذه السرعة أيضاً، أفما كان من اللائق أن تتحرج قليلاً فلا تخرج معه إلى القهوة والسينما وهو متأبط ذراعها أمام الناس في الشهر الثاني لوفاة زوجها الذي تنطق حوادث القصة بحزنها عليه؟ كل ذلك واسمها (ثريا) لا مرجريت) ولا (راشيل).
3- أسلوب شاكر خصباك عذب حي والحوار فيه طبيعي جميل، وهو يستكمل بذلك أدوات القصصي الفنان، ولكن.. -وليس قليلاً ما بعد (لكن)- تعوزه السلامة اللغوية والنحوية في كثير من المواطن، ومن أمثلة ذلك استعماله الامتنان بمعنى الشكر في قوله (ص110): «والحق أنني عظيم الامتنان لذلك الطفل» والخطأ النحوي ظاهر في قوله (ص111): «لم أكن بأحسن حال منها» وهو يستعمل حيث للتعليل في قوله (ص114): «وكذلك يفقد الموقد الذي حفرته في إحدى زوايا الغرفة صلاحيته للعمل حيث يمتلئ بالماء»، ويقول: «إحدى المستشفيات» في (ص135) بدل «أحد المستشفيات». ويقول: «الأشياء المفقودة التي يعثر بها» في (ص144) بدل «يعثر عليها».
وإني آسف لهذا النقص في كتابة صديقي شاكر خصباك، وتدفعني الغيرة عليه وعلى مواهبه الممتازة إلى إبدائها، وأدعوه إلى أن يتألم من هذا الذي أكتبه، كي يعمل على تمام ذلك النقص وهو من القادرين على التمام.

عهد جديد(*)
□ أحمد بهاء الدين

لا شك أن كل المثقفين العراقيين يعرفون الكثير عن القصة المصرية القصيرة، على حين أننا نجد أن المثقفين المصريين لا يكادون يعرفون شيئاً عن القصة العراقية القصيرة، وذلك للنقص البادي في التبادل الثقافي بين مصر والبلاد العربية. على أن الأستاذ شاكر خصباك قد أتاح بهذه المجموعة القصصية للمثقفين المصريين أن يقرؤوا نموذجاً ممتازاً للقصة العراقية، فالأستاذ شاكر من كتّاب الطليعة في العراق. وقد أقام في مصر زمناً ليس بالقصير أخرج لنا فيها مجموعتين كانت مجموعة (عهد جديد) هي الثانية بينهما.
وأول ملاحظة تلفت نظر القارئ الشبه بين الحياتين المصرية والعراقية. فالشخصيات التي تقدمها لنا هذه المجموعة واللامح والجو مما يمكن أن يجده القارئ المصري مألوفاً لديه في الريف والمدينة على حدّ السواء. فقصة (أعوام الرعب) مثلاً يرى القارئ المصري مثيلاً لها في جو المظاهرات والكفاح السياسي الذي نعيش فيه هذه الأيام. وشخصية (عبد علي) في قصة (صديقي عبد علي) عرفنا أشباهها في الحرب الأخيرة. وفي قصة (عهد جديد) ترى ذلك الجو وتلك العلاقات التي نعرفها في كثير من البيوت الشعبية في مصر. ولم تمر حياة الكاتب في مصر بغير تسجيل، فتراه يثبت تلك الفترة في قصتين منهما تلك القصة الإنسانية الرائعة (الدخيل).

عهد جديد(*)
□ أ. د. عبد الهادي محبوبة

لعل مؤلف هذه المجموعة التي بين أيدينا خير من راعى شرائط القصة ولاحظ أصولها الأولية، فقد رافقته الجودة في دقة الوصف وتحليل الخوالج النفسية لأبطال قصصه والبراعة في ابتكار الحوادث مع صدقها وانطباقها على مواقع الحياة والإبداع في مراعاة الحركة والنشاط في كل صورة حتى ليخيل إليك وأنت تقرأ كأنك أمام شريط يعرض عليك الحوادث عرضاً ماديّاً حيّاً وينتقل بك إلى حيث يتحدث عنهم فيخيل إليك أنك واحد منهم تسمعهم وتجلس إلى جنبهم في البيت والشارع وفي كل مكان.
وقد أطلق المؤلف على مجموعة أقاصيصه هذه اسم (عهد جديد) وهو اسم القصة الأولى منها. وليست هذه المجموعة باكورة إنتاج الكاتب شاكر خصباك. فقد نشر من قبل مجموعة قصص باسم (صراع) وهو في دور التلمذة في مصر أيضاً ونالت رضى من هواة القصة ودعاة المذهب الواقعي. والواقع أن من يقرأ القصة الأولى المعنونة (عهد جديد) لا يهون عليه أن ينتهي منها.
إن مجموعة (عهد جديد) تبشّر بعهد جديد للقصة في العراق، وإن هذه بدايته، والبداية محفوفة دائماً بالعقبات والمصاعب، فإن تغلّب المرء عليها نال شرف التمهيد لغيره من الكتاب.

عهد جديد(*)
□ من مقال للأستاذ/ سليم عبد الجبار
على الرغم من أن الأستاذ شاكر خصباك لا يزال في مطلع حياته الأدبية، فالقارئ المتمرس يدرك أثناء قراءته لمجموعة (عهد جديد) أن الأستاذ شاكر خصباك أشرف على الطريق القويم في كتابة القصة الفنية. فالشخصيات التي تترادف في هذا الكتاب تتخذ مادتها من الحياة الواقعية المألوفة، ومن الطبقة الوسطى على نحو أخصّ. ولكننا نلمس أثناء قراءتنا أن تلك الشخصيات ليست بالشخصيات التي تتراءى لكل عابر سبيل يرمقها بعينيه فلا يتجاوز بنظراته هذه الأجسام المادية المحدودة الصور، بل نراها أثناء حركاتها وسكناتها وأثناء هدوئها واضطرابها تتجاوز هذه الحدود لتكشف لنا ما وراءها وما وراء هذه الأجسام من نفوس متغايرة متشابكة تتجه كلّ منها في سبيلها الذي أريد لها، أو على الأصح نحو سبيل اختارته لها طبيعة نفسيتها وما ابتغته تلك الطبيعة من انبثاقات خاصة. ونظرة موحّدة إلى أسلوب الأستاذ شاكر تعطينا ما نريد. فقد سار بطريق عرض موحد، إذ ألقى في كافة الأقاصيص مهمة (العرض) إلى أبطال القصص أنفسهم، وهذه الطريقة لها ميزتها الخاصة وهي موفقة في التحليل النفسي، إذ توهم القارئ أن (البطل) المتكلم قريباً منه وكأنه يسرّ له خاصة همومه.
وجمل الأستاذ شاكر واضحة العبارة مألوفة المفردات فلا التواء في التعبير ولا تعقيد في المعنى.. ومحاولة الأستاذ شاكر في تفصيح العبارات العامية وإدخالها في أقاصيصه محاولة بارزة ناجحة الإيماء إذ خلعت على الأقاصيص جوّاً واقعياً نابضاً وإنها لتنعش أدبنا المتكاسل وتزيده كمالاً.
وأخيراً فإن مجموعة (عهد جديد) تمثل مرحلة انتقال في القصة العراقية.

عهد جديد(*)
□ من مقال القصاص/ عبد الله نيازي

..أحسب أنك الآن تود أن نبدأ حديثنا عن شاكر خصباك، ولا أكتمك أن الحديث عن قصصه عذب، والنفس حين تألف نفساً ثانية وتركن إليها لا تجد حرجاً في الإفاضة بالحديث عنها، فالأستاذ شاكر خصباك فنّان مطبوع يعرف كيف يستحوذ على النفوس ويسيطر على العقول. لقد شعرت وأنا أقرأ قصصه أني عثرت على صديق يعتزّ به. وعبثاً حاولت فيما بعد أن أبعد عن فكري صورة من صوره العديدة الرائعة. إن المصوّر الحق هو ذلك الذي يبعد بخيالك ويوهمك أن الصورة التي تراها هي جزء من الطبيعة، حتى إذا ما دقّقت النظر فيها أجفلتك الصنعة وحيّرتك الدقة فتهز رأسك قائلاً: «ما كنت أحسب أن الذي أراه صورة لوّنتها يد». وخصباك حين يمسك بالفرشاة لينقل عن الطبيعة لا يترك صغيرة أو كبيرة دون أن يوليها عنايته فيسكب ألوانه بمهارة رائعة ويضع عليها الظلال بدقة فائقة. ثم يخرج من هذا كله بصورة ناطقة عن الطبيعة توشك أن تقف أمامك لتقول (أنا الطبيعة).
وبعد فلا يسعني إلاّ أن أهنئ شاكر خصباك تهنئة حارة. وأنا في الواقع أطمع بشيء أكبر. ومن يدري؟ فلعله يفاجئنا في الغد القريب بإنتاج يعلو أكثر بمستوى القصة العراقية.




















الدكتور شاكر خصباك في روايته الجديدة (الأصدقاء الثلاثة)(*)
□ أ. د. عبد العزيز المقالح
الدكتور شاكر خصباك واحد من علماء العراق بل من علماء الأمة العربية البارزين في مجال علوم الجغرافيا، وهو في الوقت ذاته روائي وقاص وكاتب مسرحي، تربو أعماله الأدبية المنشورة على ثلاثين عملاً. ومشكلته، أو بالأصح مشكلتاه، أن شهرته العلمية طغت على شهرته الأدبية، وأنه احترف المعارضة لأنظمة الحكم في بلاده منذ نعومة أظفاره. وبسبب ذلك دخل السجن وعرف المنفى الاختياري والاضطراري ولا يزال منذ أكثر من عشرين عاماً يعيش خارج بلاده ويبدو أنه لن يعود إليها قريباً. وروايته الجديدة تتجسد في بناء فني بديع. وتدور أحداثها حول معاناة العراق وأهله في مرحلة ما بعد الاحتلال بكل ما أسفرت عنه من بشاعة وما كشفت عنه من حفريات لأحقاد متراكمة في اللاوعي الشعبي عبر العصور.
ومنذ بدأ فن الرواية في كشف العالم الجواني للروائي وللعالم من حوله، وهو الفن المناسب لرصد ما يتمخض به واقع الشعوب والأفراد من أحداث ومتغيرات سواء كانت نحو الأفضل أو الأسوأ. وفي العمل الروائي يستطيع الكاتب أن يختفي بسهولة وراء أبطاله وأن ينطقهم بما يريد أن يقوله هو دون أن تطاله المسؤولية المترتبة على تلك الأقوال، وهو في استخدام القناع الرمزي لأبطاله أقدر من الشاعر في ذلك لأن آفاق العمل الروائي أوسع للبوح الواقعي والتخيلي في حين تضيق هذه المساحة لدى الشاعر، لاستغناء الشعر عن التفاصيل واكتفاء لغته بالإيماء عن التصريح ولأسباب أخرى ليس هذا مكان الحديث عنها.
لا يعيِّن الدكتور شاكر خصباك في روايته مكاناً ولا زماناً محددين، لكنهما يدركان دون حاجة إلى ذلك. فالمكان هو العراق والزمان هو المرحلة الراهنة بعد سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق وما تجري على جنباته من مآس تراجيدية تزيد عاماً بعد عام بل يوماً بعد يوم. أما أبطال الرواية فهم الأصدقاء الثلاثة الذين يشير إليهم العنوان، وهم يمثلون العراق بعقائده الدينية الثلاث: الإسلام، والمسيحية، والصابئية. والأصدقاء الثلاثة لا يحضرون في الرواية بوصفهم يمثلون هذه الديانات الثلاث وإنما بوصفهم مناضلين عراقيين ينتمون إلى الوطن الواحد. وقد درسوا في مدرسة واحدة، وكانوا يعملون منذ وقت لم تحدد الرواية زمنه في تنظيم سري يحارب كل أنواع الاحتلال ويقاوم الطغيان والعمالة ويحلم بنظام وطني يحافظ على سيادة الوطن ويعطي لكل ذي حق حقه. دخل ثلاثتهم السجون وعانوا من الاضطهاد في فترات متقطعة. لكن ما حدث لهم أخيراً في مناخ الاحتلال الراهن يعتبر الأسوأ بالقياس إلى كل ما شهدته البلاد وعانت منه. فليس المطلوب من الأصدقاء الثلاثة أن يغيروا انتماءاتهم السياسية ولا حتى معتقداتهم الدينية، المطلوب فدية تعيدهم إلى الحياة أو موت محقق ولا أحد في مقدوره أن يفتديهم لا حزبهم العاجز ولا أصدقاؤهم الفقراء.

تقوم الرواية على تخطيط فني محكم تتواصل معه الأحداث من خلال الحوار تارة، وتارة أخرى أو بالأصح تارات من خلال السرد الذي يأخذ فيه كل صديق من الأصدقاء الثلاثة مساحة كافية في سرد سيرته الذاتية وما تعرض له في حياته من ملابسات وهموم وما امتلأت به نفسه من خيالات وأحلام. وتتوقف بهم الأحداث عند اللحظات التي ألقت عليهم القبض فيها جماعة غامضة لتنال مقابل إطلاق سراحهم فدية بالعملة الصعبة (الدولار). وفي تقنية بارعة التصوير والتقطيع والاسترجاع تتوالى فصول العمل الروائي وتتنامى الأحداث وكأننا أمام مشاهد سينمائية مغرقة في الواقعية وفي الوقت ذاته مغرقة في الغرائبية والخيال.
إن الأقطار العربية كلها، تعاني من اختلال الأوضاع لكن عراق اليوم وحده يعاني من الأسوأ. وتستيقظ في وقته الراهن أشباح تراكمات لم تكن متوقعة. إنه وطن يتفتت كأقصى ما يكون التفتت، ليس في التراب ولكن في البشر، ويتشظى ليس في السياسة والثقافة وإنما في الانتماء الوطني. إنه شعب عظيم لا تليق به هذه النهاية التراجيدية القاسية، ولا يليق بعاصمة الحضارة العربية بغداد ما تشهده كل يوم من مآس وجرائم وتطهير عرقي ومذهبي يسحق الناس والأرض سحقاً.
لقد سقط الأصدقاء الثلاثة قتلى، وكأنما حالة التعايش سقطت معهم وانهارت صورة العراق الواحد والحلم الواحد المشترك. وفي نهاية الرواية وقبل أن يبدأ القتلة بسحل زكي وبعده يوسف ثم علي، قبل ذلك بدقائق معدودات يتجه (علي) إلى والده الذي مات قبل سنوات بسبب مرارة حياته تحت وطأة النظام السابق يبشّره في مناجاة روحية بسقوط النظام السابق، وفي الوقت ذاته يشكو إليه مرارة النظام الجديد قائلاً: «وها هو النظام قد سقط يا أبي، ولكن هل ما حدث كان سيخرجك من حزنك حقاً؟ لا شك أن ما يحدث الآن كان سيضرم حزنك. فلقد حدث يا أبي ما لم يخطر على بال أحد. إنه فاق حتى الخيال. فالناس يعانون من فظائع لم يشهدوا لها مثيلاً. فهم يقتلون كل يوم بالجملة ويعذبون عذاباً منكراً. وها أنا وأصدقائي نتوقع أن نذبح في أية لحظة. فهل يحق لي أن أظل متمسكاً بموقفي المتفائل يا أبي أم أن علي أن أعترف بمقولتك في أواخر حياتك بأن الشر قد انتصر على الخير ولم يعد هناك من أمل؟!».
وهكذا أفلح الكاتب عبر اختيار الأصدقاء الثلاثة أن يستثمر الطاقة الرمزية لما يمثلونه من شرائح اجتماعية مجسداً عبر ذلك وبصيغة عالية ما يعانيه العراق شعباً ووطناً وتاريخاً.

الدكتور شاكر خصباك والأصدقاء الثلاثة(*)
□ أ. د. عبد علي الجسماني
قال (غوته) على لسان (فارتر): «إن المُخيِّلة أجلّ منح الله أسنى هباته»( )، فالمُخيِّلة إنَّما هي الركن الثاني من أركان الإبداع في ما يُبدعه الأديب القاص أو الأديب الناثر أو الشاعر المتمكن، المُخيِّلة من الناس قليلة، والمبدع المتمرس تُمكِّنه بصيرته الوقادة من حسن التقاط ما يدور من حوله وما يجري في أرجاء بيئته، فيُصوره على غير مثال، يُصوِّره بقلمه، فيمزجه بنوافح روحه، ويُعبِّر عنه بعواطف ذاته، يعكس الواقع المعاش برؤى جديدة، ويستهوي القارئ بقُدرته الفريدة، فهذه مهمات تشكِّل عُدة المبدع الموهوب وعتاده، وهي مسؤولية يستشعرها، وهي زاده، ويبدو أن مستلزمات هذه العُدَّة -لا مراء ولا جدال- توفَّرت في ذات الدكتور (شاكر خصباك) فأتحف قُرَّاءه -وهم بلا شك كثر- بروايته الجديدة (الأصدقاء الثلاثة): (يوسف)، (زكي)، (علي)، (الأصدقاء الثلاثة) شباب يحدوهم الطموح ويستهويهم المستقبل، طموحٌ مشروعٌ ومستقبل يستشرفه كل شابّ، لأنه يُمثِّل له نمو ذاته ويُتيح له تحقيق أمنياته.
شباب ثلاثة وأديانهم ثلاثة، جمعت بينهم أقدار الحياة ثم تعارفوا، ثم تآلفوا، وقد تجلَّت براعة الدكتور (خصباك) في أكثر من موقف في حبكة الرواية هذه، فالشباب الثلاثة لم تُفرِّقهم نزعاتهم الدينية، ولم تُشتِّتهم أعراقهم الإثنية ولا انتماءاتهم الطبقية، ومن قال إن أديان السماء تفرِّق بين البشر، فتُؤَجِّج سعار العداء؟

بروايته هذه أراد الدكتور (شاكر خصباك) أن يُؤكِّد حقيقة رحمة السماء التي كرَّمت الإنسان في الأرض، لكنَّ الإنسان انتهك نواميس ربّ الكون، فاجترحها واعتدى على كرامة أخيه الإنسان، وما أوثق وشائج الروابط التي وحَّدت بين (الأصدقاء الثلاثة) وهم (المسيحي)، و(الصابئي)، و(المسلم) -حسب تسلسل تراتبهم في الرواية الأصلية-: «كأنّي بالزمن يتعب عند خلق الموهبة»( ).
أجل، إن الموهبة مُضنية ومتعبة لصاحبها، إذ تحمله على مُعاناة القلق ليُؤدي رسالة موهبته، فهنا نقرأ خواطر الدكتور (خصباك) تتراءى في ثنايا روايته، وهي خواطر تستلفت انتباه القارئ إلى جلال المقاصد ومرامي الأهداف المرتجاة.
وكعادته في إبداعاته الأخرى، يستدرج الدكتور (شاكر خصباك) قُرَّاءه، بل ويستصحبهم بأسلوبه الوجداني المؤثر، لوقفهم على خوالج النفس الإنسانية وخوافي الذات البشرية، ففي هذه الرواية (الأصدقاء الثلاثة) كم من ملمح تنطوي عليه يومئ من مكمنه للقارئ ويُوحي للباحث عن مظنَّة يرتادها ليستجلي ما وراءها.
إنها رواية اكتنزت في صفحاتها وضمّت بين غلافيها عناصر أساسية شتّى، منها -على سبيل المثال- في مجرى السياق:
• جوانب موقفية تخصّ أيامنا العجاف هذه.
• أركان تأملية تنطوي على آمال الشباب الثلاثة، الذين شيّدوا في عقولهم الآمال وأقاموا في ضمائرهم كل ما تتطلّع إليه الأجيال، لكن عوادي هذا الزمن أحالتها هباءً على أيدي نفر من بني الإنسان.
• عناصر اجتماعية، فأنت تقرأ الرواية، وتكاد تقف في كل سطر فيها على رُوح الرابطة الإنسانية الاجتماعية، التي لا تُقرّ بالفواصل بين البشر إذا صفت النفوس وصدقت النوايا.
• علائق أخلاقية، فما أروع هذا التصافي بين ثلاثة أصدقاء جمعتهم إرادة السماء على المودة والمحبة، إنها نظرة ثاقبة من الدكتور (خصباك) استيقن أهميتها واستوثق من عظمتها، فأثبتها في هذا الزمن الذي أضحى الناس فيه أشد ما يكونون ظمأ للنفحات الروحية التي من شيمتها أن تُوحِّد ولا تُبعِّد، وتُقرب ولا تُفرِّق.
• معالم نفسية وجدانية، ففي (علم النفس الحديث يتحدَّث المُختصُّون عن (البُحيرة السوداء)( )، في النفس الإنسانية، وهُم -في حديثهم هذا، وعلى تفاوت في ما بينهم- مُتفقون على أنَّ هذه (البحيرة السوداء) قائمة في النفس، لكن أي نوع من اللاسويَّات يمكن حصرها في قاع هذه البحيرة: (النزعة العدوانية)، (القسوة اللامسؤولة)، (الضراوة السادية)، (الضمور الأخلاقي)، (النزوة الأنانية)، (مجافاة القيم مع الادعاء الباطل بالأخذ بها)، (المراءاة والنفاق)، فهذه وغيرها من أمراض النفس المعروفة تترسَّب في أعماق النفس الإنسانية.

ولما كانت السلوكيات الإنسانية تمضي من السطح المرئي إلى أغوار اللاوعي، فإنَّ ذلك يستوجب أن نُدرك ونفهم أبعد أعماق النفس البشرية، ولا شك أن هذه مهمة شائكة، بيدَ أن علم النفس، ببحوثه المتعمِّقة، والأدب، بتبصر أدبائه، قادران على إماطة اللثام -كما يُقال في معرض الكلام- عن خفايا النفس الإنسانية بضروبها المختلفة، و«منها النفس السوَّالة والنفس الأمارة»( ).

ومن هناك جسد الدكتور (شاكر خصباك) كُل تلك العناصر في رواية (الأصدقاء الثلاثة)، وأبرز فيها ما يستثير المشاعر ويستجيش العواطف، إذ ينقضّ مكر الإنسان على آمال الإنسان، فيُحيله نُثاراً ويذروه غُباراً، وهذا من عتو الإنسان على الإنسان، لذا فإن رواية (الأصدقاء الثلاثة) تعرض الحقيقة المُرة مجسمة أمام أنظار القراء، ثلاثة شباب يحملون في أنفسهم إرادة الحياة، وتنطوي صدورهم على آمال عراض، وهم -بعدُ- يُمنُّون آباءهم وأهليهم وذويهم بمستقبل وضّاء، فإذا بالإرادة -عنوة- تصادر، والآمال -فجأة- تداس، وسراج الأمل -بغتة- يخبو سناه، فمصير (الأصدقاء الثلاثة) صنعتْ شراكة أيادٍ وراءها نوايا مدخولة، لقد سقط (الأصدقاء الثلاثة) قتلى.

لقد قدم الدكتور (خصباك) رواية (الأصدقاء الثلاثة) بأسلوب مزج فيه بين التبسط في التعبير وحُسن التشويق في التصوير، وبمنأى عن السرد المُملّ والإيجاز المُخلّ، كما أن الجانب الإنساني في الرواية واضح، والعالم النفسي والأخلاقي راجح، وعمل مُؤثِّر في النفس كهذا لا يتأتى إلا من قلم مفكرٍ متمرسٍ أتقن ويتقن فن رسم مواجع الإنسان متى شاء.
الهوامش:

الرواية الشظية(*)
□ غسان كنفاني
من الذي يجرؤ على القول أن بعض الكتب ليست في الواقع إلا مخالب تنبثق من المجهول، تمزق وتجذب وتقلب، وتحوّل وتسحق وتنهش كأن القارئ قد خُطف فجأة إلى عالم من الزلزال لا حدود له؟
أجل بعض الكتب ليست إلا مخالب وثغرات ولعنات تدخل إلى الصميم وإلى الأعماق، تبدو أحياناً وكأنها رسالة شخصية من رجل يعرفك حق المعرفة، وكان طول الأعوام التي مضت يراقبك عن كثب كأنه ضميرك المستتر. وفجأة حين تحسب أنك في منجى من الحساب تصلك منه رسالة شخصية يفتح داخلها دفتر الحساب من أول صفحاته إلى آخرها ويصفعك.
هذا ما يمكن أن يوصف به كتاب الدكتور شاكر خصباك (حكايات من بلدتنا). إنه قصة بلدة يعيش شبّانها على انتفاخات الكبرياء والأوهام الأقرب إلى الأحلام. وفجأة يغتصب البرابرة البلدة وراء زئير رشاشاتهم وينتهكون كل قيمها دون أن يتصدى رجال البلدة للدفاع عنها. ويوماً بعد يوم تمتد مخالب البرابرة لتدمر قيمة وراء قيمة في حياة البلدة. ويحفل السجن الكبير الذي يبنيه الطغاة فوق تلة تشرف على البلدة بالمعتقلين من شبان البلدة وشاباتها الذين يلاقون داخل جدرانه الغامضة مصائر هي كل شيء إلا العودة إلى البلدة.
تحت سياط وأحذية الاستخذاء تنسحق كرامة البلدة وتزهر في كيانات سكانها زهور الجبن والخوف. ومع غياب كل شمس يحتل البرابرة مساحة جديدة من كبرياء سكان البلدة وأحلامهم وكرامتهم وقيمهم.
إن الرجال الذين يسوقهم البرابرة إلى الموت كل يوم هم في الواقع تكوينات من لحم ودم ولكنهم جزء من كفاءة البلدة على التمسك بقيمها ومطامحها وحريتها. الاسم عند شاكر خصباك ليس هدية شخصية ولكنه قيمة إنسانية ووطنية. ولذلك فحين يطلق البرابرة رصاص رشاشاتهم على رجل ما فإنهم إنما يغتالون مساحة من تاريخ البلدة ومن مبادئها.
وتمضي الرواية من فصل إلى فصل في عرض عتوّ البرابرة المتزايد أمام تراجع الكرامة المتزايد. وفي مكان ما من الرواية يحس القارئ أن شيئاً ما قد انكسر ووصلت الأحداث إلى (ذروة) غريبة هي مفترق مرير بين أن يقبل سكان البلدة مبدأ قبول الطغاة، وبين أن يتجاوزوا رفضه إلى مستوى التعبير عن هذا الرفض.
ولكن الرواية تتركنا في كلماتها الأخيرة معلّقين على ذلك المنعطف المرّ. تتركنا؟ كلا! إنها تترك فينا ذلك الوخز العميق الذي يشبه الشظية.
ما الذي حدث في السجن الكبير فوق التل؟ حتى متى سيظل رجال تلك البلدة يساقون إلى العذاب وإلى الموت، أو إلى الخضوع والخوف؟ حتى متى سيظل المنطق الأقوى هو منطق الرشاش؟ متى سيهزم رجال البلدة المسحوقة أسوار خوفهم وأسوار السجن ويكفوا عن الاحتماء بملاجئ وهمية يسمّونها الانتظار حيناً ورأفة القدر حيناً؟ أية بلدة هذه التي يستكشفها الدكتور شاكر خصباك؟ جغرافيا يبدو أنها العراق.. سياسياً ليست إلا فلسطين. إنسانياً ليست أبعد من ذلك الصراع المرير الذي يجري داخل مطلق الإنسان. تاريخياً ليست إلا سؤالاً فنياً.. هي في الواقع عمل جيد. ولكن الحقيقة هي أنها كل ذلك معاً.
إن العمل الفني -استطراداً- هو محصلة الفعل وردة الفعل، فعل العمل الفني ذاته وردّة فعل قارئه. في أحيان كثيرة يدخل عنصر ثالث إلى هذه المعادلة المبسطة وهو عنصر (الجو الزماني والمكاني) الذي تجري من خلاله عملية التزاوج بين الفعل وردّة الفعل. بالنسبة للرواية التي بين أيدينا الآن تتفاعل هذه العناصر الثلاثة باتساق ممتاز. فبين الفعل وردة الفعل يوجد عنصر التوقيت الذي يعطي العمل الفني قيمته واستجاباته. لقد وجّه الدكتور شاكر خصباك مخالب روايته إلى كتلة نفسية حساسة يسهل الغوص فيها وشقها. هذه الملاحظة ترمي إلى القول بأن الرواية قد تكون محط خلاف في بعض الجوانب. ولكن الحقيقة هي أنه يجب أن تجرأ على القول بأنه لا يوجد شيء اسمه عمل فني مطلق. فما هي القيمة الفنية المجردة مثلاً لخطاب الحجاج بن يوسف «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا» إن لم تنزل في مكانها من الجو الزماني والمكاني الذي أعطاها رنينها وعناصرها المعنوية وكساها بمعناها الأعمق من مجرد مستواها الفني؟
ولذلك فإن رواية (حكايات من بلدتنا) رواية ناجحة نتيجة لقياس معين ولكنه واقعي وثقيل ولا يمكن تجاهله. فلو نشرت وقرأت عام 1940 لكانت ربما أقل قيمة، ولكن حين تقرأ الآن فإنها ليست أقل من كأس من الكحول تفرغ فجأة فوق جرح جديد. وثمة فارق كبير لو أن تلك الكأس دلقت فوق جسد مجروح.
إنها رواية - مخلب، كفّ يصفع بشدة، إهانة، دعوة، علامة استفهام حادة مثل عقفة السكين. وفي الفصل الأخير منها، حين يضحى (الانتظار) كابوساً معيناً لا قدرة له على الفداء ولا على النوم، يشعر القارئ بالدموع تملأ حنجرته، ولكن -أيضاً- بأن الحكاية الحادية عشرة في حكايات بلدتنا لم يكتب بعد.

العراق بعيون عراقية(*)
دراسة نقدية للنتاج الأدبي للدكتور شاكر خصباك
□ د. سعاد محمد إبراهيم خضر
المقدمة..
يصعب على أي كاتب الحديث بشمولية عن كاتب وعالم كبير كما الدكتور شاكر خصباك الذي أبحر عميقاً في بحور الأدب، واقتنص لآلئه مقدماً للقارئ العربي نتاجاً متنوعاً من قصة ومسرحية ونقد.. ومنذ أن كان شاباً يافعاً وحتى اليوم، تتحدث الصحافة الأدبية عنه وعن كتاباته الثرة. وقد تناول كتاب مصريون وعرب متألقون في عالم الكتابة، تناولوا كتاباته العلمية والأدبية بالدراسة والنقد.

فمن الصعوبة بمكان التصدي للحديث عن كاتب شامل متميز بأسلوبه الخاص وبمواضيعه التي يطرحها والتي تأتي لتؤرخ لحقبة كبيرة من تاريخ العراق الحديث بكل ما جرى ويجري في الحياة السياسية وإنسانه المكافح، فقد قدم في دقة صورة لحياة الشارع العراقي السياسي وعواقبها في ظل الحكام المتعاقبين في عصرنا الحاضر.
وتتأتى الصعوبة كذلك من أن الكاتب ما زال يعيش بين ظهرانينا وما زال يواصل الكتابة في كل الميادين. وتتطلب الكتابة عنه الدقة والاهتمام الزائد والوضوح والتقدير لنتاج معروف جيداً بين عراقيي المنفى وأتمنى لو اطلع ويطلع عليه عراقيو الداخل.
والدكتور شاكر خصباك عالم جغرافي كبير وواحد من بين عدد محدود من علماء الشرق الأوسط ونشر ترجمات عديدة ومؤلفات أكثر في مجال اختصاصه لتصل إلى أكثر من عشرين.

وقد تألق في ميدان الأدب تألقه في ميدان العلم وتتحدث كتاباته العديدة عن فكر علمي واضح ونظرة عميقة دقيقة لظواهر الحياة ولكل ظروف الحياة التي عاشها ويعيشها محاولاً التغلغل في أعماق النفس الإنسانية ومعبراً بذلك عن اهتماماته الحقيقية بحياة إنساننا العراقي والعربي بوجه عام، أكان في القمة أو في القاع.
لقد أتم الدكتور شاكر خصباك دراساته العليا في القاهرة حيث أضافت إليه حياته في مصر زاداً جديداً من الخبرات في علاقاته العديدة الواسعة المتواصلة مع الكتاب ومع الناس وفي مناخ ثقافي ثر.
إنه يقدم أبطاله الذين يمثلون جميع طبقات وشرائح المجتمع العراقي والفلسطيني والعربي عامة في أبسط تفاصيل حياتها وتصرفاتها وتداعياتها النفسية حيث يقدمها في قصة أو مسرحية أو رواية في أسلوب سهل ممتنع، حيث يختار بدقة مفردته المثقفة دقيقة المعنى التي تعبر في سهولة عن أي موقف أو حالة أو صفة من صفات النفس الإنسانية دون ابتذال ودون تلاعب بعواطف القراء المكبوتة ودون الالتجاء إلى أية إثارة مفتعلة كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين الذي يتصورون أن التعبير عن معارضة موقف حياتي ما لن يتم في نظرهم إلا باللجوء إلى المفردة المبتذلة أو افتعال الجنس والحديث عنه بصراحة ممجوجة. فعلى العكس من هؤلاء، فإن الدكتور شاكر خصباك الذي خاض جميع ميادين الحياة وتحدث عن جميع المظاهر الحياتية من تمرد وثورة وحب وجنس ولكن في أسلوب جميل هادئ مركز ومفردة منتقاة مهذبة تتحدث عن كل ذلك بوضوح ودون إثارة رخيصة. فهو لا يختار إلا المفردة الراقية بالغة الدقة والتي تقدم دوماً الصورة الحقيقية للغتنا العربية الجميلة يغترف من لآلئ بحورها الغنية التي تعبر عن جميع مقومات إبداع الكاتب وتساعده على التعبير بسهولة ويسر عن جميع جوانب الموضوع الذي يتطرق إليه.
لقد عرف بخبرته الكبيرة في الكتابة العلمية كيف يختار المفردة الدقيقة المعبرة في كتاباته الأدبية. إنه لا يكرر نفسه ولا أسلوبه حيث يقدم في كل مرة شكلاً متطوراً يعتمد الدقة واليسر وبدون مبالغة فلا تمطيط للمعاني والجمل بدون مبرر. ولذلك تجد روايته تحوي جنبات متعددة لموضوع كبير جداً ومتعدد الشخوص ولكنها جميعاً موضوعة في إطار محدد بدقة، كبيراً معبراً في سهولة عن كل ما يريد الكاتب قوله.
وبطله أو بطلته الرئيسية فهو الإنسان العراقي، هم الكاتب، وسيظل ذلك الإنسان وبشكل عام همه الأكبر.
ولم يتوقف الكاتب في كل كتاباته عن الاهتمام بذلك الإنسان كما يتضح في رواية جديدة ظهرت له وأنا بصدد تحضيري لتلك المقالة. والرواية بعنوان (خواطر فتاة عاقلة). ورغم أنه قدمها في أسلوب مغاير متجدد، يختلف عن أسلوب قصصه السابقة حيث قدمها في مونولوج تتحدث فيه الفتاة عن أفكارها وآرائها ونقدها للحياة المعاصرة التي تحيط بها في الأسرة، والمدرسة وخارجها مقدمة صورة حقيقية للفتاة الشرقية.. ورغم جدتها والدهشة التي تثيرها بشكلها الجديد وأسلوبها غير الاعتيادي لدى الكاتب إلا أن الصور الطموحة الراقية التي يتحدث بها الكاتب تقدم تعبيراً صادقاً عن مقدرة كبيرة على اختيار الموضوع والأسلوب والشكل الذي يعرضه بهما.
العراق بعيون عراقية..
سوف أبدأ مقالتي من النهاية وأستعرض الهدف الذي يرمي إليه الكاتب والذي يستطيع الكاتب المتعمق أن يتوصل إليه. أنه الإنسان، أثمن قيمة على الأرض. فالإنسان هو همه الأكبر، هو محور تساؤلاته وخواطره الفلسفية. إنه الإنسان مهما كان موقعه في المجتمع، أكان في القمة أو القاع..
وأبطاله جميعاً من مختلف الشرائح الاجتماعية ولكنه يواجهها في أبسط التفاصيل الحياتية والنفسية وتذكرني شخوصه بتلك الشخصيات التشيخوفية أو الدستويفسكية في آمالها ومعاناتها وسوداويتها.. وفي تصويره لأبطال قصصه وحكاياته ورواياته ومسرحياته، يستخدم الكاتب أسلوباً فريداً يمكن أن نسميه بالأسلوب البرقي. إنه يكتب في تركيز شديد وإيجاز أشد بحيث يكون من الصعب إسقاط كلمة أو إهمال سطر، فالتفاصيل تنساب في أسلوب مركز سلس. كما أن الكلمة لديه سهلة عصيَّة، تنطلق كالسهم أو القنبلة من أعطاف مقالة أو أعماق قصة لتقوم بتمزيق وهم أو قناع، تسحق وتنهش مُحرّضةً على التحول والتغيير..
إنه يصور أبطاله حيث يعيشون على انتفاضات الكبرياء والأوهام الأقرب إلى أحلام اليقظة، وحيث يكونون عرضة لهجمات البرابرة تفترس آمالهم وتنتهك كل حرمة، بل وحيث يواجهون في النهاية مصائر متنوعة لحياة انهارت تحت أحذية الاستخذاء والخيبة والظلم والخوف..
ويتردد التساؤل داخل أحد أبطاله (ساهر)( ): «ماذا يعني أن يكون الإنسان مشرداً بلا وطن؟» بل إن السؤال ظل يلح على ذهن الكاتب حتى أنه أصدر مجموعة قصصية باسم (السؤال)( )، تنتظم إحدى عشرة قصة قصيرة، تطرح نفس السؤال الخالد: ما العمل؟ وتفتح قصة (اعتقال) تلك المجموعة حيث تم سحب البطل وإدخاله في تلك السيارة المصفحة الكبيرة، ويصور الكاتب بطله وهو يرنو في حزن وشوق لبيته من الشباك الصغير محاولاً استجماع صورة متكاملة لبيته الذي أخذ يبتعد بعيداً ليصبح نقطة متلاشية في شارع مقفر.. وغطوا رأسه بقطعة من الخيش وتساءل: أين تقودونني؟ وتلقفته ضربة أخمص بندقية مصحوبة بسباب بذيء. وأجابه الشرطي بصوته الأجش مع السباب المتواصل: «سوف نسلمك إلى الأيدي التي تحسن التصرف مع أعدائها».. إن الكرامة تتراجع مع كل خطوة، وأبطال قصصه جميعاً معلقون بذلك المنعطف المستحيل: إما الاستسلام أو المضي في الصراع.. ولكن من يستطيع، ومن يتمكن من هزيمة أسوار الخوف والخنوع وتحطم أصفاد الذل والهوان؟
ولنعد إلى مجموعة (حكايات من بلدتنا)( ) وتدور قصصها كما تدور قصص مجموعاته الأخرى تدور حول الموضوع الذي يؤرق الكاتب دوماً: الصراعات النفسية والجسدية والفكرية السياسية. وقد أطلق غسان كنفاني على كتابات الكاتب (الرواية الشظية)( ).. ومن يقرأ تلك المجموعة سيجد أنها جغرافياً تدور بأحداثها في مرابع العراق وإنما هي تنطلق بموضوعاتها إلى الجغرافيا الأرحب.. إلى البلاد العربية كلها بهذا الشكل أو ذاك؛ ولأن شعوبها وطبقاتها الكادحة تعيش صراعاً أبدياً بدور داخل كل فرد ضد القهر والظلم والجوع والفساد.. وأبطال المجموعة يجترحون ذلك الصراع المستحيل. وتطرح كل قصة سؤالاً يتضخم قليلاً قليلاً ليصل إلى السؤال - القضية ما العمل؟ وكيف لهم أن يهزموا ذلك الخوف والخنوع داخل ذواتهم؟ ولنترك قصة (البرابرة يحتلون بلدتنا) والتي تطرح السؤال تلو السؤال حول كيفية الصراع ضد البرابرة ولماذا ذلك الخضوع والخوف؟ لنتركها لنصل إلى قصته التالية في المجموعة والتي تحمل عنواناً لا يوحي مطلقاً بالمضمون القادم الذي سوف يصفع القارئ وكأنه الصدمة.. إنها تحمل عنوان (رسالة من البيت فوق التل)..
وتتحدث القصة عن هجوم البرابرة وغزو البلدة وعن قيامهم ببناء بيت كبير فوق التلة، نوافذ صغيرة وعالية جداً.. إنه سجن يقتادون إليه يومياً كل شاب يتجرأ بمواجهة أو بمعارضة البرابرة.. وفجأة تأتي (رسالة من البيت فوق التل)( ) أرسلها «هاتف أحد السجناء إلى والده رزاق».. ومجرد وصول رسالة يعني أن الإنسان يستطيع مهما طال ليل الظلمات ومهما كانت الحواجز والسدود فإنه بذكائه يتخطى المستحيل. وأخذ البرابرة يبحثون عن تلك الرسالة التي تكشف بالتأكيد ما يدور هناك في البيت الكبير...
إن القصة وبيتها الكبير ما هي إلا العراق بسجنه الكبير، يحيطه ستار حديدي يخفي فعلاً ما يدور بحيث لا يمكن الجزم بصحة أو بخطأ ما يقال.. وقام البرابرة بتمشيط البلدة وتفتيش عبد الرزاق وبيته ودكانه، ولكن ذلك لم يوقف سريان حكاية الرسالة التي لم يجدوها والتي ما زالت تنتقل سراً بين سكان البلدة..
في رأيي أن القصة هي رسالة حقيقية من (البيت الكبير) إلى العالم الخارجي كله تسطر بوضوح ما حدث في تلك الأزمنة التي أعقبت انهيار ثورة (14 تموز) (يولية).. لقد كانت نذيراً واعياً لما حدث وما زال يحدث اليوم داخل (البيت الكبير)( ). فقد كان الكاتب يتحسس ويتوقع بحسه الفني المرهف ما حدث وما يدور في البلاد.. وظل يطرح السؤال تلو السؤال في قصته: «كيف يمكن لأبناء بلدتنا الصبر على حكم البرابرة الطغاة؟» يكبر السؤال مع القصة الثالثة التي تتحدث عن بائعة الباقلاء وابنها حسين. امرأة طيبة عاشت وحيدة تعمل لتربي ابنها. وذات يوم اقتاد البرابرة ولدها وظل هناك فترة طويلة ثم أعادوه إليها مشوه الوجه محطماً مهشماً مكسور اليدين والأرجل.. وصاحت الأم بلوعة ماذا فعل بك البرابرة يا «حسوني؟».
إن قدرة الكاتب الفائقة في انتقاء أبطال قصصه تدلل على وعي كبير وإحساس أكبر بمعاناة الشعب. وإنني لأتذكر وأنا أقرأ تلك القصة أتذكر (سِعْدَة) بائعة الباقلاء التي كانت تجلس أمام قدرها الكبير يتصاعد منه البخار على رأس شارع بيتنا المؤدي إلى جامع أبي حنيفة ولطالما جلست بجوارها وهي تحضر لي ماعون الباقلاء الحار مع رغيفها الطازج وبين كل فترة وأخرى تقص لي تواريخ سكان الحي آلامهم ومعاناتهم وقسوة الحياة معهم..
لقد كانت سجلاً تاريخياً عجائبياً للأحوال السياسية قديماً وحديثاً ودور كل واحد من سكان الحي..
وتمثل أم حسين كل بائعة باقلاء في أي بقعة من العراق، وهي تحتضن أحزانها وراء قدر الباقلاء الكبير وتتنفس قلقها مع البخار المتصاعد من القدر..
وتتوالى حكايات الدكتور شاكر ونتنقل معه من (عائلة محسن الطيب) الذي ترك وراءه بعد وفاته عائلة كبيرة ولكنها مع ما تعانيه من فقر ومذلة ما زالت محتفظة بكبريائها وعزة نفسها.. ثم نذهب إلى حكاية (الكوخ على النهر) وحيث يقرر الكاتب «أننا كنا نفاخر بأنفسنا كذباً وادعاءً» ومن دون وجه حق. فقد استسلمنا للبرابرة منكسي الرؤوس( )..
وقد برع الكاتب في وصف جنون الركاع (الجَزْمَجِي) الذي ذهب الحزن بعقله عندما فقد ابنه شهاب الفنان الماهر.. وببراعة فائقة وببساطة مذهلة كان يخط صوراً تمثل ظلم وجبروت البرابرة الذين اغتالوا روح وفن ذلك الفنان المبدع والذي كانت وفاته سبباً في اعتكاف والده في (كوخ على النهر) يحفر أحزانه ويتعجب من زمنٍ أصبح الخنوع والذل من الفضائل فيه، من زَمَنٍ أحال الجميع إلى دُمىً مغلولة الأيدي. ولم يتوقفوا عند اعتقال الفنان شهاب فقط بل اعتقلوا زوجته أمل( ) كذلك.. وتتوالى الوفود إلى البرابرة لإنقاذهما.. ولما تم إطلاق سراحهما بعد تعذيبهما اختار شهاب وزوجته الانتحار في النهر تاركين رسالة إلى أهل البلدة يقولون فيها بأنه قد تم اغتصابها أما زوجها( ) وإن روحَيهما لن تتطهرا من الخزي والعار إلا بعد إبعاد البرابرة من البلدة.. وبني الركاع كوخاً من القصب على ضفة النهر حيث مكان انتحارهما تاركين ذلك الكوخ رمزاً شاخصاً على العار والظلم..
وسرت في البلد رواية تتحدث عن واقع حقيقي في سجون البرابرة عن اغتصاب أية فتاة تقع بين أيديهم أو تُزَج في سجونهم. ثم يُعَلَّقون عرايا في الهواء الطلق بعد اغتصابهن. وطالب الحكماء البرابرة بالكف عن سجن النساء ولكن دون جدوى وكان الرد الجاهز هو أن هؤلاء الفتيات عديمات العرض والشرف وبأنهم سوف يسحقون رأس كل من تسول له نفسه معارضة تصرفاتهم.
ويكبر السؤال مع الحكاية السادسة (حادث فظيع) عندما اقتاد البرابرة سلمى ابنة محمد علي الخياط ولم يعرف أحد ماذا حدث لها.. والقصة امتداد للحديث عن المهانة والخزي والخنوع والخوف.. ويظل الحكماء يرددون ما لنا وللبرابرة، إن لم نتعرض لهم بسوء فلن يفعلوا شيئاً.. وهكذا امتزج الخوف بالمهانة والخزي.. ويتضخم السؤال في القصة فقد بدأ البيت الكبير يلتهم أبناءهم الواحد تلو الآخر ولن تعرف أبداً ماذا يدور هناك.. فها هو (عبد العباس) يحتضن جثة ابنه خضير تحمل بصمات التعذيب الوحشي.
وها هو الصراخ والعويل يضِجُّ ذات مساء في بيت الحاج عبد الكريم الذي رفض أن يقتل أخته (فوزية) قبل اعتقالها.. وقاوم وقتل عدداً منهم ولكنهم انتهوا بقتله واعتقلوا فوزية.. ولا أحد يستطيع تصور رعب الزوجات والفتيات الساكن في العيون خوفاً من أن يقوم الزوج أو الأب بقتلهن قبل اعتقالهن.

واستمر السؤال ينطلق من أعماق القصص المتتالية ليصفع القارئ خاصة في قصة (الاحتفال)، حيث استقر الرأي لدى الحكماء ومن ثمَّ الجميع بضرورة مداهنة البرابرة ويقرر الشيخ جواد بقوله «لقد كانت عادتنا دائماً المداهنة ودستورنا هو النفاق»( ).. وذلك «لأن بلدتنا كانت تخضع دائماً للطغاة ومنذ الأزل كان الأعيان أعياناً والعوام عوام»..
إن قصة الاحتفال واضطرار الناس لتعليق الصور والزينة رسالة إلى كل منا للتفكير جِديّاً فيما يحدث في بلادنا.. وتساءلت الحاجة أم مهدي الغائب في (البيت فوق التل) عما يحدث وصفع الجواب براءتها عندما قالوا «إنه احتفال بيوم اغتصاب بلدتنا» إنه في بساطة ودونما ادعاء يوضح للقارئ كيف أن شعبنا مُغَيَّب وكيف يمنع الظلم الصارخ أي فرد من معرفة كنه ما يدور..
ويتعدى السؤال حدود المكان ليصل بالموضوع إلى حدود الوطن الكبير وما يعتمل على الساحة من صراع ضد رمز الظلم والطغيان الأكبر: إسرائيل.
لقد كان الطغيان الإسرائيلي والعجز العربي مضمون رواية جميلة بعنوان (امرأة ضائعة)( ) وبطلتها فدوى، فتاة فلسطينية تعتاش من إعطاء الدروس الموسيقية والعزف على البيانو.. وكثيراً ما كانت تنبعث من غرفتها أنغام كونسرتات (تشايكوفسكي) و(بيتهوفن).. وحدثته عن ضياعها وعن حياتها بعد أن تركت فلسطين وهاجرت إلى مصر وكيف التقت بصديقها العربي وصدقته ثم التقت به.. ولا يمكن للقارئ أن ينسى ما قالته فدوى في اعترافها.. الجميع فقط يستغلونني.. لقد أدرك الكاتب عمق المأساة الفلسطينية فهو وهو يصور لنا ضياع فدوى جسدياً ونفسياً إنما يسقط لنا أفكاره المخزونة ألا وهي إن فلسطين وأبناءها لن ينقذهم أحد( ).. هم فقط سوف ينقذون أنفسهم.. لقد أراد الكاتب أن يوحي للقارئ بأن العرب والأعداء على السواء قد استباحوا فلسطين (القضية-المحور) القضية الشاهدة على عجزنا.. حقاً إن غضبنا وثورتنا بلا مخالب حقاً. وعندما يتحدث الكاتب عن نكبة فلسطين تقف دائماً أمام عينيه مأساة شعبه المشرد في أنحاء الأرض الأربعة...
ويتغلغل الكاتب مرة أخرى في جوانب تلك المأساة ليقدم لنا شواهد أخرى من حياة السجون داخل العراق والتي تحتضن بجدرانها الدامية الخرساء حيرة كتابنا وشعرائنا وأطبائنا ومهندسينا لتسلبهم بدورهم كرامتهم وعزة نفسهم وإرادتهم قبل أن تقتنص حياتهم.. ويعرض لنا الكاتب على لسان أحد أبطال مجموعته الكاتب (رشاد الهادي) مصوراً لنا ألواناً من التعذيب لم نسمع عنها حتى في سجون عتاة النازي خالدي الذكر... وتتوالى صور التعذيب في قصص (محبس الصوت)، و(التحقيق)، و(الصامدون)، و(الانتظار) وتتوالى القصص لتحكي لنا ما يحدث داخل الأسوار العالية في ذلك المنفى الإجباري حتى اللقاء مع الموت أو مع الخزي تحت نظرات الاحتقار إذا ما انهاروا واعترفوا...
وهنا يورد الكاتب مونولوجاً داخلياً لأحد السجناء الكاتب (رشاد الهادي) الذي يعتبر في نظر د. شاكر شاهداً على العصر.. ففي ذلك المونولوج الداخلي مناجاة صامتة يغلفها الحزن والعاطفة والمشاعر المرهفة التي لا تتلاءم بالطبع وهذه الجدران الفولاذية الملطخة بالدماء... يناجي الكاتب زوجته مناجاته الخرساء «ألا يستطيع أبناء الوطن الواحد التعايش في سلام وإن اختلفت عقائدهم؟ كيف سأواجه هذه الحياة بعد خروجي من المعتقل؟».
إن الدكتور شاكر يختار شخوصه بدقة ويعرف كيف يتغلغل بسهولة إلى أعماق قلوبهم كاشفاً بصدق ما يعتمل دواخل نفوسهم أمام تداعيات ما يحدث اليوم على أرض العراق..
منذ بدايات الدكتور شاكر المبكرة لم ينجح أحد مثله في تصوير تلك المعاناة الحالية والتي تنبأ في كتاباته الأولى. وفي أسلوب سهل سلس ثري غني بالجمال والدقة تتتابع شخصيات القصص والروايات سواء تلك التي ما زالت صامدة أو من انهارت تحت وحشية التعذيب، أو من اعترف وظل يعيش ما هو أفظع من التعذيب الجسدي تحت وطأة الشعور بالعار وباحتقار الآخرين..
ولم يتوقف الدكتور شاكر عند تقديم شخصياته من بين السياسيين والكتاب ولكنه توجه بنظراته الفاحصة الناقدة نحو شرائح أخرى من المجتمع العراقي بدءاً من القاع ووصولاً إلى القمة..
ففي روايته (هيلة)( ) تناول مرحلة من حياة الدكتور (سعد الصالح) الذي سافر إلى قرية بعيدة جداً في جنوب العراق لأنه لم يعد يحتمل ما يدور في المستشفى الخاص. والقرية فقيرة مهملة، شوارعها طينية موحلة قذرة ويمارس أهلها حياة قاسية مزرية. وشيخ الجامع الذي يمارس سطوة دينية وطبية في القرية بدأ بمحاربة الدكتور متصوراً أنه سيكون منافساً له.. وتُبَيِّنُ لنا الرواية أنه في هذه القرية البعيدة يعبر عن الظلم والجور في كل مكان بل أنه شمولي يجتاح العراق شمالاً وجنوباً.. وقد صور لنا الكاتب صورة لجانب من حياة الدكتور سعد الذي كان يحب زميلته الدكتورة (نوال) والتي ما كان يهمها سوى المادة في حين أنه كان يمتلك مثلاً علياً يتحلى بها الطبيب الإنسان. ولم يكن سفره إلى تلك القرية البعيدة هروباً، وإنما كان تجسيداً لمقولة هاملت «أكون أو لا أكون» وكانت في القرية فتاة جميلة (هِيلَةْ) كان الدكتور قد أنقذ حياة والدتها ولكنها كانت مطمع الكثيرين في القرية من رجالات السلطة ولكنها كانت كالحصن المنيع.. وكانت تلك الفتاة تقوم هي وابن عمها (الأهبل) على خدمته في غيابه صباحاً في المستشفى.. ولم يعجب ذلك الطامعين فيها..
وكان الدكتور يطالب دائماً بضرورة شراء الآلات والمعدات والأدوية لمستشفى القرية التي تنقصها أبسط المستلزمات في مقابل البذخ الشديد على كماليات تتعلق بأبهة السلطة.. وفي لوحة جمالية رائعة وبأسلوبه الشيق السهل صور لنا الجمال المخبوء في حنايا القرية المهملة. ويعبر قرار الدكتور سعد بالزواج من (هيلة) لتجنيبها مضايقات المتنفذين، يُعَبِّر عن أن الجمال والخير سيظلان يقاومان الشر والظلم والإرهاب.. ولكن اغتيال الدكتور( ) سعد رغم أنه وضع حداً لسعادة هيلة فإن أحداث الرواية تشي بمضمونها.
فزواج الدكتور من هيلة يعني ضرورة أن يحكم العراق أبناؤها الأخيار، ورغم مقتله إلا أن النصر سيكون للخير ولا يعني مطلقاً أن مقتله على أيدي الطغاة يعني انتصارهم أو استمراريتهم فالمقاومة لا تتوقف...

إن الكاتب يكتب وعينه على التاريخ والماضي أساس الحاضر، ولا يترك مناسبة أو جانباً من مفردات الحياة في جميع مواقعها إلا وقد احتواه بتلك «العين الثاقبة النافذة ليبرزها لنا في صدق وتركيز شديدين فتأتي وتصفع الوعي والوجدان وتفتح العين على تفاصيل ما يدور في الشارع العراقي أو العربي على السواء..
وما نراه في روايته (الخاطئة) ليس مجرد حالة اجتماعية استثنائية وإنما يصور لنا أن الإنسان الذي عاش ظلماً اجتماعياً كبيراً من لدن من هم أعلى ممن هم أدنى منه منزلة أو على من تقع عليه يديه..
(بدور) بطلة الرواية التي تمارس أقدم مهنة في التاريخ، قد كتبها الدكتور وعينه على (هنادي) بطلة رواية طه حسين (الكروان)، وكذلك على بطلة ألكسندر دوماس في روايته (غادة الكاميليا) ليبرهن لنا على أن الظلم والغدر الذي يحيق بالمرأة هو هو في كل زمان ومكان، وقد وظف في الرواية موضوع المراة التي أراد منا أن نتلقفها نحن ألا وهي قضيتنا نحن العراقيين والتي مثلتها تماماً (بدور).. وبدور كانت طالبة تقرأ كثيراً في الأدب وخدعها زميل لها باسم الأدب كذلك..
إن كاتبنا عندما يتناول موضوعاً كهذا فهو لا يركز فقط على الواقعة المباشرة وإنما يقدم لنا في براعة هدفه الحقيقي من تناول مثل تلك الموضوعات( )؛ وذلك مع حرصه التام على عدم استخدام أية مفردة نابية أو أية كلمة غير مهذبة؛ فهو يمتلك التجربة امتلاكاً كاملاً ويسيطر على لغته سيطرة تامة إلى جانب مقدرته الفائقة على تناول أي موضوع من مواضيع الحياة.. ولنعد إلى روايته (الخاطئة) ومداومة الشاب نبيل على زيارتها بالذات محاولاً في ذلك مسايرة حرس الرئيسة (زنوبة) مالكة المنزل.. ثم قراره بالزواج من (بدور)..

لقد أراد أن يدلل على أن قرار (نبيل) بالزواج من (بدور) يعني انتصار وتحرر الأرض التي داستها أرجل الطغاة ولسنين طوال.. وحتى في معرض مناقشته لأصدقائه حول قرار زواجه من بدور يوجه الكاتب نقده لمن يتكلمون كثيراً ولا يفعلون شيئاً لأنهم ازدواجيون وغير قادرين فعلاً على تطبيق آرائهم على أرض الواقع في الحياة إذ يبدو أنهم لا يؤمنون بها حق الإيمان وإنما يرددونها كالببغاوات.. وفي أشداقهم إن هي إلا أراء تُذْكر ويتم تكرارها ثم تمضي بهم الحياة حلوها ومرها وذلها وهم عنها لاهون..
إن هروب بدور بعد زيارة والد نبيل واختفاءها وعدم تمكن نبيل من العثور عليها «تشبه لدى الكاتب ضياع القضية تحت أقدام البرابرة..».
لقد استثمر الدكتور شاكر في وعي كلي التجريب العالمي في سبيل أن يوضح لنا أن القضية شمولية وليست قضية العراق وحده وإنما هي قضية كل الشعوب عندما يستبيحها البرابرة... فخيال الكاتب الخصب وامتلاكه لمفردات تجربته، ووعيه الصادق بما يحدث، يمتزج كله بإيقاعات الواقع اليومي المعاش.. وينساب قلمه في رقة وجمال ليختار المفردة البسيطة العصية المطلوبة مما يساعده على الإيحاء بصدق ما يود الوصول إليه.. فضمائر البسطاء تظل تعذبه وتؤرقه كما موت بطله قصة (ليلة سوداء) وهي تلد لعدم وصول الطبيب في الوقت المناسب.. إن تلك المصائر الصغيرة لأبطال قصص (نعيمة)، و(العاشقة)، (الصديقان)، و(حياة قاسية) تجسد للقارئ ماهية المرأة - الرقيق. فكلهن جواري مغلولات الأيدي بقيود لا مرئية موؤودات العواطف والمشاعر في مجتمعاتنا الشرقية.. إن حياتهن صورة انكسارات تتكرر صبح مساء في حضن الزمن، وبالنسبة لهن فإن «بكرة بقى امبارح في حضن زمان» كما يقول الشاعر المصري المبدع صلاح جاهين. ولكن الكاتب وهو يصور مصائرهن نراه يحتفظ لهن بموقف واضح صريح من الاحترام والمطالبة بضرورة احترام حريتهن وضرورة تعليمهن( ).
ولا تختلف أهداف موضوعاته المسرحية لأنه يستثمر بوعي أزمة الإنسان وأزمة الزمان والمكان. وفي كل مرة وفي كل موقف يوحي بطريقة حاذقة وهو يوجه النقد المُقَنَّع في أسلوبه الجميل الدقيق وحواراته بلغتها السلسة الرائقة ومفرداته المُنتقاة؛ نراه يوحي بضرورة مواصلة النضال بحثاً عن الحرية والعدالة والسعادة للجميع...

ففي مجموعته المسرحية (الغرباء واللص) والتي تنتظم مسرحيته الأولى (الغرباء) شخوصاً أعماهم الطمع واللهاث وراء المال، وأبعدها عن العواطف النبيلة التي تغلف حياة الأسرة وتقيها من الضياع. وتتصاعد أثناء الحوار أصوات المظاهرات التي تملأ شوارع بغداد..
في حين أن مسرحية (اللص)( ) التي تدور على المسرح مع خلفية من البانتوميم تتحرك في أعماق المسرح شارحة الموضوع، إنما تمتلك موضوعاً آخر مغايراً وإن كان به امتداد لمسرحية الغرباء بهذا الشكل أو ذاك. وموضوعها خطبة يلقيها الرئيس.. وكيف أنه كان يقوم بكل أعباء الرئاسة وإن خلف الستائر وحيث كان سلفه يعتمد عليه كلياً في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بشؤون البلاد؛ وعند اتخاذ القرارات الهامة..
إن الخطبة مونولوج غني بتداعياته وصوره وأحب أن أعتبر تلك المسرحية مع مسرحية الدكتاتور تكملة لرواية (أوراق رئيس) والتي ارتأيت أن أختم بها بحثي هذا، وذلك لعمق التصور فيها وعمق النظرة النقدية الشمولية ولتكون مسك الختام.
وتتحدث مسرحيات مثل (الشيء) والتي تحتل مكاناً خاصاً بين مسرحياته، وكذلك (البهلوان)، و(الغائب)، و(القهقهة) أو التركة والجدار و(الدكتاتور)، تتحدث كلها عن نظام جائر ظالم يبطش بالبسطاء ويحتوي المنافقين ويحتضن الوصوليين.
وتتعرض مسرحية (القضية) للآباء الذين ينتظرون في يأس وملل عودة الأبناء الذين نزحوا إلى المنافي أو الحرب أو السجون.. وماذا ينتظرون؟ ينتظرون (جودو) كما يدور في مسرحية لببكيت بهذا العنوان «فله دلالته العميقة وهو الانتظار اليائس المستحيل.. إن من يرحل لا يعود، تلك سمة العصر.
إن مسرحياته التي كتبها بعد حرب إيران وحرب الخليج لها طعم ومذاق خاص فهي تتحدث عن رغبة دفينة في التخفيف عن آلام شعبنا الجريح وأمل في التغيير مع توضيح سيادة القيم الدخيلة على مجتمعاتنا، وهي آفة الانهيار الاجتماعي الصريح..
إن موضوع (القضية) المسرحية - السكين التي تقوم بتشريح ضمائر ونفوس الناس التي تغيرت بفعل الزمان والمكان خاصة وإنَّ من أفراد العائلة الواحدة من انقلب على الأب أو الابن ومن قتل الأهل، ومن انقلب على عقبيه ومن بقي صامداً.. ويرسم لنا لوحة عن الصراع الدائر بين الطرفين في علاقاتهما الخاصة والعامة وفي ممارساتهما الحياتية اليومية مما يخرج بها من إطار صورة العائلة الخاصة إلى صورة العائلة الأرحب والأكبر: الشعب العراقي. كما أن النقاش الذي دار بين (صادق) الذي تم إغلاق جريدته ومحاولات نسيبه في إغرائه بالعمل في صحف السلطة إنما يعبر تعبيراً صادقاً عن معركة المثقف وصراعه ونضاله في سبيل الكلمة الصادقة.
وعندما نتحدث عن مسرحية (الغائب) وانتظار الأم والزوجة هدى التي تلاقي الأمرين من معاملة الأم، وغياب الابن في الحرب وعدم عودته... كم من أم عراقية يا ترى وكم من زوجة تنتظر عودة (الغائب) الذي لن يعود؟ ملايين الأمهات والزوجات والأبناء يفترس حياتهن غول الحرب بكل دماره وعوزه وبؤسه.
ألم يكن موضوع مسرحية (العنكبوت) أو تركة الأب في البيت الكبير الذي يتنازع فيه الأبناء جميعاً هو نفس موضوع مخلفات الحروب وقيمها الجديدة التي قلبت المجتمع رأساً على عقب. تلك القيم التي أزاحت المثل العليا والأخلاق. لقد أراد الجميع أن يأخذ نصيبه من البيت لأن لكل واحد منهم مشروعاً يود القيام به دونما تفكير في مصير واحد منهم مشروعاً يود القيام به دونما تفكير في مصير الأم أو الأخت المقعدة.. ونهاية الأخت المأساوية عندما وافقت بعد لأي ودخلت إلى الحمام ولم تخرج إلا جثة خامدة.. لقد أحالت القيم الجديدة أفراد العائلة الواحدة إلى غرباء يأكل أحدهم الآخر، انتصاراً لقيم المال والاستغلال والطمع والنفاق كما نراها جميعاً مجسمة في مسرحية (الجدار)، و(البهلوان)، و(المخذولون) حيث أن الصمت العام والخرس المستحيل والتغاضي عن كل ما يحدث..
ولم يتوقف الدكتور شاكر عن محاكمة الصمت والتغاضي والنفاق وانتصار( ) المثل الاستهلاكية في مسرحياته (هو وهي)، (س)، و(ص) حيث تتوارى الصداقة والحب والعواطف النبيلة وراء المظاهر الكاذبة والادعاءات الفارغة..

لقد تعمد الدكتور شاكر ألا يعطي أسماء لشخصيات المسرحيتين فهي نماذج عامة متكررة في جميع الشرائح الاجتماعية... وكم من (هو) و(هي)؟ وكم من (س) و(ص) في دوائرنا ومدارسنا وحتى في بيوتنا وفي جميع مناحي حياتنا.
وهكذا نرى أن الكاتب يهدف إلى نقد ما آلت إليه حال الجيل السابق الذي ضحى وعاش صراعه ومعاناته في سبيل إعلاء المثل العليا، في مقابل الجيل الجديد الحال الذي يريد في استماتة أن يعيش يومه وواقعه الجديد مستهيناً بتلك المثل العليا.. ويقول لهم الكاتب «إن سماءكم جهنم وأرضكم جهنم فتقدموا إن استطعتم» وما أحداث مسرحية (بيت الزوجية) إلا مثال صارخ لذلك الصراع الأبدي. وهو ليس فقط صراع المثل وإنما هو صراع سياسي محتدم على جميع الأصعدة.
وأحداث مسرحية (بيت الزوجية) حوار أبدي داخلي لدى الكاتب عن مصداقية الأحزاب والعمل الحزبي والظروف القاسية التي لا تسمح بحرية الرأي أو بممارسة العمل السياسي في مناخ ديمقراطي حقيقي. ويتنقل الكاتب بسهولة في حواره بين شخصيات مسرحيته مصوراً في سهولة ويسر أحوال الناس في مختلف الطبقات والشرائح واهتماماتهم، وبين العمل لجميع قصصه ومسرحياته..
واختتم مسرحياته بمسرحية (الدكتاتور)( ) حيث نرفع الستارة وتُرَكَّزُ الأضواء على الكرسي الفخم في صدارة المسرح والتي تخطف ألوانه وزينته الأبصار.. وعلى الجانبين جوقة النساء وجوقة الرجال يرتلون الأناشيد في مدح الجالس على الكرسي.. ويتوالى الحكام الجلوس على الكرسي الفخم وتتكرر الصورة من الإسكندر المقدوني إلى هتلر ومروراً بنابليون.. وكل منهم مهمته الحرب، وكلّ يتمشدق بأن مهنته القضاء على الاستبداد الشرقي كما أن الحروب بالنسبة لهم هي غاية وليست وسيلة وتتصاعد أنغام الجوقة.
ويعرج الكاتب على ستالين ولكنه يعطيه بعض الاهتمام لأنه حفظ الدولة وإنه لم يسع إلى الحرب وإنما ظلم العالم كله هو الذي أجبره على الحرب.. ومع ذلك فقد حفظ الدولة ووحدتها وحزبها وسياستها.. وهنا يؤكد الكاتب على عدم الاستهانة بالقادة فقد ناضل ستالين ضد المنشفيك والنهلستيين والتحريفيين.. حقاً لقد أنصف الكاتب ستالين رغم أن الجوقة تضج بنشيدها.
أنتم مسؤولون عن انهيار حلم الإنسان في بناء الاشتراكية!
ولكن الجوقة تنشد لنابليون متهمة إياه بأن انتصاراته وهزائمه قد جرَّت المآسي والفواجع التي حاقت بالشعب الفرنسي..
ثم ينطفئ النور ويظهر على الكرسي الفخم (رئيس ما) وحوله رفاقه.. وتدور نقاشات حول تضحيات الرفاق والقوانين الجديدة.. وينطفئ النور مرة أخرى وتعود الأضواء ويأخذ أفراد الجوقة الرجالية والنسائية مراكزهم ويبدءون بمحاكمة الكرسي الفخم( )..
(وعلى المسرح يمكن أن ترافق المحاكمة رسوم مصورة وحركات بانتوميم توضح مضامين المحاكمة).
يعلو الضجيج ويشع النور في المسرح ويسمع طبل وزمر وهتاف: الموت للطاغية.. الموت لعدو الشعب..
وبعد ذلك ينطفئ ثم يعود ليشع في المسرح ويسمع طبل وزمر وهتاف ويدخل الرئيس الجديد بعد ذلك محاطاً برفاقه ويقومون بمناقشة ما سوف يقومون به من إجراءات لسيادة الديمقراطية والحرية...
ولكن ما أن ينطفئ النور حتى يشتعل ثانية ويندفع عدد من جمهور الصالة في خضم الهتافات الحماسية ويدمروا الكرسي.. بينما تتعالى أنغام كونسرتو (الإمبراطور) لبيتهوفن ثم تهبط الستارة ببطء.
لقد ارتأيت أن أذكر تلك المسرحية في النهاية لارتباط السلطة بموت نذير العدل «..وهذه القصة ومسرحية الدكتاتور يشكلان مقدمة منطقية لاستعراضنا لرواية (أوراق رئيس).

لقد مات نذير العدل في الساعة الخامسة والنصف صباحاً.. ولذلك التوقيت دلالته فهو يتوافق تماماً ودائماً مع (زوار الفجر).. أي أن الكاتب أراد أن يقول أن وفاته لم تكن موتاً عادياً وإنما هو نذير لموت كل ما هو صادق وحقيقي ولكل ما يحدث وأنه بموته تموت العدالة وقد ماتت فعلاً( ) وعندما قال الممرض (خالد) أن وجهه كان ينضح بالاشمئزاز فإن الباقي معروف.. من لم يشمئز من كل ما حدث وما يحدث؟ لقد قضي عليه في مصحة للأمراض العقلية وأخذ معه سره إلى قبره.. وتذكرني تلك القصة بما يحدث لكبار أساتذتنا ولكبار عقولنا الذين يموتون في مصحات الأمراض العقلية، تذكرني بأحد أساتذتنا الاقتصاديين الكبار (محمد سلمان حسن) أحد العقول الاقتصادية الكبيرة المحنكة والذي كان قد أُرسِل بدوره إلى مصحة للأمراض العقلية حيث توفي هناك.. إنه النذير الذي بشر به الكاتب وما كان يشكو من شيء بل كان بكامل صحته وعقله. فلربما كان الكاتب يقصده هو بالذات وربما غيره فهم كثر.. ولكنني من أول صفحة ولآخر صفحة وأنا أتمثل وجه أستاذنا الكبير وصديقنا العزيز (محمد سلمان حسن).
لقد نجح الكاتب في تفعيل المأساة النفسية والاجتماعية التي يعيشها الفرد العراقي على كل المستويات وتدلل روايته بشكل عام كيف أن الأوضاع السياسية القائمة تدفع للوقوف ضد الآباء، ويفضح كيف أن المسؤولين يتغلغلون في أدق مفردات الحياة الخاصة... إنه الموت البطيء يتسلل لحياتنا في صمت وقسوة.. والنتيجة التي أراد الكاتب أن يتوصل إليها من تفاعل فكرة وأحداث الرواية ليصل إلى النهاية التي تتوحد فيها وتتمازج صراعات الحياة العادية مع مصائر الأفراد ومع الأوضاع الاجتماعية والسياسية العامة للوصول إلى ذروة الحدث - النتيجة أي مواصلة الصراع من أجل التقدم إلى أمام وعدم التوقف أمام أية عقبة.
إنه ينتزع شخوصه وحياتها ومصائرها من صميم حياتنا وواقعنا الحي ونستطيع أن نميزهم في أصدقاء لنا أو أقارب أو معارف( ). إن نظرته الإنسانية شمولية وطريقة عرضه لتطور الحدث تتم في أسلوب به لمحات إنسانية واضحة ولكن الكاتب يتميز هنا بنهجه المبتكر.. وهو رغم دماثته ورهافة نفسيته الحساسة يضع القارئ في مجابهة عنيفة ومواجهة للواقع الذي يعيشه الفرد العراقي كل يوم أمام هذا (الشيء) الغامض..
إن مسرحية (الشيء) إدانة حقيقية شجاعة لمرحلة مأساوية عشناها وشاهدناها في العراق. فذلك (الشيء) الذي لم يعطه اسماً نعرفه نحن جيداً.. إنه يقتحم بيوتنا وحياتنا وعملنا ونفوسنا محطماً كل شيء.. فأي عمق هذا، وأي تفهم عميق لأغلال النفس وأعماق الحدث؟
إن موت (نذير العدل) وذلك الشيء( ) الذي يتجسد بدوره في مسرحية الدكتاتور ويتسلل من واحد لآخر ليصل إلى الوقت الحاضر.. يصل إلى عالم الرئيس في أوراقه..
ويتصاعد حماسنا واهتمامنا بالقصة - القمة: أوراق رئيس:
تقدم لنا صورة واضحة عبر المونولوج الذي يخاطب فيه الرئيس صديقه الأستاذ عادل الأمين عبر الأوراق التي أوصى بإيصالها إليه بعد وفاته. وتبدأ الأوراق برسالة موجهة إلى عادل الذي نعته الرئيس بالصديق الذي يتتبع أخباره دائماً رغم انقطاع الصلة لسنين طويلة بعد تسلم الحزب السلطة. ولكنه يقر بأنه كان حاضراً معه نفسياً في كل قرار ولأنه يعرف أنه عادل وحصيف فإن يترك أوراقه بين يديه ليحكم حكماً عادلاً على تصرفاته والتي يسيء الأعداء كثيراً تفسيرها.. فهو أجدر من أحبَّ وأعظم من احترم.
وتنتظم الرواية خمسة عشر فصلاً يعالج كل منها جانباً من جوانب حياة الرئيس، يتحدث فيها إلى صديقه عادل في مونولوج بليغ، يتساءل ويجيب نفسه عن تساؤلاته!
لقد حاول الرئيس في الفصل الأول أن يدافع عن حياته المرفهة لأنه كما يرى يستحقها بعد نضاله الطويل في سبيل الشعب. إنه يستحق هو وعائلته حياة رغيدة حيث تهيأت له فرصة الانتقام لأيام بؤسه الماضية.. ثم يحاول الدفاع عن نفسه ضد الإشاعات (المُغرضة) الأخرى بأنه جعل من ثروات البلاد ثروة خالصة له.. أما بالنسبة للقصور التي يشيدها فلأنه كان يرى والدته تكرر الشكوى خوفاً من الموت في الغرفة القذرة التي كانوا يتكدسون فيها جميعهم هو وإخوته وكانت تسميها (الخرابة) والآن يبني القصور ووالدته أول من كان يدشن كل قصر: إنه ليتمنى أن يصبح الناس جميعاً أغنياء..
وينتقل في مونولوجه العجائبي في الفصل الثاني ليتحدث عن أعداء النظام والمؤامرات التي كانت تحاك ضده؛ ويؤكد بأنه لن يتهادن مطلقاً مع أعداء النظام الذين يصفهم بالمعارضة. إنهم في نظره غير مخلصين للوطن ويطلقون عليه (جمهورية القمع والخوف)( )، فقط ليرسموا صورة مشوهة لبلادنا أما هدفهم فهو العبادة؟ هكذا يرى هو الأمور.. إنه يقف ضد الاستعمار والدول الغربية فلماذا يعارضونه؟ إنه ليس ضد المعارضة بشكل مطلق وإنما فقط نراه يعارض من يعمل على إبعاده من سدة الحكم.. ويستمر في مرافعته عن نفسه ليقول بأنه ليس هناك من قوة تعلو فوق الزعيم.
ويعود ويتساءل مناجياً عادلاً في فصل حقوق الشعب وإنه لا ولم يغمط حق الشعب لأن القوانين التي أصدرها والتي كانت موجهة ضد الأغنياء منهم على وجه الخصوص. ويعبر عن استيائه للنقد الموجه إليه بخصوص ثراء أقاربه وتسنمهم أعلى المناصب.
ويتساءل لماذا لا يتمتعون بما أتمتع به.. هل في ذلك جريمة؟ ويعرج على مؤامرة الجابري وكيف أنه اعترف بالمؤامرة هو وأصحابه وبعلاقته بدولة أجنبية.. بل ويبرر بأنه من أسرة ثرية وأن جده قد جمع تلك الثروة من تجارة الحبوب أثناء الحرب العالمية الأولى.
ويعرج بعد ذلك على علاقته بالسيدة فائزة وأنها هي التي كانت تطارده. ولما عرف بأن زوجها في السجن أخرجه وأعطاه مركزاً مرموقاً.. ولما عرف بانتحاره قطع علاقته بها.
وفي الفصل المخصص لمسؤولية السلطة فهو يقول إن الإنسان هو وحده المسؤول عن مصيره وهو القادر على صنع مستقبله. فإذا ما تسلح لتحقيق أمانيه. «لقد صنعت مكانتي بنفسي كما فعلها غيري من العظماء»، ويردف بأنه عفا عمن آذوه في صغره..
ثم يعود في فصل الديمقراطية ليقرر وجهة نظره فيها وحسب منطقه المتواصل في الرواية.
إن الديمقراطية -يواصل كلامه- هي حكم الشعب وهو ما يلتزم به الحزب.. «كيف أعطى الحرية لأحزاب أخرى رغم أن بعضها مشكوك في ولائها؟» أو لمصالحها الذاتية.. فكيف يمكن تطبيق الديمقراطية لأحزاب يعتقد اعتقاداً جازماً أنها تخدع الشعب.
أما حزبه فهو انبثق من الشعب وهو الأحق في نظره بالبقاء في السلطة فهو الذي يمثل الديمقراطية. والديمقراطية الغربية هي اغتصاب الحكم منه.. فهل ناضلوا وضحوا كما ناضل هو؟ ألم يوفر العيش الكريم للشعب، أم يوفر حماية الضعيف والدفاع عن مصالح البلاد..؟ فلماذا يحاولون الإطاحة به.. أليس من صميم الشعب؟ إن الديمقراطية الغربية إذن مفهوم مزيف.. هكذا يعتقد..
ويعرج في فصل آخر حول موقفه من القانون، وهل كان بإمكانه تخفيف الأحكام على المتآمرين؟ وهل كان ليتساهل مع المجرمين؟ ويتساءل هل نصوص القانون دينية لا يمكن تغييرها؟ إنها مجرد نصوص تم وضعها في ظروف معينة ولأغراض محددة هكذا يرى القانون! ويعتقد أن عدم إنزال العقاب يعمل على نشر الفوضى( )..
أما بالنسبة للمراكز العليا فالجميع يتملقونه ويداهنونه ويتكلمون عنه من وراء ظهره.. وبخصوص الأجهزة الأمنية يواصل الدفاع والدفاع عن نفسه وما يتناقله الناس عن هذه الأجهزة إشاعات مُبَالغٌ فيها. أما عمليات التعذيب التي يتحدثون عن بشاعتها فهي عقاب مبالغ فيه..
ونصل إلى الفصل الأهم، حيث يقرر لماذا يلقبه أعداؤه باسم (عدو الشعب) في الوقت الذي يرى أن الشعب يحبه وصوره وتماثيله في كل مكان.. ثم إنهم يتجمهرون في كل مكان يتواجد فيه.. ولماذا لا يحبونه في الوقت الذي ضاعف فيه المدارس والمؤسسات الصحية وأنه لا يتحمل أن يرى طفلاً جائعاً.. فمن أهم إنجازاته القضاء على الجوع ونشر التعليم والقضاء على الأمراض( )...

كما أنهم يعيبون عليه سياسته الخارجية التي جلبت الدمار على البلاد وأن تلك الدول ستتوقف عن مساعدة البلاد.. ومع ذلك فإنه يقول أن طموحاته وأحلامه العظيمة لا تتوقف وليس لها حدود وبناء دولة مهيبة الجانب قوية تنتظم دولاً أخرى سيعمل على ضمها لبلاده.. وحلمه سيكون زعيماً لتلك الدولة.. بل ويؤكد أنه ما زالت لديه طموحات ستفاجئ العالم...
ثم يعرِّج على ثقافته وكيف يقوله أنه قرأ كثيراً وبعمق ولأنه يعرف أكثر مما يعرف أولئك الذين يحاورونه؛ فقد منَّ الله عليه بنعمه القراءة المتعمقة.. ويتساءل، أليس تمجيد الصحافة يومياً لأقواله في مختلف المناسبات دليل على أهمية ما يقول؟ أليست دليلاً على أهميتها؟ ويواصل إنه قد طور أفكار الحزب تطويراً رئيسياً كما فعل لينين مع ماركس( ).. وبمناسبة حديثه عن الحزب فهو يُقِر بأنه قد طهر الحزب تطهيراً تاماً من المدعين الذين كانوا دائماً يلقون الكلام على عواهنه ويجعجعون بلا طحن! ويردف بأن «دعاوى الذين يبغون الحَطَّ من سياسته لن تؤثر في خططه لرفع شأن دولته بين دول العالم.. وهنا توقف عن الكتابة فهو يشعر بألم في صدره..
أراني ارتأيت أن أقدم ملخصاً مُبْتَسَراً عن تلك الرواية الفريدة والتي لن تغني مطلقاً القارئ عن قراءتها تفصيلاً.. ولنأت الآن إلى تلك القدرة الكبيرة لدى الكاتب في تقديم ذلك الوصف الدقيق لنفسية الرئيس والتي يستطيع أي قارئ عراقي أن يستشف الإسقاطات في ثنايا تلك الرواية.
لقد جاءت تلك الرواية امتداداً طبيعياً لرواية (موت نذير العدل) ومسرحية الدكتاتور لأننا نرى هنا أن الرئيس - الدكتاتور يبحث وهو على فراش الموت عن مبررات لتصرفاته مدعياً بأن انفراده وانفراد حزبه بالحكم كان بدافع الحفاظ على مصالح الشعب والدفاع عن البلاد ضد الأعداء ولكنها مع ذلك صورة ناصعة للدكتاتورية.. وما دعاوى مناقشته للديمقراطية ودفاعه عن مواقفه ومرافعاته في مونولوجه دفاعاً عن إنجازاته التي قام بها، إلا محاولة من جانبه لتبرير مواقفه لنفسه. ويدلل ذلك أنه مازال لديه جانب في دواخله يحاسبه ولذلك أراد من صديقه «العادل أن يتفهمه ويقبل تبريراته..
إن كل حاكم لبلاده ليس مِنَّةً فما دام في السلطة فإن أولويات واجباته وأبسطها هو تأمين العيش الكريم للشعب وتأمين التعليم والسهر على الصحة... وتأتي بعد ذلك الواجبات الأخرى..
إن الكاتب هنا لم يقحم أية مفاجأة ولكنه سطر لنا المعلومة تلو الأخرى في تناسق تام وتواتر متصاعد ليصل القارئ إلى النهاية التي ابتغاها من كتابة هذه الرواية. لقد تسلل بهدوء وبساطة إلى نفسية الدكتاتور مقدماً الرئيس في مونولوجه وهو يسوق كل المبررات التي يقدمها الرئيس لنفسه كونه هكذا؛ وتحدث عن كل ذلك دونما إسفاف أو الإتيان بكلمة نابية إنما في أسلوب يتدفق كما النهر السلس ينساب في سهولة ويسر.
لقد وضع يده على الجرح وما هذه التساؤلات التي قدمها الرئيس وقدم جوابها بنفسه إنما تدلل على وعي كامل بالموضوع ومعرفة تامة بالجوانب السيكولوجية للشخصية التي يتناولها موضحاً لنا جوانبها الحقيقية بعين الناقد المتمكن في الإجابات التي يرد فيها الرئيس على نفسه..
وتتجسد التجربة الثقافية للكاتب هنا في عمق أبعادها لتنطلق من اغترابه ويعيد طرحها وتأويلها في قدرة فائقة على صهر ودمج المستجدات الآنية في حياة بلاده السياسية وعينه على الغد قريبة وبعيدة ومقدماً لنا لوحة واقعية صادقة رسمها بعين ناقدة ثاقبة فتصفع وعي المتلقي ووجدانه... ومع ازدواجية الواقع العراقي وتعقيده يظل الدكتور شاكر متفرداً متميزاً واضحاً دونما ازدواجية، يحتضن مفاهيمه ويتصرف بها وتجاهها في استقامة داخلية وخارجية ودونما سفسطة...
خاتمة..
يتميز الدكتور شاكر بأسلوب فريد غير مسبوق حيث أنه يعتمد الجملة القصيرة المركزة والمفردة الممتلئة بالدلالات والمعاني المحورية بحيث تجد كل مفردة في مكانها لا يمكن زحزتها أو إهمالها.. إنه يختار مواضيعه وشخصياته في وعي متصاعد ويقدمها في إطار موضوعي وفي أسلوب رشيق برقيٍّ حِكْرٌ عليه وحده. ولأن لكل كاتب أسلوباً وطريقة في التعبير، نرى أن أسلوب الدكتور شاكر خاص به.. إنه سلسبيل دافق ينساب في عذوبة ويسر مؤطراً الحدث في دقة مستخدماً مفردات منتقاة حبلى بالمعاني.. أما شخصياته فقد استلها من واقعنا العراقي المعقد واضعاً إياهم في محيطهم الطبيعي دونما افتعال أو اقتحام أية عناصر يمكنها أن تخلخل أوضاعهم.. إنهم في مكانهم تماماً يتصرفون بشكل طبيعي جداً وكأنهم يعيشون بيننا ويتحدثون بلغتنا العادية في غير سفسطة.. إنه يقدم معلومة ما، حادثة ما، أو تفصيلة صغيرة ما هنا وهناك ويخرج بها في عمل متكامل البناء الفني وفي إطار من التحليل النفسي الذي يأتي متسلسلاً عبر الحوارات المختلفة دونما افتعال ودونما إسفاف...
وموضوعاته وأفكاره متماسكة متكاملة في أسلوب متدفق في سهولة تدفق الماء في الجدول الرقراق... وهو يهدف من اختياره لمثل تلك الموضوعات توضيح جوانب ذلك الصراع العام الداخلي والخارجي للنفس الإنسانية في سبيل التقدم وتخطي وتفادي الإنسان لآلامه ومواجهته لمشاكله وكل الشر الذي يتجسد له بهذا الشكل أو ذاك حسب مواقفه ومخاوفه...
إنه يقدم في جميع كتاباته ما يثبت ويوضح هوية الإنسان العراقي التي تظل داخل إحساس ووجدان الفرد مهما تغيرت به الأمكنة والأزمنة حتى ولو اكتسب جنسية أخرى فإنها لن تلغي مطلقاً هويته التي تجري في دمائه وانتمائه الحارق للوطن وللأرض.
إنه أحياناً يستوحي الرمز التاريخي أو الاجتماعي ولكنه يعمل على إسقاطه في الحاضر كما وأن شخصياته واقعية منتمية وتحمل على أكتافها حضارة عريقة تمتد لآلاف السنين. وسواء كانت تلك الشخصيات في القمة أو في القاع فإنها تحمل في جنباتها آثار ذلك الإرث التاريخي العريق..
وعندما يتعرض الكاتب للصراع الطبقي فإنه لا يردد الشعارات المألوفة ولكنه في بساطة ويسر يضع القارئ في مستوى الحدث وفي قلب الأحداث ويدفعك إلى التوصل إلى الهدف الذي يسعى إليه الكاتب وهو تحقيق مجتمع تسود فيه العدالة والمساواة والتقدم والحرية، تلك الحرية المكبلة دائماً وأبداً في مجتمعاتنا تحت جميع المسميات.

إن الكاتب الذي قدم لنا صورة متفاعلة الجوانب لمجتمع يتصارع فيه الجنس والمال والفضيلة والرذيلة، والخير والشر، قد قدم كل ذلك في أسلوب بعيد عن الشعارات وعن الألفاظ البذيئة والكلمات النابية وإنما عرض كل ذلك في أسلوب منمق مهذب ينم عن ذوق سليم وترفع عن الإساءة وعن جرح المشاعر.. إنه يتعرض كذلك لكل التابوات في صراحة وجرأة ممزوجة باحترام للذات الإنسانية..
واليوم ونحن نتأمل الذكريات التي تحمل بصمات أيامنا تتلاشى هناك في أرض الرافدين يأتي الكاتب الذي يطرد بكتاباته رماد النسيان ويدفع الحياة تدب فيها من جديد ويتراءى لنا الفردوس البعيد... وتتوحد وتتمازج من جديد نماذج وصراعات أبطاله مع أصدقاء لنا ومعارف وأقارب في ربوع العراق الجريح..
وأحب هنا أن أذكر ما كتبه الكاتب الفلسطيني المعروف (غسان كنفاني) رحمه الله عندما قال عن مجموعة (حكايات من بلدتنا) بأنها «الرواية الشظية.. إنها رسالة شخصية يُفْتَح داخلها دفتر الحساب من أولى صفحاته إلى آخرها وتصفعك»..
إن قصاصنا يمتلك موهبة واضحة ويمسك بين يديه وبكل بساطة ودونما جهد كل ما يُغني وكل ما يميز القصة القصيرة والرواية على السواء..
إنه كاتب العراق بامتياز يطور ما يتناوله من موضوعات يُرَتِّلُها لنا أسطورة متفردة للدفاع عن الحرية والبحث عن العدالة والمساواة..
هوامش:

مصائر في جحيم مشترك(*)
□ د. حاتم الصكر
سيظل لرواية الدكتور شاكر خصباك القصيرة الأصدقاء الثلاثة - صنعاء 2006، فضل التعرض المباشر والمبكر لقضية طارئة على المجتمع العراقي، هي الاختطاف الذي يجمع مصير ثلاثة أصدقاء، جعلهم الكاتب ينتمون إلى أديان ثلاثة، وهم: (علي) المسلم، (يوسف) المسيحي، و(زكي) الصابئي. مؤكداً ومكرراً عبر التنميط الواضح في التسمية دلالة ذلك الانتماء؛ فالأسماء تحمل معانيها الدينية الشائعة في الواقع الذي يظل المرجع الأساسي للكتابة السردية -والروائية خاصة- لجيل الخمسينات العراقي، الذي ينتمي إليه خصباك.
لقد أيقظ ضغط الأحداث النزوع الواقعي، الذي وجد في تمثيل ما يحدث من كوارث ومآس فردية وجمعية، فرصة لعودة التصوير الواقعي والأسلوب المباشر الذي يهدف إلى إيصال الفكرة أكثر من العناية بالكيفيات السردية الحاملة لها.
ولكن شاكر خصباك بعد تجربة طويلة في الكتابة القصصية والروائية والمسرحية (ثلاثين عملاً) لا تعوزه المهارة لتلوين الواقع بمقدار من الخيال الذي لا يأخذ العمل إلى أجواء الفانتازيا التي وجدت لها مكاناً أيضاً في بعض الأعمال السردية العراقية، كأنما لتحاكي لا معقولية الواقع الجديد، وبروز الظواهر التي لم تكن ليحيط بها خيال مهما كان مبالغاً، ومنها اختفاء البشر أو إخفاؤهم هكذا بلا تردد وبأيدٍ لا يردعها وازع، وبقسوة تتلبس أصحابها وتعجز عنها أبشع الضواري وأكثرها وحشية.
تصور (الأصدقاء الثلاثة) جانباً من هذا العنف الذي توزع على العراقيين جميعاً بشتى طوائفهم وأديانهم ومعتقداتهم. ولكي يزيد الكاتب من تعقبه للظاهرة ربط الأشخاص المختطفين الثلاثة بصداقة تعود لسنوات الدراسة والنشأة الأولى، ترميزاً للتسامح والتعايش الذي عُرف به العراقيون عبر التاريخ؛ فالأشخاص الثلاثة في الرواية تربطهم صداقة عميقة قبل اختطافهم تمثلت في زمالتهم أيام الدراسة الثانوية ثم انضمامهم للحزب الذي لم تسمه الرواية. لكن حوار الأصدقاء -وهم ينتظرون الموت لتأخر الفدية المبالغ فيها (مليون دولار) التي يطلبها الخاطفون- يبين خطوطاً عامة لأفكاره؛ فهو يدعو لتحرير الشعب من الاحتلال والطغيان معاً، ويرفع خدمة جماهيره الفقيرة شعاراً له، ويكون التغيير حلماً مشتركاً للأصدقاء الثلاثة الذين يصدمهم أن يخطفهم أشخاص من الناس الذين تخيلوا أنهم يخدمونهم عبر انتمائهم السياسي، لكنهم متشددون يرونهم كفاراً لأسباب مختلفة ستكون عاملاً آخر لتوحيد مصير الأصدقاء الثلاثة.
يخدم البناء الفني للرواية هذا المصير المشترك إلى جانب الترميز، فتتوزع فصولها القصيرة إيقاعياً وتتكرر تحت عناوين موحدة تتسلسل متعاقبة كما يلي:
- (صوت)، وهو ينقل تهديدات الخاطفين بالموت ولعناتهم ونفاد صبرهم بانتظار الفدية.
- (حوار) يدور بين الأصدقاء وهم يفضون لبعضهم بقلقهم بانتظار ذبحهم كما يتوقعون.
- (يوسف) يستعيد كسراً من حياته وحبه الفاشل لجورجيت الحالمة بالهجرة وتعرفه على الصديقين.
- (زكي) مستعيداً تداعيات من حياته وحبه الفاشل لـ(لمعان) ابنة الشيخ بسبب التفاوت الطبقي بينهما.
- (علي) الأكثر وعياً والمؤثر في أصدقائه وانتمائهم للحزب وحبه الفاشل أيضاً لأخت صديقه، مريم.
ثم تتكرر العناوين بالطريقة المتسلسلة نفسها، بينما يزداد التوتر بالخوف من النهاية التي تأتي أخيراً فيذبح الخاطفون (زكي)، ثم (يوسف) وينتهون بـ(علي). وتنتهي الرواية بفصل قصير عنوانه (صوت) كما بدأت به.
ويمكن أن يعكس لنا نصه خلاصة المنظور الفكري للرواية التي جسدت الصراع بين عقليتين شطرتا حياة العراقيين وألقتا بهم في ذلك الجحيم الذي يزيده جحيم الاحتلال عذاباً وألماً:
صوت:
«الآن جاء دورك أيها الزنديق.. يا من أفسدتم الإسلام بدعاواكم الباطلة.. سنرسلك إلى الجحيم وبئس المصير.
علي (يصرخ وهم يسحلونه): أنتم الذي أفسدتم الإسلام أيها البرابرة. أفسدتم دين الرحمة، فجعلتموه دين القتل والإرهاب.
وستلقون جزاءكم...».
لقد سنحت ظروف العراق بعد الاحتلال لمعالجة موضوعات جديدة تعبر عن خيبة جيل كامل بما كان ينتظر من أحلام، فإذا به يشهد الخراب بمستويات عدة: في النفوس التي أطلقت وحشيتها الفوضى والأمراض الاجتماعية والتعصب والجهل، وفي البنى التي كانت تشهد لهذا الوطن بما عاشت على أرضه من حضارات وما عرف من علوم ومعارف وفنون منذ فجر التاريخ.
ومن المهارات الواضحة في العمل التداعيات والاسترجاع لماضي المختطفين الثلاثة، والتي خففت التصوير المباشر والحوار الذهني المطول قليلاً، كأنما يعكس مهارة الكاتب المسرحية ويناسب التقسيم الذي توزعت عليه الفصول.
فالبعد التاريخي للشخصيات أدخل خصوصياتهم في العمل لكيلا يظل مجرد إشارات للوضع العراقي العام الذي هو مركز السرد وإطاره. لكن تخليص الشخصيات من نمطية النموذج تمت بذكاء، حيث أدخل الكاتب كلاً منهم في تجربة عاطفية محكومة بالفشل، ليستكمل خيبتهم على المستوى العام، فلكل منهم -رغم انغماسه في العمل السياسي- حياته العاطفية التي كانت تمثل سراباً آخر كأحلامهم الماضية:
«يوسف (بعد لحظة): أتعتقد يا زكي أن أحلامنا لن تثمر في إنقاذنا من كابوسنا؟
زكي: فلنعترف أنها كانت أحلاماً زائفة يا يوسف وأن السكين في انتظارنا.
علي: هذا صحيح يا يوسف.. السكين في انتظارنا».
كما أن الكاتب يوزع الفشل عليهم بالتساوي، كحال السكين التي تنتظر رقابهم، فيجعل حب زكي للمعان يصطدم بتواضع مهنة والده ورفض والدها الشيخ الديني تزويجها إلا بمن يناظرها في المكانة، وضغط الأهل عليه ليتركها.
بينما تلجأ حبيبة يوسف (جورجيت) للهجرة إلى الخارج لتحقق حلمها بعد أن يئست من إمكان الزواج منه. وعندما يحب علي (مريم) أخت صديقه يوسف تقف التقاليد دونهما لتلجأ مريم أخيراً إلى الرفض والتفرغ للعائلة.
بانتظار المصير الذي جمع الأصدقاء كما جمعتهم الحياة والأفكار والكفاح، يملأ شاكر خصباك السرد بالتداعيات التي ترمم ثقوب النص وتنقذه من اللحظة الساكنة سردياً، بوقوع الأصدقاء بيد القتلة الخاطفين، وتيقنهم من حتمية موتهم. ولم يلجأ خصباك لانتظار المثال أو الخير كحل، على الطريقة التقليدية؛ بل جعل الأصدقاء يموتون في النهاية لكي يدين من خلال ذلك تلك الظاهرة التي حصدت أرواح الكثيرين وزادت عمق المأساة المتمثلة بالاحتلال أساساً للانهيار الشامل.

أوراق رئيس(*)
□ كريم جثير
(أوراق رئيس) جديد القاص والكاتب المسرحي والروائي العراقي المخضرم شاكر خصباك.. و(أوراق رئيس) رواية قصيرة صدرت عام 2000 عن دار عبادي للنشر في صنعاء تحمل التسلسل (24) من أعمال خصباك الأدبية الكاملة.. وهي رواية ممتعة بموضوعها وبأسلوب كتابتها هذا الأسلوب الذي يميز كتابات شاكر خصباك القصصية والمسرحية والروائية.. وتتناول أوراق رئيس بأسلوب مشوّق حياة (دكتاتور) بعد أن ترك رسالة بعدة فصول إلى صديقه الذي يستلمها بعد موت الدكتاتور ومن خلال هذه الرسالة يتحدث الرئيس عن نفسه مدافعاً عنها وعن أسلوب حكمه الدكتاتوري من خلال منطقه المريض الذي يراه صحيحاً من وجهة نظره طبعاً.. وبذاك يكشف شاكر خصباك عن جميع عقد الرئيس الشخصية ومن ذلك سر تعلقه ببناء القصور الذي يعود إلى حياته التي ذاق فيها الحرمان والعوز خاصة في فترة طفولته، حيث يقوم الرئيس ببناء تلك القصور ليفرح بها أمه التي تكون أول من يدخل إليها.. كما أنه يرى في حكم هتلر وستالين المثل الأعلى له.. وعبر فصول الرواية أو الرسالة التي تركها لصديقه يكشف أيضاً عن سلسلة المؤامرات والدسائس التي قام بها ليصل إلى منصب الرئيس وليحافظ على الكرسي.. أما صديقه فهو يختلف تماماً عن شخصية الرئيس فهو وإن كسبه إلى الحزب لم يواصل عمله السياسي، وهو الذي كان زميلاً للرئيس في المدرسة كان يشفق عليه ويقوم بمساعدته، كما أنه لم يتقرب ولم يتعرف عليه عندما أصبح رئيساً من أجل الحصول على منصب أو ما شابه ذلك بينما تملقه الآخرون.. وإذ يترك الرئيس أوراقه لصديقه القديم مستعرضاً أمامه حياته يصبح هذا الصديق أشبه بالضمير الإنساني أو المذبح الكنسي الذي يعترف عنده الرئيس بكل عقده وأخطائه ولكن رغم ذلك يبقى مدافعاً عن أسلوب حكمه.. وفي أحيان كثيرة وخلال مجرى أحداث الرواية يشفق القارئ على هذا الرئيس، ولكن ليست الشفقة على شخص مسكين بل شفقة على أوهامه التي صدقها وقادته إلى منطقة العوج الغريب والذي يدفعه إلى قتل أعز أصدقائه ورفاقه..
يقول الرئيس في الفصل الذي جعل خصباك له عنواناً (خبرتي بالبشر): أنا أدري بما يقوله عني بعض رفاقنا الحزبيين يا عادل من أن أخلاقي قد تغيرت وصرت جباراً عتياً ومتكبراً متعجرفاً لا أحترم أحداً، بل إن البعض منهم يزعم بأنني أفرض على الآخرين أن يعاملوني بنفس التبجيل الذي يعامل به الملوك، وأتساءل أولاً: من قال إن الملوك أفضل مني؟ وثانياً أؤكد لك يا عادل أنني مظلوم بهذه التهمة، وكل ما في الأمر أنني بحكم مسؤوليتي خبرت البشر على حقيقتهم فوجدت أن القليلين منهم من يستحق الاحترام، فالغالبية منهم ضعاف النفوس وحقراء تجاه ما يبتغونه من مكاسب.. وأصارحك يا عادل أنني كنت طوال هذه السنوات أخشى أن أكتشف أنك لست أفضل ممن كنت مغشوشاً بهم، وأنك قد لا تستحق ما أضمره لك من حب وإجلال وتقدير، وكان يفزعني أن تطرق بابي يوماً لتسألني مكسباً من المكاسب، طبعاً كان يسعدني غاية السعادة أن أستجيب لأي مطلب لك مهما عظم، لكنني كنت أتمنى ألا تفعل ذلك، وما أعظم سعادتي حين أثبت لي طوال سنوات حكمي أنك جدير فعلاً بالصورة التي أحتفظ بها لك في ذهني، فامتنعت عن لقائي حتى ولو لمجرد السلام عليّ في المناسبات لتذكرني بصداقتنا القديمة.. إلخ.
وأخيراً إن رواية (أوراق رئيس) واحدة من أهم الروايات التي كتبها شاكر خصباك وتستحق القراءة أكثر من مرة.

ضمير الأنا في رواية خواطر فتاة عاقلة(*)
□ د. آمنة يوسف
ضمير الأنا: تقنية فنية نجدها في أسلوب السرد الذاتي أو السيرة الذاتية الاعترافية (أو التوبيوغرافية) ذلك أنها التقنية التي يوهمنا من خلالها السارد بضمير المتكلم (أنا) بأن الأحداث التي يرويها لنا قد وقعت بالفعل وأننا بصدد مذكرات شخصية عن سيرته الذاتية وتجربته التي مر بأحداثها وتعرف من خلالها على شخصيات مختلفة استغرقت سنوات طويلة أو قصيرة.
ذلك ما يمكن أن نقول: إنه سيطر على رواية خواطر فتاة عاقلة التي بين يدينا، بل على بقية العناصر الفنية فيها وما انطلق منها من تقنيات واقعة على مستوى السرد الروائي، نحو تقنية الاسترجاع الداخلي (أو التذكر) عندما بدأت الساردة بضمير الأنا تحكي لنا عن مرحلة حياتها الجامعية وعن أستاذ الفلسفة الحديثة الدكتور رائد تحت العنوان الفرعي (خاطرة 4) ثم انتقلت إلى (خاطرة 5) لتتحدث عن شخصيات عائلتها الأسرية وما يتم بينها من علاقات ومواقف، ثم عادت ثانية للحديث عن الدكتور رائد في (خاطرة 6) بحسب تقسيم الرواية إلى مجموعة من الخواطر أو الذكريات المكونة للعنوان الرئيسي والسيرة الذاتية التي تسمح فيها تقنية الاسترجاع الداخلي بالانتقال إلى ذكريات مختلفة ثم العودة أكثر من مرة لاستكمال الحديث عن هذه الخاطرة أو تلك التي كانت قد توقفت عن استكمالها في سياق مجموعة الخواطر أو الذكريات الواقعة على مستوى أسلوب السرد الذاتي أو السيرة الذاتية التي تصر الشخصية الساردة على إقناعها فنياً بواقعيتها إصراراً يجعلها تصف تفاصيل ما يجير من الأحداث والمواقف المنطلقة من تقنية الاسترجاع المسيطرة على كامل بنية السرد الروائي هذه التقنية التي أدت إلى تكسر الزمان السردي أو إلى التداخل بين أزمنة السرد الروائي، فلم تعد الرواية مبنية على التسلسل ولم تعد الوحدات السردية التقليدية ذات البداية والوسط والنهاية.. حاضرة على مستوى السرد ذلك أن تقنية الاسترجاع الداخلي التي تعود الساردة إلى متابعة ما كانت قد توقفت عن استكماله.. من خلالها قد كسرت الزمن المتسلسل والمتتابع من ناحية ومن ناحية أخرى الاسترجاع الخارجي لأنموذج الشخصية الجاذبة والمتمثلة في تذكر مصطفى الأخ الأكبر للساردة (منتهى) الذي يرد تذكره بين الحين والآخر باعتباره الشخصية النموذجية التي افتقدتها عائلة (منتهى) وأخذت تتذكره كلما تعرضت لمشكلة اجتماعية يحتاج حلها إلى رجاحه عقله الحاضر دوماً حتى مع افتقاده وموته شهيداً في سبيل الوطن ولذلك يعد الاسترجاع لشخصية مصطفى الغائب الحاضر من التذكر الخارجي الواقع قبل حاضر السرد الروائي الأمر الذي من شأنه أن يجعلنا نستنتج أن الاسترجاع المسيطر إذن على الرواية ليس الاسترجاع الداخلي وحسب ولا الخارجي وحسب بل الاسترجاع الذي تسميه (سيزا قاسم في كتابها بناء الرواية) بالاسترجاع المزجي الذي يتداخل فيه الاسترجاع الداخلي والخارجي مؤديين إلى هذا النوع من تقنية تكسر الزمان السردي التي من شأنها أن تجعل الرواية ذات اتجاه حديث وليس تقليدياً.
والجدير بالإشارة إليه أن تقسيم هذه السيرة الذاتية الخواطر قصيرة ومتتالية (ثلاث وخمسين خاطرة) من شأنه أن يطبع الرواية بالحوية الباعثة على التجدد وعدم الشعور بالملل عند القراءة وإمكانية الاستراحة الذهنية بين الخاطرة والأخرى وبخاصة بعد أن سيطر إلى حد كبير جنس القصة القصيرة ونافس كلاً من جنسي الشعر والرواية منافسة تسمح إلى حد ما باعتبار القصة -مثلاً- ديوان العرب الجدير عصرنا اليوم عصر السرعة وعدم الاستقرار على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فجاءت مثل هذه الرواية القصيرة كي تحافظ على حضورها الثقافي على الرغم من كل التحديات التي توشك أن تعصف بمدى استمرارية الرواية وبقائها في خضم المراهنات والظروف الثقافية المحبطة لآمال كينونتها وتبوأها عرض ديوان العرب الجديد، أو تزامن حضورها مع حضور بقية الأجناس الأدبية في الحقبة التاريخية نفسه (على الأقل).
أضف إلى ذلك أن الخواطر في الرواية التي بين أيدينا تبدو كأنما هي مجموعة من الاسكتشات القصيرة كقاسم مشترك يجعل الحضور الفني لجنس القصة قائماً حتى من سيطرة الحضور الفني لجنس الرواية على كامل الفضاء النصي وبنية السرد الروائي بعناصره الفنية التي من أبرزها عنصر الزمان الطويل نسبياً والمؤكد على أننا أمام شكل جديد من السرد الذي لا يمكن أن نسميه إلا رواية في نهاية الأمر.

أوراق رئيس(*)
□ د. غانم حمدون
د. خصباك جغرافيٌّ يهوى الأدب، فاشتهر بالقص منذ الخمسينات. آخر أعماله رواية قصيرة استهدف بها كشف (أوراق رئيس) من طغاة العالم الثالث، ويحكم العراق أعتاهم.
عادل سليم فتى طيب السريرة يعطف على زميل له في المدرسة نشأ في بيت بائس، بكل المعايير، فيحميه عادل من جور الآخرين ثم ينتشله من اليأس الذي كاد يحول دون تعلمه. وفي مرحلة لاحقة يرشحه لعضوية حزب استولى على السلطة وأقام دكتاتورية كالتي يخيم كابوسها على عراقنا، أو هكذا يتخيل القارئ. أخلاقيات عادل تحول دون بقائه في حزب يمارس الدكتاتورية فنفض يده حتى من العمل السياسي، أما صديقه فثابر على تسلق مدارج الحزب حتى استولى على قيادته ورئاسة البلاد دون رحمة بمن يقف في وجهه أو ينافسه من كوادر الحزب. ومن الطبيعي أن يقاطعه عادل.

يموت الطاغية فيفاجأ عادل باستدعاء من القصر لتسلم مظروف كبير حسب وصية الطاغية، فإذا به يحتوي على رسالة طويلة احتلت جل رواية د. خصباك هذه. فالطاغية المقبور يحاول أن يرد على معارضي حكمه وأن يبرر سياساته، التي أوقعت الكوارث ببلاده، متبجحاً بمنجزات مزعومة. والأنكى من ذلك أنه اختتم أوراق رسالته العديدة بالقول: «إن دعاوى أعدائي التي يبغون منها الحط من سياستي لن تؤثر في خططي لرفع شأن دولتنا بين دول العالم، يا عادل. وما زال لدي خطط كثيرة لإنجاز هذا الهدف سأفاجئ بها العالم. سأتوقف عن الكتابة الآن يا عادل، لأنني أشعر بألم في صدري لا قبل لي باحتماله..».
منذ 14 سنة يعمل د. خصباك أستاذاً في جامعة صنعاء، روايته الأخيرة هي العمل الإبداعي الرابع والعشرون ضمن سلسلة أعماله الأدبية التي يصدرها (مركز عبادي للدراسات والنشر) في العاصمة اليمنية. وجدير بالذكر أن للأستاذ خصباك مؤلفات ومترجمات عدة في اختصاصه وسواه.
لقد عرف قراء مجلة (الثقافة الجديدة) نتاج إبداعه الهادف منذ تأسيسها عام 1953. وبعد ثورة 14 تموز كان من مؤسسي اتحاد الأدباء؟ وانتخب للهيئة الإدارية، برئاسة الجواهري الكبير، في جميع الدورات التي سبقت انقلاب شباط الأسود. فكان الأستاذ خصباك ضمن ألوف المثقفين والمعلمين الذي طالهم الاعتقال والتعذيب والفصل من الوظيفة.
روايته الصادرة عام 1965 بعنوان (الحقد الأسود) (أعيد نشرها في صنعاء بعنوان «السؤال») تحكي قصة الفظائع التي ارتكبها الانقلابيون في المعتقلات. وعام 1966 صدرت له رواية (حكايات من بلدتنا) وكذلك مسرحية (الشيء) وفيهما يفضح بطش تلك المرحلة السوداء.
من وقاحات الطاغية الصغير، عدي وبطانته، محاولة بائسة للنيل من سمعة هذا الشيخ الجليل، وذلك حين أقحمت اسمه، وأسماء مبدعين مثله، في قائمة (المرتدين) رغم أن أكثرهم، مثله، لم يدنسوا أقلامهم في خدمة نظام يسلّط جلفاً شبه أمي، كعدي، على المثقفين والمؤسسات الثقافية والإعلامية في وادي الرافدين، مهد الحضارة، لكن (الولد على سر أبيه) كما قال الأقدمون..
الأعمال الإبداعية الصادرة لخصباك:
1- حكايات من بلدتنا (رواية).
2- الدكتاتور (مسرحية).
3- كتابات مبكرة (كتابات أدبية).
4- عهد جديد (مجموعة قصص).
5- صراع (مجموعة قصص).
6- السؤال (رواية).
7- حياة قاسية (مجموعة كتب).
8- ذكريات أدبية (سيرة حياة).
9- التركة والجدار (مسرحيتان).
10- هيلة (رواية).
11- الغرباء واللص (مسرحيتان).
12- القهقهة (مجموعة مسرحيات).
13- العنكبوت والغائب (مسرحيتان).
14- الهوية (رواية).
15- بيت الزوجية (مسرحية).
16- الشيء (مسرحية).
17- تساؤلات (خواطر فلسفية).
18- القضية (مسرحية).
19- امرأة ضائعة (رواية).
20- البهلوان (مجموعة مسرحيات).
21- قصة حب والطائر (روايتان).
22- الخاطئة (رواية).
23- موت نذير العدل (رواية).
24- أوراق رئيس (رواية).

شاكر خصباك (طريق الخير شاق)(*)
□ الكاتب اللبناني/ عصام محفوظ
«أيتها الشعوب! أصغوا إلى الشاعر!
أصغوا إلى الحالم المقدس!
في ليلكم، الناقص دونه،
وحده جبينه مضيء»
(هوغو، وظيفة الشاعر)
(1)
رواية (السؤال) لشاكر خصباك تلتزم الحق والخير والدفاع عن الإنسان بطريقة ثورية مندفعة ساخرة مريرة. يعتقل بطل الرواية رشاد الهادي لمجرد وشاية عنه بأنه عضو في جمعية ثورية للتغيير والإصلاح واقتلاع الفساد. بعد اعتقاله يمر بسلسلة استجوابات وعذابات لا تطاق. يبقى صامداً ولم يش بأي رفيق له. فضّل الموت على البوح بأي شيء.
يبدأ المؤلف بأسلوب فني لافت يتكلم فيه البطل: «تعلقت عيناي بدارنا وهي تبتعد بسرعة، وبدا لي شارعنا الصامت حزيناً كالحاً. ورحت أتأمله بنهم وقد استبد بي شعور قوي بأنني سأحرم رؤيته إلى الأبد. وما أن اختفى عن أنظاري حتى سدل أحد الحراس ستارة على نافذة السيارة فغرقت في ظلام قاتم». (ص5).
ومن حق البطل أن يتساءل عن مصيره. إنه يساق إلى فندق السندباد الشبيه بالقصر. فما هي جريمة المطالبين بالحرية؟ ينتزعونهم من بيوتهم، يعصبون عيونهم، يوثقون أيديهم. وبطل الرواية يعجز عن تتبع أقوال الحارس ويشعر برأسه يدور كالطاحونة وبجسده يطير في الهواء كالريشة.

(2)
يصرخ الحارس بالمسجونين: أنتم حيوانات ولا تفهمون الأوامر إلا بالضرب. يناجي رشاد من الزنزانة زوجته ندى: «ولكن لا تحزني من أجلي يا ندى. فأنا أؤدي ثمناً لواجب نبيل. وكم من آلاف، بل ملايين دفعوا مثل هذا الثمن قبلي. لابد لكل من يدافع عن القيم الإنسانية الخيرة أن يؤدي ثمناً باهظاً. هذه سنة الحياة منذ كون الإنسان المجتمع يا ندى. وقد تتغير هذه السنة في يوم من الأيام، حينما يعم الخير البشرية جمعاء، أما الآن فعلى أمثالنا أن يضحوا بدون شكوى، وأن يتحملوا الآلام بلا تذمر. وأنت تعلمين أنني رسمت لنفسي هذا السبيل ولن أحيد عنه».
(3)
وفي الفصل الثالث (التحقيق)، يبدو رشاد رجلاً فاضلاً نبيلاً، لا يلين أمام التحقيق. ويجيب بكل بساطة ووضوح: «صحيح أنني أدعو إلى المبادئ الخيرة وأؤمن بالشعب وأؤيد كل من يعمل في سبيله، إلا أن ذلك لا يقتضي بالضرورة انتسابي إلى جماعة معينة. إنني كاتب شعبي لا أكثر أدعو لخير الشعب وخير الإنسانية». (ص30). ثم يناجي فيما بعد زوجته ندى طالباً منها أن تبتسم وتكفكف دموعها، فلابد لموجة الشر أن تنحسر في النهاية، ولابد للخير أن ينتصر، ولابد للشمس أن تشرق غداً!
(4)
أحد أشخاص الرواية جميل يرحب بالموت ويحلم به كنهاية مضيئة لهذا الوجود المظلم. وشخص آخر حميد يرى أن الأعصاب السليمة لا تتأثر مهما واجهت من أساليب. فالانتحار فرار من الميدان وتلك صفة لا تليق بالمناضل. أبطال الرواية يفضلون عادة طريق الإقناع لا طريق القوة والإرهاب. أحدهم في الرواية يموت جراء العذاب، ينطفئ فجأة كمصباح متوهج.
(5)
لقد وجد بطل الرواية المعتقل نفسه مع رفاقه في قصر منيف. أصبح في نظر البعض القصر المشؤوم، قصر الكوارث، وفي نظر البعض الآخر (قصر التعذيب)، (قصر الدماء)، (قصر المآسي). يقول أحد المعتقلين إبراهيم: «لقنتني هذه الثورة درساً بليغاً، أن العمل في سبيل الشعب خدعة نضحك بها على أنفسنا فلا يستحق أحد أقل تضحية». (ص129). أما فريد فيقول: «هناك مئات من الأبطال قضوا زهرات عمرهم في السجون الرهيبة والمعتقلات الصحراوية المهلكة وتحملوا صنوف التعذيب والاضطهاد، دون أن يكفروا بالشعب أو يتخلوا عن آرائهم».

وأروع ما نقرأ في هذه الرواية الخواطر الإنسانية الرقيقة التي يبثها رشاد لزوجته ندى: «ولكن ما أن تمر صور المعتقل في ذهني يا ندى حتى أنتبه من أحلامي مذعوراً وتتبدد عني صور السعادة كما يتبدد الدخان في الهواء! كلا يا ندى، إن سعادتنا قد ولت ولن تعود إلينا ما دامت الحياة تضج بالشقاء من حولنا. كيف أنسى يا ندى عويل المعذبين وصراخهم؟ كيف أنسى أنين الجرحى وتأوهاتهم؟ كيف أنسى العذارى اللواتي دنس عفافهن والزوجات اللواتي اعتصبن والأمهات اللواتي يقتلهن الشوق إلى أبنائهن؟ وإذا غادرت هذا المعتقل فكيف أنسى أنني خلفت فيه آلاف الأشخاص الذين ينتظرون مصيرهم في يأس وعذاب؟». (ص124).

رواية للمطالعة والتأمل والتطبيق.. فيها نفس البطولة والنبل والنضال. إنها من الروايات الإنسانية. وعلينا أن ننحر الشر ونستأصله من جذوره لترفرف الأجنحة خيراً وتعم المسكونة. ربما هذه نظرة أوتوبية في مجتمع تسيطر عليه القوة، والحق تخفيه القوة غالب الأحيان. ومؤلف الرواية لم يقتنع إلا بالنضال لدحر الشر ونشر الخير، مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات ولابد من تحويله إلى مجتمع العدالة والإنسانية. وشاكر خصباك العراقي روائي طليعي من طينة المرسلين والمصلحين والمناضلين. لقد ثار وسار على خطى الكتاب الثائرين دون تعداد الأسماء، لأنها عديدة، وذلك ما أعطى الرواية المهمة أسلوباً ومضموناً بعدها الإنساني، ولا يستطيع أن يسلكه إلا الشرفاء قولاً وفعلاً، وهم من القلة للأسف في دنيانا.




















دراما الواقع الحصيفة
قراءة في الأعمال المسرحية للدكتور (شاكر خصباك)
□ د. علي حداد(*)
في البدء:
بدأب مكتشف وإصرار عاشق، وبمقدرة مكتملة الأدوات واليقين واصل الدكتور (شاكر خصباك) تقديم عطائه السردي المتنوع في انشغالاته وتكيفه الأجناسي منذ مراحل شبابه الأولى، وحتى بعد ستة عقود من عمره المديد، من دون أن تزحزح دأبه الكتابي هذا أو تزاحمه انشغالاته العلمية الرصينة -وهو أستاذ علم الجغرافية المشهود لكتاباته وترجماته فيه بالتميز- كما لم تثنه عن ذلك ظروف دراسته وتدريسه وإقامته في أكثر من بلد ومدينة وارتحاله المزمن عن بيته ومكتبته.
كتب الدكتور شاكر خصباك -فضلاً عن كتابات متنوعة أخرى- الرواية والقصة القصيرة والمسرحية النثرية. وكان في ذلك كله قد اختط لتجربته مسارات من الإمعان الخاص في الرؤية والتشكل القيمي وكذلك في الطبيعة الفنية التي يرسخها ويحرص على الانتماء الواعي إلى منطوقها الجمالي.
ولمناسبة صدور المؤلفات الإبداعية الكاملة للدكتور خصباك( )، فقد سعينا في قراءتنا هذه إلى تخير أعماله المسرحية موضوعاً نعاينه ونتأمل متحققه، وهي جديرة بذلك، حتى أنها لتضع مؤلفها بين كتاب المسرح العراقي والعربي المعدودين الذين توافروا على منجز كبير في حصيلته، ربما جارى -أو فاق- ما كانت عنده من حصة للرواية والقصة القصيرة.
لقد ترسخت مسيرة المنجز المسرحي عند شاكر خصباك وعلى امتداد الخمسة والأربعين عاماً الماضية. فقد شهد العام 1962م ظهور مسرحيته (بيت الزوجية). وإذ خلا العامين اللاحقين من الإشارة إلى أي إصدار مسرحي فقد نشرت في العام اللاحق لهما مسرحيته (الغرباء 1965)، وفي العام الذي يليه مسرحيته (الشيء 1966) أما بعد ذلك فكان من اللافت للانتباه توقف الكاتب عن الإصدارات المسرحية، ولفترة قاربت الستة والعشرين عاماً بدا أنه كان منكباً في خلالها على إصدار رواياته ومجموعاته القصصية، وحتى العام 1992 الذي ظهرت فيه مسرحيتاه: (القضية والمخذولون)، لتتوالى بعد ذلك عودته المجتهدة نحو المسرح، عبر ما أنجزه من نصوصه المسرحية اللاحقة: القهقهة 1993م، الغائب 1994م، دردشة 1994م، الجدار 1994م، هو وهي 1995م، الدكتاتور 1995، اللص 1996م، التركة 1996م، البهلوان 1997م، في انتظار جودو 1998م، العنكبوت 1998م، ليل ليس له آخر 2001م، تجربة مسرحية 2003م، الرجل الذي فقد النطق 2003م، الواعظ 2007م، أين الحقيقة 2007م.
لقد تبنت الأعمال المسرحية للدكتور (شاكر خصباك) توجهات من الرؤية خاصة، تجري مياهها في أنساغها النصية جميعها، تؤازرها نسقية متزمتة في التزاماتها البنائية ومقومات التشكل النصي المسرحي وعناصره التي عنّ لنا -في هذه القراءة- أن نتخير من بينها عنصر (الصراع) الذي بدا لنا -من دون أن تكون تلك أفضلية له على سواه من العناصر- جديراً بالمعاينة والاستنطاق لطبائعه وفاعليته والكيفيات التي تشكل فيها.
الصراع... المفهوم وتمثلاته:
يمنحنا تأمل البعد الفلسفي للصراع فرصة الانهماك بتأشير تجلياته الممعنة في الحضور من حولنا، فما حركية الكون وتشكلات مظاهر الطبيعة وسلوكيات الموجودات الحية إلا مساحة لفاعلية من الصراع لا تهدأ أو تتوقف. ولعل في منطوق القانون الطبيعي الذي تحتكم إليه كثير من مظاهر الوجود والقائل بـ(البقاء للأصلح) ما يجعل من الصراع حقيقة ماثلة لا تنطفئ جمرة اليقين بها.
ويتبدى الصراع سمة أساس في تشكل الذات المفردة، مثلما يشخص ظاهرة دالة في مسار الاجتماع البشري وما يتحقق له. ويبدو أن مفهوم الصراع ومضامينه قد تم تحفيزها لتنساح أبعد من وجودها في الطبيعة المقنن بثوابت من التماثل السلوكي والاحتياج الغريزي ومكابداته، لتنال حصتها في الوجود البشري وممارساته متعددة المضامين والتشكلات، ثم لتنقل بعد ذلك -في رغبة لكسر حدود الفاعلية الإبداعية المنشدة إلى أقل أبعادها وأبسطها- لتصبح مؤشراً دالاً على حركية خصبة في المنجز الإبداعي وتمثلاته، بل وهويته أيضاً.
لقد عدّ (فرويد) الصراع مرتكزاً أعمق تتأسس عليه عملية الإبداع حتى في أفقها الذاتي، حيث يعايش المبدع صراعه مع ذاته التي قد تبدو على نحو ما حالة مرضية تتعاور وجود ذلك المبدع، وهو ما عناه فرويد حين رأى «أن القوى الدافعة للفنان هي الصراعات نفسها التي تدفع أشخاصاً إلى العصاب»( ).
وإذا كنا سنقرر تلك واحدة من آليات الصراع ذات النزوع الفردي ومن خلال التصادم المؤكد بين الذات ومكتنزاتها الذهنية، فإن آفاقاً أكثر تواتراً هي التي تنهض بجوانب التشكيل الفكري والفني للإبداع، عبر ما يشرع وجوده له ويتملاه من الوقائع والمواقف ويرصده من السلوكيات المتشادة المتناقضة. ومن هذه الرؤية يذهب المبدع إلى ما يتعاور وجوده الاجتماعي، ويحاور وعيه وحواسه فيرصده ويتمثله ليعيد إنتاجه إبداعياً من خلال تشكيله أو مشاكلته، أو تبني موقف الشاهد المحايد الذي يقوم بتوصيفه وإبرازه في مساحة التلقي المنشود.
وفي ذلك كله فإن جغرافية التشكل الإبداعي وأجناستيه تبقى آماداً منشغلة بالصراع ومستجيبة لتمظهراته أكثر من أية فاعلية أخرى، وهو ما تبناه السرد -والسرد المسرحي خاصة- وأعلن عن تمايزه الأجناسي من خلاله.
لعله من المؤكد القول إن النص المسرحي، هو أكثر تجليات شرعة الصراع وقيمها بين مختلف الأنواع السردية، إذ لا تكاد المسرحية تجد هويتها -بعد تلبس الشخصيات وجودها الحواري فيها- إلا في مسار المواجهة المتصارعة بين تلك الشخصيات، ومن منطلق ذلك اليقين فقد عرّفت بعض المعاجم (الصراع) بكونه «التصادم بين الشخصيات أو النزاعات الذي يؤدي إلى الحدث في المسرحية»( ).

ويتأكد حضور الصراع في المسرح حين يكون هو ذاته الصنيع الدرامي الذي ينجزه تضافر مجموع عناصر النص وفاعلية التواصل بينها إذ لا يكاد أي من تلك العناصر لتبرز قيمته المؤثرة من دون أن يكون للصراع تجلياته فيه، وبما ينهض بالمسرحية إلى حيث تبدو صنيعاً جمالياً له مقوماته التي يتعاورها ذلك العنصر المقيم في كل منها، وهو ما يمكن أن نؤشره في الترسيمة الآتية:

إن عنصر (الصراع) هو حيوية المسرحية وسرها العميق الذي تتضح قيمتها الفنية فيه ومن خلاله، حتى أننا لنشارك أحد الباحثين في المسرح قناعته في أنه لم يقرأ مسرحية ذات قيمة فنية لم يكن الصراع ركنها الركين وأساسها الأول( )، وهو ما كان قد أكده (برونتير) حين رأى أن الأساس الذي تبنى عليه المسرحية إنما هو الصراع( ). أما (أريك بنتلي) فعدّ الصراع الأفق المؤكد لتشخيص الدراما في أي عمل فني، إذ «إن رؤية الدراما في شيء ما إنما تعني تبين عناصر صراع فيه، والاستجابة عاطفياً إلى عناصر الصراع هذه»( ).

وهكذا فلقد تأكدت لعنصر (الصراع) أهميته الباذخة في فن المسرح -من دون أن يغيّب في سواه من الفنون- حتى صار بالإمكان دراسة الحركية التاريخية والفنية التي تحققت للمسرح من خلال تقصي محمولات هذا العنصر وما تكرس له من قيم في الرؤية وأنساق من الإجراءات التي تأطر فيها.
حركية الصراع في النص المسرحي ومتحققاته:
شهد الصراع في النص المسرحي تطوراً دائباً فيما تهيأ له أن يقوم عليه وينجزه، حتى صار بالإمكان -ومن خلال تأمل طبيعته وآليات تشكله- أن نضع الإصبع مؤشرة الانتماء المذهبي الذي يعلنه ذلك النص، مثلما نتمكن به من ملاحقة التجارب المسرحية وأفق التشكل التاريخي الذي يتعاورها. وبذا يمكن القول: إن تاريخ تطور الصراع في النص المسرحي هو ذاته التاريخ الذي شهده المسرح عالمياً في مسيرته المتصاعدة.
لا يكاد الدارسون ليختلفون على كون الصراع هو البعد المدل على خصوصية المسرحية الإغريقية وصيرورتها الجمالية، وما لها من فخامة التكوين في الشخصيات والوقائع والانشداد القيمي المعلن حيث يأخذ ذلك الصراع وجهته البادية في كونه صراع (أقدار) تترسم مكابدة الإنسان الفرد مما اختطته لها القوى العليا من مصائر يحاول الإفلات منها، ولكن من دون جدوى فهي واقعة لا محالة.
وقد ترسخت قيمة ذلك الصراع في المسرح الإغريقي من خلال تمثله مجساً في تحديد نوع المسرحية، فإذا انتهى الصراع نهاية مأساوية كانت المسرحية من النوع (التراجيدي). أما إذا انتهى الصراع فيها تصالحياً فستكتسب وصفها النوعي في كونها (كوميدية).
وفي مسرح القرون الوسطى أخذ الصراع نمطيته التعبيرية المغايرة حيث أمسى صراعاً بين شخصيات تستأثر بها رغائب وسلوكيات متضادة، تتأطر في بعدين من التوصيف، أولها ما نظر إليه على أنه (دوافع شريرة) وصفت بكونها (الخطايا السبع) وهي: الزهو، الحسد، الخمول، التهور، البخل، الغضب، الشراهة، وبإزائها فهناك (الفضائل السبع): الإيمان، الأمن، الكرم، العدل، قوة التحمل، ضبط النفس، الحكمة. ومن خلال رسم شخصيات العمل المسرحي وهي تتمثل هذه السمات (الخيّرة) أو تستجيب إلى مناهضتها (الشريرة) يتولد الصراع بل العمل المسرحي كله( ).
لقد تبدى الصراع في تلك المرحلة في مسيرة المسرح العالمي مرتبطاً برغبات ودوافع سلوكية ونفسية طاغية يتحكم نمطها بوجود الذات المشخصة في النص، ويدفعها إلى تمثله تحت وطأة إرغام داخلي وإكراهات شعورية متصارعة تستبد بالشخصية وتهيئها للتعبير عن مواقف وأفكار متصارعة وعلى نحو مباشر، وهو ما أسس لنوع خاص من الصراع ذي الطبيعة الخارجية التي تسـيدته وتكاملت فيه لتذهب الشـخصية في النص المسرحي -ومن خلال ما يتجسم فيها من دوافع ورغبات- إلى مواجهة الأخرى التي هي نقيضتها فيما توافرت عليه من ذلك كله.
ومع شكسبير وما ساد في مسرح عصره فقد تجلت للصراع قيم مضافة وذات تمايز خاص في الآن نفسه عبر حالة من التداخل بين ما هو خارجي تبرزه تناقضات في المواقف والإرادات التي تعايشها شخصيات النص المسرحي، وما هو بعد داخلي للصراع يتمثل أحوالاً من الاحتشاد الشعوري الذي تكابده الشخصية، لتتماهى مع ارتكاساته النفسية والسلوكية ويتأطر وجودها فيه.
ولعل في مسرحيات شكسبير الأشهر: (روميو وجوليت) و(هاملت) و(عطيل) ما يبرز تلك الثنائية الدالة التي نهضت بالصراع في المسرحية وحددت سماته( ).
تبدت في العصور الحديثة قيم مغايرة شكلت أنماطاً جديدة من الصراع تداخل فيها ما هو تمثل لانهماكات الشخصية الشعورية وما هو ذهني موجه بعوامل الوعي المدرك وتكشفاته السلوكية. وقد تمثل الأدب -والفن المسرحي خاصة- تلك القيم وأسس عليها آفاقاً لتشكلات نصية مغايرة، وهو ما يمكن رصده في كثير من أعمال برناردشو وهنريك ابسن وسواهما.
لقد تبنت المسرحية الحديثة النثر شكلاً تعبيرياً فكان ذلك إيذاناً بتوجه موضوعاتي جديد تكرس لتمثل الواقعة الاجتماعية، ومعالجة تناقضات الوجود البشري في أبعاده الواقعية المعيشة. وقد أوجب هذا التوجه فاعلية جديدة من (الصراع) المستمد من طبيعة المشكلات والمواقف التي تعايشها الشخصيات في النص المسرحي، وهي تتحرك في جدلية الحدث الاجتماعي ومواضعاته المتضادة، وهو ما كان (أميل زولا) قد رصده مؤكداً رؤيته في أن تكون العوامل التي تحيط بالإنسان هي المؤشر الحقيقي الذي يهيمن حضوره في المسرحية( ).
وعلى أساس هذه الرؤية فقد أمسى الإنسان العادي بطلاً له ما للأبطال التراجيدين في المراحل السابقة من خصوصية وجود، ولكنه مختلف عنها في طبيعة ما يكابده من صراعات مع مواضعات محيطه الاجتماعي في سلوكياته ومواقفه تلك التي يجد ذاته في حالة من التضاد معها، متسلحاً في خضم هذه المواجهة بقدرات من الوعي والإرادة المدركة والمعرفة المتميزة. وهكذا أمسى البطل المسرحي تجسيماً لنزوع واقعي معلن، إذ هو -وطبقاً لقول (آلاردس نيكول): «واحد منا مقذوف به حياً فوق المسرح... ضد واحد من بني جنسه، ضد أطماع أولئك المحيطين به، ضد رغباتهم وأهوائهم وحماقاتهم، وضد أحقادهم»( ).
مسرح شاكر خصباك... الرؤية ومساحة الانشغال:
(1)
يذهب شاكر خصباك في مسرحياته -كما هي رواياته وقصصه القصيرة- وجهة تنماز بخصلتين أساسيتين لم يعرف عنها أنها فارقتهما أو سعت إلى غيرهما، الأولى وتتمثل في الرؤية الواقعية الرصينة التي هي عليها، والأخرى كونها تعلن عن انتماء جيلي خالص لما تناءى عنه على مساحة الامتداد الزمني الذي تشغله.
فأما كونها ذات وجهة واقعية رصينة فإنها تخبر عن تشبث صاحبها بتلك الرؤية ويقينه الراسخ بقيمها، وهي حالة تتجاوز التمثل الفكري وانهماكاته لتصبح ارتكاناً لا حياد عنه ومحارسة سلوكية يتم استنطاقها في الممارسة الأدبية وبحرص شديد على كامل اشتراطاتها.
إن الكتابة عند شاكر خصباك -وبمختلف أجناسها وتنوعها التعبيري- هي تمثل لواقع إنساني تؤثر قيمه وتقول كلمتها فيه وتحاور متلقيها ليشاركها اليقين السلوكي والمعرفي الذي تتبناه. وفي ذلك يؤسس خصباك لفاعلية التواصل مع الآخر تلك التي يعدها واحداً من مبررات توجهه الكتابي، حيث يعلن أن «من جملة بواعث انصرافي إلى الكتابة المسرحية هي رغبتي في إيصال أفكاري إلى القراء على نحو مباشر»( ). منطلقاً من القناعة بأن «الأدب المسرحي يتحمل هذا النوع من الخطاب المباشر الذي يمكن أن يجرى على ألسنة أبطال المسرحية»( ). لقد دلف شاكر خصباك -ومن خلال هذه القناعة- إلى جيله الخمسيني في الأدب العراقي، وتلك هي الخصلة الدلالية الأخرى التي وسمت منجزه الأدبي كله، فعبر المذهبية الواقعية التي ترسم محمولاتها الفكرية والتعبيرية أدب ذلك الجيل تشكلت مساحة مهمة ومؤثرة في الواقع الثقافي والإبداعي العراقي مستجيبة لجملة من العوامل والدوافع التي تبناها المشهد السياسي واستوعبها الواقع بمحدداته القيمية الاجتماعية، وصدح بها الفكر باتجاهاته وهي تتلقى ما يعكس وعياً جديداً على مستوى الفكر الإنساني وطروحاته الثورية الضاجة التي وجدت لها استجابات عميقة الغور في بنية المجتمع العراقي الناهض حديثاً. لقد جعل ذلك كله من الواقعية بسمتها المباشر فاعلية مهيمنة على مجمل التوجهات الثقافية التي شغلت بها الساحة العراقية في جوانب وعيها المختلفة التي كان الأدب والفن السائدين من أبرز تمثلاتها الشاخصة مما عكس نوعاً خاصاً من (الفهم المرآتي للواقعية) على حدّ وصف الدكتور حاتم الصكر، حيث «صار الاقتراب من الواقع تصويراً وتطابقاً لا تمثيلاً وترميزاً هو المحدد لفنية الفن والأدب»( ).

لقد جسدت مسرحيات خصباك تلك الرؤية، فتلمست طريقها نحو منجز مسرحي واقعي يتمثل القيم الاجتماعية وما تتأسس عليه من أشكال متصارعة، في مواقف يقينية تعد الأدب رصداً لتفاعلات الواقع الاجتماعي والممارسات السائدة فيه على مستوى وعي الذات الفردية بها، وفي أفق حضورها الجمعي المعلن. ومن هنا ذهبت تلك النصوص المسرحية التي قدمها الكاتب لترصد المشكلات الاجتماعية والتفاعلات السلوكية، وهي تواتر حضورها في تكيف إنساني يكررها على رغم المسيرة المتصاعدة للبشرية في دعائم وجودها المعرفي والمتحقق العلمي لها. وهي قناعة ذات ترسخ بعيد في رؤية شاكر خصباك، فعنده «أن الإنسان لم يخط خطوة واحدة في حياته الروحية والاجتماعية منذ آلاف السنين فما زال يؤمن بعقائد وأفكار تسير حياته الاجتماعية كان قد تبناها منذ عقود سحيقة، بينما يفترض تقدمه العقلي هجر تلك العقائد والأفكار البالية. وما زال الإنسان خاضعاً لغرائزه الفجة وأنانيته التي يغلفها بلاف مهلهل من البرقع الحضاري الذي ينبذه حالما تصدم مصالحه ورغباته الذاتية مع مصالح الآخرين»( ). وفي ظل تلك الأهواء والمطامع التي تهيمن على جوانب من سلوك الفرد في محيطه الاجتماعي وتتحكم في ممارساته فإن رصد الفعل الإنساني المضاد لذلك يصبح واحدة من المهمات والأعباء التي ينهض بها النص الأدبي لشاكر خصباك، وهو يتمثل جانباً من قناعات كاتبه التي تقول بأن «مثابرة الإنسان على بلوغ المجتمع الأمثل هي التي أخرجته من عهد الغابة ورفعته إلى مجتمعاته الحاضرة، رغم نقائصها ولا ريب في أنه سيظل يكافح لبلوغ هذا الهدف حتى يدرك بغيته»( ).
(2)
يتساءل (أريك بنتلي) عن مساحة الدراما في الحياة المعاصرة. فلا ريب عنده بوجود من يقول: «إن العناصر الدرامية نادرة فيها، وإن الحياة اليومية مملة ويعوزها الصراع»( ).
وعند الكاتب نفسه فإن من يقولون بذلك إنما ينظرون إلى الأعمال الدرامية بوصفهاً أحداثاً وحسب، وهم بذلك يستبعدون الاستجابات الذهنية والعاطفية التي يعايشها كل منا وتشده بحدود نسبية معينة تختلف عما يقع لغيره منها. ومن هنا «يصبح السؤال عن مدى درامية حياتنا أمراً ذاتياً في جزء منه، فما يجده الواحد منا مملاً قد يجده الآخر مثيراً»( ).
ولعل الدكتور (شاكر خصباك) من بين أولئك الأدباء المعاصرين الذين جعلوا هذه الرؤية نصب أعينهم وتمثلوها يقيناً يواصلون تداوله في منجزهم الإبداعي.
لقد تبنت نصوص خصباك المسرحية الحدث الواقع بمحمولاته الاجتماعية محوراً لانشغالاتها، ليتبدى لها من ثم شكل محدد من الصراع لا يكاد يقارب صراع الأقدار والمصائر، مثلما تغيب عنه تلك الانشغالات الذاتية المتهافتة على مكابدات شعورية ضيقة، إذ هو صراع مواقف وإرادات تتقاطع وتتشاكل مجسدة لطبائع الشخصيات -ذات التشكل الواقعي المعيش- ومواقفها المتباينة، وذلك ما يمكن التدليل عليه من خلال معاينة الثيمات الرئيسة التي قامت عليها معظم تلك النصوص. لقد كان التوقف عند المشكلات الاجتماعية هو المحور الغالب على مسرح خصباك، عبر معالجات نصية لوقائع يتواتر حضورها في الحياة اليومية. فقد جسدت مسرحية (بيت الزوجية) ما يمكن أن يسببه التفاوت الاجتماعي بين الزوجين من صراع خفي ومعلن في الآن نفسه، وما ينتج عنه من خلافات لابد لها أن تأخذ بالتصاعد حتى تكون نتيجتها انفصال الزوجين عن بعضهما( ).
في حين دارت مسرحية (التركة) حول الرغبة الأنانية عند بعض الأبناء لبيع بيت العائلة الكبير وتقاسم ثمنه، من دون أن يعيروا أي اهتمام لمشاعر أمهما -وكذلك أختهما العانس- اللتين بقيتا فيه طيلة عمرهما( ). أما مسرحية (الغرباء) فقد أبرزت حالة التفاوت السلوكي وأساليب التعبير المتناقضة عن الأفكار والمشاعر التي تعايشها عائلة محدودة الأفراد، ولاسيما حالة التباين الواضحة بين الزوجة العطوف كثيراً، والزوج المسكون برغبته الجارفة لتحقيق طماحه، وهو ما يصل بالأحداث إلى خاتمة حزينة ومؤثرة( ).
وعكست مسرحية (العنكبوت) واقع عائلة متوسطة الحال، يجسد كل فرد فيها حالة فكرية وسلوكية مختلفة عن الآخرين وغير منسجمة معهم وبما يخبر عن صراع الإرادات متباعدة في توجهاتها ومتضادة في قناعاتها( ). وفي مسار متقارب مع سابقتها جاءت مسرحية (القضية) لتتحدث عن عائلة من المسـتوى الاجتماعي نفسه، يواجه الأب فيها -وهو السياسي السابق والأديب المثقف- وقد أصبح مقعداً ضغوط الزوجة والأبناء لكي يتنازل عن قناعاته السياسية السابقة وينضوي في السائد الراهن من الممارسات، ليحقق لعائلته احتياجاتها، وهو ما يضعه في صراع نفسي حاد ينتهي به إلى الرضوخ أخيراً. ولكنه يواصل رفضه وإن من خلال موقفه السلبي من كل الوقائع التي تجري حوله( ).
إن من يتأمل النصوص المسرحية السابقة ستشخص أمامه تلك التمثلات الواقعية المؤشرة فيها عبر استيعابها للحدث الاجتماعي والتعامل معه كثيمة فكرية وسلوكية تتجاوز التأطير التاريخي والخير المكاني المتقن لتكون تشخيصاً لمواقف يمكن تصور وقوعها في أي وجود اجتماعي مماثل، ولكن ذلك لم يكن مانعاً لأن تأخذ بعض المسرحيات مساراً له توقفاته عند واقعة أو وقائع لها توصيفها المؤشر لحالة تاريخية بعينها كالذي جاءت عليه مسرحية (الشيء) التي تمثلت واقعة حقيقية عايشها الدكتور خصباك نفسه حين اعتقل في العام 1963 مع مجموعة من المثقفين والسياسيين العراقيين وأودع في أحد سجون بغداد( ). لقد جسدت هذه المسرحية حالة الصراع الفكري والسلوكي التي يعانيها أولئك السجناء وهم يواجهون عنت السلطة العسكرية التي قامت بانقلابها آنذاك، لتصادر الحريات الفكرية والسياسية وتمارس أقسى أنواع البطش والتنكيل بكل من يعارضها من المثقفين العراقيين.
وإذا كانت مسرحية (أين الحقيقة) في ثيمتها الأساس تتردد كثيراً على المنطوق الاجتماعي للوقائع فقد أفردنا الإشارة إليها هنا بسبب ما اختطه المؤلف لها من تقنية مغايرة في تقديم الحدث وتقصي حركيته التي جاءت متجاوزة تشكله الحواري على ألسنة الشخصيات الرئيسة بل من خلال إعادة الوقائع تمثيلاً داخل النص وبجهد شخصيات أخرى تتقمص أحوال الشخصيات الأساس وهيآتها، وتنطق بما كان قد دار بين تلك الشخصيات من حوارات، عبر تداخل الماضي بالحاضر الذي تتحرك فيهما أحداث المسرحية في مسعاها لكشف الحقيقة الضائعة عن انتحار الشخصية الرئيسة فيها، تلك التي يقع الصراع بين مختلف الشخصيات في تقييمها سلوكياً، لتكون الرؤية المركزية لهذه المسرحية تلك القناعة التي ترد على لسان المخرج -وهو إحدى شخصيات تلك المسرحية- حيث يقول: «إن إدراك الحقيقة أمر صعب جداً في كل زمان ومكان، إذ ليس هناك حقيقة مطلقة، فكل منا ينظر إليها من زاويته الخاصة»( ).
حين تغادر مسرحيات الدكتور شاكر خصباك تلك التوجهات الاجتماعية الرصينة الحضور فيها فإن معالجاته ستذهب إلى حيث تتبنى أفقاً لا يبتعد عن ذلك كثيراً، وإن بدت له سياقاته الفكرية الخاصة والتوطيد التعبيري الدال عليها.
إن انشغالاً متميزاً يذهب لتشكيل الوقائع في تقنية مغايرة، تبتعد عن الملاحقة المتواترة التي تمسك بالحدث منذ بدايات تشكله لتسيره حتى آخر خيوطه. فهو -أي النص- يأتي من خلال الوقوف عند واقعة بعينها ورصدها لا بوصفها حدثاً بل من خلال تشكلها رؤية ذهنية تطل بمحمولها اليقيني الراسخ في الوعي الإنساني المتأمل لها. وهذا نوع من النصوص المسرحية يمكن تسميته بـ(النص الرؤية) وهو ما يمكن التمثيل له بمسرحية (الدكتاتور) التي لاحقت جوانب من سير الحكام والملوك والأباطرة على مر التاريخ، وتأملت أفكار كثير منهم وأفعالهم وادعاءاتهم التي تسعى إلى تبرير صفحات تاريخهم الدموي وتلميعها لتنتهي عند القول بأن ما شهده التاريخ الإنساني هو مسار متواتر من التناسل الدرامي لأولئك الملوك والحكام المستبدين، مهما تبدلت أسماؤهم وتعددت أزمنتهم، وهي قناعة طالما رددها الدكتور شاكر خصباك في كتاباته الفكرية وكذلك في عدد من نصوصه السردية المختلفة( ).
إن اهتماماً بيناً بهذا النوع من نصوص الرؤية هو ما نشهده في بعض أعمال خصباك المسرحية -ولاسيما تلك النصوص القصيرة ذات الفصل الواحد- حيث لم تكن الوقائع لتتطور فيها كثيراً لأنها قامت على تأسيس لرؤية مسبقة يكون النص تقولاً لاحقاً عنها( ).
ينال الصراع في أعمال خصباك المسرحية مارة الذكر توصيفه المتعدد الذي يشهد تداخلاً بين ما هو (صراع حسي) تعايشه الشخصيات ويتأطر وجودها النصي من خلاله، ليمسي هوية سلوكية لها، وما هو (صراع ذهني) بعكس الأبعاد الفكرية ومستوى الوعي الذي يتراص فيه وجود الشخصيات على جانبي الصراع وقيمه التي يؤشرها النص. ومن هنا فقد بدا أن ذلك الصراع الذي تصنعه تباينات في الوعي والمواقف مهيأ لأن يقع في أي لحظة من مسار الحدث وحركيته لأن نتيجة حتمية لما تحمله الشخصيات وتؤسس عليه مواقفها. ومن سمات الصراع في نصوص خصباك انسيابيته الطبيعية وابتعاده عن أن يكون مفاجئاً أو مسرفاً في التهويل وغرابة التصرف، مثلما لا يتصاعد في الغالب عليه ليصبح عدوانياً مدمراً للشخصيات على جانبيه، فهو يتأطر في حيز التمثل الواقعي الذي لا يكسر أفق انتظار التلقي عبر تمثله لما يحصل مكروراً في الحياة اليومية لمجتمعاتنا.
ومن هنا فقد انتهت معظم النصوص تاركة بعدها مساحات بيضاء لنهايات مفتوحة يمكن للمتلقي أن يضعها لاحقة للأحداث التي حواها متن النص، يكون الاستناد فيها إلى خبرة القارئ وما يواجهه من تجارب مماثلة، لا شك في أنه قد شهد بعضها فيما يجري حوله.
(3)
يضع الدكتور شاكر خصباك شخصيات نصوصه المسرحية على نحو نسقي خاص، ومما يجعلها تتداول ثيمة الصراع على مستوى من التماثل السلوكي في وقائع شاخصة الحضور الاجتماعي، لتعايش صراعاً بحدود تلك الوقائع وغاياتها وهي معبأة بترسم قيمي محدد لها مسبقاً، فيه كثير من قناعات المؤلف وأبعاد رؤيته التي يمكن تلمس محمولاتها الفكرية فيما قدمه من كتابات فكرية أو عايشه من أحداث واستجابات أعلنت عن الوجهة التقدمية الرصينة التي تبناها قناعات ومساراً لمنجزه الأدبي.
لقد غلب على مسرحيات خصباك توجهها لتجسيد واقع بعينه هو ذلك الذي تعايشه الطبقة الوسطى، وهي طبقة مثقفة، لها تطلعاتها المخبرة عن خصائص وجودها الاجتماعي وانشغالاته وكذلك المقدرات الذهنية والثقافية التي تصنع لها مكانتها ودورها الإنساني البارز.
إن شخصية (الطبيب) و(المحامي) و(الصحافي) و(المدرس) والسياسي ذي الوعي الناضج هم التشكيل البارز في أعمال خصباك المسرحية.
وبإزاء شخصية الرجل فإن مساحة متساوية للشخصيات النسائية هي ما تبرز في النصوص جميعاً، فبمواجهة شخصية (صادق) في مسرحية (القضية) كانت هناك زوجته (وفية)، وبمقابل (صلاح) كانت زوجته (راقية) في مسرحية (بيت الزوجية) ومثل ذلك ما كانت عليه مسرحية (العنكبوت) التي وضعت الزوجة (منيرة) على حدّ من الفعل مع زوجها (جابر). وكذلك كان وجود (عاطفة) مماثلة لزوجها (صالح) في مسرحية (الغرباء). ومع وجود هذه الثنائية العائلية المتساوية بين الزوجين فإن حضوراً لشخصيات نسائية أخرى يتحقق بمقدار ما كان للرجال منه، وتتمثل في أعداد الأبناء والبنات والإخوة والأخوات والأقارب والقريبات، وذلك كله يرد لتأكيد البعد الواقعي الذي تأسست على مرتكزاته نصوص خصباك جميعها، مثلما يجسد وعي كاتبها لدور المرأة ومكانتها الاجتماعية المتميزة، لاسيما وهي تعبر عن انتمائها إلى تلك الطبقة الوسطى ذاتها، وتتحسس وجودها الفاعل فيها.
يؤكد الدكتور شاكر خصباك في إحدى نظراته أهمية دور الفرد المتميز بمواقفه ومقدرته على الصمود والمواجهة. ولكنه يرهن تلك المكانة بما يمكن أن تحققه من فعل اجتماعي يأخذ بالاتساع فعنده: «إن صمود الفرد الواحد له أهمية.. لأن هذا الصمود سيكون الشرارة التي تشب منها النار، فالفرد الواحد سيتحول إلى أفراد، والأفراد سيتحولون إلى مجموعة، والمجموعة ستتحول إلى مجاميع، إلى أن يصبح الفرد جمهوراً عظيماً يندفع كالسيل العرم في مواجهة الطغيان»( ).
لقد تبنى خصباك هذه الرؤية في نصوصه المسرحية، وهو يخبر عنها من خلال الغياب الواضح لتلك الشخصية التي توصف بالبطل الفرد، فوجود مثل هذه الشخصية لا يترسخ في النص إلا وهو يحقق تفاعله الاجتماعي مع سواه من الشخصيات التي تقف معه على قدم واحدة من المساواة وبها يصنع لتلك النصوص بطولة جمعية مشتركة، تنعكس في محددات الصراع الذي يأخذ طابعاً مجتمعياً، تتكيف الشخصيات فيه عبر حالة من التراصف التي تتبناها مجموعة منها، لتواجه نقيضها من الشخصيات، وهي تقف على الطرف الآخر.
تبقى ملاحظة أخيرة يمكن تأملها بشأن تلك الشخصيات وتتمثل في إعلان كثير منها عن حضوره في النص، ليس من خلال دورها في سياق الأحداث ومقدرتها الفاعلة على تحريكها باتجاه متصاعد بقدر ما كان وجودها مؤسساً على محمولها الذهني الذي اختطه الكاتب لها، وتدخله في وضع حوارات محددة تبوح بها، وبما يؤشر تشخيصها على نحو ذهني أكثر مما هو فاعلية حضور سلوكي مؤثر، وذلك ما عكس هيمنة دالة لذهنية شاكر خصباك الروائي على الآخر المسرحي فيه وهي مسألة كان (جورج سانتيانا) قد تنبه لها وهو يحدد الطريقة التي يقدم كل من الروائي والمسرحي عملهما فيها، فعنده أن الروائي إنما يرى الأحداث عن 00طريق أذهان الآخرين، في حين أن المسرحي يتيح لنا رؤية أذهان الآخرين عن طريق الأحداث( ).
(4)
تتجلى في نصوص الدكتور شاكر خصباك المسرحية جملة من الدلالات الفنية والتقنيات التعبيرية التي تؤشر -على نحو أو آخر- مساحة الاستجابة لقيم الصراع ومنطلقاتها، ليتواشج ذلك كله مع مجمل العناصر التي أفصحت عنها تلك التجارب المسرحية المقدمة.
إن نظرة عامة لطبيعة بناء المسرحية الكمي عند خصباك تظهر أن مجمل مسرحياته قد وردت بفصول ثلاثة أو ما هو دون ذلك. وعندنا فإن تلك واحدة من محددات الرؤية الواقعية التي أقام الكاتب مسرحه عليها.
لقد كان من تقاليد المسرحية في عصر النهضة بناؤها على أساس الفصول الخمسة، وهي في ذلك تواصل التقاليد التي أرساها المسرح الإغريقي ثم المسرح الروماني من بعده وتلتزم باشتراطاتها( ).
وحين برزت المذهبية الواقعية في المسرح فقد سعت إلى تجاوز ذلك التقليد وتبني فكرة قيام المسرحية على فصول ثلاثة أو أقل من ذلك وهو ما تمثله الكتاب الواقعيون، ومنهم الدكتور شاكر خصباك، فجعل كذلك مسرحياته: القضية، الشيء، الغرباء، العنكبوت، أين الحقيقة.
أما المسرحيات الأخرى فقامت على فصلين كمسرحياته: بيت الزوجية، التركة.
في حين لم تتجاوز المسرحيات: المخذولون، الغائب، القهقهة، دردشة، هو وهي، اللص الفصل الواحد. أما مسرحية (الجدار) فقامت على أساس اللوحات التي بلغت تسعاً.
تتأطر لغة النص المسرحي عند شاكر خصباك في ثلاثة أبعاد:
الأول: هو التوجه الفني الممسك بالنزعة المذهبية الواقعية وما هي عليه من حرص على أنساق لغوية تستجيب لمقتضيات التعبير فيها.
الثاني: طبيعة التأسيس الفكري والسلوكي الذي اختطه لشخصياته ومسعاه إلى جعل حواراتها متجانسة مع ما لها من حصة في الوعي والثقافة، والارتهان الطبقي المتعين فيها.
الثالث: نوعية الانشغالات والمشكلات التي تواجهها تلك الشخصيات، والكيفيات التي تؤطر موقفها منها، تلك الانشغالات التي لم تكن مكابدات ذهنية ذات طبيعة تأملية لقضايا وجودية كبرى، بما تستوجب معه لغة عالية تسايرها، مثلما لم تكن انشغالاتها من النمط الشعبي المباشر في تعبيريته، وهو ما تناسبه اللهجة الشعبية أكثر من سواها( ).
لقد نأى خصباك بحوارات شخصياته عن هذين النمطين ليأتي به في لغة وسطى بينهما، فهي مع كونها لغة عربية فصيحة إلا أنها من السهولة ووضوح المسعى التعبيري ما بدت فيه قريبة جداً من اللغة اليومية المحكية، ولاسيما لدى الفئة المثقفة التي كانت شخصيات نصوصه كلها تقريباً نماذج دالة عليها. وحين يجد الكاتب ألا مناص من إيراد المفردة الشعبية فإن قصدية واضحة لديه هي التي تستدعي ذلك، فهو يورد بعض الألفاظ والعبارات لتبيان حدود الشخصية وما تتوافر عليه من ذخيرة وعي خاصة بها( ).
لا خلاف على حقيقة أن الحوار هو العنصر القادر على توطيد الوجود المعلن للنص المسرحي والتكوين المشخص لحركية الحدث وإبراز الشخصيات في أبعاد واضحة الملامح.
وإذا سبقت الإشارة إلى طبيعة اللغة الحوارية التي وظفها الكاتب في نصوصه فإن ما نود تأشيره هنا متعلق بطبيعة الحوار ومسار حركيته لإنجاز الواقعة النصية. فلكون معظم الشخصيات مؤسسة فكرياً على نحو مسبق وبحدود معقولة من الوعي وأسباب الثقافة فإن جدلاً ذهنياً متسعاً تضمنته حواراتها التي ربما طال بعضها حتى ليتجاوز الجد المتاح من تبادل الحديث بين الشخصيات في الواقع الفعلي الذي تعكسه تلك المسرحيات. لقد كان ذلك سبباً في جعل حركية الأحداث واضحة البطء وتلك حالة منطقية متوقعة، فحين يكون الحوار منشغلاً بتأكيد الوجود الذهني للشخصية فإن حركة الوقائع لن تكون بالمقدار ذاته من الفاعلية والتصاعد في نموها التي نلمسها فيما لو تبنى حوار تلك الشخصيات نزوعها نحو الممارسة السلوكية وما تتخذه من مواقف معلنة تواجه بها الشخصيات الأخرى التي تناهضها.
يأخذ الاسم في عنوانات النصوص المسرحية وكذلك فيما تخيّره الكاتب لشخصياته منه - سمات متعينة فيه تجعله جديراً بالتأمل بوصفه فاعلية لغوية دالة.
فلقد أشرت عنوانات المسرحيات -في الغالب عليها- أفق التوجه الواقعي الذي كان عند الكاتب وسيلة وغاية في الآن نفسه لتقديم رؤاه ومقاصده. ومن هنا فقد غلب على سياقات العنونة عنده تمثلها المباشر لموضوعة النص فعنوانات من مثل: (بيت الزوجية) و(الغرباء) و(التركة) و(أين الحقيقة) و(المخذولون) و(البهلوان) و(الواعظ) و(ليل له آخر) إنما تضع أفق التلقي في مواجهة مدركة لتفوهات النص ومحمولاته الدلالية.
وفي المقابل فإن عنوانات من مثل: (الشيء)، (العنكبوت)، (الدكتاتور)، (القهقهة)، (الجدار)، (في انتظار جودو) تتطلب حيزاً من التأويل المؤجل الذي لا يمكن نيله وفهم مغزاه الدلالي إلا بعد قراءة النص المسرحي كاملاً.
وحين تأمل الأسماء التي تخيرها الكاتب لشخصياته فإن تبيان المقاصد الواقعية التي يرقى إليها لن تكون بعيدة، إذ حملت تلك الأسماء دلالات متعددة، يعبر بعضها عن البعد الواقعي لها، مثلما يؤشر جانباً من التشخيص الشعوري والسلوكي الذي حملها الكاتب إياه، إذ لم تغادر مسميات الشخصيات ما يتم تداوله في المساحة الاجتماعية التي ترصدها النصوص، وهي تذهب إلى معاينة جوانب من حياة الطبقة الوسطى التي سبق لنا تحديد بعض من سماتها.
لقد بدا على أسماء كثير من الشخصيات -ولاسيما الرئيسة منها- أنها تستجيب كثيراً لملامح رسم الشخصية والأبعاد الشعورية والسلوكية التي أرادها الكاتب لها، ليتمثل كثير منها المحتوى الدلالي الذي يدل عليه اسمه، ففي مسرحية (القضية) كانت شخصية (صادق) متطامنة تماماً مع اسمها، إذ لم تغادر هذه الشخصية حالة التيقن الفكري التي هي عليها حتى حين أرغمتها الاحتياجات العائلية على الرضوخ لغير ما تؤمن به. فلقد جعلها دفاعها عن قيم تأسيسها النبيل تختار الصمت ملاذاً تواجه به رغبات من حولها. وكان (راشد) في المسرحية ذاتها رجل مخابرات، ولعلها غير خافية تلك الصلة بين وظيفته وما يوحي به اسمه.
وكانت (وفية) زوجة (صادق) تجسيداً معبراً عن دلالة اسمها فقد حافظت على تلك الصفة إلى آخر المسرحية.
وإذ كان وجود (صلاح) في مسرحية (بيت الزوجية) متوافقاً مع دلالة اسمه، حيث جسدت مواقفه وأفكاره ذلك المعنى، فقد كانت زوجته (راقية) متماهية مع دلالة اسمها أيضاً عبر سلوكها المتعالي وغرورها، ومفاخرتها بانحدارها الاجتماعي.
وفي مسرحية (الغرباء) بدت شخصيته (عاطفة) استجابة تامة لمعنى اسمها فهي غاية في الحنو على كل من هم حولها. أما مسرحية (الشيء) فقد كان اللافت فيها حضور السجناء جميعاً بالأسماء الشخصية الدال عليهم، في حين تم الاكتفاء بالرتب العسكرية لسجانيهم: (الرئيس)، (الرائد)، (الملازم)، (نائب الضابط) وذلك ما نرى فيه تجسيداً لرؤية الكاتب في تأكيد البعد الاجتماعي المتنوع الذي جاءت عليه الشخصيات المضطهدة لتمثل فئات الشعب كلها، بإزاء غياب المسمى الخاص -الذي هو جزء من الوجود الإنساني لكل منا- عن الشخصيات المتسلطة على أولئك السجناء، لتكون تجسداً لنظام عسكري، لا ملامح له كان قد فرض نفسه على الشعب بقوة السلاح.
نشارك أحد الباحثين المسرحيين القناعة في حرص كتاب المسرح الواقعي على ذكر المكان وتأثيثه بموجودات حقيقية، تعكس هيأته التي هو عليها، استناداً إلى عالمها الحقيقي، وهو عالم محدد ودال على مجموعة اجتماعية (جماعة، شريحة، طبقة)، وبما يفصح عن حالة التطابق بين الأشياء على المسرح والأشياء في الواقع( ).
لقد كانت مسرحيات خصباك التزاماً طيعاً بهذه الرؤية وتنفيذاً مؤكداً لها، فقد طال تردده في نصوصه على المكان الواقعي بتكويناته، وبما يعلنه عن المستوى الاجتماعي للشخصيات التي تعيش فيه، فكان الغالب على توصيف المكان عنده أنه مكان (عائلي): بيت أو صالة أو حديقة. تؤطر بموجودات معهودة من الأثاث والمستلزمات العائلية الأخرى. حتى أمسى ذلك لازمة توصيفية يضعها الكاتب في بداية نصه. فهو إما أن يكون: «صالة متوسطة السعة ذات أثاث بسيط» (مسرحية القضية، 5/21). أو هو: «صالة متوسطة السعة صفت حول جدرانها المقاعد الخشبية الطويلة. تبدو المقاعد قديمة لكن أفرشتها نظيفة. في ركن الصالة يقوم تلفزيون على منضدة عالية الأرض مفروشة ببساط شعبي. للصالة بابان، أحدهما باب الدار الرئيس والثاني ينفتح على ممر تتوزع فيه بقية الغرف ومرافق الدار. في نهاية الممر باب يؤدي إلى الحديقة»(مسرحية التركة، 5/101).
أو يأتي وصفه على النحو الآتي: «غرفة الاستقبال فسيحة، وذات أثاث حديث تتوزع الزهور في أرجائها» (الغرباء، 4/193).
أو كما يلي: «غرفة ذات أثاث متواضع يشتمل على سرير ومنضدة كتابة وخزانة كتب وخزانة ملابس وأريكة وبضعة كراسي» (بيت الزوجية، 4/251).
وسيلاحظ أن الكاتب وحين يخرج عن المكان الاجتماعي المعهود (البيت) فإن وصف ذلك المكان البديل يكاد يكون مجملاً وخالياً من التفصيلات، فحين كان المكان في مسرحية (الشيء) هو السجن فقد جاء وصفه كما يلي: «زنزانة ضيقة لا تزيد مساحتها على تسعة أمتار مربعة، ذات نافذة صغيرة في أعلى الجدار المواجه للباب. الزنزانة عارية من الأثاث كلياً» (4/69).
أما في مسرحية (الدكتاتور) فلكون المكان ذا طبيعة مطلقة، فليس هناك من إشارة تفصيلية عنه، حيث وصفه المؤلف بالآتي: «الستارة مفتوحة والمسرح مضاء بنور خافت، في صدر المسرح كرسي تخطف أنواره البصر وقد سلط عليه ضوء ساطع» (5/171).
أما مسرحية (أين الحقيقة) فقد جاء وصف المكان: «تجري أحداث المسرحية في ميدان عام تحيط به الأشجار» (5/255).
وفي مجمل المسرحيات فقد تبدت على المكان صفة (الحيادية) إذ هو لا يكاد يضفي على وجود الشخصيات فيه، وكذلك على أفعالها وما تنجزه ما يدل على فاعليته، فتلك الشخصيات يمكن لها أن تنتقل إلى غيره ويظل صراعها قائماً.
لقد كانت المهمة الأبرز للمكان في نصوص خصباك هي تأطير وجود الشخصيات وتكريس مساحة التمثل الاجتماعي لحركتها فيه. أما عنصر (الزمان) فقد بدا عليه أنه مطلق غالباً، حتى ليخلو من أية استجابات لأبعاد التأطير التاريخي ودلالتها التي إن وجدت بعض ملامحها فإنها لا تمثل استيقافاً زمانياً للوقائع وما تجسد فيها من صراع سلوكي أو قيمي بل إن تلك الزمانية تنفتح وعلى نحو مثير لتؤكد حضورها المتواتر في الأحوال المتماثلة مع ما يرصده النص المسرحي من مشكلات اجتماعية أو استيقافات فكرية.
لقد كان خصباك حريصاً على رمزية الزمان في نصوصه وأفقه المتسع لكل الحالات المماثلة التي تشهد تكرار الواقعة ذاتها.
ففي مسرحية (الشيء) مثلاً كان المكان هو (السجن) وكان (زمان) الواقعة حقيقياً وهو العام 1963م وما شهده من انقلاب عسكري وقتل واعتقالات لكل معارضيه. ولكن النص وهو يرصد تلك الزمانية المؤشرة تاريخياً لا يقيد وقائعه وشخصياته بإطارها الضيق بل ينفتح بها ليكون تمثلاً لهذه الواقعة وغيرها، وهو ما يمكن الحديث عنه في أزمنة سابقة وأخرى لاحقة تتطابق مع هذا الذي يشهده النص.

خاتمة:
لم يعرف عن الدكتور شاكر خصباك ميله إلى المسرح الحديث جداً( ). ومرد ذلك عنده ما أرساه لتوجهاته المسرحية من أفق واقعي التزم به، ولم يحد عن اشتراطاته مطلقاً بل ظل يواكبه وينطلق منه لتجسيم الواقعة الاجتماعية وإبراز مضامينها.
لقد تمثلت نصوصه المسرحية في ثيماتها الأساس تلك الوجهة المنشغلة بالواقع الراهن والمتلبسة لقضاياه، والكيفيات التي تشكل فيه أحداثاً ومواقف، راحت تلك النصوص تعيد إنتاجها بإصرار مدرك، وهو ما تكشفت من خلاله فاعلية صراع آني ومكرور يقف كل منا على مقربة منه، بل إنه ليعاينه ويعانيه يومياً شاخصاً في السلوكيات والمواقف والرؤى التي تهيمن من حوله في أحوال من الاشتباك الدائب.
إن طبيعة الصراع -في الغالب على مسرح شاكر خصباك- هو ما يعكسه سلوك الشخصيات ومواقفها وليست القوى القدرية الخارجية، مثلما ليست هي الدوافع الشعورية والانفعالات الضاغطة على دواخل الشخصيات التي تؤدي بها إلى نوع من الهيجانات السلوكية غير المتزنة أو غير المتوقعة. إن ما رصده شاكر خصباك في نصوصه المسرحية هو انهماك الشخصيات بواقعها وحدود وعيها الذي تخيرته، ليكون هو المجسد لحركية الصراع وتمثلاته، حيث يتوازى ذلك مع حضور النوازع الذاتية والرغبات المؤشرة في السلوك البشري المعهود وبأبعاده الشعورية واللاشعورية، ليصنع الحد التشخيصي للشخصيات وأبعاد صراعها مع سواها، ولاسيما تلك التي تتضاد معها. ولعل من اللافت للتأمل أن هذه الوجهة الاجتماعية هي الأقرب للتشخيص على خشبة المسرح وجذب الجمهور المتسع لمشاهدتها والاستجابة لما تعرضه من موضوعات اجتماعية تشغله كثيراً ويعايشها في واقعه اليومي المعيش. ولكن خصباك -وهو يكرس جهده المسرحي لمثل تلك التوجهات- يفاجئنا بقوله: «أنا لا يهمني أن تمثل مسرحياتي، أو أن تروج في السوق بل يهمني أن أعبر عن آرائي الخاصة»( ).
وعندنا فإن ذلك مؤسس عنده على قناعة فنية أكثر منها موضوعية عن طبيعة مسرحياته التي أخذت سمتاً أدبياً يكون الاشتغال الذهني فيه هو الهم الأول للكاتب، متجاوزاً بسببه النزعة المطلوبة لتحريك الأحداث على نحو درامي تتدافع فيه ثيمات الإثارة والتهويل والمبالغة في تجسيم الحدث وإظهاره( ).
الهوامش:



#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ستون عاماً من الإبداع(1-2)
- شذرات
- قصة حب
- الفصول الاربعة
- موت نذير العدل
- أين الحقيقة؟
- نهاية إنسان يفكر
- الواعظ
- التركة
- خواطر فتاة عاقلة
- العنكبوت
- الخاطئة
- رسائل حميمة
- انطوان تشيخوف -دراسة نقدية-
- الرجل الذى فقد النطق
- امرأة ضائعة
- صراع -مجموعة قصصية-
- بيت الزوجية -مسرحية-
- ذكريات ادبية
- القهقهة ومسرحيات اخرى


المزيد.....




- شاهد.. رجل يشعل النار في نفسه خارج قاعة محاكمة ترامب في نيوي ...
- العراق يُعلق على الهجوم الإسرائيلي على أصفهان في إيران: لا ي ...
- مظاهرة شبابية من أجل المناخ في روما تدعو لوقف إطلاق النار في ...
- استهداف أصفهان - ما دلالة المكان وما الرسائل الموجهة لإيران؟ ...
- سياسي فرنسي: سرقة الأصول الروسية ستكلف الاتحاد الأوروبي غالي ...
- بعد تعليقاته على الهجوم على إيران.. انتقادات واسعة لبن غفير ...
- ليبرمان: نتنياهو مهتم بدولة فلسطينية وبرنامج نووي سعودي للته ...
- لماذا تجنبت إسرائيل تبني الهجوم على مواقع عسكرية إيرانية؟
- خبير بريطاني: الجيش الروسي يقترب من تطويق لواء نخبة أوكراني ...
- لافروف: تسليح النازيين بكييف يهدد أمننا


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - شاكر خصباك - ستون عاما من الابداع(2-3)