أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - شذرات















المزيد.....



شذرات


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2564 - 2009 / 2 / 21 - 07:46
المحور: الادب والفن
    


الاحتفال
شخصيات المسرحية:
أندريا أندريفتش شيبوتشين : رئيس مجلس إدارة مصرف القرض المتبادل لمدينة ن، شاب بنظارة.
تاتيانا ألكسيفنا : زوجته، عمرها خمس وعشرون سنة.
كوزما نيكولايفيتش هيرين : محاسب المصرف، عجوز.
ناستاسيا فيدوروفنا مرتشوتكين: امرأة عجوز.
أعضاء مجلس الإدارة.
(تجري الحوادث في مصرف القرض المتبادل لمدينة (ن). مكتب المدير العام. على اليسار باب تؤدي إلى قسم الحسابات. منضدتان للكتابة. المكتب مفروش بشكل ينم عن ذوق؛ ستائر مخملية، أزهار، تماثيل، سجاد، تلفون. الوقت منتصف النهار. هيرين وحيداً، وهو يرتدي غطاء حذاء من اللباد).

هيرين - (يصيح عند الباب) ابعث شخصاً إلى الصيدلي ليحضر الدواء، واسألهم أن يجلبوا ماء نظيفاً لمكتب المدير. أمن الواجب أن أخبرك مائة مرة؟ (يتجه إلى المنضدة). إنني استهلكت كلياً. مضت عليّ ثلاثة أيام بلياليها وأنا أكتب دون أن يغمض لي جفن... منكباً على العمل هنا من الصباح حتى المساء، ثم أواصل العمل في البيت من المساء حتى الصباح. (يسعل) إنني فريسة للأمراض. أرتجف، أسعل، درجة حرارتي مرتفعة، وساقاي تؤلمانني. وهناك كل نوع من... النقط والخطوط أمام عيني. (يجلس) إن هذا الحال ليؤثر حتى في الحمار. سيقرأ مديرنا المحتال تقريراً اليوم في الاجتماع العام... مصرفنا في حاضره ومستقبله... (يكتب) اثنان... واحد... واحد... ستة... صفر... ستة... إنه يريد أن يملأ الفراغ، وعليّ أن أجلس هنا وأعمل كما يعمل الخادم في مطبخ السفينة. إنه لم يساهم في هذا التقرير إلا باللمسات الشعرية، وتركني أعمل فيه وحيداً لأيام عديدة، أجمع وأطرح الأرقام. فليأخذ الشيطان روحه. (يعدّ في لوحة الحسابات). لا أستطيع احتمال الرجل. (يكتب) واحد... ثلاثة... سبعة... اثنان... واحد... صفر... إنه وعد بمكافأتي على عملي. إذا سار كل شيء اليوم على ما يرام، وأفلح في خدع الجمهور فسيقدّم لي مدالية ذهبية ومكافأة مالية قدرها ثلاثمائة روبل كما وعد... سنرى (يكتب). وإذا لم أنل شيئاً لقاء أتعابي فعليه أن يحتاط لنفسه... إنني رجل نزق. قد أقدم على ارتكاب أية فعلة إذا أثرت... نعم (يسمع وراء المسرح ضوضاء تصفيق. صوت شيبوتشين: «شكراً، شكراً. لقد هززتم مشاعري». يدخل شيبوتشين وهو مرتد سترة رسمية ورباطاً أبيض وبين يديه «ألبوم» أهدي إليه قبل دقائق).
شيبوشتين - (يقف عند الباب وينظر إلى قسم الحسابات) سأحتفظ بهديتكم هذه أيها الزملاء الأعزاء حتى يوم مماتي، ذكرى للأيام السعيدة في حياتي. أجل أيها السادة. إنني أقدم لكم شكري مرة أخرى (يطير إليهم قبلة، ويتجه نحو هيرين) يا عزيزي كوزما نيكولايفيتش الطيب...
(يقدم الكتّاب إلى المسرح بين حين وآخر وبيدهم أوراق يوقعها شيبوتشين ثم يخرجون).
هيرين - (ينهض) أتشرف بتقديم تهنئتي إليكم بمناسبة العيد السنوي الخامس عشر لمصرفنا، وآمل أن...
شيبوشتين - (يضغط على يديه بحرارة) أشكرك أيها الزميل القديم المحبوب. أحسب أن في وسعنا بهذه المناسبة المجيدة، بمناسبة هذا العيد، أن نتبادل القبل. (يتبادلان القبل) إنني مسرور جداً، جداً. شكراً على عملك الممتاز، على كل شيء. وإذا كنت قد أنجزت أي شيء مفيد خلال هذه الفترة التي تقلدت فيها وظيفة رئيس مجلس الإدارة فالفضل يعود إليك أولاً وإلى زملائي الآخرين ثانياً. (يتنهد) أجل أيها الزميل القديم، خمسة عشرة عاماً، خمسة عشرة عاماً بالتأكيد كما لا شك في أن اسمي شيبوتشين. (في شوق) وماذا عن تقريري؟ أهو سائر على ما يرام؟
هيرين -- نعم، لم يتبق سوى خمس صفحات.
إشيبوشتين- إذن سيكون معداً حتى الساعة الثالثة؟
هيرين - إذا لم يؤخرني أي شخص فسأفرغ منه. لم يتبق منه سوى شيء قليل.
شيبوشتين - عظيم، عظيم، كما لا شك في أن اسمي شيبوتشين. سيكون الاجتماع العام في الساعة الرابعة. اسمع يا زميلي العزيز، دعني آخذ النصف الأول، سألقي عليه نظرة.. أسرع، ناولني إياه... (يأخذ التقرير).. إنني أتوقع أموراً عظيمة من وراء هذا التقرير... إنه قنبلتي في الاجتماع... قنبلتي كما لا شك في أن اسمي شيبوتشين... (يجلس ويقرأ في التقرير) ومع ذلك فأنا أشعر بإرهاق شيطاني... هاجمني داء المفاصل في الليلة الماضية. وأمضيت ساعات الصباح في الجري من مكان إلى آخر لقضاء بعض الأعمال. ثم هذا الانفعال.. هذا الاحتفال... إنه لأمر مزعج للغاية. إنني متعب.
هيرين - (يكتب) اثنان... صفر... صفر... ثلاثة... تسعة... اثنان... صفر... الأرقام تصيب عيني بالدوار... ثلاثة... واحد... ستة... أربعة... واحد... خمسة (يخشخش في لوحة الحسابات).
شيبوشتين - وهناك مسألة مزعجة أخرى. جاءت زوجتك هذا الصباح وشكتك إليّ مرة أخرى. قالت إنك جريت وراءها ووراء أختها أمس وأنت تحمل سكيناً. كوزما نيكولافيتش، ماذا بعد؟! أي... أي!
هيرين - (بانزعاج) سأخاطر يا أندريا أندريفيتش، بمناسبة هذا الاحتفال، وأسألك أداء خدمة لي، ولو جزاء عملي هنا كالعبد، وهي ألا تتدخل في شؤون العائلة. أرجوك..
شيبوشتين - إن لك مزاجاً لا يطاق يا كوزما نيكولافيتش. أنت إنسان عظيم لا سبيل إلى تقديره، لكنك تتصرف كجاك الحرامي مع النساء. أنت تفعل كذلك حقاً؛ لست أستطيع أن أفهم لماذا تكرهن إلى هذا الحد.
هيرين - ولست أستطيع أن أفهم لماذا تحبهن أنت إلى هذا الحد. (فترة صمت).
شيبوشتين - قدّم إليّ الكتّاب الآن «ألبوما» وقد سمعت أن أعضاء مجلس الإدارة سيحيونني بخطاب ويقدمون إليّ كأساً فضية. (يداعب نظارته) إن هذا شيء جميل كما لاشك في أن اسمي شيبوتشين. لابد أن يعمل الإنسان في سبيل الخير. لابد أن تنالنا بعض المتاعب من أجل المصرف. فليأخذه الشيطان. إنك واحد منا، وأنت تعرف عن الأمر كل شيء. لقد كتبت الخطاب بنفسي، واشتريت الكأس الفضية على حسابي الخاص. ولقد كلفني رباط الخطاب وحده خمسة وأربعين روبلاً. ولكن لابد من هذا، فهم لا يتذكرون هذه الأمور من تلقاء أنفسهم. (يتطلع حواليه) تأمل هذه الاستعدادات التي أجريناها على المكان. ألا يبدو جميلاً؟ إنهم يقولون لي إن فكرة صقل الأقفال وارتداء الموظفين أربطة جديدة ووقوف بواب ضخم في المدخل فكرة بديعة جداً. لا شيء في ذلك يا سيدي العزيز. ليس ثمة أي شيء بديع في صقل الأقفال أو وقوف البواب في المدخل. قد أكون في البيت شديد الخشونة، وقد آكل وأنام كالخنزير، وأشرب حتى أسكر، لكنني...
هيرين - دع التلميحات من فضلك.
شيبوشتين - ليس هناك تلميحات. يا لها من طباع لا تطاق هذه التي تتحلى بها! حسناً، ربما كنت شديدة الخشونة في البيت كما قلت، ربما كنت محدث النعمة متخلياً عن عاداتي، لكنني أبذل هنا أقصى جهودي لخلق شيء جليل. هذا هو المصرف. لابد أن تكتسب أية مسألة هنا مهما كانت تفاهتها صفة خطيرة مؤثرة، وأن يكون لها جو خطير. (يلتقط قصاصة من الورق ويلقيها في النار). لقد تحملت على عاتقي رفع سمعة المصرف... السمعة شيء عظيم... شيء عظيم كما لاشك في أن اسمي... (يدقق النظر في هيرين) يا عزيزي، قد يحضر المفوضون من قبل أصحاب الأسهم في أية لحظة وأنت جالس في هذه السترة التي لا لون لها، مرتدياً غطاء حذاء من اللباد... كان ينبغي عليك على الأقل أن ترتدي سترة رسمية... أو سترة «فراك» سوداء.
هيرين - صحتي أهم عندي من أصحاب الأسهم. إنني أقاسي من الالتهابات في جميع أجزاء جسدي.
يبوشتين - (يزداد انفعاله) لكن هذا الوضع لا يناسب المقام! أنت تفسد انسجام الحفل.
هيرين - إذا حضر المفوضون فسأختفي عن الأنظار. إنها ليست مسألة هامة. (يكتب) سبعة... واحد... سبعة... اثنان... واحد... خمسة... صفر... أنا لا أحب أي شيء لا يناسب المقام... سبعة... اثنان... تسعة... (يخشخش في لوحة الحسابات) لا أستطيع أن أهضم أي شيء لا يناسب المقام. فمثلاً كان الأفضل ألاّ تدعو السيدات إلى حفلة العشاء التي تقام بمناسبة هذا الاحتفال...
شيبوشتين - يا له من هذر!
هيرين - أنا أعلم أنك ستملأ بهن غرفة الاستقبال، لتعمل منهن معرضاً بديعاً، ولكن تذكر أنهن سيفسدن لك الحفلة. إنهن مصدر كل إزعاج وكارثة.
شيبوشتين - الحقيقة عكس ما تقول كلياً. إن مجتمع النساء يهذب النفوس.
هيزين - أحسب أن زوجتك ذات ثقافة راقية، ومع ذلك فقد قالت شيئاً يوم الاثنين الماضي لم أستطع أن أنساه خلال اليومين التاليين لشدة غرابته. فقد هتفت فجأة أمام الغرباء: «أصحيح أن زوجي ابتاع أسهم دريازخور بريازخي التي هبطت في البورصة؟ أوه، إنه شديد القلق عليها». تصور أنها تقول هذا الكلام أمام الغرباء! إنني لم أستطع أن أفهم السبب الذي دعاها إلى أن تكون صريحة أمامهم إلى هذا الحد! أكانت ترغب في جرّك إلى المتاعب؟!
شيبوشتين - هيا، يكفي هذا، يكفي هذا. هذا الحديث كئيب جداً في مثل هذا الاحتفال. وبهذه المناسبة، لقد ذكرتني. (ينظر في ساعته) سيحضر نصفي الأفضل إلى هنا مباشرة. كان ينبغي عليّ أن أستقبلها في المحطة، لكن وقتي لا يتسع لذلك... وأنا... منهوك القوى... والحقيقة أنني لست مرتاحاً لحضورها، أعني أنني مسرور، لكنني كنت سأزداد سروراً لو أنها أطالت المكث يومين آخرين لدى أمها. لاشك أنها تتوقع أن أمضي الليلة كلها بصحبتها، بينما هيأنا هنا نزهات لطيفة بعد العشاء. (يرتجف) تأمل، الارتجافات العصبية تهز جسدي منذ الآن. أعصابي شديدة التوتر، حتى أنني موشك على البكاء لأدنى إثارة. كلا، ينبغي أن أكون صلباً كما لاشك في أن اسمي شيبوتشين.
(تدخل تاتيانا ألكسيفنا وهي مرتدية رداء مطر، وقد تدلت من أحد كتفيها حقيبة سفر).
شيبوشين - ياه! ونحن نتحدث عن الملائكة!
(تهرع إلى زوجها؛ قبلة طويلة).
شيبوشتين - وكنا قبل لحظات نتحدث عنك.
تاتيانا ألكسيفا - (مبهورة الأنفاس) هل اشتقت إليّ؟ أأنت بصحة تامة؟ أنا لم أذهب إلى البيت بعد. جئت من المحطة إلى هنا مباشرة. عندي أشياء كثيرة أحب أن أحدثك عنها... أشياء كثيرة. حضرت لأمكث دقيقة واحدة فقط (إلى هيرين) كيف حالك يا كوزما نيكولافيتش؟ هل كل شيء على ما يرام في البيت؟
شيبوشتين - على ما يرام. لماذا. لقد سمنت وازداد جمالك أثناء هذا الأسبوع. كيف وجدت الرحلة؟
تاتيانا - رائعة. ماما وكاتيا ترسلان إليك تحياتهما. وقد بعثت إليك العمة جرة من المربى. والجميع غاضبون عليك لانقطاعك عن الكتابة إليهم. وقد سألتني ندينا أن أقبلك بالنيابة عنها. (تقبله). آه، لو كنت تعلم فقط ماذا حدث! ماذا حدث! لكنني أخشى إخبارك بالتأكيد. أوه، حدث شيء فظيع... ولكن يبدو على وجهك أنك لست مسروراً برؤيتي...
شيبوشتين - بالعكس... يا عزيزتي (يقبلها).
(يسعل هيرين في حنق).
تاتيانا - (تتنهد) آه، كاتيا المسكينة، كاتيا المسكينة! إنني شديدة الأسف لها، عظيمة الأسف لها.
شيبوشتين - إننا نحتفل اليوم بمرور خمسة عشر عاماً على مصرفنا، وقد يحضر المفوضون من قبل أصحاب الأسهم في أية دقيقة. وأنت لا ترتدين لباساً لائقاً للحفلة.
تاتيانا - حقاً؟ أتقيمون احتفالاً اليوم؟ أهنئكم أيها السادة.. أتمنى لكم... وهكذا فستقام حفلة هنا اليوم... عشاء؟ أنا أحب هذا... وهل تتذكر ذلك الخطاب الذي صرفت وقتاً طويلاً في إعداده عن المساهمين؟ هل سيقرؤونه اليوم؟
(يسعل هيرين بحنق).
شيبوشتين - (في ارتباك) لا داعي للحديث عن هذا يا عزيزتي، حقاً، الأفضل لك أن تمضي إلى البيت.
تاتيانا - سأنصرف بعد دقيقة... بعد دقيقة... سأخبرك بكل شيء عن المسألة في لحظة واحدة ثم أذهب... سأحدثك بكل شيء منذ البداية. حسناً، عندما أوصلتني إلى المحطة، هل تتذكر، جلست بجوار تلك السيدة البدينة. وشغلت نفسي بالقراءة. أنا لا أحب التحدث في القطار. وواصلت القراءة خلال ثلاث محطات، ولم أقل كلمة واحدة لأي شخص... حسناً؛ ثم أقبل المساء، وبدأت تراود ذهني أفكار مزعجة جداً، أنت تعلم. وكان هناك شاب يجلس قبالتي ويبدو لطيفاً للغاية، ذو شكل مقبول، ميال إلى السمرة. حسناً، تبادلنا الحديث، ثم جاء ضابط بحري، ثم تلميذ.. (تضحك) وأخبرتهم أنني لست متزوجة... وكم غازلوني... وتحدثنا حتى منتصف الليل، وقد قص علينا الشاب الأسمر بعض القصص الممتعة جداً.. وظل يغني الضابط البحري حتى آلمني صدري لفرط ما ضحكت. وحينما عرف الضابط -آه من أولئك البحارة- وحينما عرف الضابط مصادفة أن اسمي تاتيانا، أتدري ماذا غنى؟ (تغني في صوت منخفض) أونيجين؛ لن أخفي الحقيقة، إنني أحب تاتيانا بجنون! (تضحك).
(يسعل هيرين بحنق).
شيبوتين - لكن يا تاتنيوشا، إننا نعطل كوزما نيكولافيتش. اذهبي إلى البيت يا عزيزتي وحدثيني عن هذه الأشياء فيما بعد.
تاتيانا - لا بأس.. لا بأس... فليصغي هو أيضاً... إنها قصة ممتعة... سأفرغ منها حالاً. جاء سريوشا إلى المحطة ليصحبني، كذلك جاء شاب آخر، أحسب أنه كان مفتش ضرائب، جميل جداً، ولاسيما عيناه، وقد قدمه سريوشا إليّ فرجع معنا. كان الجو رائعاً.
(أصوات وراء المسرح «لا يمكنك... لا تستطيعين... ماذاتريدين؟» تدخل مدام مرتشوتكين).
مدام مرتشوتكين - (عند الباب وهي تبعد عنها الموظفين) لماذا يمسكونني؟ وماذا بعد؟ أريد مواجهة المدير. (تتجه نحو شيبوتشين) أتشرف يا صاحب السعادة. اسمي ناستاسيا فيدوروفنا مرتشوتكين، زوجة كاتب ريفي...
شيبوتشين - شبماذا أستطيع أن أخدمك؟
مدام - مرض يا صاحب السعادة زوجي الموظف الريفي منذ خمسة شهور، وإذ كان يعالجه الأطباء في البيت فصل من وظيفته بدون سبب واضح. وحينما ذهبت لاستلام راتبه قطعوا منه، عفواً يا صاحب السعادة، أربعة وعشرين روبلاً وستة وثلاثين كوبكا، وسألتهم: ما سبب هذا القطع؟ فأجابوني: اقترض هذا المبلغ من مصرف القرض المتبادل وتكفله الموظفون. كيف حدث هذا؟ كيف اقترض بدون موافقتي؟ تلك ليست الطريقة الصحيحة التي تسيّر بها الأمور يا صاحب السعادة.. إني امرأة فقيرة. إنني أكسب عيشي من تأجير غرف منزلي للغرباء... إنني امرأة ضعيفة بلا سند.. لابد أن أصبر على استغلال كل إنسان، ولا يتفضل علي أي شخص بكلمة عطف.
شيبوتشين - معذرة... (يأخذ عريضتها منها ويقرأها وهو واقف).
تاتيانا - (إلى هيرين) ولكن ينبغي أن أخبرك بالقصة منذ بدايتها. في الأسبوع الماضي تلقيت فجأة رسالة من ماما. وأنبأتني فيها أن شخصاً يدعى گرانديلفسكي قد خطب أختي كاتيا. إنه شاب عظيم مثالي لكنه بدون مال ولا مركز ثابت. ولسوء الحظ، تصور هذا، إن كاتيا أغرمت به كلياً. ما العمل؟ وكتبت إليّ ماما تسألني السفر إليها حالاً لأستخدم تأثيري وأحاول تغيير رأي كاتيا.
هيرين - (بخشونة) معذرة. إنك تعطلينني عن العمل. إنك تتحدثين عن ماما وكاتيا فتربكينني، وقد أضعت الحساب ولم أعد أدري ما أصنع.
تاتيانا - كما لو أنك مشغول بأمر مهم. ينبغي عليك أن تحسن الإصغاء إذا ما تحدثت إليك سيدة. ما الذي يثير غضبك إلى هذا الحد اليوم؟ أوقعت في الغرام؟ (تضحك).
شيبوتشين - (إلى مدام مرتشوتكين) معذرة، ما هذه؟ إنني لم أخرج منها بشيء.
تاتيانا - أنت مغرم. أها.. إن وجهه يحمر!
مرتشوتكين - (إلى زوجته) تانيوشا، اذهبي إلى قسم الحسابات وانتظري دقيقة يا عزيزتي. لن أتأخر عليك.
تاتيانا - حسناً. (تخرج).
شيبوشتين - لست أستطيع أن أفهم شيئاً من عريضتك. من الواضح أنك أخطأت المكان الذي ينبغي أن تقصديه يا سيدتي. يجب أن تقدمي العريضة إلى القسم الذي كان زوجك يشتغل فيه.
مدام - لماذا، إنني ذهبت يا سيدي العزيز إلى خمسة أماكن ولم يرض أي منها باستلام عريضتي. كدت أفقد صوابي. لكن زوج ابنتي بوريس ماتيفتش -بارك الله فيه على هذا- نصحني بالتوجه إليكم. قال لي: «اذهبي إلى السيد شيبوتشين يا أماه... إنه رجل ذو نفوذ، وبقدرته أن يحقق لك أي طلب». ساعدني يا صاحب السعادة.
شيبوشتين - ليس في وسعنا أن نعمل لك شيئاً يا مدام مرتشوتكين. يجب أن تفهمي. يبدو أن زوجك كان يعمل في القسم الطبي للجيش. ومؤسستنا هذه عمل تجاري خاص، مصرف، لاشك أنك تفهمين هذا.
مدام - إنني أحمل معي يا صاحب السعادة شهادة الطبيب التي تثبت بأن زوجي كان مريضاً. ها هي ذي إذا تفضلت برؤيتها.
شيبوشتين - (بانزعاج) حسناً، إنني أصدقك، لكنني أكرر أن الأمر لا يتعلق بنا.
(يسمع وراء المسرح ضحكة تاتيانا ألكسيفنا، ثم تتلوها ضحكة رجل).
(ناظراً إلى الباب) إنها تعطل الكتّاب هناك. (إلى مدام مرتشوتكين) إنها مسألة شاذة وسخيفة حقاً. لابد أن زوجك يعلم إلى أية جهة ينبغي أن يوجه العريضة.
مدام - إنه لا يعلم شيئاً يا صاحب السعادة. إنه يردد: «هذا ليس من شأنك... ابتعدي» هذا كل ما أستطيع استخلاصه منه.
شيبوشتين -إنني أكرر يا سيدتي؛ إن زوجك كان موظفاً في القسم الطبي للجيش، وهذا مصرف، عمل تجاري خاص.
مدام - نعم، نعم، نعم... أنا أفهم يا سيدي. في هذه الحالة قل لهم أن يدفعوا لي خمسة عشرة روبلاً على الأقل. إنني أوافق على استلام جزء منها على الحساب.
شيبوشتين - (يتنهد) أوف!
هيرين - أندريه أندريفتش، لن أستطيع إكمال التقرير بهذا المعدل.
شيبوشتين - دقيقة واحدة (إلى مدام مرتشوتكين) ليس هناك وسيلة تريك الصواب. افهمي أن أمر تقديم عريضة كهذه إلينا غريب، كما لو أنك قدمت عريضة بطلب الطلاق إلى صيدلي مثلاً أو إلى مجلس فحص المعادن.
(قرع على الباب، صوت تاتيانا ألكسيفنا: أندريه، أأستطيع الدخول؟).
شيبوشتين - (يهتف) انتظري دقيقة واحدة يا عزيزتي (إلى مدام مرتشوتكين) إنك لم تدفعي دينك. ولكن ما العمل؟ وبالإضافة إلى هذا فلدينا اليوم احتفال يا سيدتي... نحن مشغولون، وقد يقدم أحدهم في أية دقيقة.. معذرة..
مدام - كن رحيماً مع امرأة وحيدة مهجورة يا صاحب السعادة... إنني امرأة ضعيفة بدون سند. لدي قضية مع أحد المستأجرين، وعليّ أن أرعى شؤون زوجي، وأجري هنا وهناك لتدبير أمور المنزل، وإن زوج ابنتي عاطل عن العمل...
شيبوشتين - مدام مرتشوتكين، أنا... كلا، معذرة، لا أستطيع أن أتحدث إليك... رأسي يدور... أنت تؤخريننا وتضيعين وقتنا... (يتنهد على حدة) إنها حمقاء كما لاشك في أن اسمي شيبوتشين. (إلى هيرين) كوزما نيكولافيتش، من فضلك؛ ألا توضح الأمر لمدام مرتشوتكين... (يغادر المكتب وهو يلوح بيده دلالة على اليأس).
هير ين - (متجهاً إلى مدام مرتشوتكين، بخشونة) ماذا أستطيع أن أعمل لك؟
مدام - إنني لا أكاد أستوي على قدمي إلا بجهد، وقد فقدت شهيتي.. شربت كوب القهوة هذا الصباح بدون شهية..
هيرين - إنني أسألك؛ ماذا أستطيع أن أعمل لك؟
مدام - مرهم أن يدفعوا لي خمسة عشر روبلاً يا سيدي، وسآخذ البقية في غضون شهر.
هيرين - لكنك أخبرت بكلمات واضحة أن هذا المكان مصرف.
مدام - نعم، نعم، وإذا كان الأمر ضرورياً فبوسعي أن أقدم شهادة مرضية.
هيرين - ألك رأس على كتفيك، أم ماذا؟
مدام - إنني لا أطالب يا رجلي العزيز إلا بحقي. إنني لا أطالب بنقود الآخرين.
هيرين - إنني أسألك؛ ألك رأس على كتفيك، أم ماذا يا سيدتي؟ سيلعنونني إن ضيعت وقتي في الحديث معك. إنني مشغول (يشير إلى الباب) أرجوك أن تنصرفي.
مدام - (مدهشة) وماذا عن النقود؟!

هيرين -ا لحقيقة أن ما تحملينه على كتفيك ليس رأساً، بل هذا (ينقر على المنضدة ثم على جبينه).
مدام - (غاضبة) ماذا؟ هيا... هيا... خاطب زوجتك هكذا... زوجي كاتب ريفي... افتح عينيك جيداً...
(حانقاً، في صوت منخفض) اخرجي.
هيرين - (في صوت منخفض) إن لم تغادري الغرفة هذه الدقيقة فسأنادي البواب. اخرجي.
مدام - إنني لست خائفة منك... رأيت الكثير من أمثالك أيها البخيل...
هيرين - لا أظن أنني رأيت في حياتي امرأة أقذر منك... أوف... إنها تشعرني بالدوار... (يتنفس بصعوبة) أكرر عليك مرة أخرى... أسامعة أنت؟ إن لم تتركي الغرفة أيتها الخرّاعة العجوز فسأحولك إلى مرق. إن لي مزاجاً قد يؤدي بي إلى حرمانك من الحياة... إلى ارتكاب جريمة...
مدام - نباح أكثر مما هو عض... إنني لست خائفة منك... رأيت الكثير من أمثالك...
هيرين – لا أستطيع احتمال منظرها انني اشعر بالمرض00 لاأستطيع أن أفهم هذا 0 ( يتحه إلىالمنضدة ويتهافت على مقعد) إنهم يسمحون لأسراب من النساء بدخول المصرف... لا أستطيع إكمال التقرير.
مدام - أنا لا أطالب بنقود الآخرين بل بنقودي... أطالب بديني القانوني.. آه، الرجل المجرد من الحياء.. إنه يجلس في مكتب عام وهو مرتد غطاء حذائه الجلف...
(يدخل شيبوتشين وتاتيانا ألكسيفنا).
تاتيانا - (تدخل وراء زوجها) ذهبنا إلى حفلة مسائية لدى برزنتسكي. وكانت كاتيا ترتدي فستاناً فاتح الزرقة، ذا شريط زاه وعنق منخفض... ويناسب كاتيا التسريحة التي يرتفع فيها الشعر إلى أعلى، وقد عملتها لها بنفسي، ولما أتمت لباسها ورتبت شعرها بدت ساحرة جداً.
شيبوشتين - (إنه الآن يحس بصداع) نعم، نعم، ساحرة. قد يقدمون إلى هنا في أية دقيقة.
مدام - يا صاحب السعادة.
شيبوشتين - (بيأس) ماذا الآن؟ ماذا أستطيع أن أعمل لك؟
مدام - يا صاحب السعادة (مشيرة إلى هيرين) هنا... هذا الرجل... هو... هذا الرجل نقر على جبينه ثم نقر على المنضدة.. أمرته أن يحل قضيتي بينما هو يسخر بي ويقول كل شيء مزر.. إنني امرأة ضعيفة بدون سند.
شيبوشتين - حسناً جداً يا سيدتي. سأحل القضية.. سأتخذ خطوات فيها... انصرفي الآن... فيما بعد... (على حدة) الالتهابات توشك أن تهاجمني...
هيرين - (يتجه بهدوء إلى شيبوتشين) أندريه أندريفتش، نادي البواب، دعه يخرجها ركلاً بالأقدام... إنه لعمل عظيم لو فعل...
شيبوشتين - (في انزعاج) لا... لا... إنها ستنطلق في عويل مثير، وفي هذه البناية بيوت كثيرة.
مدام - يا صاحب السعادة.
هيرين - (في صوت باك) ولكن لابد لي من إكمال التقرير... لن أفرغ منه في الوقت المعين. (يعود إلى المنضدة) لا أستطيع العمل فيه.
مدام - يا صاحب السعادة؛ متى سأتسلم النقود؟ أنا في حاجة إليها اليوم.
شيبوشتين - (على حدة، في حنق) امرأة قذرة بشكل لا يدانى! (إلى مدام مرتشوتكين، في رقة) سيدتي، سبق لي أن أخبرتك أن هذا مصرف، مؤسسة تجارية خالصة.. تجارية خالصة...
مدام - اعمل لي معروفاً يا صاحب السعادة... كن أباً لي... إذا لم تكن الشهادة الطبية كافية فبوسعي أن أقدم شهادة كتابية من الشرطة. مرهم أن يعطوني النقود.
شيبوشتين - (يتنهد تنهداً عميقاً) أوف!
تاتيانا - (إلى مدام مرتشوتكين) گراني، أخبروك أنك تعطلينهم عن العمل... هذا عمل سيء منك حقاً.
مدام - يا سيدتي الجملية، ليس لي من يحل محلي. قد لا أتناول طعاماً أو شراباً بعد. احتسيت قهوتي هذا الصباح بدون أدنى شهية...
شيبوشتين - (متعب، إلى مدام مرتشوتكين) كم تريدين؟
مد-م - أربعة وعشرين روبلاً وستة وثلاثين كوبكا
.شيبوشتين – حسنا جدا(يخرج من جيبه ورقة ذات خمسة وعشرين روبلا ويعطيها اليها ) خذيها وانصرفي0

(يسعل هيرين بحنق).
مدام - شكراً يا صاحب السعادة. (تخبئ النقود).
تاتيانا - (تجلس بجوار زوجها) حان أوان عودتي إلى الدار. (تنظر في ساعتها) لكنني لم أفرغ من قصتي بعد. لن أستغرق أكثر من دقيقة في حكاية بقيتها، ثم أنصرف. شيء فظيع جداً حدث. وهكذا ذهبنا إلى حفلة مسائية لدى برزنتسكي.. كانت الحفلة مرضية.. بديعة جداً، ولكن لم يكن فيها شيء غير اعتيادي. وكان هناك بالطبع گراندلفسكي المعجب بكاتيا... حسناً، لقد تحدثت في الأمر مع كاتيا... بكيت... استخدمت تأثيري. فواجهت گراندلفسكي تلك الليلة بجوابها، ورفضته. حسناً، وظننت أن كل شيء رتب على خير وجه. أرحت ذهن ماما، وأنقذت كاتيا، وباستطاعتي أن أشعر بالراحة أنا أيضاً.. وماذا تظن؟ كنا نتمشى أنا وكاتيا قبل الغداء في أحد مسالك الحديقة... وفجأة (منفعلة) وفجأة سمعنا صوت طلق ناري.. كلا... لا أستطيع أن أتحدث عن الأمر. (تروح بمنديلها على وجهها) كلا، لا أستطيع.
شيبوشتين - (يتنهد) أوف!
تاتيانا - (باكية) وجرينا إلى الظلة، وهناك... وهناك كان يرقد گراندلفسكي المسكين... وهو ممسك بمسدس.
شيبوشتين - كلا، لا أستطيع احتمال هذا. (إلى مدام مرتشوتكين) مذا تريدين بعد؟
مدام - يا صاحب السعادة، ألا تتمكن من إيجاد عمل آخر لزوجي؟
تاتيانا - (باكية) إنه صوب المسدس بدقة إلى رأسه... هنا... وسقطت كاتيا فاقدة الوعي... أيتها العزيزة المسكينة... ورقد في مكانه وقد امتلكه رعب فظيع... وسألناه أن نسرع بطلب الطبيب... ووصل الطبيب، وأنقذ الشاب المسكين.
يا صاحب السعادة، ألا تتمكن من إيجاد عمل آخر لزوجي؟
شيبوشتين - لا أستطيع احتمال هذا. (باكياً) لا أستطيع احتمال هذا. (يرفع كلتا يديه إلى هيرين بيأس) أخرجها. أخرجها. أتوسل إليك.
هيرين - (متجهاً إلى تاتيانا ألكسيفنا) اخرجي.
شيبوشتين- ليست هي... بل هذه... هذه المرأة الفظيعة. (يشير إلى مدام مرتشوتكين) هذه المرأة.
هيرين - (غير فاهم، إلى تاتيانا ألكسيفنا) اخرجي. (يخبط الأرض بقدمه) اخرجي.
تاتيانا - ماذا؟ ماذا تعني؟ أفقدت رشدك؟
شيبوشتين - هذا فظيع. لقد أنهكت. أخرجها. أخرجها.
هير ين - (إلى تاتيانا ألكسيفنا) اخرجي. سألطمك... سأعمل منك لحماً مقدداً... سأرتكب جريمة هائلة.
تاتيانا - (تجري هاربة فيجري وراءها) كيف تجرأ؟! أنت أيها المخلوق الحقير... أندريه، أنقذني. أندريه (تصرخ).
هيرين - (يجري وراءهما) اخرجوا... أتوسل إليكم... اخرجوا... هسّ... دعوني...
(يطارد مدام مرتشوتكين) اخرجي... أمسكها... اضربها... اقطع رقبتها.
شيبوشتين - (يصرخ) اخرجوا.. أتوسل إليكم.. اخرجوا..
مدام - أيها القديسين الأطهار... أيها القديسين الأطهار... (تصرخ) أيها القديسين الأطهار...
تاتيانا - (تصرخ) أنقذني... آه... أوه... سيغمى علي... (تقفز على كرسي ثم تسقط على الأريكة وتئن كأنها مغمى عليها).
هيرين - (يطارد مدام مرتشوتكين) اضربها... اضربها بقسوة... اقتلها.
مدام - أوه... أوه... أيها القديسين الأطهار... إنني أشعر بدوار... أوه... (تسقط مغمى عليها بين ذراعي شيبوتشين).
(قرع على الباب وصوت وراء الستار: «المفوضون»).
شيبوشتين - المفوضون... السمعة... العمل...
هيرين - (يخبط الأرض بقدمه) اخرجي. فلتلعن روحي. (يرفع أكمامه) دعني أمسكها... سأعرف شغلي معها000(يدخل المفوضون وهم خمسة وكلهم فب ملابس الإحتفال ويمسك أحدهم الخطاب بشريط مخملي، بينما يمسك شخص آخر بالكأس الفضي، ويظهر الموظفون في الباب. تاتيانا ألكسيفنا على الأريكة، مدام مرتشوتكين بين ذراعي شيبوتشين، وكلاهما يئن أنيناً خافتاً).
أحد المفوضين - (يقرأ بصوت مرتفع) أيها العزيز المحترم صاحب الرفعة أندريه أندريفتش... إذا ألقينا نظرة على ماضي مؤسستنا المالية، وحاولنا تلمس تقدمها، تكوّن لدينا انطباع ممتاز. حقاً إن رأس المال كان محدوداً في السنوات الأولى لمؤسستنا، ولم يكن هناك أية تقارير علمية ذات قيمة، كذلك قادتنا سياستنا غير الثابتة إلى مشكلة هاملتية... هي أنحتفظ بكياننا أم لا نحتفظ؟! بل إن الأصوات تعالت في وقت من الأوقات مطالبة بغلق مصرفنا... ثم تسلمت أنت مهام الإدارة... ولقد نتج عن درايتك، ونشاطك، وأسلوبنا المميز، ونجاحنا غير الاعتيادي، وتوفيقنا الذي لا يبارى، أن أصبحت سمعة المصرف... (يسعل) أن أصبحت سمعة المصرف...
مدام - (تئن) أوه... أوه....
تاتي- انا (تقول في أنين) ماء... ماء.
المفوض - (يكمل) سمعة... أن أصبحت سمعة المصرف رفيعة جداً بفضلك... حتى أصبح بوسع مصرفنا أن ينافس المؤسسات المالية القديمة في الأقطار الأجنبية.
شيبوشتين - المفوضون... السمعة... العمل... كان صديقان يتمشيان في أمسية من أمسيات الصيف.. وكانا يتحدثان في شؤون عميقة... لا تقل لي أن الشباب تلف.. وسممت الغيرة حبي...
المفوض - (يستمر في ارتباك) وبعد أن ألقينا نظرة موضوعية على الأحوال الحاضرة قررنا أيها العزيز المحترم أندريه أندريفتش (يخفض صوته) ربما فيما بعد... الأفضل أن نرجع فيما بعد ((يخرجون في ارتباك).
«ســـتار»

الدكتور شاكر خصباك مبدعاً(*)
□ أ. د. عبد العزيز المقالح
يعتبر الأستاذ الدكتور شاكر خصباك واحداً من أبرز رواد القصة القصيرة في العراق، ومن أبرز رواد الدراسات النقدية الحديثة أيضاً. وقد شهد ومارس ولادة الأشكال الجديدة في القصة القصيرة والنقد الأدبي، وكانت له في أواخر الأربعينيات وفي الخمسينيات شهرته الواسعة وحضوره المتميز في هذا المجال قبل أن يغيّر مساره ويتجه إلى مجال الدراسات العلمية ويصبح واحداً من أعلام الكتابة والتدريس في علم الجغرافيا ومن الأساتذة العرب المعدودين في التأصيل والتأسيس لهذا العلم الذي كان للعرب القدامى فيه باع طويل قبل أن تنحسر جهودهم وتغرب شمس الحضارة عن سمائهم. لم يتخل الدكتور شاكر عن ممارسة الإبداع وكتابة القصة القصيرة والمسرح بين حين وآخر لكن جهده الأكبر أصبح للجامعة وللترجمة والتأليف، في النطاق العلمي الجغرافي الذي استأثر به. وقد ظل تلاميذه من الأدباء يتذكرون بإكبار وإعجاب دوره في عالم الإبداع الأدبي، ويشيرون إلى أنه أول من قام بتعريف القارئ العربي بالمعلم الأول لفن القصة، الروسي (أنطون تشيكوف) من خلال الكتاب الذي أصدره عنه في منتصف الخمسينات ومن خلال ترجمته لنماذج من قصصه القصيرة التي أشاعت نمطاً جديداً وحديثاً في كتابة القصة الواقعية الخالية من التكلف والمحتفظة في الوقت ذاته بقدر كبير من البراعة الفنية والدلالات الرمزية.
وفي الآونة الأخيرة، قامت إحدى دور النشر اليمنية مشكورة بإعادة طبع الأعمال الإبداعية الكاملة للدكتور شاكر خصباك وقد اشتملت على ستة أعمال، مما أعطى القارئ في هذه البلاد فرصة للاطلاع على هذا الجهد الأدبي المتميز في عالم القصة القصيرة والمسرح والدراسات الأدبية.
وأود القول بأن ما سأتناوله الآن هو من قبيل الاستعراض السريع والموجز لعملين من أعمال شاكر خصباك هما: (حكايات من بلدتنا)، ومسرحية (الدكتاتور).
ولكن يمكن الإشارة عامة إلى أن الإسهامات الأدبية لشاكر خصباك تقع في أسر الموقف القناعاتي، ولا أقول الأيدلوجية. وهذا الأسر يقع فيه عادة كثير من الكتاب والأدباء حتى يصير كالتعويذة كما يقول غالب هلسا، «عندما يظل الإنسان سجين فكرة واحدة لا يحيد عنها خاصة وأن هذه الفكرة هي فكرة جزئية».
فشاكر خصباك من خلال أعماله يلح على فكرة فرضت نفسها عليه هي علاقة الإنسان بواقعه المتنوع بين الاجتماعي والسياسي.. سواء عبر العرض للمشكلات في أقاصيصه وتداخلها مع الموروث الاجتماعي، أو عبر مسرحيته الدكتاتور التي أراد ابتداع أسلوب التداعي فيها، بل والتداخل معاً في إطار (مشترك) واحد هو السلطة وتبعاتها التي تنقل إلينا أشكال الاستبداد عبر شخوص تاريخية ولكنها هي.. هي صورة للاستبداد والتسلط. فيقفز عبر ومضات الإضاءة على خشبة المسرح وانسدال الستار من شخصية إلى أخرى من نوافذ التاريخ، فهو ينقلك من يوليوس قيصر إلى واقع جديد نعيشه في حياتنا الراهنة، ثم يعود إلى إغفاءة أخرى لينتقل تاريخياً إلى الاسكندر المقدوني.. كأنه يماثل ويقارن بين سلطة وسلطة وبين واقع وواقع ولكن القاسم المشترك واحد هو الكرسي.
ولنتأمل كيف بدأ ذلك بهذه المحاكمة (للكرسي) أي السلطة عبر الجوقة التي تمثل الرأي.. والحكمة.. فعبر الجو الأوبرالي تبدأ الجوقة الرجالية قائلة: ما أعظم سلطانك أيها الكرسي!
الجوقة النسائية: وما أشد غدرك!
الجوقة الرجالية: بك تناط آمال الشعب.
الجوقة النسائية: ومنك تنبثق مآسيه فتسكرهم السلطة.
الجوقة الرجالية: ويتربع فوقك الحاكمون فتسكرهم السلطة.
الجوقة النسائية: وتستحيل الرغبات الخيرة في قلوبهم.
الجوقة الرجالية: إلى شياطين مردة.
الجوقة الجماعية: وتصبح الحياة جهنماً أرضياً.
هذه المحاكمة لفكرة السلطة وأسلوبها التي عادة ما تبدأ بتبنيها مشاريع خيرة ثم ما تلبث تحت ضغوط الإغراء والرغبة في الهيمنة وطبيعة الأشخاص أن تنحرف المشروعات الخيرة لتصل إلى التسلط.
أراد لها الدكتور شاكر عبر شكل معين من الترداد والتجاوب للجوقة النسوية والجوقة الرجالية ليرسم على هامش الحدث الأساسي رأياً واضحاً من فكرة المسرحية، وإن كانت رؤى لا تغير من الحدث شيئاً وتكتفي فقط بالإشارة والتوضيح، ولكن أهميتها تكمن في أنها تبلور رأي الكاتب عن جملة من القضايا التي ناقشتها المسرحية.
أما (حكايات من بلدتنا) وهي الرواية التي صاغ من خلالها الأستاذ شاكر خصباك نمطاً غير مألوف بناها على شكل حكايات متوالية مترابطة بخيط رفيع هو (الهم) الذي يربط حياة (البلدة) والموروث الاجتماعي الذي ينسج علاقات أبناء البلدة.. ومواجهتهم للظلم الذي نزل عليهم فجأة وغيَّر حتى من طبائع أهاليها.. يقول غسان كنفاني في مقدمة هذه الرواية، بأنها -أي الرواية- مخالب تنبثق من المجهول، تمزق وتجذب وتقلب، وتحول، وتسحق وتنهش كأن القارئ قد خطف فجأة إلى عالم من الزلزال لا حدود له؟
ثم يقول غسان كنفاني: هذا ما يمكن أن يوصف به كتاب الدكتور شاكر خصباك (حكايات من بلدتنا): إنه قصة بلدة يعيش شبانها على انتفاخات الكبرياء والأوهام الأقرب إلى الأحلام.

وفي الحقيقة إن شاكر خصباك في هذه الرواية اعتمد على تكنيك (الهمس) كأسلوب إيحائي لمجريات حكايات الرواية، التي مثلت (العجائز) الهامسات.. والمناقلة الخبرية بين الناس الوسيلة التي بدت كقرون استشعار للتحدي الذي واجهته (بلدة خصباك) وربما البلدة الرمز..
وعلى العموم الرواية بحاجة إلى إثراء أكبر في النقد، وتناول مستفيض لشمولها على أكثر من معطى ودلالة. ودون شك سوف نعود لتناولها بشيء من التفصيل، ونطل عليها من مداخلها إلى مراميها البعيدة..
وفي ختام هذه التناولة السريعة.. أريد أن أشير إلى شيء هام هو أن العطاء والإبداع والأدب هو التواصل الذي لا تحده حدود، ولا تقف في وجهه الأسلاك الشائكة. إنه رحاب واحة فسيحة تلتقي فيها الأرواح، ودلالة ذلك هذا الإصدار المبدع لشاكر خصباك الذي أعاد طبعه في اليمن، ودخل إلى أذهان قرائه بترحاب وهذا ما يؤكد الانتماء الأصيل لأبناء العرب جميعاً لثقافتهم ولغتهم.

الوعي النقدي(*)
في (كتابات) شاكر خصباك (المبكرة)
□ أ. د. علي حداد
في البدء:
تعرّف المجامع الجغرافية وموسوعاتها بالدكتور (شاكر خصباك) على أنه واحد من علماء الجغرافية المعاصرين الذين أغنوا هذا العلم بمؤلفاتهم وترجماتهم الجادة(1).
وتعرفه جامعات بغداد والرياض وصنعاء التي درس فيها -وسواها من الجامعات التي تتداول فكرة الجغرافي وتدرّسه- على أنه أستاذ قدير تخرجت على يديه أجيال من الجغرافيين العرب، وأغنى أفاق المعرفة لدى آخرين سواهم بما أنتجه من بحوث ومؤلفات «وضعته في الطليعة من العلماء الجغرافيين وأكسبت كتبه مكانة عالية في الجامعات وبين أساتذة هذا العلم»(2).
وبين هذه الإشارة العلمية وتلك الإشادة الأكاديمية فإن معرفة من أخصب ما يكون هي تلك التي يحملها الأدباء العرب الكبار، ويتداولها القراء الجادون -وعلى امتداد زمان تخطي الستين عاماً- عن (شاكر خصباك) ومن دون أن نضع هنا (دال) الدكتور قبل اسمه(3) إذ هو القاص والروائي المسرحي الغزير الإنتاج، والمثير، والمتمسك بيقين من المواقف والرؤى لا يفارقها في أعماله كلها، وبتشكيل خاص ينهض بقوامها السردي، ويمسي سمتها الذي لا تغادره.
إن تأسيساً لشخصية عميقة في الوعي والانشداد إلى الإبداع وصدق التوجه نحوه هو ما يلمسه كل من أتيح له الإطلاع على جوانب من منجز الأديب شاكر خصباك الذي تنضوي جهوده ضمن جيل التواصل الأول فنياً مع السرد ومنجزه الخصيب في العراق، ومنذ أربعينات القرن الماضي، ليقرن أسمه إلى جانب: عبدالملك نوري ، وذنون أيوب، وعبد المجيد لطفي، وجعفر الخليلي، وفؤاد التكرلي ، وغائب طعمة فرمان، وسواهم ممن أرسوا لفنون السرد وجودها المحايث للشعر الذي كان متمكنا من ذائقة تلك المراحل، ومستبدا بكثير من قيم التعبير فيها.
لقد أرست بعض تلك الأسماء -وشاكر خصباك من ذلك البعض- التمكن الجاد والحصيف لفنون السرد حينما قدمت لها مثالها المتميز بسماته وانشغالاته، حتى لقد عدت تلك البداية الفنية الناضجة لتأصيل مسيرة السرد العراقي.
وهكذا فقد صنع (شاكر خصباك) حضوره في ذلك الحشد الإبداعي عبر منجز خصيب ومتواتر، يستوقف ذاكرة التأمل النقدي وهي تقارب السردية العراقية حتى وقتنا الراهن، لتشير إلى هذا المبدع الكبير الذي تبتل في مجال السرد وحده، يتأمله بحصافة الحكيم وبذائقة الرائي المتماهي مع صادق تحسسه للأشياء، وبمنهجية العالم الذي لا يذهب لمعاينة موضوعيته إلا بعد أن يرتب لها وجودها في الوعي عميق اليقين.
إن القراءة المتأنية لتجد في إبداع (شاكر خصباك) كثيرا مما بلفت انتباهها ويشغله. ولعل أول ذلك اللافت ما أعلن عنه من وعي وموهبة ناضجين ومنذ وقت أشد ما يكون من البكور. فكتب بمستوى عال من الوعي والتجربة والمقدرة الفنية في السن التي كان فيها كثير من أقرانه لا يكادون يمسكون جيداً بقواعد القراءة والكتابة الصحيحة، ولا تتجاوز قراءات معظمهم الكتاب المدرسي المقرر، في حين راح شاكر خصباك الفتى يعلن عن حضور شخصيته الأدبية ويضعها في محل الإشادة والإعجاب -بل والصداقة الحميم- مع مبدعين عراقيين وعرب كبار، كانت لأسمائهم شهرتها، ولمنجزهم الإبداعي ضجته، من دون أن يشغله أن العمر الأدبي لكثير منهم كان قد تجاوز عمره الإنساني كله.
لقد كتب كثير من أولئك الأدباء عنه وعن قصصه، معجبين بنبوغه ومبشرين بما سيتحقق على يديه في قابل المراحل، وهو ما لم يخيب خصباك ظنهم فيه.
ولا شك في أن ذلك الأديب الشاب قد شغل بتلك الكتابات وتمثلها طويلاً. ولكنه لم يذهب بها إلى طمأنة الذات الغضة التي يحملها ذلك -عند غيره- إلى محامل التباهي والمفاخرة، بل أحالها إلى النقيض تماماً. إذ لم توقفه عن مواصلة تجربة الكتابة، والتمكن من اشتراطات النضج فيها، وتضاعف الهمة لإنتاج المزيد، وفوق ذلك كله فقد تركت فعلها المثير عنده، فبشيء من الندية الواضحة -التي يحق للظان الظن أنها كبيرة على تلك السن أن تدعيها- قام شاكر خصباك بنشر عدداً من المقالات في الصحف والمجلات العراقية والعربية الصادرة في تلك المرحلة يتناول فيها أعمالهم السردية بالقراءة المتفحصة التي تعلن عن أفق آخر مكتمل التكوين ينضاف إلى جانب كتاباته القصصية المتميزة.
إن لتلك المقالات قيمتها وإثارتها لرغبة التأمل والقول فيها وعنها بما تستحقه ولأكثر من مبرر، وهو ما تحاول قراءتنا هذه استجلاءه، عبر معاودة النظر في بعض تلك المقالات التي تذكرها الدكتور (شاكر خصباك) أخيراً -بعد نصف قرن تقريباً- فقام بجمعها وتبويبها، ونشرها في واحد من كتبه أسماه (كتابات مبكرة)(4).
(1)
أن تتفتح مواهب الصبا الغض على كتابة الشعر ونظمه فتلك مسألة تتواتر الأدلة عليها في كثير من إشارات التاريخ الأدبي ووقائعه عندنا -نحن العرب- وعند سوانا من الأمم(5).
وربما لن يعدم الباحث عن شواهد في مجال القصة والرواية أن تلوح له بعض الأسماء التي كتبتهما في سن مبكرة، وهي تتمسك بتوقد خاص لفعل الموهبة ومقدرتها على تقديم ما هيأتها أقدارها الإبداعية له(6). ولكن أن نجد -وفي سن مقاربة لما سبقت الإشارة إليه- من يكتب النقد الأدبي وبمستوى من النضج الحصيف، فذلك أمر غاية في الإثارة واستيقاف مناط التأمل، لينشغل بهذا الذي بين يديه، بحثا في قيمه والفواعل الثقافية والذوقية التي تحصلها مبكراً، ليتحقق من خلالها ذلك الصنيع. إذ الإنتاج القرائي الناقد تجربة في الوعي واشتراطات من الكد المعرفي عبر سنين من القراءة والتأمل والتقصي، والاستعداد بأكثر من وسيلة وتحصيل ثقافي من معارف وعلوم وتجارب مختلفة والقدرة على صياغة الأفكار المتشعبة كيانا قراءنا متماسكاً(7).
وإذا كان الأمر كذلك فإن جملة تساؤلات ملحة أمامنا -ونحن نتأمل (كتابات) شاكر خصباك (المبكرة)- عن مصدرية التأسيس التي تم له التوافر عليها ومقدار الزاد المعرفي المتحصل. بين يدي صاحبها في تلك السن المبكرة. ليلحق به تساؤل أخر عن ماهية اليقين الذي تماسك عنده، ليضعها في حيز من القراءة متموضع حول السرد وحده -القصة والرواية تحديداً- لا يحيد عنه إلى سواه(8).
لقد نشرت تلك المقالات بين العامين 1945م - 1947م، وإذا ما عرفنا أن كاتبها من مواليد العام 1930م، فسنقترب من اليقين المثير للدهشة والإعجاب معاً: لقد نشر خصباك مقالاته تلك وهو بين السادسة عشرة، والسابعة عشرة من سني عمره، أي حين كان طالبا في الدراسة الإعدادية. ولا شك في أنه قد حضّر لها وأنجزها قبل زمان نشرها بمدة وافية!!
(2)
تفضي بنا تلك المقالات -وقبل تفحصها المباشر- إلى مقاربة التكوين الثقافي والذائقة الخاصة التي تم لشخصية الأديب الشاب شاكر خصباك أن تتأسس عليها، وتعلن عن مقدرتها في الكتابة بمحايثة زمانية للمتحقق إبداعيا لها. ولن يكون ظنا غير موضوعي القول أن مجموعته القصصية الأولى (صراع) التي صدرت في العام 1948م قد كتبت قبل ذلك. وبما يخبر عن أن خصباك كان يؤسس لتجربته الإبداعية في ذات الوقت الذي يلم شتات وعيه، ويضعه في تكوين رؤيوي خاص به، يكون واحدا من مخرجاته تلك المقالات النقدية التي كرست قراءاته للسرد، تجارب وشخصيات أدبية.
إن رصداً للمؤثرات الذاتية وقيم التكوين الثقافي الأول هو ما سيفتح لنا جانبا من مغاليق ذلك الوعي وأسراره التي تمثلها شاكر خصباك في تلك السن المبكرة، فمحضته ثمارها: مدركاً نقدياً جاداً، ومنجزاً إبداعياً مثيراً، وهو ما سنذهب إلى استنباط مكوناته من خلال استعادة بعض الأفكار التي أشار إليها الكاتب نفسه في واحد من مؤلفاته الذي ضمنه جوانب من سيرته الذاتية واسماه:(ذكريات أدبية)(9).
إن أول ما يستوقفنا في تلك الإشارات الموثقة عنده ميل هو أقرب إلى الهوس بالقراءة والانشغال بها عن سواها ومنذ سن مبكرة جداً. فقد قرأ مجلة المصرية وهو في السنة الثامنة من عمره، فكانت -طبقا لقوله- «أول حلقة من حلقات اتصالي بدنيا الأدب والقصة» (ذكريات أدبية، ص7). ثم كانت مجلة (الرواية) المصرية التي عد إطلاعه عليها: «المرحلة الانتقالية التالية في حياتي الأدبية. وقد تم ذلك وأنا في بداية السنة الخامسة الابتدائية. والحقيقة أني اعتبر معرفة هذه المجلة ذات خطر عظيم في حياتي. ويمكنني القول إن هذه المعرفة قد قادتني إلى القراءة الأدبية الجادة» (ذكريات أدبية، ص17).
وستكون المرحلة اللاحقة من توطيد الصلة بالقراءة والانشداد إليها حين يتخطى حدود ما كان يجده في بيته من المجلات، ليذهب إلى حيث المكتبة العامة في مدينته الحلة، التي «لعبت -كما يقول خصباك- دوراً هاماً في حياتي بما هيأته لي من ينبوع لا ينضب من الكتب، وكنت ما أزال طالبا في الابتدائية. لقد شغفت بالمكتبة العامة شغفاً بالغاً... كنت أرقب بصبر نافذ انتهاء اليوم الدراسي -ينتهي عصراً- لأطير إلى المكتبة العامة. تصور ذلك ! طفل صغير قد ربط (مقعد) المدرسة لساعات طويلة يربط نفسه من جديد بكرسي المكتبة. كان أقراني الصغار يتلهفون على انتهاء دوام المدرسة، ليهرعوا إلى ألعابهم في الطريق، بينما كنت أنا اهرع إلى المكتبة» (ذكريات أدبية، ص19).
ومع أن ذلك الشغف القرائي قد اتسع لمعارف متنوعة فإن القصة ظلت -كما يبدو- المرتكز الأساسي فيها، وهو ما يؤكده خصباك بقوله: «إن قراءاتي تنوعت... لكن القصة تتربع على عرش قلبي» (ذكريات أدبية، ص22). لتقوده إلى أفق جديد من الاهتمام حيث راح يكتب قصصه التي ربما تمثل فيها ما كان يقرؤه من أمثلة هذا الفن، وهو في المراحل الأخيرة من سني دراسته الابتدائية، ليتوازى عنده -القراءة والكتابة في مجال القصة أكثر من سواها- وبدأب عجيب سيقوده لاحقا إلى الإلحاف على مسألة النشر، فيرسل إلى كثير من المجلات والصحف العراقية قصصه، ولا يغيظه أو يثبط من تدافع عزيمته ألا يجد أيا من قصصه وقد أخذت طريقها إلى النشر» (ذكريات أدبية، ص24) فقد تأخر ذلك عليه حتى السنوات الثلاث اللاحقة، ليجد أولى مقالاته منشورة في واحدة من المجلات العراقية المغمورة ( ذكريات أدبية، ص32)، ثم ليتلاحق عنده نشر سواها من مقالاته، مؤجلاً -كما يبدو- نشر قصصه إلى عامين لاحقين. فقد نشر مجموعته القصصية الأولى (صراع) عام 1948م، لتشرع له باب الشهرة والتواصل مع كثير من الأدباء الذين أصبحوا مرتكزا آخر في تأسيس شخصية خصباك والأخذ بها نحو مساحات مضافة من الوعي ونضج التجربة. وسنقف عند أثنين منهم: الأول الدكتور (علي جواد الطاهر)، الذي أشار خصباك إلى دوره في صقل شخصيته الأدبية، محددا ذلك في: «رعايته لي وأنا في تلك السن المبكرة. باحتضانه الأدبي وتشجيعه الدائم لي وأنا في أول خطواتي على درب الأدب. للفت انتباهي إلى ما يعتور قلمي من عيوب (ذكريات أدبية، ص29).
وإذا كان للطاهر وجوده المتماس مع احتياجات مباشرة عند خصباك الشاب فإن الأخر -وهو محمود تيمور- قد شده إليه الإعجاب بمنجزه القصصي والتأثر بتواصلاته التي كان يطيل تأمله لها، فمحمود تيمور -على ما يقوله خصباك عنه-: «من أحب الأشخاص إلى قلبي، وممن ترك بصمة واضحة في أدبي في تلك المرحلة المبكرة... إني أعد محمود تيمور أستاذي الأول في القصة القصيرة» (ذكريات أدبية، ص31).
استوقف الدكتور (علي جواد الطاهر) أمر انشداد الأديب الشاب إلى عالم القصة والافتتان بها وبكتابتها وبكتّابها من دون سواها غالبا. فقال: «إن الرجل مفطور على القصة»(10) وذلك أمر يقيني عنده فقد وجدناه لا يطيل المكوث عند الشعر أو يكتب عنه إلا لماما، مع أن للشعر في مدينته الحلة -بل العراق كله- سطوته التي لا تجارى، وجماهيريته الباذخة، وشعراءه المبرزين بل لقد كان الأمر -ومع خصباك شخصياً- أشد إلحاحا وحضورا ففي عائلته أكثر من أديب وشاعر(11) لعل أبرزهم خاله (محمد مهدي البصير) شاعر ثورة العشرين -كما كان يوصف- وواحد من أوائل العراقيين الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه من فرنسا.
والمأمول في مثل هذه الظروف أن يذهب التأثير ومسعى التقليد إلى الوجهة الأدبية ذاتها التي حققت للخال مكانته، فينظم الشعر مثله: «فليس من المستغرب -يقول خصباك-: «أن أحلم، وأنا طفل صغير في الرابع الابتدائي أن أكون شاعراً مشهوراً مثله» (ذكريات أدبية، ص12)، ولكن ذلك لم يكن ليتجاوز عنده -كما بدا- حدود التمني، فبعد محاولة أو محاولتين كان قد نفض يده عنه ، ليمسي ذلك -على حد قوله-: «أخر عهدي بكتابة الشـعر، وربما تذوقه أيضا» (ذكريات أدبية، ص13) لأن لـديه في وعيه -وفي لا وعيه أيضاً- تأسيسا أدبيا لغير الشعر كان يجده أقرب إلى حساسيته الذهنية وذائقته، وتمثل في السرد والقصة تحديداً، ليوطن عنده رؤيته وقلمه.
إن وعياً يتلمس مكوناته ويعلن عنها -بعيداً عن جماليات الشعر وغنائيته- هو ما كان خصباك الشاب يعايشه، عبر استجابات ذهنية وسلوكية للقضايا الاجتماعية ومساحة التجلي للسلوك الإنساني في مكابداته اليومية ووقائعه ذات الطبيعة النفسية. وهو ما شخصه خصباك نفسه حيث قال: «اعترف لك بان الطبيعة لم تكن تثيرني كثيراً لذلك لم يحتل وصف الطبيعة، وما أتصل بها من أدبي حيزاً مرموقاً لكنني كنت على نقيض ذلك استثار استثارة بالغة -منذ كنت طفلاً- بما يتعرض له الإنسان من ألم أو أذى أو حاجة» (ذكريات أدبية، ص12).
هكذا حسم خصباك موقفه، فانتحى بوعيه وقلمه إلى حيث الانشغال بالسرد وفنونه، ليواصل قراءته نقدياً، وإنتاج نصوصه أدبياً، ويجعل منه مساحة لكثير من تعالقات وجوده الإنساني حتى وهو يقيم صلاته الأدبية وصداقاته مع الآخرين -الذين كانوا في الغالب عليهم من المنشغلين بذلك الفن وحده- وليضعه ومناطا للتحديد والتقييم لتلك الصلة، فهو لا يكاد يجد في أدب (العقاد) مثلا ما يشير إليه بالإعجاب سوى روايته الوحيدة (سارة)(12). وفي العراق فإن إشارات موجزه هي تلك التي أوردها عن شعرائه، بازاء تلك الاستطرادات المتسعة التي تحدث بها عن كتاب القصة القصيرة والرواية.

(3)
تضمن (كتابات مبكرة) ست عشرة مقالة، سنتجاوز -ونحن نقرؤها- ما وضعه لها كاتبها من تبويب خاص(13)، لنأتي بها مرتبة على نهج مختلف يبدأ بالمقالات ذات المعالجات المتسعة في موضوعاتها، وينتهي عند تلك التي كرست أفكارها لشأن أدبي محدد. وسيكون أول ما يستوقفنا -على وفق هذا التصور- تلك الكتابات التي وضعها المؤلف تحت عنوان (كتابات اجتماعية)، وهي ثلاثاً، كانت أولاهن إلى الدراسة المنهجية أقرب من كونها (مقالة)، وهو ما تنبه له كاتبها فأسماها (بحث في السجون)(14). وكان الأمر كذلك، من حيث العرض وتسلسل الأفكار وتبويبه واستقراء المسببات والأسباب، ووضع العنوانات الداخلية، ليقف (البحث) أخيراً عند التوصلات والمعالجات التي يقترحها في شأن السجون ونزلائها.
لقد تم عرض ذلك كله بموضوعية وإدراك طيب للجوانب الإنسانية التي ينبغي مراعاتها في هذا الأمر، وهو ما ارتقى بهذا البحث إلى مستوى الدراسات الاجتماعية الناضجة. وربما لم يكن ينقصه سوى الإشارة إلى المراجع والمصادر ليصبح بحثاً أكاديمياً متميزاً لا يصنعه إلا النابهون من طلاب الدراسات الاجتماعية.
وما يثيره هذا (البحث) لدينا هو السؤال عن الدوافع التي أدت بالكاتب إليه، ومصدرية معلوماته عنه، وهو المهموم بنشاطاته الأدبية، أهو السماع؟ أم القراءة المتأنية لدراسة ما عنه أم أن الأمر متصل بتلك الوجهة الاجتماعية التي كان الأديب الشاب يراكم تأملاته الدقيقة عنها، ليضفي كثيرا من تفاعلاتها ومضامينها في قصصه؟ نقول هذا ونحن ندلف في قراءتنا إلى المقالة الثانية التي تصب في الاتجاه الاجتماعي عينه، حيث تنشغل بقضية (مكانة المرأة في بلادنا)(15) ليمسك كاتبها -بعد مجادلة لكثير من المواقف والأفكار- بجوهر المعالجة لجوانب التردي في واقعنا الاجتماعي المعطل نصفه، الذي يغيب فيه دور المرأة، ليصدح الكاتب بقناعته: «تلك حقيقة ثابتة لا يرقى إليها شك: لن ترتقي البلاد ما لم تساهم المرأة بنصيبها في النهوض بها. ولن يتسنى للمرأة أن تشارك الرجل في ذلك ما لم تخرج من الدار، وما لم تقبل على الدراسة والتثقيف. بل إني لأذهب إلى رأي أبعد غوراً، فأقول: إن الثقافة وحدها ليست كافية للتقدم بالمرأة في مدارج الرقي. ثقفوا المرأة، ولكن ما نفع الثقافة إذا حبست المرأة وراء جدران أربعة، وحبست ثقافتها في قوقعة من عظام لا ميدان لها للتطبيق.. إن الثقافة لا تستمد من الكتب وحدها، وإن للحياة نصيباً وافراً في التثقيف، بل إنها مدرسة قائمة بذاتها فإن حرمت المرأة من ثقافة الحياة إلى جانب حرمانها من ثقافة الكتب فإن من غير الممكن بل من المستحيل أن تخطو البلاد شوطا بعيدا في ميدان التقدم والرقي» (كتابات مبكرة، ص73).وعند الكاتب فأن خضوع المرأة المطلق لسطوة الرجل والطاعة العمياء له على حساب إنسانيتها ومشاعرها هو ما أودى بوجودها المضاع في مجتمعاتنا: «وعندي -طبقاً لرؤيته- أن هذه النقطة هي البلاء الأول الذي جعل من المرأة ضعيفة النفس خاملة، لا تؤدي واجبها الحق كما يجب. فليس هناك عدو للنفس كالضعة، وليس هناك محطم للشخصية كالاستعباد» (كتابات مبكرة، ص74).
وسيذهب الكاتب في رؤيته المتقدمة -على مرحلتها وواقعها المعيش- إلى أقصاها حين يحرض المرأة على التخلص من هيمنة الرجل الاقتصادية عليها: «فالاستقلال الاقتصادي هو الشرط الأول الذي ينبغي على المرأة أن تنشده إن شاءت أن تنهض بشؤونها نهضة حقه».
استكمالا لتلك الرؤية المثقفة، وهي تتفحص جوانب السلب في مجتمعاتنا العربية يتوقف الكاتب الشاب وبذكاء وطرافة عند ما يجده من انشغالات منبته عن هموم تلك المجتمعات يذهب إليها الغناء العربي في تلك المرحلة ، فيكتب مقالة (على هامش الغناء في البلاد العربية)(16)، منطلقا لا من القيمة الجمالية للغناء -على أهميتها- بل من القيمة الاجتماعية، وهي الأساس عنده، فالغناء: «يجب أن لا يقتصر على إثارة البهجة بل يجب أن يستخدم في التوجيه ، ويستغل استغلالا صالحاً» (كتابات مبكرة، ص77) وهو ما لا يجده محط اهتمام المعنيين بالغناء الذين يرى أن الشاغل الوحيد لهم «هو الغرام، كأن لا شعب هناك يعاني ألام الجوع والحرمان والاستبداد والطغيان. وكأن بلادنا العربية لا ترزح تحت نير الاستعمار، وواجبنا الأول سحقه» (كتابات مبكرة، ص79). وعبر هذا اليقين يشترط على الغناء وأهله أن يكونوا بمستوى من الوعي بما يحتاجه واقعنا العربي منهم: «نريد غناء يعبر عن أماني شعوبنا ،نريد غناء يعبر عن حاجات شعوبنا. نريد غناء يثير الحماسة في نفوس شعوبنا لمقاومة المستعمر. نريد غناء يعالج المشاكل التي تنتاب شعوبنا من اجتماعية واقتصادية وسياسية» (كتابات مبكرة، ص82).
(4)
يذهب الأديب الشاب إلى شيء من التنظير عبر تحديد الموقف من قضية الفن ودوره تلك التي أمست شاغلاً للكثيرين وهم يحددون مواقفهم، فيذهب بعضهم للقول بفكرة (الفن للفن) وينادي سواهم بكون (الفن للمجتمع)(17).
لقد ناقش خصباك تلك المسألة في مقالته (حديث عن الفن)(18)، ليصل إلى القول «بخطأ حكم الفريقين على بعضهما. فهما في الواقع يؤديان خدمة جلى للشعب على صعيد واحد بالرغم من اختلاف مذهبيهما» (كتابات مبكرة، ص84).
ولكن ذلك لا يمنع أن يكون ميله إلى القول بكون الفن في خدمة المجتمع أكثر وضوحاً. إذ يرى: «أن الذين ينادون بأن (الفن للفن) مخطئون في ندائهم، والفن لا يكون خالصا للفن بأي شكل كان. وهو مسخر لخدمة المجتمع كيفما كان» (كتابات مبكرة، ص85) ومن خلال هذه الرؤية يؤكد على مساحة للتواصل بين الفكرتين وانسجامهما معاً، وهما يؤطران أفق الفن المتميز بقيمة الاجتماعية والجمالية على السواء: «فالذي لا سبيل إلى إنكاره إن الفن الذي يوقظ الجمهور، ويبعث في نفسه الشعور الصحيح ويحضه على تحطيم قيوده وبؤسه وعبوديته وشقائه، ويخلق فيه الطموح إلى حياة الرفاه والحرية والسعادة هو الفن الذي يقوم بخدمة المجتمع أعظم خدمة. ولكن المجتمع الذي يحتاج إلى الفنانين الواعين يحتاج كذلك إلى الفنانين الآخرين أيضاً.. فالكادح الذي يقضي طول نهاره في العمل المجهد يحتاج إلى سويعات يغيب فيها عن عالمه الصاخب المليء بالمزعجات، ليصيب قسطاً من الراحة التي يجدها في أحضان الفن الخالص. ومن هنا تتجلى خدمة أمثال هؤلاء الفنانين» (كتابات مبكرة، ص85).
ويقوده تأمله لعالم القصة وثرائه في العصر الحديث للبحث عن ملامحها في تراثنا الأدبي، ليقف على محدودية حضورها فيه، فسوى قصص الحب التي بدت -وفقاً لرؤيته- «خليطاً من قصص الغرام وقصص البطولة والقصص العلمية»(19) لا يكاد الباحث ليواجه بنصيب متسع من القصص كما هي الحال مع الشعر. وعنده فإن هذه القصص حتى وهي تتطور، فتصـنع فن (المقامة) لم تكن لترتقي بنفسها إلى مسـتوى القص الجيد. إذ المقامة -وهو ينقل رأيا لمحمود تيمور يؤيد قناعته-: «ليست لها أية قيمة قصصية وإن كانت وضعت في القالب القصصي لأنها خلت من أهم ميزات القصة وهي الحادثة أو العقدة. وكذلك خلت من الشخصيات الروائية وتحليل نفسياتها ودرس أخلاقها» (كتابات مبكرة، ص7). وعلى ذلك يصل إلى القول بأن تراثنا يضرب عن القصة صفحاً، والسبب عنده هو: «أن بيئة العربي لم تساعده على خلق الأسطورة، فكان قليل القصص لما بين الاثنين من الرابطة. فقد استوطن البوادي المجدبة في بيوت من الشعر، لا يعرف غير الرمال التي لا يحدها بصره، وغير الجمال والضأن التي تتألف منها ثروته. فهذا المحيط لم يخلق فيه التخيل العميق كما هو مع ساكن البقاع الجبلية حيث الغابات والكهوف والحيوانات الكاسرة والطيور الجارحة التي تبعث فيه الخوف والرهبة، مما يدفعه إلى خلق الأسطورة، ليصور بها عواطفه تجاه هذه الأشياء المفزعة.
أما مرجع عدم انتشار الأسطورة فيما تلي ظهور الإسلام فهو أن الأدباء الذين يترجمون الأدب الأجنبي لم يترجموا من الأساطير شيئاً مذكوراً نظراً لأنها كانت سجلاً لذكر الآلهة العديدة، مما خشوا أن يؤثر هذا في عقيدة التوحيد لدى جمهور المسلمين(20).
(5)
يستنطق (شاكر خصباك) في (كتابات مبكرة) عدداً من التجارب القصصية والروائية لمجموعة من الأدباء العرب، ومن منطلقات ثابتة في رؤيته للسرد وآفاق تدارسه وقراءته، ولا سيما من القيم الاجتماعية التي يستند إليها في الغالب على قراءاته، والأحكام المعيارية التي يصدرها عن تلك الأعمال، وإلى توجهات كتابها فهو يعلي من شأنه (محمود تيمور) «لأنه خلق لنا أدباً مستمداً من صميم المجتمع المصري.. أدباً واقعياً لا يمتد بصرك إلى قطعة من قطعة إلا وتشعر أنها تفيض بالحياة وتزخر بالعواطف، عواطف الشعب المصري، على اختلاف طبقاته» (كتابات مبكرة، ص10).
وسيقول عن قصص نجيب محفوظ مثل ذلك، فهي تعجبه لما فيها: «من وصف صادق للطبقة الدنيا البائسة التي تؤلف تسعة أعشار المجتمع المصري... وفيها وصف لما يعانونه من بؤس وشقاء، ولما يقاسونه من متاعب وآلام للحصول على قوتهم. فيها تحليل دقيق لخلجات نفوسهم ولأحاسيسهم وعواطفهم» (كتابات مبكرة، ص21).
ويشيد الكاتب بما قدمه (رئيف خوري) لأنه «عاهد نفسه على خدمة الشعب والنضال من أجله. والإخلاص في الكتابة من أجل ذلك الغرض على الخصوص -دينه وديدنه- لا يخشى دونه وعيد طاغ أو عقاب متجبر» (كتابات مبكرة، ص23) ومن خلال التمسك بهذه الرؤية وقيمها فإنه يأخذ على (سهيل إدريس) انشغاله بتصوير العواطف الجنسية أكثر من سواها: «لاحظت أن معالجة هذه الناحية قد شغلته نوعا ما عن التطرق في قصصه إلى معالجة مشاكل المجتمع الأخرى. ومع أن الناحية التي التزم تحليلها في معظم أقاصيصه ناحية حية.. إلا أني أؤاخذه على هذا الانصراف عن دراسة مشاكل المجتمع الباقية» (كتابات مبكرة، ص40).
تتوازى عند خصباك متطلبات الوعي الاجتماعي لدى الكاتب مع أهمية أن يمتلك مقدرة التحليل النفسي لشخصياته، وإبراز نوازعها الشعورية وانفعالاتها، وهو ما يصبح عنده واحدة من القيم التي يسعى إلى إبرازها في قراءاته، وتحدد مكانة كل أديب من خلال حدود امتلاكه لها . فهو يرى أن لمحمود تيمور مقدرة متميزة على عرض الواقع النفسي للطبقات الكادحة وتحليله (كتابات مبكرة، ص10). وتستوقفه في أدب (نجيب محفوظ) مقدرته على تحليل نفسيات أبطال قصصه بعمق. ولم تكن الأحكام ذات التوجه النفسي عند الكاتب الشاب لتأتي عابرة، وهي تعاود النظر في مجال علم النفس ومدارسه، إن فيها ثقافة واضحة في توجهاتها، ويمكن للمقتبس الآتي أن يفصح عنها جليا يقول الكاتب، وهو بصدد قراءة أحد الأعمال القصصية أنها بنيت «على أحدث النظريات النفسية، وخصوصا نظريات العالم النمساوي الكبير (فرويد) . وهي عبارة عن تشريح لكياننا النفسي الذي يتألف من العقل الظاهر والعقل الباطن ، وتبيان لهذا التناقض والتعقيد الذي ينتج من تصرفاتنا والذي سببه ما يتناوب عقلنا من تيارات يحار في تفسيرها عقلنا الواعي» (كتابات مبكرة، ص89).
(6)
سبقت الإشارة إلى ما يكنه الأديب الشاب من ودِّ وإعجاب لا حدود لهما لأستاذه في الفن القصصي (محمود تيمور) وقد انعكس ذلك جليا في (كتابات مبكرة) الذي حوى ست مقالات -أي ما يتجاوز ثلثه- جاءت مكرسة كلها للحديث عن تيمور وأدبه القصصي والروائي، بل لقد جعل الكاتب من حديثه عن تيمور مفتتح كتابه ومنتهاه، فاستهل أولى مقالاته بالحديث عنه لتقف آخر المقالات عنده أيضا.
لقد تجاوزت كتابات خصباك عن أستاذه حدود التبجيل والإشادة ودلفت إلى حيث تكون قصص تيمور مجالاً لممارسة تطبيقية يؤكد من خلالها مجمل الأفكار والتصورات التي أفصح عنها وعيه في مقالاته هذه. عبر مداخلات جادة مع فكر تيمور النقدي التي يرى أن تيمور جدير بها، حتى ليذهب خصباك وفي أكثر من مقالة للدفاع عن تيمور في منجزه ومواقفه، منتهيا عند القول: «إن تيمور عبقري من عباقرة القصة لا يدانيه في ميدانها أي قصصي عربي آخر» (كتابات مبكرة، ص99)، لأن قصصه «صور خالصة عن المجتمع المصري، مخطوطة بريشة فنان» (كتابات مبكرة، ص10)، ولأنه يمتلك براعة لا تجارى في الكشف عن خبايا النفس البشرية في مختلف حالاتها، مما يدعونا إلى الاعتقاد أنه قد درس علم النفس دراسة مستفيضة» (كتابات مبكرة، ص13). ولا يفوت الأديب الشاب الرد على أولئك الذين يرونه مبالغا في حديثه عن تيمور فيقول: «والواقع أنني لم أعجب بتيمور بمجرد قراءة كتاب أو كتابين له... بل أقبلت على مؤلفاته أشبعها درساً وتمحيصاً. ثم خرجت بعد تلك الدراسة برأي نهائي هو أن الأستاذ تيمور رسول من رسل الإنسانية ووطني يناضل في سبيل إسعاد شعبه وأمته»(21).

في الختام:
لم تكن (كتابات) شاكر خصباك (المبكرة) التي استوقفتنا في هذه الملاحقة القرائية نتاجا لمزاج شاب مندفع تمكنت منه نرجسيته فسولت له مجاراة الكبار من الكتاب والأدباء، إنها قراءات ناضجة -وفي أكثر من مجال- مؤسسة على وعي سليم، وطاقة في التأمل بيّنة، وأفق متمكن من التحليل واستنباط النتائج الموضوعية، حتى ليظل التساؤل مشغولا بدهشته عن الكيفيات التي حققت لذلك الأدب الشاب أن يتحصل هذا الذي تحصله كله، وحتى لتترك باب التردد مشرعاً في قبول تلك التأكيدات الموثقة عن عمر كاتبها، لتذهب إلى إضفاء مساحة أكبر من السنوات، كتلك التي مرت على خاطر الدكتور (علي جواد الطاهر) حين سأل أحد الأدباء الذين قرأوا أدب خصباك عن عمره، فقال إنه لا يقل عن الأربعين!(22).
لقد كان وعي خصباك المبكر ذات توقد حصيف وهو يتأمل أفق الاشتغال الذاهب إليه في قراءاته، ابتداء من إدراكه لطبيعة المكابدات والعناء الذهني الذي يعايشـه الكاتب -أي كاتب- حين يقدم صنيعه المعرفي، وهو موقف لا يكاد يدرك مواطن الجهد والمشقة فيه إلا من وطّن نفسه عند معاناته، كمثل أدبينا الشاب الذي يصدح بهذه الحقيقة وفي وجه أحدهم قائلا: «رويدك.. أتظن أن من السهولة بمكان أن تهدم بجرة من قلمك الجريء جهودا بذلها المؤلفون قد تستغرق أحيانا الأعوام الطوال لإخراج كتبهم إلى حيز الوجود؟ أم تظن أن التأليف لعبة من السهل تحطيمها بخبطة من هراوة غليظة؟! لا يا سيدي... عليك وأنت تقرأ الكتاب أن تقدر له ما يناسبه من الجهد الذي بذله المؤلف في تأليفه» (كتابات مبكرة، ص95).
أما حين تكون تلك الكتابة في مناط الممارسة النقدية فإن ذلك -وطبقاً لتيقن الأديب الشاب- يستدعي اشتراطات أكثر صرامة. إن «مهمة الناقد مهمة خطيرة، إذ عليه أن يضع الكتاب في ميزان الحق والعدالة وعلى ضوء ذلك يصدر أحكامه بعد مراجعتها مرات ومرات، ليثق من صدقها ومطابقتها للحق والواقع، وبذلك يكون قد أدى ما عليه من واجب تجاه الأمانة الأدبية» (كتابات مبكرة، ص56).
ومن خلال ذلك الوعي يقدم خصباك قراءاته الناقدة في مثابرة شابة متوقدة الحماس، ومزودة بمقدرة عالية من المحاججة والسجال الموضوعي الذي تدعمه مساحة جادة من المثافقة والقراءات التي عززت ثقته بما توافرت عليه شخصيته من الإمكانات حدّ الاعتداد الباذخ بذلك وتوطين الوعي عليه، ليؤسس لواحدة من سمات شخصية الدكتور شاكر خصباك التي ستلازمها في مراحلها اللاحقة وحتى وقتنا الراهن: الابتعاد المطلق عن المجاملة، والصداح بقناعاتها من دون أية مهادنة أو رغبة في كسب الأخر وإرضائه(23).
لقد أسس ذلك الأديب الشاب قراءاته على رؤية واقعية مستمدة من تأملات دائبة وقراءات في مجال الفكر الاجتماعي وكشوفاته فكان انتماؤه الواضح إلى فلسفته ومسعاه الجاد إلى تمثلها في مجمل التصورات القرائية التي قدمها.
أما الوجهة الفنية التي تمثلتها تلك الكتابات فإنها تشير إلى مقدرة ناقد واضح الشخصية متمكن من لغته في تخيّرها اللفظي وما تتداول من مقومات الأسلوب الكتابي، الذي امتاز بالتكثيف والانسجام والاقتصاد اللغوي. فمع أن كل مقالة -على محدودية صفحات بعضها- هي سلسلة متراصة من الأفكار والمجادلات إلا أن كاتبها كان يستخدم لها أقل كلفة لفظية، ليوردها بعبارات موجزة، ولكنها شديدة الدلالة على ما تذهب إليه وهي سمة سيتمثلها شاكر خصباك في كل كتاباته الإبداعية والأدبية اللاحقة.
وأخيراً... فإن وجهة تربوية نبيلة هي تلك التي تعكسها تجربة خصباك الأدبية والقرائية المبكرة، من خلال ما تضعه بين أيدينا من أفق في التنشئة والتثقيف الذاتي والدأب المعرفي الذي ينبغي جعله مثالاً يحتذى من قبل الأجيال الواعدة، ولا سيما أولئك الأدباء الذين يضعون أقدامهم على أولى مدارج تكوين الشخصية الأدبية في مسعى أن يكون لهم شأنهم في قابل الأيام.
هوامش:
تحية احتفائية
□ أ. د. عبد العزيز المقالح
إن ورقتي التكريمية التي أعددتها لهذه المناسبة هي بعنوان (شاكر خصباك روائياً). ولكن وقبل قراءة الخطوط العريضة لهذه الورقة أود أن أقول: إنه لشرفٌ عظيمٌ لجامعة صنعاء، وشرفٌ لنا جميعاً في هذه البلاد أن يكون الدكتور شاكر خصباك الأستاذ والروائي والقاص والكاتب المسرحي والمفكر، قد اختار صنعاء مقراً لإقامتهِ من بين سائر العواصم العربية التي ترحبُ به وبعلمهِ وإبداعاته وبشخصه، وهو المثقف العربي الوطني المعروف بمواقفه التي لا تعرف المهادنةَ، ولا تقبلُ بالأمر الواقع تحت أي ظرف كان، ومن قِبَلِ أيةِ جهة كانتْ. هكذا نشأ، وهكذا تكوّنت أفكاره ومبادئه ومواقفه.
ولضيق وقت المحتفين بهذا العَلَمِ العربي الكبير أكتفي هنا -كما سبقت الإشارة- بعرض النقاط الرئيسة في ورقتي المعدة لهذه المناسبة الغالية على نفسي، ونفوس كثير من زملاء الأستاذ شاكر خصباك وتلاميذه، والنقاط هي:
أولاً: تشير هذه الورقة إلى أن الدكتور شاكر روائي ورائد متمرس في مجال الكتابات الأدبية، إذ أن أعماله الإبداعية تربو على ثلاثين عملاً بين روايةٍ ومسرحية ومجاميع قصصية قصيرة، وحظ الرواية منها في حدود متابعتي وقراءتي لا تقل عن أربع عشرة رواية.
ثانياً: الفن الروائي بالنسبة للدكتور شاكر ليس لغةً جميلةً، ولا حكايةً مسلية أو ارتحالاً في عوالم غامضة مبهمة، وإنما هي تدوين فني رفيع لوقائع إنسانية. وتكادُ شخوصُ رواياتهِ جميعاً تكون من لحمٍ ودم، وإطارها مكانٌ له ماضٍ، ويتسع لأحضان آفاق الحاضر، وتطمح في أن يكون لها وجود في المستقبل.
ثالثاً: إن الدكتور شاكر لا يسعى في أعماله الروائية إلى إغراء القارئ بالاقتراب من محذور الجنس، كما فعل ويفعل العشرات ممن يكتبون الرواية، وإذا حدثَ ولامستْ رواياتُه هذا الجانب، فإنها ملامسةٌ فنية خفيفة لا تخرج عن حدود المقبول والمعقول.
رابعاً: يتميز الدكتور شاكر عن كثيرٍ من الروائيين المعاصرين بتكثيف النص الروائي، والابتعاد به عن مناطق الثرثرة، وهو يعجبُ كيف يجدُ بعضُ الروائيين والشبانُ منهم بخاصة هذا الكمّ من الكلام يملأون به مئات الصفحات دون أن يضيف شيئاً إلى القارئ أو إلى موضوع الرواية.

خامساً: يبدو جلياً لمن أُتيح له أن يتابعَ المجاميعَ القصصيةَ الأولى للدكتور شاكر أن يدرك أن هاجساً روائياً يكمن في تلك الأعمال القصصية لكن ظروفه وما واجهه في حياته العملية والعلمية من تعقيدات ومضايقات، جعلته يكتفي في بداية حياته الأدبية بكتابة القصة القصيرة سريعة الأثر ومحدودة وقت الكتابة. إلا أنه ما كاد يستقر به الحال حتى انفتح أمامَه عالمُ الكتابةِ الروائية وكانت البداية مع رواية (حكايات من بلدتنا)، وأحدثها ظهور رواية (الأصدقاء الثلاثة)، التي تُعدّ من حيث الموضوع والتقنية، خلاصةَ تجربةٍ عميقة وطويلة وواحدة من أهم الروايات العربية وتتناول هذه الرواية الواقع المأساوي في العراق، وهي كسائر أعماله الروائية تخلو من المباشرة وتميل إلى الرمز. وعلى الرغم من أن روايات الدكتور شاكر كبقية أعماله الإبداعية تنطلق من الواقع ومن التجارب المعاشة، فإن وعيه الروائي يحررها من المباشرة، وهذا ما يجعله يقدم الواقع على شكل مدهش.

سادساً: يلاحظ الدارس كما القارئ أن الأفكار في روايات الدكتور شاكر تتحرك كما تتحرك الشخوص نفسها، وكل رواية تنطوي على قيم فكرية تصل إلى أقصى مداها، كما في أحدث أعماله الروائية، وأعني بها (الأصدقاء الثلاثة) الذين يموتون جميعاً دفاعاً عن أفكارهم. فالفكرة عند الدكتور شاكر كالشخصية المحورية تماماً تناضل وتقاوم الظلم والفساد واللامبالاة.
سابعاً: الدكتور شاكر واحد من الشهود الصادقين على عالمنا المعاصر، وكتاباته بعامة والروائية منها بخاصة، تعبر عن نزعة إنسانية واقعية، ولا مكان للتفاؤل الساذج في رؤيته ولا للشعور الطاغي باليأس.
تلك باقتضاب شديد هي النقاط الرئيسة في الورقة التكريمية عن الإبداع الروائي لأستاذنا شاكر خصباك الذي نُجلّه ونُعزه ونقدره، ونَسعد بوجوده بيننا، ونتمنى له طول العمر ودوام الإبداع.

من سليمان العيسى في دمشق - تحية
□ سليمان العيسى
ويرنُّ الهاتف في منزلي، ويأتيني من صنعاء صوتُ شاعرنا ومفكرنا الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح، ليقول لي:
غداً سنقيم حفل تكريم لصديقك وصديقنا العزيز الدكتور شاكر خصباك.. وينهمر سيلٌ من الذكريات، الحلوة، العذبة، الأليفة، لدى سماعي النبأ، يمتزجُ بشيء من الأسى والأسف لأني لن أتمكن من حضور هذه المناسبة الغالية. فهل تستطيع كلمةٌ عابرةٌ أن تنوب عني، وأن تحمل بعض ما أحمله أنا وزوجتي الدكتورة ملكه أبيض من حبٍّ وتقدير ووفاء للصديقين العزيزين والجارين الأليفين أبي صباح وأم صباح؟
ما أظن كلمةً عابرة قادرةٌ على أن تختصر ذكريات السنين الطوال التي قضيناها في صنعاء، يحملنا أبو صباح كل مساء أربعاء بسيارته الصغيرة إلى مقيل شاعرنا ومفكرنا وراعينا الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح. ولا ينسى أبو صباح أن يتأبط كتاباً لأحد أعلام الأدب، وهو يهمس في أذني معاتباً: إنكم تجعلون مقيلكم حكراً على الشعر والشعراء. لمَ لا يكون للقصة نصيبها فيه؟ سأقرأ عليكم اليومَ بعض الصفحات لواحد من أكبر أعلام الأدب. ويفاجئنا أبو صباح بكتابه الرائع، ويقرأ علينا فصلاً منه لا أجمل ولا أحلى، ويطلب إلينا أن ندير مناقشة حوله.. وهكذا ينتقم للقصة من الشعر الذي استأثر بالساحة في رأيه.
سيلٌ من الذكريات ينهمر على ريشتي وأنا أخطّ هذه الكلمة العجلى.. في تكريم جاري وصديقي العزيز الدكتور شاكر خصباك.. هذا الذي تحار ماذا تسميه؟ عالم الجغرافيا الكبير -والجغرافيا أم العلوم، كما يسميها بعضهم- أم كاتب القصة والرواية المتميز الذي يأسرك ببساطة وغنى أفكاره.. أم المتحدث البارع الذي يفاجئك بآرائه الحرة وأفكاره التي يعارض فيها الكثير من السائد والمألوف فإذا أنت مشدود إليه، مقتنع بجرأته، وقوة عارضتِهِ.. وإن كنتَ من معارضيه في كثير من الأحيان.
سأترك هذا جانباً لأعود إلى ذكرياتي في هذه السطور العجلى.. ذكرياتي مع جاري وصديقي العزيز، حيث كانت نافذة سُكناي في الحي الجامعي تُطلُّ على نافذة سكناه. وما يكاد يمضي يوم أو يومان حتى نلتقي في بيتي أو بيته، في جو عائلي حميم، ستبقى ذكراه زادنا إلى أمد بعيد.
إنني سأظل أردد مقطوعةً شعرية صغيرةً أهديتها إليه ذات يوم، وأنا أرتشف فنجان القهوة في مكتبه، في قسم الجغرافيا، في جامعة صنعاء؛ سأظل أردد:
يا طيبَ قهوةِ شاكرِ
إنّي إلى (الجغرافيا)
في لهفةٍ.. يدعوكَ.. يهتفُ
ويمرُّ في نَبَراتِه
أيامَ فَجَّرني الهوى
بيني وبين أحِبَّتي
أوَّاه.. يا صنعاء.. كوني
أهْوى يَبَاسَك.. أيُّ
لُمِّي الشَّتاتَ.. أمَا لِغُربةِ
يا قهوةً عربيةً..
آليت أرشفُ يا صديقي
أحرقتُ زهْو العمرِ
لأضُمَّ هذا التيه.. في
دعني.. على الفنجان..
أنْسَى، أضيعُ هُنيهةً
عند الصباحِ الباكرِ!
وَجَّهْتُ كلَّ مشاعري
يا هَلا بالشاعر!
كلُّ العراقِ.. بخاطري
شعراً.. بلمسةِ ساحرِ
طوفان نارٍ صاهِري
واحةً للعابر!
روضٍ في يَبَاسِكِ ناضِرِ!
ليليا مِنْ آخِرِ؟
شدّتْ إليَّ أواصري
عطرها بمحاجري
ضجّت بالحريق دفاتري
قلبي نشيد بشائِر
أحيا وَمْضَ حُلْمٍ عابرِ
يا طيبَ قهوةِ شاكرِ

شاكر خصباك: التجاهل والعرفان
□ أ. د. حاتم الصكر
يمثل صدور المؤلفات الإبداعية لشاكر خصباك بثمانية مجلدات (دار نينوى، دمشق، 2007) تنبيهاً من المؤلف وهيئة أصدقائه في غربته إلى أن هذه الصفحات الغزيرة والمتنوعة (رواية، قصة، مسرحية، مقالات، ذكريات) إنما هي اعتراض على ما لقي خصباك من جناية (التجاهل والإهمال) ولقد وردّها الدكتور عبد العزيز المقالح المشرف على الإصدار في تقديمه إلى «طغيان أو جناية الشهرة العلمية لخصباك كمتخصص متعمق في الجغرافية وذي مؤلفات ومترجمات فيها فضلاً عن عمله في تدريسها منذ عقود». كما فسّر الشاعر إبراهيم الجرادي محرر الإصدار في الاستهلال ذلك الإهمال بالشهرة الجغرافية ومحدودية نشر نتاج خصباك في اليمن التي يقيم فيها منذ منتصف الثمانينيات.
وأياً ما تكن الأسباب فإن التجاهل والإهمال النقدي كما يتردد كلما تذكرنا شاكر خصباك أو قرأناه لا يمثل تقصيراً من جانب واحد هم النقاد السرديون في العراق والبلاد العربية، بل لأن تاريخ الكتابة السردية العراقية خاصة لم تنل ما ناله الشعر من القراءة التعاقبية والرصد الفني لموجات التحديث والتنوع الأسلوبي وتطور التقنيات والمعالجات والتحديث والتثاقف. وظلت أغلب الكتابات حول السرد تؤكد ملامح عامة من الجهد الروائي والقصصي الشحيح، قياساً إلى الشعر في فترة النهوض والتجديد.
ولعل هذا أبرز أسباب ما عرف بالإهمال والتجاهل لاسيما إزاء كتابات الخمسينيين العراقيين. وهو ما أفصح عنه الكاتب الراحل فؤاد التكرلي على لسان أحد شخصياته الروائية بالقول: إن جيلنا الخمسيني كان مغبوناً لأنه لم يعش كما يستحق ولم يحسن التعبير عن نفسه، مرجعاً السبب إلى الجيل نفسه، والذي أرى أن اصطفافه كان عشوائياً وبوصاية السياسي ومواقفه، كما أن فرص التعبير عن نفسه لم تكن كافية كما هو حال الشعراء في الفترة الريادية نفسها. ذلك ما يجب التنبيه إليه لا لتبرئة النقد العراقي والعربي من التجاهل والإهمال بل للبحث عن أسباب أخرى لغياب العرفان الذي تأخر عقوداً بصدد شاكر خصباك بالذات.
ثم إن خصباك غاب عن محيطه مبكراً: دراسته الجامعية والعليا في مصر وبريطانيا منذ نهاية الأربعينيات حتى نهاية الخمسينيات، وأسفاره للعمل خارج العراق في السبعينيات، ثم استقراره في صنعاء منذ قرابة ربع قرن..
ولكن مرمى النقد ليس مرمى الكرة في الهدف الذي تسجل فيه فقط بالاقتراب منه. فشاكر خصباك لم يتوقف عن الكتابة وهو خارج وطنه. لقد كتب القصص والمسرجيات والروايات والمقالات، ونبش في ذكرياته ومذكراته وأعاد نشر كتاباته المبكرة. ولكن التجاهل والإهمال كان في مجال رصد تلك الكتابات ورؤية المتغيرات الأسلوبية والمضمونية فيها.
والسؤال المطروح على ضمير النقد والنقاد العراقيين والعرب يحاول ردّ الظاهرة إلى حضور وغياب جثماني ومتعين وهو ما لا تؤيده وقائع أخرى في الكتابة السردية كحالة عبد الملك نوري الذي كان مقلاً ومنزوياً ومحدود التفاعل والظهور في الحياة الثقافية منذ وقت مبكر. وفي الشعر يمكن تذكر محمود البريكان كصامت شهير وبعيد عن الضوء والحضور خلال حياته. هنالك إذن عوامل من المسكوت عنه في حالة شاكر خصباك سيكون صدور أعماله الكاملة باسم المؤلفات الإبداعية مناسبة طيبة لتفحصها والبحث عن دلالاتها الفنية والنقدية.
لقد ارتبط جهد خصباك الروائي والقصصي بالواقعية التي هيمنت في الخمسينيات كوجه للصدام مع النظام الملكي والانتماء للجماهير الرافضة للملكية المرتبطة بروابط متنوعة بالاستعمار الذي تحرر العراق منه شكلياً بقيام دولته، وكذلك افتقاد العدل والمساواة والحرية. وقد تنبهت إليه الحركات السياسية وعبأت الثقافة لبلورته وتجسيده تزامناً مع التأثرات الواضحة بالمناهج الواقعية التي تؤكد ارتباط الأدب بالشعب والمجتمع، وتمثيل ذلك انعكاسياً ومرآتياً.. لقد تجددت المناهج الواقعية ذات الحاضنات اليسارية وتلونت بمؤثرات الجديد في العلوم الإنسانية وجماليات الفنون وتطورت حتى اتخذت في البنيوية التكوينية (طروحات غولدمان مثلاً المطورة عن واقعية لوكاتش وجمالياتها) شكلاً بنائياً يبحث عن تجسدات رؤية العالم نصياً. وجرى الحديث من بعد عن واقعية جديدة وواقعية شعرية وواقعية بلا ضفاف وواقعية سحرية.. ولكن احتدام الواقع العربي والعراقي خاصة بأعنف الأحداث (تقسيم فلسطين، انتفاضة 52 في العراق، وقيام الجمهورية في مصر، وأحداث 56 وانهيار الملكية في العراق والانفتاح على العالم والصراع الإيديولوجي الحاد) مما ترافق مع صعود جيل الخمسينيات ركّز الشكل الانعكاسي والفهم المرآتي للواقعية، وصار الاقتراب من الواقع تصويراً وتطابقاً لا تمثيلاً وترميزاً هو المحدد لفنية الفن والأدب.. وشاع النص المناسباتي المعبر عن لحظة عابرة أو مفردة سياسية يومية وظرفية لم تجد غالباً التعبير الفني العالي. وانفتح الباب بسبب ذلك لكتابات ضعيفة تزكيها النيات الحسنة. ذلك في اعتقادي عامل موضوعي من عوامل غبن جيل الخمسينيات فضلاً عن العامل الذاتي الذي يعترف به التكرلي بلسان شخصية روايته ويكرره في أكثر من لقاء إعلامي في أيامه الأخيرة قبل خسارتنا بفاجعة رحيله.
يعبّر شاكر خصباك عن عزلته وجيله في استهلال كتابه (تساؤلات-خواطر فلسفية) 1991، بالقول: «في هذا الزمن الطافح بالعسف والمرارة والإحباط، زمن السلاطين الطغاة، يجد المرء قدراً من العزاء في حواره مع نفسه حين يعز الحوار مع الآخرين».. ورغم السياق الذي يتحكم في هذا الاعتراف -عام واحد وتسعين: بدء حرب الخليج الثانية وتدمير بُنى العراق الأساسية، وحصار أرضه وسمائه ونفطه وغذائه- نستطيع تأمل الحسرة على افتقاد الحوار الذي يؤمن به خصباك ويسعى إليه في أعماله. وجوهر الفقد هم الآخرون -المصطلح الذي شاع في الخطاب الواقعي وحدا بسارتر إلى القول مستنكراً إن الآخرين هم الجحيم!- وهو قول سيردده السياب في إحدى مطولاته مضيفاً أنهم أحفاد أوديب الضرير! لكنهم أعزاء على قلب خصباك ووجدانه الأدبي، وهو لا يستطيع تصور العالم بدونهم رغم وصفه للعالم بأنه محكوم بزمن المرارة والعسف والطغيان. لذا استعاض عنهم بالحوار مع نفسه وسؤالها فلسفياً. كذلك اختار محاوراً متخيلاً هو باحث شاب يسأله عن سيرته وحياته في الأدب (ذكريات أدبية، 1996) مذكراً بطه حسين وحوار الفتى والشيخ عنده، مع ملاحظة إعجاب خصباك به كما صرح في ذكرياته متأسفاً لأنه لم يتعرف عليه بصورة كافية خلال إقامته للدراسة في القاهرة.. تلك الإقامة العجيبة التي مكنت شاباً مثله في الثامنة عشرة قادماً من مدينة الحلة العراقية الصغيرة أن يقيم علاقات وصداقات مع أعلام الثقافة المصرية كنجيب محفوظ ومحمود تيمور ومحمد عبد الحليم عبد الله ويجالس توفيق الحكيم وباكثير وغيرهما، ويراسل كبار الكتّاب، بل ينشر قصصه ومقالاته وهو طالب في المتوسطة لم يتعد الرابعة عشرة!
هذا الإصرار الكفاحي المتعدد الجوانب يزيدنا ألماً لإحساس خصباك بالغبن والإهمال. فهو ينشر ويؤلف مبكراً كما يكتب بغزارة عبر عمره الأدبي (خمس عشرة رواية، وثلاث مجاميع قصصية، وثمان عشرة مسرحية، وعدة كتب أدبية ومقالات وخواطر وذكريات) هذا دون حساب كتاباته المؤلفة في الجغرافية، قرابة عشرة كتب، والمترجمة ثلاثة عشر كتاباً.
وكفاحه مبدئي أيضاً.. فهو ضد الظلم والعسف، ومع الإنسان وحريته حيث يكون. وهذا ما تجسد في أعماله السردية ومقالاته ومواقفه المعروفة في الحياة التعليمية والثقافية في العراق وخارجه.. المؤلفات الإبداعية بآلاف الصفحات وبالمجلدات الثمانية تقول لنا ببلاغة إن حضور خصباك في الحياة الأدبية لم يخفه غياب أو إهمال أو تجاهل، لأن ذلك دون أشياء كثيرة لا تستطيع قوة ما أن تمنعها أو تحجبها وإن فعلت ذلك لزمن قصير.

شاكر خصباك والاتجاه الواقعي في الأدب:
رغم ما قدّمناه آنفاً لابد لنا من القول أن واقعية خصباك ليست من النوع الفوتوغرافي أو النقدي. إنها ممزوجة باستبطان أعماق شخصياته، يترك لها حرية الحوار الداخلي لنكتشف -نحن القراء- أعماقها الدفينة وآراءها بما تمرّ به من أحداث. صحيح أن اللغة تشتغل على أساس كونها عنصر توصيل فتقع في الفعل دون احتفاء بجماليتها التعبيرية. ولكن التنامي الهادئ في بناء العمل يعوّض عن ذلك بإيقاع جميل لعله بعض تأثرات خصباك بالمسرح. وهو الذي كتب عدداً وافراً من المسرحيات فنجح في توظيف الصراع لخدمة حبكات أعماله.
ويصف الشهيد الأديب غسان كنفاني رواية شاكر خصباك (حكايات من بلدتنا) بأنها علامة استفهام حادة مثل عقفة السكين، منوّهاً إلى أن الرواية لا تكتفي برصد الفعل وردّ الفعل بل بما سمّاه (عصر التوقيت الذي يعطي العمل الفني متعته واستجاباته).
وهذا ما يمكن أن يقال عن رواية (نهاية إنسان يفكر) التي أصدرها المؤلف عام 2001. فهذه الرواية تعمل على تأكيد هذا البعد الثالث في كتابة خصباك الروائية. فالجملة الأولى فيها تبدأ بحوار داخلي تعتمد على رصد الإحساس بعد أن انتهى الفعل السردي نفسه: «ما أنا فاعل بحياتي؟ أنا الآن أسبح في الفراغ، وقد غاب عني أنني سأُلقى يوماً في مثل هذا الفراغ».
والشخصية المتحدثة هنا هي قاض محال على التقاعد تنبثق أسئلته فجأة وهو يجد نفسه في وسط ذلك الفراغ، مستذكراً ما كانت عليه حياته. إن عنصر التوقيت هنا أي المزاوجة بين زمن السرد وزمن الأحداث (الحاضر والماضي) هو الذي يمنح الرواية إيقاعها المميز، ويبعد عنها الرتابة التي تسم أغلب الأحداث المستندة إلى الواقع بكثافته وثقله.


الرواية تتوتر كالقوس المشدود بين جملتي البداية والختام.. البداية أو الاستهلال بسؤال حكمت القاضي المتقاعد لنفسه: «ما أنا فاعل بحياتي» وتنتهي على صدى سؤاله في ختام الرواية «ماذا أرجو من الحياة بعد؟».
بين هذين السؤالين تنبعث الرواية لنناقش العاطفة والواجب، الريف والمدينة، الجد واللهو، الحقيقة والزيف، العدل الغائب والحق، من خلال عودة القاضي المتقاعد إلى ملفات القضايا التي حكم فيها، ليجد نفسه غير منصف في بعضها. فيدعو علناً إلى دراسة الواقع وعدم الاكتفاء بنصوص القانون ومرجعياته بشكل تقليدي مما يقابل من زملائه بالرفض والنقاش.
السياق الذي وضع فيه شاكر خصباك بطل روايته يسمح بأن يقابل القاضي بعض (ضحاياه) أو الذين حكم عليهم ويتفهم ظروف جرائمهم، ليجد أن تلك الظروف هي المسؤولة عن أفعالهم، فضلاً عن أن بعضها مرتبط بتضحية نبيلة. فيندم على اعتقاداته السابقة، لأنه كان واهماً حين ظن أن القضاء العادل لا يلتقي مع العاطفة أو (الاستسلام لها).
أما السجن مكان العقاب الذي كان يرسل إليه مخالفي القانون، فقد اكتشف أنه ليس إلا (الجحيم) نفسه، وأن ما كان يحسبه عدالة تتحقق عبر الأحكام التي يصدرها، ليست إلا مصادرة للعدالة الاجتماعية الغائبة أصلاً والتي يلوم زملاءه القضاة لأنهم لا يلاحظونها.
وهكذا هم أبطال شاكر خصباك: مثقفون وذوو أساسية المجتمع، لكنهم معترضون غاضبون باحثون دائماً عن عدل مفقود وحق ضائع وسعادة غائبة.

أما رواية (الفصول الأربعة) وهي الرواية التي أصدرها الكاتب في عام 2004 فتتيح السبل التي تنافح بها الواقعية عن نفسها بعد انحسار مدّها تحت وطأة موجات التحديث في الكتابة السردية ودخول الرواية خاصة مراحل تجريبية مهمة، لم تعد فيها المعالجات (الواقعية) القائمة على ثيمات الانعكاس وتصوير الواقع وانقسامات المجتمع وصراع طبقاته ونزعاته ومصالحه إلا إرثاً تحتفظ به المكتبة الروائية العربية كجزء من سيرورتها التاريخية.
فالقاص والروائي شاكر خصباك يصطف إلى جانب أسماء ذات فاعلية في السرد العربي -والعراقي خاصة- بالاحتكام إلى الجانب التاريخي على الأقل، فهو يحضر ضمن جيل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وسواهم من كتّاب القصة والرواية الذين يسجلون عبر إرثهم السردي تطور الرؤية والمعالجة الموضوعاتية، وتخفيف ثقل (الواقع) كمرجع أساسي في المنظور الروائي التقليدي. بل يمثل بعضهم -التكرلي خاصة- ما يمكن تسميته بحيوية الكتابة الروائية ودخولها في مناطق شعورية تلامس أعماق الشخصيات والأزمنة والأمكنة التي يقدَّر لهم روائياً العيش فيها، حتى ليصبح (الواقع) مجرد مناسبة بمفرداته وتفاصيله وإيديولوجياته السائدة لرصد ذبذبات النفس البشرية وصراعاتها وأزماتها الداخلية، تخلصاً من فهم آليّ أو انعكاسي يتباهى بنقل الواقع -كما يتصوره أو يتوهمه الكاتب في العادة- حتى لتعود الكتابة السردية مجرد تمثيل تطابقي متناظر مع الخارج وفق تلك النظرة التي وصلت على أيدي بعض دعاتها ومنظّريها إلى درجة التطابق، لا مجرد التمثيل أو التشابه مع ذلك الواقع المفترض. فنحن نعلم أن تكريس الواقع في منظور اجتماعي واحد هو جزء من المنظور الإيديولوجي المتأثر بإنجازات الواقعية الاشتراكية وممهداتها قبل حصول التحولات الكبرى في العالم بعد انهيار النظم الشيوعية وزوال هيمنة تلك النظرة الواقعية على الكتابة الأدبية عامة والروائية خاصة..
شاكر خصباك يحس بهذا المأزق الذي تعيشه الواقعية التي تنتمي إليها أغلب كتاباته السردية المتميزة بقصرها وتركيزها وميلها إلى تحليل الشخصيات ولكن بعد اندراجهم ضمن أحداث يقدر لهم أن يعيشوها فيكون حدوثها مناسبة لوجودهم وليس العكس.. أعني أن الأحداث وأفعال السرد في جلّ أعمال خصباك هي التي تؤطر -بل تصنع- طبائع الشخصيات وقيمهم السلوكية والنفسية وهي التي تحدد وجهات النظر والرؤى ومصائر السرد كله.. وهذا ينطبق على أعماله المسرحية أيضاً، لكنه يبرز في رواياته بحدّة ربما بسبب محدودية شخصياتها ووضوح أفعال السرد فيها وانشطار عالمها على وفق رؤية الخير والشر والخطأ والصواب وتنويعاتها الممكنة في ذلك الإطار. هكذا فكّر خصباك في (إنعاش) رؤاه الواقعية عبر الترميز هذه المرة، ومطابقة (الطبيعة) بفصولها وتقلباتها ورمزية دلالاتها المتباينة، فأسمى روايته (الفصول الأربعة) التي اعتبرناها عبر قراءتنا هنا فصول الحب الأربعة احتكاماً إلى حبكتها الأساسية القائمة على حب (قيس) الفتى الفقير للبنت الغنية المدللة (ليلى) وعيشهما (ربيع) حبهما، ثم دخولهما في خريف شاحب تتفاقم فيه خلافاتهما وتباين وجهات نظرهما حتى تنتهي قصة حبهما وزواجهما بالفراق بعد إصرار كل منهما على موقعه الذي يعبر بالضرورة عن انتمائه الاجتماعي أمر طبقته، حيث تخيّر (ليلى) زوجها الحبيب (قيس) بالهجرة أو الانفصال، بينما يرفض (قيس) -استجابة لحاضنته الاجتماعية وطبقته التي ينتمي إليها والمفترض رؤيوياً أنها ألصق بالوطن وترابه وناسه- مغادرة الوطن، ويرفض فكرة الهجرة بعد أن تراكمت تبايناته مع ليلى وتصرفاتها اليومية التي أراد الكاتب أن يختزل بها انتماءها الطبقي، كاستخدامها السيارة وسائق واستخدامها لامرأة (خادمة) تعمل في البيت، يضاف إلى ذلك تكفل أهل ليلى بدفع تلك النفقات...

ستقودنا تقنية الرواية أيضاً إلى ملاحظة ورصد تلك المحاولة الترميزية التي يبذلها خصباك لما أسميته (إنعاش) الواقع المصور في الرواية.. فالعنوان (الفصول الأربعة) يوهم أولاً بفصول السنة المتتابعة طبيعياً -وهنا يظهر أثر كتابات تشيخوف خاصة وهو نموذج خصباك الأول عالمياً ومثله القصصي -الأعلى وقد ألف كتاباً عنه في مطلع الخمسينيات- حيث تتداعى عبر العنوان سنن الطبيعة التي تسير على هواها كما يحصل في العادة، لكن الكاتب يحيل إليها تبدلات الطبائع الذاتية للشخصيات ثم يطابق بينها وبين تحولات السرد نفسه ومصير الحبكة الرئيسية..
لكن القارئ سيجد أن خصباك قد قسّم الرواية ذاتها -رغم قصرها- إلى فصول أربعة أعطاها أسماءً تطابق مدلولات فصول السنة وطقسها الطبيعي.. فالفصل الأول معنون بـ(الطفولة والصبا)، والثاني (اللقاء)، والثالث (أحلام مشتركة)، والرابع (الأفول)، وذلك التقسيم يؤطر الرواية زمنياً. فهو يتابع ولادة قيس في العام نفسه الذي ولدت فيه ليلى، ولكن في بيئتين أو حاضنتين مختلفتين اجتماعياً رغم وحدة المكان (المدينة) التي شهدت ولادتهما.. وتقنية كل فصل تتطلب انتباهاً من القارئ إذ تتقدم الفصل أسطر قليلة ترشده إلى خلاصة ما سيحدث أو ما حدث فعلاً على مستوى السرد ثم يجد اسم (ليلى) عنواناً جانبياً يصور الكاتب تحته ولادة ليلى لأبوين ميسورين ومثقفين حتى أن الأب يسمي المولودة (ليلى) «باسم أعظم معشوقة لدى أجدادنا العرب» كما يحدث زوجته التي تزيد بالتوقع أن مولودتها ستكون أجمل من ليلى العامرية التي جُنّ بها قيس.. وحين تنشأ ليلى وتكبر ستكون مثالاً للدلال الاجتماعي المعبّر لا عن عاطفة الأبوين بقدر تعبيره عن (الطبقة) ومنظورها للتربية والتملك والرفاهية، وهو ما سيكون سبباً ممهداً لانشطار حياة حبيبها قيس الذي سيولد في كنف أسرة مثقلة بالأفراد وليس لديها سوى حليب الأم غذاء له.. ولكن حنين الكاتب إلى الترميز ومحاولة الإنعاش التي تحدثنا عنها تجعله يحمل اسم قيس العاشق المأثور عند العرب ليناظر به وجود ليلى وليسير السرد بخط متوازٍ يحرص خصباك على انضباطه وتصعيده حتى لحظة التصادم أو الأفول.. ويعكس أيضاً وعي الكاتب بالتسميات في عمله.. سيكون هناك فصل للقاء ليلى وقيس في الجامعة ثم حلمهما المشترك بالزواج وتخطي صعاب الطبقة وفوارقها ولكن بإنذار الفشل الذي يهيئنا له الكاتب المؤمن باستقرار الطبائع ووجود الأفراد كرموز لطبقاتهم مهما علت بهم خيالات الحلم أو الحب أو الاختيار. فالفشل -أو الأفول- سيكون مصير زواجهما لأنهما لم يقدرا أو أن الكاتب أصلاً لم يدع لهما فرصة في إطار السرد نفسه لتجاوز الطبقة وأعرافها وتقاليدها.. فظلت ليلى تعيد إنتاج قيم أسرتها ودلالها ورفاهيتها فيما ينأى عنها قيس بعيداً حتى يعتبر في مناجاته الأخيرة -في آخر صفحات الرواية- أن اختياره الهجرة مع ليلى (خيانة لأهله وهجره لهم) وهذا ما لا يفعله بالتأكيد.. لكن الرواية ستأخذنا إلى مسار آخر لهمّ يتأكد في المعالجة السردية، وهو مصير الحب الكبير الذي يتساءل عنه قيس في النهاية: «أيمكن أن ينتهي ما بيني وبين ليلى بهذه البساطة؟ أين ولّى إذن حبنا العظيم؟ كيف يمكن أن يعجز هذا الحب العظيم عن التضحية برغبات ثانوية من رغائب الحياة؟».
أسئلة كهذه لا أشك أن القارئ سيوجهها للكاتب نفسه لأنه قاد تجربة الحب إلى مصيره ذاك لإيمانه بقوة الشروط المحايثة واللازمة في الفرد كمعبّر وناطق عن طبقته لا كشخصية تختار وتغامر فتصبح التضحية بمزايا الطبقة ممكنة ولازمة أيضاً..
في ظني أن الترميز رغم شاعريته لم ينقذ الرواية من سمتها التطابقية مع رؤية الواقع ومفرداته ودور الشخص فيه.. لكن لمسات خصباك الشاعرية جعلت جريان السرد عذباً ومشوقاً وتصادم الطبائع والمصائر مغرياً بالقراءة، بل يعيد إلى الذاكرة ذلك الجريان السردي الرائق في تلك الروايات الأولى التي لا تقلق شعور القارئ ولا تربكه أو تحيره..
شاكر خصباك بروايته الثانية عشرة هذه ومجاميعه القصصية ومسرحياته العديدة يقدم أمثولة على رؤية ثابتة تجد في الواقع رغم التباساته وأزماته وتشققاته وتصدعاته مرجعية ممكنة، بل وحيدة في عمل روائي ينتعش أحياناً بالنزعة الطبيعية أو الشاعرية... ويمهر في عرض الأفكار عبر حوارات ذكية ومختزلة تقوم بكشف الطبائع وتطوير خط السرد مما يدل على تراكم الخبرة والحرفة الروائية التي عرف بها خصباك الذي أحسب شخصياً أن تجربته ضمن التيار الواقعي لم تدرس بما تستحقه..


عن الأدب المسرحي في إبداع الدكتور شاكر خصباك
□ أ. د. عبد الله حسين محمد البار

تكمن عظمة الإبداع في كونه تجاوزاً للموجود، والتصاقاً بالمنشود، لا في كونه مماهاةً للمشهود، أو سيراً على الدرب المتآلف لا المتباين. ومن هنا صار الإبداع كائناً يتأبّى على التقليد فيتحرّر منه، ويتحلّى بالتجديد فيغدو أبرزَ صفاته ونعوته. ولأنه لا يستقيم إلا بالفرادة، ولا تنتظم مخايله إلا بالتعالي على صور الترسّم والاحتذاء فقد تجاوز الكثرة الكاثرةَ من الأسماء التي أسهمت فيه بنصيب وإن اشتملت عليها كتب التاريخ الأدبيّ، ومنح القلّةَ القليلة والعددَ المحدودَ من الأعلام حظّ التّميّز والازدهاء الجماليّ لما اتسمت به أعمالهم من فرادةٍ وامتياز. وبهذا يغدو المبدع المذكور في عالم الإبداع مفرداً علماً، يشار إليه بإجلالٍ وتقديرٍ لا يحظى بهما من هم دونه خلقاً وإبداعاً. وشواهد التاريخ الأدبيّ دالّة على هذا الموضوع، ولنا فيها ما يبين عن المغزى ويكشف عن المقصود.

وإذا كان الآخرون قد درجوا على ضرب الأمثال على عظماء المبدعين بذكر أسماء أعلامٍ اشتهرت في قديم الزّمان كأبي الطّيّب في تاريخ الشّعريّة العربيّة، أو شكسبير عند الإنجليز أو آخرين من أمثالهما من أعلام المبدعين في تاريخ الآداب عند الأمم فإنّا سنعمد ههنا إلى ذكر أعلامٍ من تاريخ الإبداع العربيّ في عصره الحديث، وإنّ في ذكرها ههنا ما يفي بالغرض ويجلو لنا أبعاد المرام في هذا المقام. ولنقف قليلاً عند تاريخ المسرح في العالم العربيّ فقد أجمع المؤرخون له على أنّ تاريخ ميلاده بدأ مذ عرفه العالم العربيّ على يد مارون النّقّاش في عام 1847م. وهو تاريخ يدلّ على «مجرد انبثاقٍ إلى الوجود، ومحاكاةٍ لظواهرفنيّة رآها المثقفون العرب في بلاد أوربا فاستوردوها استيراداً إلى بلادهم» كما قال الدكتور علي الرّاعي في كتابه عن (المسرح في الوطن العربي)، (ص65). فكانت مسرحية (البخيل) للنقاش استيحاءً من موليير، وتوالت بعدها المسرحيّات مقتبسةً من تاريخ العرب القديم، أو ملخّصةً من أدب الغرب المسرحيّ، ومنها ما أغرق في الهزل، وقام على قدرات الممثل في الأداء، وإمكاناته على أسر المشاهد بقوّة الإيهام في التمثيل. لكنّ أدب المسرح لم يرق مرتقاه المنشود إلا حين أبدع توفيق الحكيم مسرحيّاته العظيمة منذ أخرج للناس (شهرزاد) و(أهل الكهف) و(بجماليون) و(سليمان الحكيم)... وما أشبهها من مسرحيّاتٍ عظيمة غدا بها مؤلّفها علماً مفرداً في عالم التأليف المسرحيّ، ومبتغى منشوداً يترسّم خطاه السّائرون على درب التأليف المسرحيّ من علي أحمد باكثير مروراً بنعمان عاشور وألفريد فرج ومحمود دياب ووصولاً إلى آخرين من أمثالهم من المبدعين في عالم أدب المسرح، وحسبك منهم ههنا سعد الله ونّوس، وإن لم يقلَّ الآخرون عنه منزلةً. هؤلاء جميعاً -من ذكرناهم اسماً ومن لم نذكرهم- ما كان لهم أن يكونوا على تلك السّمة من الخلق والإبداع لو لم يشقّ لهم عبقريٌّ عظيمٌ هو توفيق الحكيم الدرب الشّاقّ في الأدب المسرحيّ. ومن هنا غدا الحكيم مثلاً أعلى في مجاله، وصخرةً لا يقوى على تجاوزها إلا من امتلك الموهبة القادرة على تجاوز الموجود والالتصاق بالمنشود في عالم الإبداع. وإذا كان عالم التأليف المسرحيّ قد عرف -قبل الحكيم- أسماء كتّابٍ أسهموا في أدب المسرح بنصيبٍ كـ(إبراهيم رمزي، وفرح أنطون، ومحمود تيمور...) فإنّهم لم يبلغوا في عوالم التخييل المسرحيّ ما بلغه الحكيم في هذا المجال، وتقاصروا عن أن يكونوا نموذجاً يحتذى. وليس الأمر مقتصراً على مواكبة (تقاليع) الاتجاهات المسرحيّة ممّا جادت به الحركات الأدبيّة في الغرب، ولكنّه متصلٌ بطرائق الفنّان في توظيف كلّ التجارب المسرحيّة منذ اليونان قديماً وحتّى مسرح اللامعقول في منتصف القرن العشرين. وفي هذا ما ينبئ أنّ الإبداع ليس خلقاً من عدمٍ ولكنّه مزجٌ من التجارب الفكريّة والإنشائيّة الجماليّة وما إلى هذا وذاك من وسائل يخصب بها المنجز الإبداعيّ ويزداد ثراءً. وما ذكرناه عن الحكيم ههنا يتطابق مع ما يمكن ذكره عن آخرين من أمثاله أبدعوا في مجالاتٍ أخرى كالقصة القصيرة والرّواية والقصيدة، وأكثرهم ممّن لا يخفى على الألبّاء اسمه، فحسبكم الإشارة منّي وكفى.
من هذا كلّه نتبيّن أنّ تاريخ الآداب إن لم يكن قائماً على غربلة النصوص، والكشف عن مظانّ العبقرية فيها غدا تدويناً للواقع وحسب، وقصّر عن أن يكون جلاءً لمظاهر الخلق والإبداع فيها. وهو أمرٌ يتّصل من جهاتٍ عديدةٍ بالتقويم النقديّ، وبالحرص على تلمّس مظاهر الحساسيّة التجديديّة عند هذا المبدع أو ذاك. فيتراءى دور كلّ واحدٍ منهما جليّاً، ويدرك المتلقّون فوارق ما بينهما وإن نسجا في مجالٍ أدبيّ واحدٍ. بل ويمتدّ الأمر ليمسّ المبدع نفسه فيما أنتج من أعمالٍ أدبيّةٍ جلّى في بعضها فجاء بالجميل المونق، وخانه الإبداع في بعضها فجاء المستهجن المرذول. وتلك عمليّة للتمييز بين الأعمال المنجرة خلقاً إن لم تكن نصب عيني مؤرّخ الآداب جاء عمله قاصراً، وأخفق من حيث رام النّجاح، إلا إن كان من الذين يرون أن لا فرق ما بين مبدعٍ وسواه، ولا يقيم حسباناً لعدم الاستواء بين من يبدعون ومن لا يبدعون.
هذه فذلكةٌ ألج بها ومنها إلى الحديث عن أدب المسرح في إبداع الدكتور شاكر خصباك، وهو إبداعٌ متنوّعٌ متعدّد المجال. فمن قصةٍ قصيرةٍ، إلى روايةٍ، إلى مسرحيةٍ، إلى أدب الخواطر الذي يكاد يقلّ الاعتناء به على أهمّيته، فانصرف عنه الكتاب وما كان لهم أن ينصرفوا عنه.
هذا التنوّع في مجال الإبداع الأدبيّ في إنتاج الدكتور شاكر يدلّ على ثراء ثقافيّ متنوّعٍ، ويدلّ على موهبةٍ خصبةٍ قادرةٍ على سبر أغوار الحياة وتفهّم أبعادها ثمّ التعبير عنها كما استكنّت صورتها في الوجدان، ويدلّ على رغبة المبدع في تجريب قدراته على الكتابة دون حشرها وحشدها في مجالٍ إبداعيٍ واحدٍ. وتلك هي صورة المبدعين في عصور التّنوير، فكان طه حسين باحثاً وناقداً وكاتب روايةٍ وشيئاً آخر غير هذا وذاك. ومثله كان العقّاد والمازنيّ وحتّى الحكيم حين تُذكَرُ رواياتُه مثل عودة الرّوح ويوميّات نائب في الأرياف وسواهما من الأعمال. وما هؤلاء إلا أمثلةٌ شوارد نستشهد بذكرها ههنا لأن المقام يضيق عن الإحاطة بالجميع.
ولقد كتب الدكتور خصباك في أدب المسرح جملةً من الأعمال، منها ما هو مسرحيّة طويلة مثل (الدكتاتور وبيت الزوجية والشيء والقضيّة والغرباء والتركة). ومنها ما هو مسرحيّة قصيرة من ذوات الفصل الواحد المتعدد المشاهد، ومن أمثالها (الجدار وفي انتظار جودو والمخذولون والبهلوان واللص والعنكبوت والغائب)... إلى آخر ما هنالك من ذلك.
وإنّ قارئ هذه المسرحيّات بعضها أو كلّها لا يخطئه ما فيها من نزوعٍ إلى ما أسماه الحكيم بالمسرح الذّهنيّ أو الفكريّ، وهو مسرحٌ يميل إلى عرض الأفكار على المسرح يتجادل بها شخوص المسرحيّة ممّا يقلّل من حدّة الصّراع، فيخفت فيها عنصر الفرجة الذي هو أساس العمل التمثيليّ. وتلك دعوى تنقضها الأعمال الإبداعيّة ذاتها، إن في مسرح الحكيم نفسه وإن في مسرح من ساروا على الدّرب الذي سار عليه من قبلهم. وأعني بهذا القول أنّ في هذا المسرح الفكريّ عناصر الفرجة ظاهرة، ولم تخلّ منه وإن جرى الزّعم بسواه. وسأضرب لك مثلاً شروداً من أدب الدكتور خصباك يؤكّد لك ما أدّعيه. في مسرحيّته (أين الحقيقة؟) يستخدم ما يمكن تسميته بطريقة المسرح الشّعبيّ، حيث يسقط الحائط الرّابع الذي ينشئ الوهم عند المشاهدين بأنّ ما يجري على خشبة المسرح حوادث واقعيّة لا مجرد تمثيلٍ يتفرّجون على وقائعه، ويتلمّسون من مشاهدة عرضه غاياتٍ ومقاصدَ شتّى. وتلك هي صيغة المسرح كما عرفه العالم الغربيّ حتى كسر نسقه المبدع الألمانيّ بريخت حين قدّم صيغةً جديدة مغايرة أسماها بالمسرح الملحميّ.
إن مسرحيّة الدكتور خصباك هذه مسرحيّةٌ تجري أحداثها في ميدانٍ عامّ، وتفتتح بالمخرج يخطو إلى مقدّمة المسرح ليخاطب الجمهور معرّفاً بنفسه وبطبيعة مسرحيّته التي سيعرضها عليهم، ويعيّن لهم الأبطال الذين سيعيدون وقائع انتحار الحاج ماجد العبد الله الذي هزّ انتحاره القلوب، والذي أخفت حياتُه أسراراً لم يُكشف عنها إلا بعد موته. وهي تتقسّم على ثلاثة مشاهد كلّ مشهدٍ منها ينبئ عن سرّ يغاير ما عرفه الناس من سيرة هذا الصناعي الشهير والمحسن الكبير، وتضع قارئ المسرحيّة ومشاهدها في حيرةٍ من معرفة السبب الحقيقيّ الذي أودى بحياته. والحديث عن هذا الأمر متّصلٌ بالحديث عن مضمون المسرحيّة ومحتواها، فلنعدّ عنه لننظر في طريقة الدكتور خصباك في تحقيق فنّ الفرجة لمسرحيّته حتى يظلَّ قارئها أو مشاهدها مأسوراً لها من بدية عرضها إلى ختامها، وحتّى لا يتحوّل النّصّ المسرحيّ إلى مجرّد مناقشاتٍ فلسفيّة حول معنى الحقيقة وجوهرها العميق. وأوّل ما يلجأ إليه لتحقيق فنّ الفرجة في النّصّ إلغاؤه عنصر (الكواليس) من عمليّة الإخراج على أهميّتها، ففيها يتمّ إعداد الممثّل ليتهيّأ لأداء دوره المرسوم. أمّا ههنا فإنّ أحد العاملين في المسرحية يتولّى عمليّة المكياج و(يلبس الممثّلين الملابس المناسبة). ويتمّ تجهيز تفصيلات المشهد كاملةً أمام الجمهور المشاهد دون ستارةٍ تسدل أو ترفع بعد إسدال. إلغاء الكواليس في الإخراج عمليّةٌ تجذب أنظار المشاهد فيتابع تهيئة الممثّلين وإعداد المشهد دون أن يتآكله الفضول لمعرفة ما يدور في الكواليس. يتلو ذلك مشاركة بعض الجمهور في الحوار الذي يدور بين أبطال المسرحيّة إمّا للدفاع عن سيرة المحسن الكبير أو لتأكيد ما تتعرّض له سيرتها من اتّهاماتٍ شتّى في خلقه وحياته العمليّة والزوجيّة. ويبلغ التشويق في هذا الاتجاه حدّاً عظيماً حتّى ليغدو الحوار بين الأبطال على خشبة المسرح سرداً للوقائع، ومثيراً بحيث يستدعي استجابات الجمهور الذي يتدخّل في الحوار على نحوٍ ينبئ عن صراعٍ عميقٍ بين الشخوص الذين يغدون جزءاً من عرض المسرحيّة ممثّلين لقيمٍ متناقضةٍ ومواقف تتنوّع بتنوّع ما تحمله كلّ شخصيّةٍ من مثلٍ. الأمر الثالث الذي به يتحقّق للمسرحيّة فنّ الفرجة هو لجوؤها إلى التّدرّج في عرض المشاهد، حيث بدأت بالعامّ -وهو ما يتعلّق بالمصاعب الماليّة التي تواجه ماجد العبد الله-، ثمّ تعرّج على طريقته في التّعامل مع العاملات في المصنع، وتنتهي بالخاصّ الذي يتعلّق بطبيعة العلاقة الزوجيّة التي تتهدّد بالتلاشي والزوال. وهو تدرّجٌ في عرض المشكلة يحيط المتلقّي بشيءٍ من الغموض يلزمه شيئاً من الانتباه واليقظة في متابعة الحدث المعروض والحوار المسموع، ولا ينأى به عن المشاركة في تعليق من هم في الصّالة على ما يحدث على خشبة المسرح. أمّا الأمر الأخير الذي به يتحقّق للمسرحيّة فنّ الفرجة فهو النهاية المفتوحة التي تختم بعدها المسرحيّة ويُسدل السّتار. هذه النّهاية يعلنها المخرج بعد ختام المشهد الثالث، لكنّ الجمهور لا يقتنع بها خاتمةٌ للمسرحيّة فيستمرّ اللجاج حول حقيقة الحدث والموقف من شخصيّة الحاج ماجد العبد الله، وكأنّما قصدت المسرحيّة إلى ذلك قصداً ليظلّ أثرها في أذهان المشاهدين غير منقطعٍ، ويستمرّ الحوار حولها دون انتهاء. وتلك حيلةٌ من حيلٍ جمّةٍ يعمد إليها كتّاب السّرد عامّةً، لكن ظهورها في أدب المسرح قلّ حتّى كاد أن يكون منعدماً، وما ظهورها ههنا إلا صورةٌ من صور الإبداع في التأليف المسرحيّ عند الدكتور خصباك.

والنّاظر في أدب المسرح عند الدكتور خصباك يكتشف تعالي مسرحه عن فنّ (الأوتشرك) الذي عرفه مسرح تشيخوف، ويقصد به أن تتخذ المسرحيّة صيغة (الريبورتاج) وسيلةً لها. فالشّخصيّات والأحداث لا تتطوّر وفق المنظور الأرسطيّ: بداية وأزمةٌ تتعقد بها الأحداث والشخوص ثمّ يكون الانفراج ويتجلّى الحلّ. وإنما هو يصنع أحداث مسرحيّته وشخوصها وفق ما يتجلّى أمامه من شخصيّاتٍ لكلِّ منها قصتها ومشكلتها، فيختار منها -على ما بها من خصوصيّة- ما رام، ثم يتعالى بها لتغدو همّاً عاماً ينشغل به الآخرون. ولعلّ في مسرحيّته (الدكتاتور) ما يدلّ على ذلك ويشير إليه. وفي هذه المسرحيّة يتّكئ الدكتور خصباك على بعض ما عرف في فنّ المسرحيّة عند اليونان من حيث استخدام (الجوقة) وجعلها بطلاً من أبطال المسرحيّة. فهي فاعلةٌ فيها، ومسهمةٌ في تحريك الحدث وتنويع نغماته. لكنّه يتجاوز ذلك فيلجأ إلى إحداث تداخلٍ بين حاضر الزمان وماضيه. فتتعدّد صوره لكنّ جوهرها واحدٌ من حيث دلالتها على طبيعة الدكتاتور في كلّ الأزمنة. ولعلّ إخراج نصٍّ مسرحيٍّ مثل هذا لا يتأتى إلا حين يعمد مخرجه إلى استخدام أسلوب المسرح الملحميّ الذي تتداخل فيه الوسائل وتتنوّع. وما كان لهذا الأمر أن يكون كذلك لولا أنّ المبدع قد أدرك أبعاد هذا المسرح ووعى خصائصه فضمّن بعضها في مسرحيّته هذه.


وأخيراً أقول إنّ التأمّل فيما تمّ عرضه سلفاً يفضي بنا إلى إدراك مدى الاستراتيجية الإبداعيّة التي عمد إليها المبدع الفنّان الدكتور شاكر خصباك وأسهمت في إنتاج أدبيّته.
فأعظم به نصّاً... وأكرم به مبدعاً...

الدكتور شاكر خصباك(*)
روائياً وقاصاً ومسرحياً عالمياً أهمله النقاد
□ أ. د. عبد الملك المقرمي

لم أرَ في حياتي ولم أسمع عن كاتب وأديب، روائي وقاص ومسرحي كبير، ظل طوال حياته الحافلة بالعطاء، -أطال الله عمره- يكتب ويبدع بدون توقف بينما يحيط به صمت الأدباء والكتاب والنقاد من كل اتجاه، بل ليس هناك من ينبس ببنت شفة حول أدب هذا المفكّر والكاتب الكبير الذي سأُقدّم لأعماله الروائية والمسرحية والقصصية في عمل سوسيولوجي متعدد المداخل ربما لأول مرة -في حدود علمي- راجياً من أستاذنا الكبير شاكر خصباك تصحيح بعض المعلومات التي قد لا تكون صحيحة في هذا الموضوع.
لن أبدأ بتلك البداية الكلاسيكية حول حياة شاكر خصباك وأدبه المتعدد الأشكال والمضامين، بل سأدخل مباشرة إلى أعماله مقسماً إياها إلى ثلاث شرائح هي:
الشريحة الأولى: الأعمال الروائية لشاكر خصباك.
الشريحة الثانية: الأعمال القصصية لشاكر خصباك.
الشريحة الثالثة: الأعمال المسرحية لشاكر خصباك.

وبناءً على هذا التقسيم سوف يتألف هذا البحث من ثلاثة أبواب هي بمثابة ثلاثة وجوه لوجه واحد، أو على الأصح ثلاثة أبعاد لأعمال خصباك الثريّة الرحيبة. ولست أزعم مطلقاً أنني ناقد أدبي، أو أنني سأتناولها من زاوية نظريات الأدب والنقد الأدبي فذلك يقع خارج نطاق اختصاصي ذو الطابع والمحتوى السوسيولوجي - الانثروبولوجي، لكنني لن أغفل عن بعض تقنيات ومناهج وأدوات النقد الأدبي متى ما استدعى الأمر ذلك.
الباب الأول:
الشريحة الأولى: الأعمال الروائية لشاكر خصباك.
وقد صدرت له مجموعة كبيرة من الروايات هي:
1- حكايات من بلدتنا.
2- السؤال.
3- هيلة.
4- الهوية.
5- امرأة ضائعة.
6- قصة حب والطائر (روايتان).
7- الخاطئة.
8- موت نذير العدل.
9- أوراق رئيس.
10- نهاية إنسان يفكر.
11- خواطر فتاة عاقلة.
12- عالم مليكة.
13- الفصول الأربعة.
14- الأصدقاء الثلاثة.

تلك هي الروايات التي صدرت لشاكر خصباك عبر رحلته الأدبية الإبداعية الغزيرة الشديدة الثراء والتنوّع. وبما أننا فضلنا تقسيم أعماله إلى ثلاثة شرائح فإننا نبدأ أولاً بإلقاء مجموعة من التساؤلات عن مبررات هذا التقسيم بالصورة التالية:
- هل يمكن تجنب هذا التقسيم لأعماله الروائية والقصصية والمسرحية؟ الجواب (لا). فشاكر خصباك تشغله فكرة مركزية واحدة هي ارتهان العقل العربي في قيوده النصوصية للجمود والحرفية المفضية إلى التجمد الأبدي داخل قوالب ثلجية ضخمة هائلة يصعب إذابتها.
- وتلك القوالب الثلجية الضخمة الهائلة ما هي إلا الزمان والتاريخ والثقافة، Frozen in Time Culture and History.
- فهل بإمكان شاكر خصباك مناقشة هذه المعضلة الهائلة عبر جنس واحد من الأدب؟! أبداً.. إن روح الفكرة التي تحرّك أعماله تتطلب الطرح والمعالجة من أكثر من زاوية. فأنا أكاد أرى شاكر خصباك وهو منهمك عبر ستين عاماً تقريباً بإصرار وإلحاح في تفكيك وتكسير تلك القوالب بأزاميله وأدواته وأفكاره.. فهو لا يهدأ لحظة واحدة عن محاولة كسر قالب الزمن المتجمد وتحريك إرادة الإنسان العربي وإخراجه من غفوته الأبدية التي قد تدوم قروناً وقروناً.
- إذن ضمن هذه العوالم الجديدة الأدبية والفكرية تتنوع عوالم خصباك الأدبية والفكرية وتصبح ذات إشكالية قائمة بذاتها. ولذا كان لزاماً عليه استخدام أدوات عدة لكسر كل زاوية من زوايا ذلك القالب الكوني الضخم الثلجي الذي تجمّد بداخله تاريخ العقل العربي ونام فوق أبدية. فالقصة أداة، والمسرحية أداة، والرواية أداة، والكتابة الفكرية أداة، وكلها تصب في سياق وإطار تاريخي وإبداعي وسياسي وثقافي وحضاري واحد.

فإذا كان الموضوع متنوعاً تعدت أساليب معالجته لصعوبة الوصول إلى جوهره وإخراجه من جموده الأدبي وتحجره التاريخي.

من هذه الخلفية البسيطة فضلت تقسيم أعمال شاكر خصباك إلى الشرائح التي ذكرتها أعلاه، وهو تقسيم تتطلبه ضرورة الشكل. أما الموضوع فهو لا يكاد يختلف من أول عمل أدبي له حتى آخر عمل.. فتلك المواضيع تزداد يوماً بعد يوم كثافة وجموداً، وهو التبرير الأكثر مثولاً في نظري لاعتبار أعمال شاكر خصباك من التميز والثراء والمتابعة والإصرار، ومن الالتزام بمعايير الجمالية الفنية والإبداعية بمكان يضعه في خانة المتفردين من كبار الأدباء والكتّاب والروائيين والقصصيين والمسرحيين في الوطن العربي والعالم.
هذا هو مشروعي لتأليف كتاب يدرس دراسة شاملة عالم شاكر خصباك الإبداعي الرحيب.

الرواية الشظية(*)
□ غسان كنفاني
من الذي يجرؤ على القول أن بعض الكتب ليست في الواقع إلا مخالب تنبثق من المجهول، تمزق وتجذب وتقلب، وتحوّل وتسحق وتنهش كأن القارئ قد خُطف فجأة إلى عالم من الزلزال لا حدود له؟
أجل بعض الكتب ليست إلا مخالب وثغرات ولعنات تدخل إلى الصميم وإلى الأعماق، تبدو أحياناً وكأنها رسالة شخصية من رجل يعرفك حق المعرفة، وكان طول الأعوام التي مضت يراقبك عن كثب كأنه ضميرك المستتر. وفجأة حين تحسب أنك في منجى من الحساب تصلك منه رسالة شخصية يفتح داخلها دفتر الحساب من أول صفحاته إلى آخرها ويصفعك.
هذا ما يمكن أن يوصف به كتاب الدكتور شاكر خصباك (حكايات من بلدتنا). إنه قصة بلدة يعيش شبّانها على انتفاخات الكبرياء والأوهام الأقرب إلى الأحلام. وفجأة يغتصب البرابرة البلدة وراء زئير رشاشاتهم وينتهكون كل قيمها دون أن يتصدى رجال البلدة للدفاع عنها. ويوماً بعد يوم تمتد مخالب البرابرة لتدمر قيمة وراء قيمة في حياة البلدة. ويحفل السجن الكبير الذي يبنيه الطغاة فوق تلة تشرف على البلدة بالمعتقلين من شبان البلدة وشاباتها الذين يلاقون داخل جدرانه الغامضة مصائر هي كل شيء إلا العودة إلى البلدة.
تحت سياط وأحذية الاستخذاء تنسحق كرامة البلدة وتزهر في كيانات سكانها زهور الجبن والخوف. ومع غياب كل شمس يحتل البرابرة مساحة جديدة من كبرياء سكان البلدة وأحلامهم وكرامتهم وقيمهم.
إن الرجال الذين يسوقهم البرابرة إلى الموت كل يوم هم في الواقع تكوينات من لحم ودم ولكنهم جزء من كفاءة البلدة على التمسك بقيمها ومطامحها وحريتها. الاسم عند شاكر خصباك ليس هدية شخصية ولكنه قيمة إنسانية ووطنية. ولذلك فحين يطلق البرابرة رصاص رشاشاتهم على رجل ما فإنهم إنما يغتالون مساحة من تاريخ البلدة ومن مبادئها.
وتمضي الرواية من فصل إلى فصل في عرض عتوّ البرابرة المتزايد أمام تراجع الكرامة المتزايد. وفي مكان ما من الرواية يحس القارئ أن شيئاً ما قد انكسر ووصلت الأحداث إلى (ذروة) غريبة هي مفترق مرير بين أن يقبل سكان البلدة مبدأ قبول الطغاة، وبين أن يتجاوزوا رفضه إلى مستوى التعبير عن هذا الرفض.
ولكن الرواية تتركنا في كلماتها الأخيرة معلّقين على ذلك المنعطف المرّ. تتركنا؟ كلا! إنها تترك فينا ذلك الوخز العميق الذي يشبه الشظية.
ما الذي حدث في السجن الكبير فوق التل؟ حتى متى سيظل رجال تلك البلدة يساقون إلى العذاب وإلى الموت، أو إلى الخضوع والخوف؟ حتى متى سيظل المنطق الأقوى هو منطق الرشاش؟ متى سيهزم رجال البلدة المسحوقة أسوار خوفهم وأسوار السجن ويكفوا عن الاحتماء بملاجئ وهمية يسمّونها الانتظار حيناً ورأفة القدر حيناً؟ أية بلدة هذه التي يستكشفها الدكتور شاكر خصباك؟ جغرافيا يبدو أنها العراق.. سياسياً ليست إلا فلسطين. إنسانياً ليست أبعد من ذلك الصراع المرير الذي يجري داخل مطلق الإنسان. تاريخياً ليست إلا سؤالاً فنياً.. هي في الواقع عمل جيد. ولكن الحقيقة هي أنها كل ذلك معاً.
إن العمل الفني -استطراداً- هو محصلة الفعل وردة الفعل، فعل العمل الفني ذاته وردّة فعل قارئه. في أحيان كثيرة يدخل عنصر ثالث إلى هذه المعادلة المبسطة وهو عنصر (الجو الزماني والمكاني) الذي تجري من خلاله عملية التزاوج بين الفعل وردّة الفعل. بالنسبة للرواية التي بين أيدينا الآن تتفاعل هذه العناصر الثلاثة باتساق ممتاز. فبين الفعل وردة الفعل يوجد عنصر التوقيت الذي يعطي العمل الفني قيمته واستجاباته. لقد وجّه الدكتور شاكر خصباك مخالب روايته إلى كتلة نفسية حساسة يسهل الغوص فيها وشقها. هذه الملاحظة ترمي إلى القول بأن الرواية قد تكون محط خلاف في بعض الجوانب. ولكن الحقيقة هي أنه يجب أن تجرأ على القول بأنه لا يوجد شيء اسمه عمل فني مطلق. فما هي القيمة الفنية المجردة مثلاً لخطاب الحجاج بن يوسف «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا» إن لم تنزل في مكانها من الجو الزماني والمكاني الذي أعطاها رنينها وعناصرها المعنوية وكساها بمعناها الأعمق من مجرد مستواها الفني؟
ولذلك فإن رواية (حكايات من بلدتنا) رواية ناجحة نتيجة لقياس معين ولكنه واقعي وثقيل ولا يمكن تجاهله. فلو نشرت وقرأت عام 1940 لكانت ربما أقل قيمة، ولكن حين تقرأ الآن فإنها ليست أقل من كأس من الكحول تفرغ فجأة فوق جرح جديد. وثمة فارق كبير لو أن تلك الكأس دلقت فوق جسد مجروح.
إنها رواية - مخلب، كفّ يصفع بشدة، إهانة، دعوة، علامة استفهام حادة مثل عقفة السكين. وفي الفصل الأخير منها، حين يضحى (الانتظار) كابوساً معيناً لا قدرة له على الفداء ولا على النوم، يشعر القارئ بالدموع تملأ حنجرته، ولكن -أيضاً- بأن الحكاية الحادية عشرة في حكايات بلدتنا لم يكتب بعد.

العراق بعيون عراقية(*)
دراسة نقدية للنتاج الأدبي للدكتور شاكر خصباك
□ د. سعاد محمد إبراهيم خضر
المقدمة..
يصعب على أي كاتب الحديث بشمولية عن كاتب وعالم كبير كما الدكتور شاكر خصباك الذي أبحر عميقاً في بحور الأدب، واقتنص لآلئه مقدماً للقارئ العربي نتاجاً متنوعاً من قصة ومسرحية ونقد.. ومنذ أن كان شاباً يافعاً وحتى اليوم، تتحدث الصحافة الأدبية عنه وعن كتاباته الثرة. وقد تناول كتاب مصريون وعرب متألقون في عالم الكتابة، تناولوا كتاباته العلمية والأدبية بالدراسة والنقد.

فمن الصعوبة بمكان التصدي للحديث عن كاتب شامل متميز بأسلوبه الخاص وبمواضيعه التي يطرحها والتي تأتي لتؤرخ لحقبة كبيرة من تاريخ العراق الحديث بكل ما جرى ويجري في الحياة السياسية وإنسانه المكافح، فقد قدم في دقة صورة لحياة الشارع العراقي السياسي وعواقبها في ظل الحكام المتعاقبين في عصرنا الحاضر.
وتتأتى الصعوبة كذلك من أن الكاتب ما زال يعيش بين ظهرانينا وما زال يواصل الكتابة في كل الميادين. وتتطلب الكتابة عنه الدقة والاهتمام الزائد والوضوح والتقدير لنتاج معروف جيداً بين عراقيي المنفى وأتمنى لو اطلع ويطلع عليه عراقيو الداخل.
والدكتور شاكر خصباك عالم جغرافي كبير وواحد من بين عدد محدود من علماء الشرق الأوسط ونشر ترجمات عديدة ومؤلفات أكثر في مجال اختصاصه لتصل إلى أكثر من عشرين.

وقد تألق في ميدان الأدب تألقه في ميدان العلم وتتحدث كتاباته العديدة عن فكر علمي واضح ونظرة عميقة دقيقة لظواهر الحياة ولكل ظروف الحياة التي عاشها ويعيشها محاولاً التغلغل في أعماق النفس الإنسانية ومعبراً بذلك عن اهتماماته الحقيقية بحياة إنساننا العراقي والعربي بوجه عام، أكان في القمة أو في القاع.
لقد أتم الدكتور شاكر خصباك دراساته العليا في القاهرة حيث أضافت إليه حياته في مصر زاداً جديداً من الخبرات في علاقاته العديدة الواسعة المتواصلة مع الكتاب ومع الناس وفي مناخ ثقافي ثر.
إنه يقدم أبطاله الذين يمثلون جميع طبقات وشرائح المجتمع العراقي والفلسطيني والعربي عامة في أبسط تفاصيل حياتها وتصرفاتها وتداعياتها النفسية حيث يقدمها في قصة أو مسرحية أو رواية في أسلوب سهل ممتنع، حيث يختار بدقة مفردته المثقفة دقيقة المعنى التي تعبر في سهولة عن أي موقف أو حالة أو صفة من صفات النفس الإنسانية دون ابتذال ودون تلاعب بعواطف القراء المكبوتة ودون الالتجاء إلى أية إثارة مفتعلة كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين الذي يتصورون أن التعبير عن معارضة موقف حياتي ما لن يتم في نظرهم إلا باللجوء إلى المفردة المبتذلة أو افتعال الجنس والحديث عنه بصراحة ممجوجة. فعلى العكس من هؤلاء، فإن الدكتور شاكر خصباك الذي خاض جميع ميادين الحياة وتحدث عن جميع المظاهر الحياتية من تمرد وثورة وحب وجنس ولكن في أسلوب جميل هادئ مركز ومفردة منتقاة مهذبة تتحدث عن كل ذلك بوضوح ودون إثارة رخيصة. فهو لا يختار إلا المفردة الراقية بالغة الدقة والتي تقدم دوماً الصورة الحقيقية للغتنا العربية الجميلة يغترف من لآلئ بحورها الغنية التي تعبر عن جميع مقومات إبداع الكاتب وتساعده على التعبير بسهولة ويسر عن جميع جوانب الموضوع الذي يتطرق إليه.
لقد عرف بخبرته الكبيرة في الكتابة العلمية كيف يختار المفردة الدقيقة المعبرة في كتاباته الأدبية. إنه لا يكرر نفسه ولا أسلوبه حيث يقدم في كل مرة شكلاً متطوراً يعتمد الدقة واليسر وبدون مبالغة فلا تمطيط للمعاني والجمل بدون مبرر. ولذلك تجد روايته تحوي جنبات متعددة لموضوع كبير جداً ومتعدد الشخوص ولكنها جميعاً موضوعة في إطار محدد بدقة، كبيراً معبراً في سهولة عن كل ما يريد الكاتب قوله.
وبطله أو بطلته الرئيسية فهو الإنسان العراقي، هم الكاتب، وسيظل ذلك الإنسان وبشكل عام همه الأكبر.
ولم يتوقف الكاتب في كل كتاباته عن الاهتمام بذلك الإنسان كما يتضح في رواية جديدة ظهرت له وأنا بصدد تحضيري لتلك المقالة. والرواية بعنوان (خواطر فتاة عاقلة). ورغم أنه قدمها في أسلوب مغاير متجدد، يختلف عن أسلوب قصصه السابقة حيث قدمها في مونولوج تتحدث فيه الفتاة عن أفكارها وآرائها ونقدها للحياة المعاصرة التي تحيط بها في الأسرة، والمدرسة وخارجها مقدمة صورة حقيقية للفتاة الشرقية.. ورغم جدتها والدهشة التي تثيرها بشكلها الجديد وأسلوبها غير الاعتيادي لدى الكاتب إلا أن الصور الطموحة الراقية التي يتحدث بها الكاتب تقدم تعبيراً صادقاً عن مقدرة كبيرة على اختيار الموضوع والأسلوب والشكل الذي يعرضه بهما.
العراق بعيون عراقية..
سوف أبدأ مقالتي من النهاية وأستعرض الهدف الذي يرمي إليه الكاتب والذي يستطيع الكاتب المتعمق أن يتوصل إليه. أنه الإنسان، أثمن قيمة على الأرض. فالإنسان هو همه الأكبر، هو محور تساؤلاته وخواطره الفلسفية. إنه الإنسان مهما كان موقعه في المجتمع، أكان في القمة أو القاع..
وأبطاله جميعاً من مختلف الشرائح الاجتماعية ولكنه يواجهها في أبسط التفاصيل الحياتية والنفسية وتذكرني شخوصه بتلك الشخصيات التشيخوفية أو الدستويفسكية في آمالها ومعاناتها وسوداويتها.. وفي تصويره لأبطال قصصه وحكاياته ورواياته ومسرحياته، يستخدم الكاتب أسلوباً فريداً يمكن أن نسميه بالأسلوب البرقي. إنه يكتب في تركيز شديد وإيجاز أشد بحيث يكون من الصعب إسقاط كلمة أو إهمال سطر، فالتفاصيل تنساب في أسلوب مركز سلس. كما أن الكلمة لديه سهلة عصيَّة، تنطلق كالسهم أو القنبلة من أعطاف مقالة أو أعماق قصة لتقوم بتمزيق وهم أو قناع، تسحق وتنهش مُحرّضةً على التحول والتغيير..
إنه يصور أبطاله حيث يعيشون على انتفاضات الكبرياء والأوهام الأقرب إلى أحلام اليقظة، وحيث يكونون عرضة لهجمات البرابرة تفترس آمالهم وتنتهك كل حرمة، بل وحيث يواجهون في النهاية مصائر متنوعة لحياة انهارت تحت أحذية الاستخذاء والخيبة والظلم والخوف..
ويتردد التساؤل داخل أحد أبطاله (ساهر)( ): «ماذا يعني أن يكون الإنسان مشرداً بلا وطن؟» بل إن السؤال ظل يلح على ذهن الكاتب حتى أنه أصدر مجموعة قصصية باسم (السؤال)( )، تنتظم إحدى عشرة قصة قصيرة، تطرح نفس السؤال الخالد: ما العمل؟ وتفتح قصة (اعتقال) تلك المجموعة حيث تم سحب البطل وإدخاله في تلك السيارة المصفحة الكبيرة، ويصور الكاتب بطله وهو يرنو في حزن وشوق لبيته من الشباك الصغير محاولاً استجماع صورة متكاملة لبيته الذي أخذ يبتعد بعيداً ليصبح نقطة متلاشية في شارع مقفر.. وغطوا رأسه بقطعة من الخيش وتساءل: أين تقودونني؟ وتلقفته ضربة أخمص بندقية مصحوبة بسباب بذيء. وأجابه الشرطي بصوته الأجش مع السباب المتواصل: «سوف نسلمك إلى الأيدي التي تحسن التصرف مع أعدائها».. إن الكرامة تتراجع مع كل خطوة، وأبطال قصصه جميعاً معلقون بذلك المنعطف المستحيل: إما الاستسلام أو المضي في الصراع.. ولكن من يستطيع، ومن يتمكن من هزيمة أسوار الخوف والخنوع وتحطم أصفاد الذل والهوان؟
ولنعد إلى مجموعة (حكايات من بلدتنا)( ) وتدور قصصها كما تدور قصص مجموعاته الأخرى تدور حول الموضوع الذي يؤرق الكاتب دوماً: الصراعات النفسية والجسدية والفكرية السياسية. وقد أطلق غسان كنفاني على كتابات الكاتب (الرواية الشظية)( ).. ومن يقرأ تلك المجموعة سيجد أنها جغرافياً تدور بأحداثها في مرابع العراق وإنما هي تنطلق بموضوعاتها إلى الجغرافيا الأرحب.. إلى البلاد العربية كلها بهذا الشكل أو ذاك؛ ولأن شعوبها وطبقاتها الكادحة تعيش صراعاً أبدياً بدور داخل كل فرد ضد القهر والظلم والجوع والفساد.. وأبطال المجموعة يجترحون ذلك الصراع المستحيل. وتطرح كل قصة سؤالاً يتضخم قليلاً قليلاً ليصل إلى السؤال - القضية ما العمل؟ وكيف لهم أن يهزموا ذلك الخوف والخنوع داخل ذواتهم؟ ولنترك قصة (البرابرة يحتلون بلدتنا) والتي تطرح السؤال تلو السؤال حول كيفية الصراع ضد البرابرة ولماذا ذلك الخضوع والخوف؟ لنتركها لنصل إلى قصته التالية في المجموعة والتي تحمل عنواناً لا يوحي مطلقاً بالمضمون القادم الذي سوف يصفع القارئ وكأنه الصدمة.. إنها تحمل عنوان (رسالة من البيت فوق التل)..
وتتحدث القصة عن هجوم البرابرة وغزو البلدة وعن قيامهم ببناء بيت كبير فوق التلة، نوافذ صغيرة وعالية جداً.. إنه سجن يقتادون إليه يومياً كل شاب يتجرأ بمواجهة أو بمعارضة البرابرة.. وفجأة تأتي (رسالة من البيت فوق التل)( ) أرسلها «هاتف أحد السجناء إلى والده رزاق».. ومجرد وصول رسالة يعني أن الإنسان يستطيع مهما طال ليل الظلمات ومهما كانت الحواجز والسدود فإنه بذكائه يتخطى المستحيل. وأخذ البرابرة يبحثون عن تلك الرسالة التي تكشف بالتأكيد ما يدور هناك في البيت الكبير...
إن القصة وبيتها الكبير ما هي إلا العراق بسجنه الكبير، يحيطه ستار حديدي يخفي فعلاً ما يدور بحيث لا يمكن الجزم بصحة أو بخطأ ما يقال.. وقام البرابرة بتمشيط البلدة وتفتيش عبد الرزاق وبيته ودكانه، ولكن ذلك لم يوقف سريان حكاية الرسالة التي لم يجدوها والتي ما زالت تنتقل سراً بين سكان البلدة..
في رأيي أن القصة هي رسالة حقيقية من (البيت الكبير) إلى العالم الخارجي كله تسطر بوضوح ما حدث في تلك الأزمنة التي أعقبت انهيار ثورة (14 تموز) (يولية).. لقد كانت نذيراً واعياً لما حدث وما زال يحدث اليوم داخل (البيت الكبير)( ). فقد كان الكاتب يتحسس ويتوقع بحسه الفني المرهف ما حدث وما يدور في البلاد.. وظل يطرح السؤال تلو السؤال في قصته: «كيف يمكن لأبناء بلدتنا الصبر على حكم البرابرة الطغاة؟» يكبر السؤال مع القصة الثالثة التي تتحدث عن بائعة الباقلاء وابنها حسين. امرأة طيبة عاشت وحيدة تعمل لتربي ابنها. وذات يوم اقتاد البرابرة ولدها وظل هناك فترة طويلة ثم أعادوه إليها مشوه الوجه محطماً مهشماً مكسور اليدين والأرجل.. وصاحت الأم بلوعة ماذا فعل بك البرابرة يا «حسوني؟».
إن قدرة الكاتب الفائقة في انتقاء أبطال قصصه تدلل على وعي كبير وإحساس أكبر بمعاناة الشعب. وإنني لأتذكر وأنا أقرأ تلك القصة أتذكر (سِعْدَة) بائعة الباقلاء التي كانت تجلس أمام قدرها الكبير يتصاعد منه البخار على رأس شارع بيتنا المؤدي إلى جامع أبي حنيفة ولطالما جلست بجوارها وهي تحضر لي ماعون الباقلاء الحار مع رغيفها الطازج وبين كل فترة وأخرى تقص لي تواريخ سكان الحي آلامهم ومعاناتهم وقسوة الحياة معهم..
لقد كانت سجلاً تاريخياً عجائبياً للأحوال السياسية قديماً وحديثاً ودور كل واحد من سكان الحي..
وتمثل أم حسين كل بائعة باقلاء في أي بقعة من العراق، وهي تحتضن أحزانها وراء قدر الباقلاء الكبير وتتنفس قلقها مع البخار المتصاعد من القدر..
وتتوالى حكايات الدكتور شاكر ونتنقل معه من (عائلة محسن الطيب) الذي ترك وراءه بعد وفاته عائلة كبيرة ولكنها مع ما تعانيه من فقر ومذلة ما زالت محتفظة بكبريائها وعزة نفسها.. ثم نذهب إلى حكاية (الكوخ على النهر) وحيث يقرر الكاتب «أننا كنا نفاخر بأنفسنا كذباً وادعاءً» ومن دون وجه حق. فقد استسلمنا للبرابرة منكسي الرؤوس( )..
وقد برع الكاتب في وصف جنون الركاع (الجَزْمَجِي) الذي ذهب الحزن بعقله عندما فقد ابنه شهاب الفنان الماهر.. وببراعة فائقة وببساطة مذهلة كان يخط صوراً تمثل ظلم وجبروت البرابرة الذين اغتالوا روح وفن ذلك الفنان المبدع والذي كانت وفاته سبباً في اعتكاف والده في (كوخ على النهر) يحفر أحزانه ويتعجب من زمنٍ أصبح الخنوع والذل من الفضائل فيه، من زَمَنٍ أحال الجميع إلى دُمىً مغلولة الأيدي. ولم يتوقفوا عند اعتقال الفنان شهاب فقط بل اعتقلوا زوجته أمل( ) كذلك.. وتتوالى الوفود إلى البرابرة لإنقاذهما.. ولما تم إطلاق سراحهما بعد تعذيبهما اختار شهاب وزوجته الانتحار في النهر تاركين رسالة إلى أهل البلدة يقولون فيها بأنه قد تم اغتصابها أما زوجها( ) وإن روحَيهما لن تتطهرا من الخزي والعار إلا بعد إبعاد البرابرة من البلدة.. وبني الركاع كوخاً من القصب على ضفة النهر حيث مكان انتحارهما تاركين ذلك الكوخ رمزاً شاخصاً على العار والظلم..
وسرت في البلد رواية تتحدث عن واقع حقيقي في سجون البرابرة عن اغتصاب أية فتاة تقع بين أيديهم أو تُزَج في سجونهم. ثم يُعَلَّقون عرايا في الهواء الطلق بعد اغتصابهن. وطالب الحكماء البرابرة بالكف عن سجن النساء ولكن دون جدوى وكان الرد الجاهز هو أن هؤلاء الفتيات عديمات العرض والشرف وبأنهم سوف يسحقون رأس كل من تسول له نفسه معارضة تصرفاتهم.
ويكبر السؤال مع الحكاية السادسة (حادث فظيع) عندما اقتاد البرابرة سلمى ابنة محمد علي الخياط ولم يعرف أحد ماذا حدث لها.. والقصة امتداد للحديث عن المهانة والخزي والخنوع والخوف.. ويظل الحكماء يرددون ما لنا وللبرابرة، إن لم نتعرض لهم بسوء فلن يفعلوا شيئاً.. وهكذا امتزج الخوف بالمهانة والخزي.. ويتضخم السؤال في القصة فقد بدأ البيت الكبير يلتهم أبناءهم الواحد تلو الآخر ولن تعرف أبداً ماذا يدور هناك.. فها هو (عبد العباس) يحتضن جثة ابنه خضير تحمل بصمات التعذيب الوحشي.
وها هو الصراخ والعويل يضِجُّ ذات مساء في بيت الحاج عبد الكريم الذي رفض أن يقتل أخته (فوزية) قبل اعتقالها.. وقاوم وقتل عدداً منهم ولكنهم انتهوا بقتله واعتقلوا فوزية.. ولا أحد يستطيع تصور رعب الزوجات والفتيات الساكن في العيون خوفاً من أن يقوم الزوج أو الأب بقتلهن قبل اعتقالهن.

واستمر السؤال ينطلق من أعماق القصص المتتالية ليصفع القارئ خاصة في قصة (الاحتفال)، حيث استقر الرأي لدى الحكماء ومن ثمَّ الجميع بضرورة مداهنة البرابرة ويقرر الشيخ جواد بقوله «لقد كانت عادتنا دائماً المداهنة ودستورنا هو النفاق»( ).. وذلك «لأن بلدتنا كانت تخضع دائماً للطغاة ومنذ الأزل كان الأعيان أعياناً والعوام عوام»..
إن قصة الاحتفال واضطرار الناس لتعليق الصور والزينة رسالة إلى كل منا للتفكير جِديّاً فيما يحدث في بلادنا.. وتساءلت الحاجة أم مهدي الغائب في (البيت فوق التل) عما يحدث وصفع الجواب براءتها عندما قالوا «إنه احتفال بيوم اغتصاب بلدتنا» إنه في بساطة ودونما ادعاء يوضح للقارئ كيف أن شعبنا مُغَيَّب وكيف يمنع الظلم الصارخ أي فرد من معرفة كنه ما يدور..
ويتعدى السؤال حدود المكان ليصل بالموضوع إلى حدود الوطن الكبير وما يعتمل على الساحة من صراع ضد رمز الظلم والطغيان الأكبر: إسرائيل.
لقد كان الطغيان الإسرائيلي والعجز العربي مضمون رواية جميلة بعنوان (امرأة ضائعة)( ) وبطلتها فدوى، فتاة فلسطينية تعتاش من إعطاء الدروس الموسيقية والعزف على البيانو.. وكثيراً ما كانت تنبعث من غرفتها أنغام كونسرتات (تشايكوفسكي) و(بيتهوفن).. وحدثته عن ضياعها وعن حياتها بعد أن تركت فلسطين وهاجرت إلى مصر وكيف التقت بصديقها العربي وصدقته ثم التقت به.. ولا يمكن للقارئ أن ينسى ما قالته فدوى في اعترافها.. الجميع فقط يستغلونني.. لقد أدرك الكاتب عمق المأساة الفلسطينية فهو وهو يصور لنا ضياع فدوى جسدياً ونفسياً إنما يسقط لنا أفكاره المخزونة ألا وهي إن فلسطين وأبناءها لن ينقذهم أحد( ).. هم فقط سوف ينقذون أنفسهم.. لقد أراد الكاتب أن يوحي للقارئ بأن العرب والأعداء على السواء قد استباحوا فلسطين (القضية-المحور) القضية الشاهدة على عجزنا.. حقاً إن غضبنا وثورتنا بلا مخالب حقاً. وعندما يتحدث الكاتب عن نكبة فلسطين تقف دائماً أمام عينيه مأساة شعبه المشرد في أنحاء الأرض الأربعة...
ويتغلغل الكاتب مرة أخرى في جوانب تلك المأساة ليقدم لنا شواهد أخرى من حياة السجون داخل العراق والتي تحتضن بجدرانها الدامية الخرساء حيرة كتابنا وشعرائنا وأطبائنا ومهندسينا لتسلبهم بدورهم كرامتهم وعزة نفسهم وإرادتهم قبل أن تقتنص حياتهم.. ويعرض لنا الكاتب على لسان أحد أبطال مجموعته الكاتب (رشاد الهادي) مصوراً لنا ألواناً من التعذيب لم نسمع عنها حتى في سجون عتاة النازي خالدي الذكر... وتتوالى صور التعذيب في قصص (محبس الصوت)، و(التحقيق)، و(الصامدون)، و(الانتظار) وتتوالى القصص لتحكي لنا ما يحدث داخل الأسوار العالية في ذلك المنفى الإجباري حتى اللقاء مع الموت أو مع الخزي تحت نظرات الاحتقار إذا ما انهاروا واعترفوا...
وهنا يورد الكاتب مونولوجاً داخلياً لأحد السجناء الكاتب (رشاد الهادي) الذي يعتبر في نظر د. شاكر شاهداً على العصر.. ففي ذلك المونولوج الداخلي مناجاة صامتة يغلفها الحزن والعاطفة والمشاعر المرهفة التي لا تتلاءم بالطبع وهذه الجدران الفولاذية الملطخة بالدماء... يناجي الكاتب زوجته مناجاته الخرساء «ألا يستطيع أبناء الوطن الواحد التعايش في سلام وإن اختلفت عقائدهم؟ كيف سأواجه هذه الحياة بعد خروجي من المعتقل؟».
إن الدكتور شاكر يختار شخوصه بدقة ويعرف كيف يتغلغل بسهولة إلى أعماق قلوبهم كاشفاً بصدق ما يعتمل دواخل نفوسهم أمام تداعيات ما يحدث اليوم على أرض العراق..
منذ بدايات الدكتور شاكر المبكرة لم ينجح أحد مثله في تصوير تلك المعاناة الحالية والتي تنبأ في كتاباته الأولى. وفي أسلوب سهل سلس ثري غني بالجمال والدقة تتتابع شخصيات القصص والروايات سواء تلك التي ما زالت صامدة أو من انهارت تحت وحشية التعذيب، أو من اعترف وظل يعيش ما هو أفظع من التعذيب الجسدي تحت وطأة الشعور بالعار وباحتقار الآخرين..
ولم يتوقف الدكتور شاكر عند تقديم شخصياته من بين السياسيين والكتاب ولكنه توجه بنظراته الفاحصة الناقدة نحو شرائح أخرى من المجتمع العراقي بدءاً من القاع ووصولاً إلى القمة..
ففي روايته (هيلة)( ) تناول مرحلة من حياة الدكتور (سعد الصالح) الذي سافر إلى قرية بعيدة جداً في جنوب العراق لأنه لم يعد يحتمل ما يدور في المستشفى الخاص. والقرية فقيرة مهملة، شوارعها طينية موحلة قذرة ويمارس أهلها حياة قاسية مزرية. وشيخ الجامع الذي يمارس سطوة دينية وطبية في القرية بدأ بمحاربة الدكتور متصوراً أنه سيكون منافساً له.. وتُبَيِّنُ لنا الرواية أنه في هذه القرية البعيدة يعبر عن الظلم والجور في كل مكان بل أنه شمولي يجتاح العراق شمالاً وجنوباً.. وقد صور لنا الكاتب صورة لجانب من حياة الدكتور سعد الذي كان يحب زميلته الدكتورة (نوال) والتي ما كان يهمها سوى المادة في حين أنه كان يمتلك مثلاً علياً يتحلى بها الطبيب الإنسان. ولم يكن سفره إلى تلك القرية البعيدة هروباً، وإنما كان تجسيداً لمقولة هاملت «أكون أو لا أكون» وكانت في القرية فتاة جميلة (هِيلَةْ) كان الدكتور قد أنقذ حياة والدتها ولكنها كانت مطمع الكثيرين في القرية من رجالات السلطة ولكنها كانت كالحصن المنيع.. وكانت تلك الفتاة تقوم هي وابن عمها (الأهبل) على خدمته في غيابه صباحاً في المستشفى.. ولم يعجب ذلك الطامعين فيها..
وكان الدكتور يطالب دائماً بضرورة شراء الآلات والمعدات والأدوية لمستشفى القرية التي تنقصها أبسط المستلزمات في مقابل البذخ الشديد على كماليات تتعلق بأبهة السلطة.. وفي لوحة جمالية رائعة وبأسلوبه الشيق السهل صور لنا الجمال المخبوء في حنايا القرية المهملة. ويعبر قرار الدكتور سعد بالزواج من (هيلة) لتجنيبها مضايقات المتنفذين، يُعَبِّر عن أن الجمال والخير سيظلان يقاومان الشر والظلم والإرهاب.. ولكن اغتيال الدكتور( ) سعد رغم أنه وضع حداً لسعادة هيلة فإن أحداث الرواية تشي بمضمونها.
فزواج الدكتور من هيلة يعني ضرورة أن يحكم العراق أبناؤها الأخيار، ورغم مقتله إلا أن النصر سيكون للخير ولا يعني مطلقاً أن مقتله على أيدي الطغاة يعني انتصارهم أو استمراريتهم فالمقاومة لا تتوقف...

إن الكاتب يكتب وعينه على التاريخ والماضي أساس الحاضر، ولا يترك مناسبة أو جانباً من مفردات الحياة في جميع مواقعها إلا وقد احتواه بتلك «العين الثاقبة النافذة ليبرزها لنا في صدق وتركيز شديدين فتأتي وتصفع الوعي والوجدان وتفتح العين على تفاصيل ما يدور في الشارع العراقي أو العربي على السواء..
وما نراه في روايته (الخاطئة) ليس مجرد حالة اجتماعية استثنائية وإنما يصور لنا أن الإنسان الذي عاش ظلماً اجتماعياً كبيراً من لدن من هم أعلى ممن هم أدنى منه منزلة أو على من تقع عليه يديه..
(بدور) بطلة الرواية التي تمارس أقدم مهنة في التاريخ، قد كتبها الدكتور وعينه على (هنادي) بطلة رواية طه حسين (الكروان)، وكذلك على بطلة ألكسندر دوماس في روايته (غادة الكاميليا) ليبرهن لنا على أن الظلم والغدر الذي يحيق بالمرأة هو هو في كل زمان ومكان، وقد وظف في الرواية موضوع المراة التي أراد منا أن نتلقفها نحن ألا وهي قضيتنا نحن العراقيين والتي مثلتها تماماً (بدور).. وبدور كانت طالبة تقرأ كثيراً في الأدب وخدعها زميل لها باسم الأدب كذلك..
إن كاتبنا عندما يتناول موضوعاً كهذا فهو لا يركز فقط على الواقعة المباشرة وإنما يقدم لنا في براعة هدفه الحقيقي من تناول مثل تلك الموضوعات( )؛ وذلك مع حرصه التام على عدم استخدام أية مفردة نابية أو أية كلمة غير مهذبة؛ فهو يمتلك التجربة امتلاكاً كاملاً ويسيطر على لغته سيطرة تامة إلى جانب مقدرته الفائقة على تناول أي موضوع من مواضيع الحياة.. ولنعد إلى روايته (الخاطئة) ومداومة الشاب نبيل على زيارتها بالذات محاولاً في ذلك مسايرة حرس الرئيسة (زنوبة) مالكة المنزل.. ثم قراره بالزواج من (بدور)..

لقد أراد أن يدلل على أن قرار (نبيل) بالزواج من (بدور) يعني انتصار وتحرر الأرض التي داستها أرجل الطغاة ولسنين طوال.. وحتى في معرض مناقشته لأصدقائه حول قرار زواجه من بدور يوجه الكاتب نقده لمن يتكلمون كثيراً ولا يفعلون شيئاً لأنهم ازدواجيون وغير قادرين فعلاً على تطبيق آرائهم على أرض الواقع في الحياة إذ يبدو أنهم لا يؤمنون بها حق الإيمان وإنما يرددونها كالببغاوات.. وفي أشداقهم إن هي إلا أراء تُذْكر ويتم تكرارها ثم تمضي بهم الحياة حلوها ومرها وذلها وهم عنها لاهون..
إن هروب بدور بعد زيارة والد نبيل واختفاءها وعدم تمكن نبيل من العثور عليها «تشبه لدى الكاتب ضياع القضية تحت أقدام البرابرة..».
لقد استثمر الدكتور شاكر في وعي كلي التجريب العالمي في سبيل أن يوضح لنا أن القضية شمولية وليست قضية العراق وحده وإنما هي قضية كل الشعوب عندما يستبيحها البرابرة... فخيال الكاتب الخصب وامتلاكه لمفردات تجربته، ووعيه الصادق بما يحدث، يمتزج كله بإيقاعات الواقع اليومي المعاش.. وينساب قلمه في رقة وجمال ليختار المفردة البسيطة العصية المطلوبة مما يساعده على الإيحاء بصدق ما يود الوصول إليه.. فضمائر البسطاء تظل تعذبه وتؤرقه كما موت بطله قصة (ليلة سوداء) وهي تلد لعدم وصول الطبيب في الوقت المناسب.. إن تلك المصائر الصغيرة لأبطال قصص (نعيمة)، و(العاشقة)، (الصديقان)، و(حياة قاسية) تجسد للقارئ ماهية المرأة - الرقيق. فكلهن جواري مغلولات الأيدي بقيود لا مرئية موؤودات العواطف والمشاعر في مجتمعاتنا الشرقية.. إن حياتهن صورة انكسارات تتكرر صبح مساء في حضن الزمن، وبالنسبة لهن فإن «بكرة بقى امبارح في حضن زمان» كما يقول الشاعر المصري المبدع صلاح جاهين. ولكن الكاتب وهو يصور مصائرهن نراه يحتفظ لهن بموقف واضح صريح من الاحترام والمطالبة بضرورة احترام حريتهن وضرورة تعليمهن( ).
ولا تختلف أهداف موضوعاته المسرحية لأنه يستثمر بوعي أزمة الإنسان وأزمة الزمان والمكان. وفي كل مرة وفي كل موقف يوحي بطريقة حاذقة وهو يوجه النقد المُقَنَّع في أسلوبه الجميل الدقيق وحواراته بلغتها السلسة الرائقة ومفرداته المُنتقاة؛ نراه يوحي بضرورة مواصلة النضال بحثاً عن الحرية والعدالة والسعادة للجميع...

ففي مجموعته المسرحية (الغرباء واللص) والتي تنتظم مسرحيته الأولى (الغرباء) شخوصاً أعماهم الطمع واللهاث وراء المال، وأبعدها عن العواطف النبيلة التي تغلف حياة الأسرة وتقيها من الضياع. وتتصاعد أثناء الحوار أصوات المظاهرات التي تملأ شوارع بغداد..
في حين أن مسرحية (اللص)( ) التي تدور على المسرح مع خلفية من البانتوميم تتحرك في أعماق المسرح شارحة الموضوع، إنما تمتلك موضوعاً آخر مغايراً وإن كان به امتداد لمسرحية الغرباء بهذا الشكل أو ذاك. وموضوعها خطبة يلقيها الرئيس.. وكيف أنه كان يقوم بكل أعباء الرئاسة وإن خلف الستائر وحيث كان سلفه يعتمد عليه كلياً في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بشؤون البلاد؛ وعند اتخاذ القرارات الهامة..
إن الخطبة مونولوج غني بتداعياته وصوره وأحب أن أعتبر تلك المسرحية مع مسرحية الدكتاتور تكملة لرواية (أوراق رئيس) والتي ارتأيت أن أختم بها بحثي هذا، وذلك لعمق التصور فيها وعمق النظرة النقدية الشمولية ولتكون مسك الختام.
وتتحدث مسرحيات مثل (الشيء) والتي تحتل مكاناً خاصاً بين مسرحياته، وكذلك (البهلوان)، و(الغائب)، و(القهقهة) أو التركة والجدار و(الدكتاتور)، تتحدث كلها عن نظام جائر ظالم يبطش بالبسطاء ويحتوي المنافقين ويحتضن الوصوليين.
وتتعرض مسرحية (القضية) للآباء الذين ينتظرون في يأس وملل عودة الأبناء الذين نزحوا إلى المنافي أو الحرب أو السجون.. وماذا ينتظرون؟ ينتظرون (جودو) كما يدور في مسرحية لببكيت بهذا العنوان «فله دلالته العميقة وهو الانتظار اليائس المستحيل.. إن من يرحل لا يعود، تلك سمة العصر.
إن مسرحياته التي كتبها بعد حرب إيران وحرب الخليج لها طعم ومذاق خاص فهي تتحدث عن رغبة دفينة في التخفيف عن آلام شعبنا الجريح وأمل في التغيير مع توضيح سيادة القيم الدخيلة على مجتمعاتنا، وهي آفة الانهيار الاجتماعي الصريح..
إن موضوع (القضية) المسرحية - السكين التي تقوم بتشريح ضمائر ونفوس الناس التي تغيرت بفعل الزمان والمكان خاصة وإنَّ من أفراد العائلة الواحدة من انقلب على الأب أو الابن ومن قتل الأهل، ومن انقلب على عقبيه ومن بقي صامداً.. ويرسم لنا لوحة عن الصراع الدائر بين الطرفين في علاقاتهما الخاصة والعامة وفي ممارساتهما الحياتية اليومية مما يخرج بها من إطار صورة العائلة الخاصة إلى صورة العائلة الأرحب والأكبر: الشعب العراقي. كما أن النقاش الذي دار بين (صادق) الذي تم إغلاق جريدته ومحاولات نسيبه في إغرائه بالعمل في صحف السلطة إنما يعبر تعبيراً صادقاً عن معركة المثقف وصراعه ونضاله في سبيل الكلمة الصادقة.
وعندما نتحدث عن مسرحية (الغائب) وانتظار الأم والزوجة هدى التي تلاقي الأمرين من معاملة الأم، وغياب الابن في الحرب وعدم عودته... كم من أم عراقية يا ترى وكم من زوجة تنتظر عودة (الغائب) الذي لن يعود؟ ملايين الأمهات والزوجات والأبناء يفترس حياتهن غول الحرب بكل دماره وعوزه وبؤسه.
ألم يكن موضوع مسرحية (العنكبوت) أو تركة الأب في البيت الكبير الذي يتنازع فيه الأبناء جميعاً هو نفس موضوع مخلفات الحروب وقيمها الجديدة التي قلبت المجتمع رأساً على عقب. تلك القيم التي أزاحت المثل العليا والأخلاق. لقد أراد الجميع أن يأخذ نصيبه من البيت لأن لكل واحد منهم مشروعاً يود القيام به دونما تفكير في مصير واحد منهم مشروعاً يود القيام به دونما تفكير في مصير الأم أو الأخت المقعدة.. ونهاية الأخت المأساوية عندما وافقت بعد لأي ودخلت إلى الحمام ولم تخرج إلا جثة خامدة.. لقد أحالت القيم الجديدة أفراد العائلة الواحدة إلى غرباء يأكل أحدهم الآخر، انتصاراً لقيم المال والاستغلال والطمع والنفاق كما نراها جميعاً مجسمة في مسرحية (الجدار)، و(البهلوان)، و(المخذولون) حيث أن الصمت العام والخرس المستحيل والتغاضي عن كل ما يحدث..
ولم يتوقف الدكتور شاكر عن محاكمة الصمت والتغاضي والنفاق وانتصار( ) المثل الاستهلاكية في مسرحياته (هو وهي)، (س)، و(ص) حيث تتوارى الصداقة والحب والعواطف النبيلة وراء المظاهر الكاذبة والادعاءات الفارغة..

لقد تعمد الدكتور شاكر ألا يعطي أسماء لشخصيات المسرحيتين فهي نماذج عامة متكررة في جميع الشرائح الاجتماعية... وكم من (هو) و(هي)؟ وكم من (س) و(ص) في دوائرنا ومدارسنا وحتى في بيوتنا وفي جميع مناحي حياتنا.
وهكذا نرى أن الكاتب يهدف إلى نقد ما آلت إليه حال الجيل السابق الذي ضحى وعاش صراعه ومعاناته في سبيل إعلاء المثل العليا، في مقابل الجيل الجديد الحال الذي يريد في استماتة أن يعيش يومه وواقعه الجديد مستهيناً بتلك المثل العليا.. ويقول لهم الكاتب «إن سماءكم جهنم وأرضكم جهنم فتقدموا إن استطعتم» وما أحداث مسرحية (بيت الزوجية) إلا مثال صارخ لذلك الصراع الأبدي. وهو ليس فقط صراع المثل وإنما هو صراع سياسي محتدم على جميع الأصعدة.
وأحداث مسرحية (بيت الزوجية) حوار أبدي داخلي لدى الكاتب عن مصداقية الأحزاب والعمل الحزبي والظروف القاسية التي لا تسمح بحرية الرأي أو بممارسة العمل السياسي في مناخ ديمقراطي حقيقي. ويتنقل الكاتب بسهولة في حواره بين شخصيات مسرحيته مصوراً في سهولة ويسر أحوال الناس في مختلف الطبقات والشرائح واهتماماتهم، وبين العمل لجميع قصصه ومسرحياته..
واختتم مسرحياته بمسرحية (الدكتاتور)( ) حيث نرفع الستارة وتُرَكَّزُ الأضواء على الكرسي الفخم في صدارة المسرح والتي تخطف ألوانه وزينته الأبصار.. وعلى الجانبين جوقة النساء وجوقة الرجال يرتلون الأناشيد في مدح الجالس على الكرسي.. ويتوالى الحكام الجلوس على الكرسي الفخم وتتكرر الصورة من الإسكندر المقدوني إلى هتلر ومروراً بنابليون.. وكل منهم مهمته الحرب، وكلّ يتمشدق بأن مهنته القضاء على الاستبداد الشرقي كما أن الحروب بالنسبة لهم هي غاية وليست وسيلة وتتصاعد أنغام الجوقة.
ويعرج الكاتب على ستالين ولكنه يعطيه بعض الاهتمام لأنه حفظ الدولة وإنه لم يسع إلى الحرب وإنما ظلم العالم كله هو الذي أجبره على الحرب.. ومع ذلك فقد حفظ الدولة ووحدتها وحزبها وسياستها.. وهنا يؤكد الكاتب على عدم الاستهانة بالقادة فقد ناضل ستالين ضد المنشفيك والنهلستيين والتحريفيين.. حقاً لقد أنصف الكاتب ستالين رغم أن الجوقة تضج بنشيدها.
أنتم مسؤولون عن انهيار حلم الإنسان في بناء الاشتراكية!
ولكن الجوقة تنشد لنابليون متهمة إياه بأن انتصاراته وهزائمه قد جرَّت المآسي والفواجع التي حاقت بالشعب الفرنسي..
ثم ينطفئ النور ويظهر على الكرسي الفخم (رئيس ما) وحوله رفاقه.. وتدور نقاشات حول تضحيات الرفاق والقوانين الجديدة.. وينطفئ النور مرة أخرى وتعود الأضواء ويأخذ أفراد الجوقة الرجالية والنسائية مراكزهم ويبدءون بمحاكمة الكرسي الفخم( )..
(وعلى المسرح يمكن أن ترافق المحاكمة رسوم مصورة وحركات بانتوميم توضح مضامين المحاكمة).
يعلو الضجيج ويشع النور في المسرح ويسمع طبل وزمر وهتاف: الموت للطاغية.. الموت لعدو الشعب..
وبعد ذلك ينطفئ ثم يعود ليشع في المسرح ويسمع طبل وزمر وهتاف ويدخل الرئيس الجديد بعد ذلك محاطاً برفاقه ويقومون بمناقشة ما سوف يقومون به من إجراءات لسيادة الديمقراطية والحرية...
ولكن ما أن ينطفئ النور حتى يشتعل ثانية ويندفع عدد من جمهور الصالة في خضم الهتافات الحماسية ويدمروا الكرسي.. بينما تتعالى أنغام كونسرتو (الإمبراطور) لبيتهوفن ثم تهبط الستارة ببطء.
لقد ارتأيت أن أذكر تلك المسرحية في النهاية لارتباط السلطة بموت نذير العدل «..وهذه القصة ومسرحية الدكتاتور يشكلان مقدمة منطقية لاستعراضنا لرواية (أوراق رئيس).

لقد مات نذير العدل في الساعة الخامسة والنصف صباحاً.. ولذلك التوقيت دلالته فهو يتوافق تماماً ودائماً مع (زوار الفجر).. أي أن الكاتب أراد أن يقول أن وفاته لم تكن موتاً عادياً وإنما هو نذير لموت كل ما هو صادق وحقيقي ولكل ما يحدث وأنه بموته تموت العدالة وقد ماتت فعلاً( ) وعندما قال الممرض (خالد) أن وجهه كان ينضح بالاشمئزاز فإن الباقي معروف.. من لم يشمئز من كل ما حدث وما يحدث؟ لقد قضي عليه في مصحة للأمراض العقلية وأخذ معه سره إلى قبره.. وتذكرني تلك القصة بما يحدث لكبار أساتذتنا ولكبار عقولنا الذين يموتون في مصحات الأمراض العقلية، تذكرني بأحد أساتذتنا الاقتصاديين الكبار (محمد سلمان حسن) أحد العقول الاقتصادية الكبيرة المحنكة والذي كان قد أُرسِل بدوره إلى مصحة للأمراض العقلية حيث توفي هناك.. إنه النذير الذي بشر به الكاتب وما كان يشكو من شيء بل كان بكامل صحته وعقله. فلربما كان الكاتب يقصده هو بالذات وربما غيره فهم كثر.. ولكنني من أول صفحة ولآخر صفحة وأنا أتمثل وجه أستاذنا الكبير وصديقنا العزيز (محمد سلمان حسن).
لقد نجح الكاتب في تفعيل المأساة النفسية والاجتماعية التي يعيشها الفرد العراقي على كل المستويات وتدلل روايته بشكل عام كيف أن الأوضاع السياسية القائمة تدفع للوقوف ضد الآباء، ويفضح كيف أن المسؤولين يتغلغلون في أدق مفردات الحياة الخاصة... إنه الموت البطيء يتسلل لحياتنا في صمت وقسوة.. والنتيجة التي أراد الكاتب أن يتوصل إليها من تفاعل فكرة وأحداث الرواية ليصل إلى النهاية التي تتوحد فيها وتتمازج صراعات الحياة العادية مع مصائر الأفراد ومع الأوضاع الاجتماعية والسياسية العامة للوصول إلى ذروة الحدث - النتيجة أي مواصلة الصراع من أجل التقدم إلى أمام وعدم التوقف أمام أية عقبة.
إنه ينتزع شخوصه وحياتها ومصائرها من صميم حياتنا وواقعنا الحي ونستطيع أن نميزهم في أصدقاء لنا أو أقارب أو معارف( ). إن نظرته الإنسانية شمولية وطريقة عرضه لتطور الحدث تتم في أسلوب به لمحات إنسانية واضحة ولكن الكاتب يتميز هنا بنهجه المبتكر.. وهو رغم دماثته ورهافة نفسيته الحساسة يضع القارئ في مجابهة عنيفة ومواجهة للواقع الذي يعيشه الفرد العراقي كل يوم أمام هذا (الشيء) الغامض..
إن مسرحية (الشيء) إدانة حقيقية شجاعة لمرحلة مأساوية عشناها وشاهدناها في العراق. فذلك (الشيء) الذي لم يعطه اسماً نعرفه نحن جيداً.. إنه يقتحم بيوتنا وحياتنا وعملنا ونفوسنا محطماً كل شيء.. فأي عمق هذا، وأي تفهم عميق لأغلال النفس وأعماق الحدث؟
إن موت (نذير العدل) وذلك الشيء( ) الذي يتجسد بدوره في مسرحية الدكتاتور ويتسلل من واحد لآخر ليصل إلى الوقت الحاضر.. يصل إلى عالم الرئيس في أوراقه..
ويتصاعد حماسنا واهتمامنا بالقصة - القمة: أوراق رئيس:
تقدم لنا صورة واضحة عبر المونولوج الذي يخاطب فيه الرئيس صديقه الأستاذ عادل الأمين عبر الأوراق التي أوصى بإيصالها إليه بعد وفاته. وتبدأ الأوراق برسالة موجهة إلى عادل الذي نعته الرئيس بالصديق الذي يتتبع أخباره دائماً رغم انقطاع الصلة لسنين طويلة بعد تسلم الحزب السلطة. ولكنه يقر بأنه كان حاضراً معه نفسياً في كل قرار ولأنه يعرف أنه عادل وحصيف فإن يترك أوراقه بين يديه ليحكم حكماً عادلاً على تصرفاته والتي يسيء الأعداء كثيراً تفسيرها.. فهو أجدر من أحبَّ وأعظم من احترم.
وتنتظم الرواية خمسة عشر فصلاً يعالج كل منها جانباً من جوانب حياة الرئيس، يتحدث فيها إلى صديقه عادل في مونولوج بليغ، يتساءل ويجيب نفسه عن تساؤلاته!
لقد حاول الرئيس في الفصل الأول أن يدافع عن حياته المرفهة لأنه كما يرى يستحقها بعد نضاله الطويل في سبيل الشعب. إنه يستحق هو وعائلته حياة رغيدة حيث تهيأت له فرصة الانتقام لأيام بؤسه الماضية.. ثم يحاول الدفاع عن نفسه ضد الإشاعات (المُغرضة) الأخرى بأنه جعل من ثروات البلاد ثروة خالصة له.. أما بالنسبة للقصور التي يشيدها فلأنه كان يرى والدته تكرر الشكوى خوفاً من الموت في الغرفة القذرة التي كانوا يتكدسون فيها جميعهم هو وإخوته وكانت تسميها (الخرابة) والآن يبني القصور ووالدته أول من كان يدشن كل قصر: إنه ليتمنى أن يصبح الناس جميعاً أغنياء..
وينتقل في مونولوجه العجائبي في الفصل الثاني ليتحدث عن أعداء النظام والمؤامرات التي كانت تحاك ضده؛ ويؤكد بأنه لن يتهادن مطلقاً مع أعداء النظام الذين يصفهم بالمعارضة. إنهم في نظره غير مخلصين للوطن ويطلقون عليه (جمهورية القمع والخوف)( )، فقط ليرسموا صورة مشوهة لبلادنا أما هدفهم فهو العبادة؟ هكذا يرى هو الأمور.. إنه يقف ضد الاستعمار والدول الغربية فلماذا يعارضونه؟ إنه ليس ضد المعارضة بشكل مطلق وإنما فقط نراه يعارض من يعمل على إبعاده من سدة الحكم.. ويستمر في مرافعته عن نفسه ليقول بأنه ليس هناك من قوة تعلو فوق الزعيم.
ويعود ويتساءل مناجياً عادلاً في فصل حقوق الشعب وإنه لا ولم يغمط حق الشعب لأن القوانين التي أصدرها والتي كانت موجهة ضد الأغنياء منهم على وجه الخصوص. ويعبر عن استيائه للنقد الموجه إليه بخصوص ثراء أقاربه وتسنمهم أعلى المناصب.
ويتساءل لماذا لا يتمتعون بما أتمتع به.. هل في ذلك جريمة؟ ويعرج على مؤامرة الجابري وكيف أنه اعترف بالمؤامرة هو وأصحابه وبعلاقته بدولة أجنبية.. بل ويبرر بأنه من أسرة ثرية وأن جده قد جمع تلك الثروة من تجارة الحبوب أثناء الحرب العالمية الأولى.
ويعرج بعد ذلك على علاقته بالسيدة فائزة وأنها هي التي كانت تطارده. ولما عرف بأن زوجها في السجن أخرجه وأعطاه مركزاً مرموقاً.. ولما عرف بانتحاره قطع علاقته بها.
وفي الفصل المخصص لمسؤولية السلطة فهو يقول إن الإنسان هو وحده المسؤول عن مصيره وهو القادر على صنع مستقبله. فإذا ما تسلح لتحقيق أمانيه. «لقد صنعت مكانتي بنفسي كما فعلها غيري من العظماء»، ويردف بأنه عفا عمن آذوه في صغره..
ثم يعود في فصل الديمقراطية ليقرر وجهة نظره فيها وحسب منطقه المتواصل في الرواية.
إن الديمقراطية -يواصل كلامه- هي حكم الشعب وهو ما يلتزم به الحزب.. «كيف أعطى الحرية لأحزاب أخرى رغم أن بعضها مشكوك في ولائها؟» أو لمصالحها الذاتية.. فكيف يمكن تطبيق الديمقراطية لأحزاب يعتقد اعتقاداً جازماً أنها تخدع الشعب.
أما حزبه فهو انبثق من الشعب وهو الأحق في نظره بالبقاء في السلطة فهو الذي يمثل الديمقراطية. والديمقراطية الغربية هي اغتصاب الحكم منه.. فهل ناضلوا وضحوا كما ناضل هو؟ ألم يوفر العيش الكريم للشعب، أم يوفر حماية الضعيف والدفاع عن مصالح البلاد..؟ فلماذا يحاولون الإطاحة به.. أليس من صميم الشعب؟ إن الديمقراطية الغربية إذن مفهوم مزيف.. هكذا يعتقد..
ويعرج في فصل آخر حول موقفه من القانون، وهل كان بإمكانه تخفيف الأحكام على المتآمرين؟ وهل كان ليتساهل مع المجرمين؟ ويتساءل هل نصوص القانون دينية لا يمكن تغييرها؟ إنها مجرد نصوص تم وضعها في ظروف معينة ولأغراض محددة هكذا يرى القانون! ويعتقد أن عدم إنزال العقاب يعمل على نشر الفوضى( )..
أما بالنسبة للمراكز العليا فالجميع يتملقونه ويداهنونه ويتكلمون عنه من وراء ظهره.. وبخصوص الأجهزة الأمنية يواصل الدفاع والدفاع عن نفسه وما يتناقله الناس عن هذه الأجهزة إشاعات مُبَالغٌ فيها. أما عمليات التعذيب التي يتحدثون عن بشاعتها فهي عقاب مبالغ فيه..
ونصل إلى الفصل الأهم، حيث يقرر لماذا يلقبه أعداؤه باسم (عدو الشعب) في الوقت الذي يرى أن الشعب يحبه وصوره وتماثيله في كل مكان.. ثم إنهم يتجمهرون في كل مكان يتواجد فيه.. ولماذا لا يحبونه في الوقت الذي ضاعف فيه المدارس والمؤسسات الصحية وأنه لا يتحمل أن يرى طفلاً جائعاً.. فمن أهم إنجازاته القضاء على الجوع ونشر التعليم والقضاء على الأمراض( )...

كما أنهم يعيبون عليه سياسته الخارجية التي جلبت الدمار على البلاد وأن تلك الدول ستتوقف عن مساعدة البلاد.. ومع ذلك فإنه يقول أن طموحاته وأحلامه العظيمة لا تتوقف وليس لها حدود وبناء دولة مهيبة الجانب قوية تنتظم دولاً أخرى سيعمل على ضمها لبلاده.. وحلمه سيكون زعيماً لتلك الدولة.. بل ويؤكد أنه ما زالت لديه طموحات ستفاجئ العالم...
ثم يعرِّج على ثقافته وكيف يقوله أنه قرأ كثيراً وبعمق ولأنه يعرف أكثر مما يعرف أولئك الذين يحاورونه؛ فقد منَّ الله عليه بنعمه القراءة المتعمقة.. ويتساءل، أليس تمجيد الصحافة يومياً لأقواله في مختلف المناسبات دليل على أهمية ما يقول؟ أليست دليلاً على أهميتها؟ ويواصل إنه قد طور أفكار الحزب تطويراً رئيسياً كما فعل لينين مع ماركس( ).. وبمناسبة حديثه عن الحزب فهو يُقِر بأنه قد طهر الحزب تطهيراً تاماً من المدعين الذين كانوا دائماً يلقون الكلام على عواهنه ويجعجعون بلا طحن! ويردف بأن «دعاوى الذين يبغون الحَطَّ من سياسته لن تؤثر في خططه لرفع شأن دولته بين دول العالم.. وهنا توقف عن الكتابة فهو يشعر بألم في صدره..
أراني ارتأيت أن أقدم ملخصاً مُبْتَسَراً عن تلك الرواية الفريدة والتي لن تغني مطلقاً القارئ عن قراءتها تفصيلاً.. ولنأت الآن إلى تلك القدرة الكبيرة لدى الكاتب في تقديم ذلك الوصف الدقيق لنفسية الرئيس والتي يستطيع أي قارئ عراقي أن يستشف الإسقاطات في ثنايا تلك الرواية.
لقد جاءت تلك الرواية امتداداً طبيعياً لرواية (موت نذير العدل) ومسرحية الدكتاتور لأننا نرى هنا أن الرئيس - الدكتاتور يبحث وهو على فراش الموت عن مبررات لتصرفاته مدعياً بأن انفراده وانفراد حزبه بالحكم كان بدافع الحفاظ على مصالح الشعب والدفاع عن البلاد ضد الأعداء ولكنها مع ذلك صورة ناصعة للدكتاتورية.. وما دعاوى مناقشته للديمقراطية ودفاعه عن مواقفه ومرافعاته في مونولوجه دفاعاً عن إنجازاته التي قام بها، إلا محاولة من جانبه لتبرير مواقفه لنفسه. ويدلل ذلك أنه مازال لديه جانب في دواخله يحاسبه ولذلك أراد من صديقه «العادل أن يتفهمه ويقبل تبريراته..
إن كل حاكم لبلاده ليس مِنَّةً فما دام في السلطة فإن أولويات واجباته وأبسطها هو تأمين العيش الكريم للشعب وتأمين التعليم والسهر على الصحة... وتأتي بعد ذلك الواجبات الأخرى..
إن الكاتب هنا لم يقحم أية مفاجأة ولكنه سطر لنا المعلومة تلو الأخرى في تناسق تام وتواتر متصاعد ليصل القارئ إلى النهاية التي ابتغاها من كتابة هذه الرواية. لقد تسلل بهدوء وبساطة إلى نفسية الدكتاتور مقدماً الرئيس في مونولوجه وهو يسوق كل المبررات التي يقدمها الرئيس لنفسه كونه هكذا؛ وتحدث عن كل ذلك دونما إسفاف أو الإتيان بكلمة نابية إنما في أسلوب يتدفق كما النهر السلس ينساب في سهولة ويسر.
لقد وضع يده على الجرح وما هذه التساؤلات التي قدمها الرئيس وقدم جوابها بنفسه إنما تدلل على وعي كامل بالموضوع ومعرفة تامة بالجوانب السيكولوجية للشخصية التي يتناولها موضحاً لنا جوانبها الحقيقية بعين الناقد المتمكن في الإجابات التي يرد فيها الرئيس على نفسه..
وتتجسد التجربة الثقافية للكاتب هنا في عمق أبعادها لتنطلق من اغترابه ويعيد طرحها وتأويلها في قدرة فائقة على صهر ودمج المستجدات الآنية في حياة بلاده السياسية وعينه على الغد قريبة وبعيدة ومقدماً لنا لوحة واقعية صادقة رسمها بعين ناقدة ثاقبة فتصفع وعي المتلقي ووجدانه... ومع ازدواجية الواقع العراقي وتعقيده يظل الدكتور شاكر متفرداً متميزاً واضحاً دونما ازدواجية، يحتضن مفاهيمه ويتصرف بها وتجاهها في استقامة داخلية وخارجية ودونما سفسطة...
خاتمة..
يتميز الدكتور شاكر بأسلوب فريد غير مسبوق حيث أنه يعتمد الجملة القصيرة المركزة والمفردة الممتلئة بالدلالات والمعاني المحورية بحيث تجد كل مفردة في مكانها لا يمكن زحزتها أو إهمالها.. إنه يختار مواضيعه وشخصياته في وعي متصاعد ويقدمها في إطار موضوعي وفي أسلوب رشيق برقيٍّ حِكْرٌ عليه وحده. ولأن لكل كاتب أسلوباً وطريقة في التعبير، نرى أن أسلوب الدكتور شاكر خاص به.. إنه سلسبيل دافق ينساب في عذوبة ويسر مؤطراً الحدث في دقة مستخدماً مفردات منتقاة حبلى بالمعاني.. أما شخصياته فقد استلها من واقعنا العراقي المعقد واضعاً إياهم في محيطهم الطبيعي دونما افتعال أو اقتحام أية عناصر يمكنها أن تخلخل أوضاعهم.. إنهم في مكانهم تماماً يتصرفون بشكل طبيعي جداً وكأنهم يعيشون بيننا ويتحدثون بلغتنا العادية في غير سفسطة.. إنه يقدم معلومة ما، حادثة ما، أو تفصيلة صغيرة ما هنا وهناك ويخرج بها في عمل متكامل البناء الفني وفي إطار من التحليل النفسي الذي يأتي متسلسلاً عبر الحوارات المختلفة دونما افتعال ودونما إسفاف...
وموضوعاته وأفكاره متماسكة متكاملة في أسلوب متدفق في سهولة تدفق الماء في الجدول الرقراق... وهو يهدف من اختياره لمثل تلك الموضوعات توضيح جوانب ذلك الصراع العام الداخلي والخارجي للنفس الإنسانية في سبيل التقدم وتخطي وتفادي الإنسان لآلامه ومواجهته لمشاكله وكل الشر الذي يتجسد له بهذا الشكل أو ذاك حسب مواقفه ومخاوفه...
إنه يقدم في جميع كتاباته ما يثبت ويوضح هوية الإنسان العراقي التي تظل داخل إحساس ووجدان الفرد مهما تغيرت به الأمكنة والأزمنة حتى ولو اكتسب جنسية أخرى فإنها لن تلغي مطلقاً هويته التي تجري في دمائه وانتمائه الحارق للوطن وللأرض.
إنه أحياناً يستوحي الرمز التاريخي أو الاجتماعي ولكنه يعمل على إسقاطه في الحاضر كما وأن شخصياته واقعية منتمية وتحمل على أكتافها حضارة عريقة تمتد لآلاف السنين. وسواء كانت تلك الشخصيات في القمة أو في القاع فإنها تحمل في جنباتها آثار ذلك الإرث التاريخي العريق..
وعندما يتعرض الكاتب للصراع الطبقي فإنه لا يردد الشعارات المألوفة ولكنه في بساطة ويسر يضع القارئ في مستوى الحدث وفي قلب الأحداث ويدفعك إلى التوصل إلى الهدف الذي يسعى إليه الكاتب وهو تحقيق مجتمع تسود فيه العدالة والمساواة والتقدم والحرية، تلك الحرية المكبلة دائماً وأبداً في مجتمعاتنا تحت جميع المسميات.

إن الكاتب الذي قدم لنا صورة متفاعلة الجوانب لمجتمع يتصارع فيه الجنس والمال والفضيلة والرذيلة، والخير والشر، قد قدم كل ذلك في أسلوب بعيد عن الشعارات وعن الألفاظ البذيئة والكلمات النابية وإنما عرض كل ذلك في أسلوب منمق مهذب ينم عن ذوق سليم وترفع عن الإساءة وعن جرح المشاعر.. إنه يتعرض كذلك لكل التابوات في صراحة وجرأة ممزوجة باحترام للذات الإنسانية..
واليوم ونحن نتأمل الذكريات التي تحمل بصمات أيامنا تتلاشى هناك في أرض الرافدين يأتي الكاتب الذي يطرد بكتاباته رماد النسيان ويدفع الحياة تدب فيها من جديد ويتراءى لنا الفردوس البعيد... وتتوحد وتتمازج من جديد نماذج وصراعات أبطاله مع أصدقاء لنا ومعارف وأقارب في ربوع العراق الجريح..
وأحب هنا أن أذكر ما كتبه الكاتب الفلسطيني المعروف (غسان كنفاني) رحمه الله عندما قال عن مجموعة (حكايات من بلدتنا) بأنها «الرواية الشظية.. إنها رسالة شخصية يُفْتَح داخلها دفتر الحساب من أولى صفحاته إلى آخرها وتصفعك»..
إن قصاصنا يمتلك موهبة واضحة ويمسك بين يديه وبكل بساطة ودونما جهد كل ما يُغني وكل ما يميز القصة القصيرة والرواية على السواء..
إنه كاتب العراق بامتياز يطور ما يتناوله من موضوعات يُرَتِّلُها لنا أسطورة متفردة للدفاع عن الحرية والبحث عن العدالة والمساواة..
هوامش:

بساطة ووضوح وجرأة وروعة من نوع آخر
□ من مقال للبروفسور/ شوشن شيان - الصين

يا أستاذي.. إنك كاتب وطني مخلص تحب وطنك العزيز.. تحب الشعب.. تحب أن تشاركه في السراء والضراء وفي كل زمان ومكان. لا تكتب ولا تعمل إلا من أجل مصلحة الأغلبية الساحقة من الشعب لأنك منهم ولهم. وأعمالك الأدبية كلها مليئة ومفعمة بالإنسانية الحقة والعدالة الاجتماعية والسعي وراء الحق والجمال والخير. ففي هذه الناحية تذكرت أعمال جبران خليل جبران وبعض معارفه الذين كانوا في أميركا الشمالية. هؤلاء الفحول أبدعوا بأسلوب رومانتيكي حيناً وبأسلوب واقعي حيناً آخر، ففي أسلوبهم زخارف وزينات. ولكنك أنت يا أستاذ كتبت وستظل في الإبداع بأسلوب واقعي اجتماعي. ففي كتابتكم بساطة ووضوح وجرأة وروعة من نوع آخر تميّزكم عن الكتّاب الآخرين. فإن لم أخطئ أنت تحاول أن تكشف العيوب والنواقص والمظالم في المجتمع عبر ما يسمى بالشخصيات (الصغيرة) المسكينة. وفي الحقيقة إن الشخصيات الصغيرة قد تصبح قوة جبّارة في المجتمع لا يستهان بها وتدفع عجلة التاريخ إلى الأمام وذلك إذا ما سنحت لها فرصة وصلحت لها الظروف.
تصليحات في مسرحيات تشيخوف
في الطريق العام

تيهون:صاحب حانة في الطريق العام.
بورتسوف:ملاّك مفلس.
سافا:حاج عجوز.
نازاروفـنا: حاجّة.
يفيموفنا:حاجّة.
فيديا:عامل في مصنع.
مريك:متشرد.
كوزما:
عابر سبيل.
دنيس :حوذي زوجة بورتسوف.
(غرفة في حانة تيهون. على اليمين «بار» ورفوف صفّت عليها القناني. في الخلف باب مفتوح على الطريق، معلق فوقه مصباح أحمر قذر. المقاعد المصفوفة بجوار الجدران والأرض غاصة بالحجاج والمتشردين؛ كثيرون منهم نائمون وهم جلوس لأنهم لم يجدوا فسحة للاضطجاع. الوقت منتصف الليل. وإذ يرتفع الستار يقصف الرعد ويومض البرق من الباب الخارجي. تيهون جالس أمام «البار». فيديا جالس على مصطبة وهو منحن نصف انحناءة يعزف بآلة «الكونسرتينا». بورتسوف جالس بجوار فيديا وهو مرتد لباساً صيفياً رثّاً. سافا ونازاوفنا ويفيموفنا مضطجعون على الأرض بجوار المصاطب).




يفيموفنا:(الىنازاروفنا) : أوكزي الشيخ المسكين ي أماه0 اعتقد أنه ميت
نازاروفنا:0(ترفع طرف سترة سافا عن وجهه) أيها المسيحي الطيب.. هاي.. أيها المسيحي الطيب؛ أحيّ أنت أم ميت؟
سافا:لماذا ميت؟! إنني حيّ يا أماه. (ينهض قليلاً مستنداً على مرفقه) غطّي ساقيّ يا روحي الطيبة. نعم هكذا. إلى الجهة اليمنى قليلاً. نعم هكذا. بارك الله فيك.

ناوزارو:(تغطي ساقي سافا) نم أيها الشيخ الطيب.
سافا:لا أمل لي في النوم. لو كان لي صبر لتحمل العذاب ما باليت بالنوم يا روحي الطيبة. لا يستحق المذنب أن يعيش في سلام. ما سبب هذه الضوضاء أيتها الحاجة الطيبة؟
نازارو:بعث إلينا الله عاصفة. الرياح تعوي والمطر يفرقع ويفرقع. إنه ينقر على زجاج النافذة والسطح كالحصى. أتسمع؟ فتحت بوابات السماء. (رعد). الرحمن! الرحمن! الرحمن!
فيديا:إنها ترعد وتزأر وتعوي وليس لهذا من نهاية. گوووو... كزئير الغابة.. گووو.. ووو.. الريح تعوي كالكلب. (يرتجف). الجو بارد.. وملابسي مبتلة... باستطاعتي أن أعصرها... الباب مفتوح (يعزف برقة).. ابتلت آلتي أيها المسيح الطيب.. لم يعد ممكناً العزف عليها، وإلا لانتزعت منها موسيقى تحلّق بكم.. فلنقل كوادريل، أو بولكا، أو أغنية روسية راقصة.. بوسعي أن أدبر كل ذلك. حينما كنت ساقياً في «الجراند هوتيل» لم أدخر نقوداً، لكنني تعلمت كل ما يمكن تعلمه على «الكونسرتينا». وبإمكاني أن أعزف على القيثار أيضاً.
صوت:(من الزاوية) مجنون.. وحديث مجنون.
فيديا:ومن مجنون أسمع هذا الصوت. (صمت).
نازارو:يجب أن تضطجع في مكان دافئ أيها الشيخ، وأن تدفئ قدميك المسكينتين. (صمت). أيها الشيخ، أيها المسيحي الطيب، أمحتضر أنت؟
فيديا:خير لك أن تتناول جرعة الفودكا أيها الجد. اشرب فودكا، ستلهب معدتك قليلاً ثم يمتد مفعولها إلى قلبك.
نازارو:لا تتكلم بنزق أيها الصبي. ربما كان الشيخ الآن في نزعه الأخير محاولاً أن يكفّر إلى الله عن ذنوبه، بينما تتحدث أنت عن هذه الأشياء وتعزف على «الكونسرتينا». دع الموسيقى الآن أيها الوقح.
فيديا:ولماذا تلاحقينه بإزعاجك؟ إنه ليس في خير، وأنت.. يا لحماقة المرأة! إنه رجل قديس ولا يستطيع أن يواجهك بكلام خشن.. وأنت تستغلين هذا الظرف وقد سرّك إصغاؤه لحماقتك. نم أيها الجد. لا تصغ إليها. دعها تتحدث ولا تلق إليها بالاً. إن لسان المرأة خرطوم الشيطان. (يصفق يديه في جزع) ولكن ما أشد نحولك يا عزيزي. يا للفظاعة! أنت هيكل عظمي.. إنسان ميت! ليس فيك لحم حيّ.. أأنت تحتضر حقاً؟
سافا:أحتضر؟! ولأجل أي شيء؟ ادخر لي الله الموت في وقت آخر.. ستسوء صحتي قليلاً لكني سأتعافى من جديد بمعونته.. لن ترضى العذراء أن أموت في بلاد غريبة.. سأموت في وطني.
فيديا:هل جئت من مكان بعيد؟
سافا:من فولوجدا. من المدينة نفسها... إنني عامل هناك.
فيديا:وأين فولوجدا هذه؟
تيهون:وراء موسكو.. إنها مدينة ريفية..
فيديا:تت.. تت.. تت! لقد قطعت طريقاً طويلاً يا صاحب اللحية الكثة! أقطعت الطريق كله سيراً على قدميك؟
سافا:كله سيراً على الأقدام أيها الفتى. كنت في سان تيهون في زادونسك، وأنا قاصد الآن إلى الجبال المقدسة بمشيئة الله، ثم أذهب من هناك إلى أوديسا. يقال إنهم ينقلون المرء بسعر رخيص إلى القدس.. بأربعة وعشرين روبلاً كما قيل لي.
.فيدياا:وهل كنت في موسكو؟
سافا:بالتأكيد، زرتها خمس مرات.
فيديا:أهي مدينة حسنة؟ (يولع سيجارة) تستأهل الرؤية؟
سافا:فيها معابد كثيرة أيها الفتى. حيثما وجدت المعابد المقدسة وجد الخير.
بورتسوف:(يتجه إلى «البار» ويخاطب تيهون) مرة أخرى أتوسل إليك.. أعدها لي بحق المسيح.
فيديا:أهمّ شيء في المدن هو النظافة. إذا وجد الغبار رشّوا الشوارع بالمياه، وإذا وجد الطين أزالوه. وفيها بيوت شاهقة.. مسرح.. شرطة.. عربات. لقد عشت في المدن.. أنا أعرف هذه الأشياء.
بورتسوف:قدح صغير آخر.. هذا القدح الصغير هنا. في وسعك أن تسجل الثمن.. أنت تعلم أنني سأدفع لك.
تيهون:نحن نعرف كل شيء عن هذه الوعود...
بورتسوف:هيا. أتوسل إليك. اصنع معي معروفاً.
تيهون:امض لشأنك.
بورتسوف:أنت لا تفهمني. أرجوك، افهم أيها البليد الجاهل. لو كان في رأسك الخشبي الفلاحي أوقية من المخ لأدركت أنني لست المطالب بهذا المعروف بل أعماقي هي المطالبة. ولأتكلم مثلك، مثل فلاح؛ إنه مرضي الذي يسألك هذا المعروف.. ينبغي أن تفهم ذلك.
تيهون:لا شيء هناك يحتاج إلى فهم. امض لشأنك.
بورتسوف:لماذا، إن لم أشرب جرعة هذه اللحظة -يجب أن تفهم- إن لم أطفئ غلتي فقد أرتكب عملاً فظيعاً. الله يعلم ما قد أقدم على فعله. لابد أنك رأيت الكثيرين من السكارى في خمارتك. من المؤكد أنك تستطيع أن تتصور بماذا يشعر أمثال هؤلاء الناس! لماذا، إنهم مرضى. بإمكانك أن تقيدهم، بإمكانك أن تضربهم، تطعنهم بخنجر لو وهبتهم قليلاً من الفودكا. اصنع معي معروفاً. إنني أذلّ نفسي. يا إلهي القدير، يا لها من مذلة.
تيهون:أعطني نقوداً فأعطيك فودكا.
بورتسوف:من أين أجلب لك نقوداً؟ ضاع كل شيء بسبب الشراب. لم يبق لي أي شيء. ماذا يمكن أن أعطيك؟ كل ملكيتي هو هذا المعطف الذي أرتديه. ليس بإمكاني إعطاؤك إياه. أنا لا أرتدي شيئاً تحته. أتحب أن تأخذ قبعتي؟ (يخلع قبعته ويناولها لتيهون).
تيهون:(يفحص القبعة) احم.. هناك كثير من القبعات. إنها مثقبة كالمنخل.
فيديا:(ضاحكاً) إنها قبعة سيد مهذب. قبعة يرتديها المرء ويخرج إلى الشارع ويخلعها للفتيات: «نهار سعيد.. نهار سعيد.. كيف حالك؟».
تيهون:لن آخذها حتى لو أهديتها إليّ... نفايات قذرة.
بورتسوف:لا تريدها؟ أعطني شيئاً من الشراب دَيناً إذن. سأمرّ عليك أثناء عودتي من المدينة وأدفع لك الكوبكات الخمسة. أرجو أن تقف في بلعومك. (يسعل) إنني أكرهك.
تيهون:(يخبط «البار» بجمعه) ما الذي يدعوك إلى البقاء هنا إذن؟ أنشّال أنت أم ماذا؟ ما الغرض من وجودك هنا؟
بوتسوف:رأريد شراباً. لست أنا الذي أريد الشراب، بل مرضي يريده. ألا يمكنك أن تفهم؟
تيهون:لا تهيج غضبي. ستجد نفسك ملقى على الرصيف في غمضة عين.
بورتسوف:ما العمل؟! (يبتعد عن «البار») ما العمل؟! (يقف مفكراً).
يفيموفنا:الشيطان مسؤول عن هذه الرغبة. لا تكترث له أيها السيد فهو يحاول إغاظتك. إلعنه. إنه يظل يهمس في أذنك: «اشرب.. اشرب» لكنك يجب أن ترد عليه: «لا أريد شراباً.. لا أريد شراباً» فينخذل.
فيديا: يخيل إليّ أن هناك مطرقة تخبط في رأسك وأن معدتك تقرصك. (يضحك) أنت إنسان مجنون يا صاحب السعادة؛ تعال واضطجع. لا يصح أن تظل واقفاً هناك كالناطور!
بورتسوف:إخرس. لم يسألك أحد رأيك أيها الحمار.
فديا:فكّر بما تقول. أنا أعرف أمثالك. هناك كثيرون من صنفك يذرعون الطرق العامة. أما عن الحمير فانتظر ريثما أسدّد لأذنيك لكمة وستعوي أشد من عواء الريح. أنت الحمار. مجنون. أحمق. (صمت) نذل قذر.
نازارو:ربما كان الرجل القديس يتمتم الآن صلاته مصعداً روحه إلى الله بينما هذان الكافران يحاولان تصيّد سبب للخصام ويتقاذفان كل أنواع الشتائم... أناس عديمو الحياء.
فيدياك دعك من هذه الرطانة يا قمع الكرنب.. ما دمت في خمارة فلابد أن تكيّفي نفسك لأساليب الحانات.
بورتسوف:ما الحل؟ ما العمل؟ كيف أتضرع إليه؟ أية كلمات يمكن أن تثير قلبه أكثر من هذه؟ (إلى تيهون) الدماء خمدت في عروقي. أيها العم تيهون (يبكي) أيها العم تيهون.
سافا:(يئن) الآلام تسري في ساقيّ كطلق ناري.. أيتها الحاجة الطيبة.. أيتها الأم الصغيرة..
يفيموفنا:ماذا بك أيها الشيخ الطيب؟
سافا:من هذا الباكي؟
يفيموفنا:إنه السيد.
سافا:سلي السيد أن يذرف دمعة من أجلي أيضاً كيما أموت في فولوجدا. الصلاة المرفقة بالدموع أدنى إلى الاستجابة.
بورتسوف:لست مصلياً أيها الجد. ليست هذه دموعاً. لقد عصر قلبي فتدفقت منه الدماء. (يجلس بجوار قدمي سافا). الدماء. ولكنك لن تفهم. لا يمكنك أن تفهم هذا أيها الجد بإدراكك المظلم. إنكم تعيشون في الظلام.
سافا:وأين أولئك الذين يعيشون في النور؟
بورتسوف--هناك من يعيش في النور أيها الجد. هناك من يستطيع أن يفهم.
سافا - صحيح، صحيح يا بني. القديسون يملكون النور. إنهم فهموا كل حزن. إنهم يفهمون بدون أن تحدثهم. إنهم يحدقون في عينيك ويفهمون. وإنك لتحس براحة عميقة لفهمهم لك فيبدو كما لو أن الحزن لا يثقل على قلبك. إنه يتلاشى كليّاً.
فيديا - اأفرأيت القديسين؟
سافا - أجل، رأيتهم أيها الفتى. هناك أنواع عديدة من البشر على الأرض. يوجد المخطئون ويوجد خدام الرب.
بورتسوف - لست أفهم هذا. (ينهض بسرعة). لابد أن يكون للمرء إدراك ليفهم ما يقوله الآخرون، وإنني فاقد للإدراك الآن. ليس عندي الآن سوى غريزة ظمأى (يتجه مسرعاً نحو «البار»). تيهون، خذ معطفي. أفاهم أنت؟ (يتأهب لخلع معطفه) المعطف...
تيهون - وماذا ترتدي تحته؟ (ينظر تحت معطف بورتسوف) جلدك العاري؟ لا تخلعه فلن أقبله.. لن أتحمل خطيئة على روحي..
(يدخل مريك)
مريك - (يخلع في صمت سترته ويبقى في صديريته. تتدلى فأس من حزامه) الناس جميعاً يبردون إلاّ الدب والإنسان الهارب من العدالة، فهم يشعرون بالحرارة دائماً، إنني غارق في العرق. (يضع الفأس على الأرض ويخلع صديريته). أنت مبتل بالعرق، وفي الوقت نفسه ما تكاد تقتلع إحدى قدميك من الوحل حتى تلتصق الأخرى.
يفيموفنا - هذا حق، قل لي أيها الصبي الطيب؛ هل انقطع المطر؟-
مريك - (بعد أن يتأمل يفيموفنا) لست أضيع الكلمات مع النساء. (صمت).
بورتسوف - (إلى تيهون) أنا أتحمل الخطيئة على عاتقي، أسامع أنت؟
تيهون – لا اريد ان اسمع
مريك- الظلام حالك جداً كأن أحدهم طلى وجه السماء بالقير. ليس بقدرتك أن تبصر أنفك، والمطر يصفعك على وجهك كالثلج. (يلتقط ملابسه وفأسه).
فيديا - إنه ملائم جداً لأمثالك السفلة. إنه يضطر الحيوان المفترس إلى الاحتماء بملجأ، ولكنه بالنسبة إليك أيها الشيطان يوم راحة.
مريك -- من قال هذا الكلام؟
فيديا - انظر فقط.. أحسب أنك لست أعمى.
مريك - لا بأس. سنلاحظ ذلك. (يتجه نحو تيهون) هالو أيها الوجه المنتفخ العجوز. ألا تعرفني؟
تيهون - إذا كان لابد من أن أعرفكم جميعاً أيها السكارى المتجولين في الطرق العامة لاحتجت إلى دستة من العيون على الأقل.
مريك - تمعن فيّ جيداً. (صمت).
تيهون - حسناً. أعترف أنني عرفتك. عرفتك من عينيك. (يمد إليه يده) أندريه بوليكاربوف؟
مريك - أي جواز يبعث به الله إليّ فهو يحمل اسمي. أصبحت «مريك» منذ ما يقرب من شهرين. (رعد). رر_ رر_ رر.. أرعدي ما شئت فلست خائفاً. (يتطلع حواليه) ألا يوجد هنا متعطش للدماء؟
تيهون - متعطشون للدماء حقاً!.. بعوض وبرغش لا أكثر. أراهن أن المتعطشين للدماء يشخرون في أفرشتهم الريشية الآن. (بصوت مرتفع) أيها المسيحيون الطيبون، احترسوا لأنفسكم وحافظوا على جيوبكم وملابسكم إن كانت تهمكم. إنه شخص بارع. سينهبكم.
مريك - فليحترسوا لنقودهم، إن كان لديهم نقود، لكنني لن أمسّ الملابس. لا حاجة لي بها.
تيهون - إلى أين يقودك الشيطان؟
مريك - إلى كوبان.
فيديا - إلى كوبان؟ حقاً؟ (يجلس) إنه مكان جميل. قد تنام ثلاث سنوات ولا يحدث أن تحلم بمكان أجمل. إنه واسع جداً. يقال إنه لا نهاية لما حواليه من طيور. ويعيش الناس فيه كالأصدقاء، وتوجد مساحات واسعة من الأرض لا يدري الناس ماذا يصنعون بها. ويقال إن الحكومة -حدثني جندي في اليوم السابق- تمنح الشخص الواحد ثلاثمائة فدان. هذا هو المكان الذي يعيش فيه الإنسان سعيداً، فليسقطني الله ميتاً.
مريك - سعيداً.. السعادة وراءك دائماً.. ليس في الإمكان رؤيتها.. إذا استطعت أن تعضّ مرفقك يوماً أمكنك أن ترى السعادة... الأمر كله حماقة. (يتطلع حواليه إلى المصاطب والناس). المكان كأحد ملاجئ المجرمين. مساء الخير أيها المساكين.
يفيموفنا - (إلى مريك) إن لك عينين خبيثتين جداً. الشر كامن فيك أيها الصبي. لا تنظر إلينا.
مريك - مساء الخير أيها المساكين.
يفيموفنا - استدر بعيداً. (تلكز سافا)، يا عزيزي سافا، الرجل الشرير يتطلع إلينا. إنه سيصيبك بشرّه (إلى مريك) قلت لك استدر بعيداً أيها الثعبان.
سافا - إنه لن يمسنا بأذى يا أماه. لن يمسنا. سيحمينا الله.
مريك - مساء الخير أيها المسيحيون الطيبون. (يهز كتفيه) إنهم لا يقولون شيئاً. لستم نياماً. أأنتم نيام أيها المتسولون البلداء؟
يفيموفنا - أبعد عينيك الشريرتين عنا. أبعد كبرياءك الشيطانية عنا...
مريك - أمسكي لسانك أيتها العجوز الشمطاء. إنه لم يكن كبرياء شيطانياً. وددت أن أحيي جمعكم المنهوك بكلمات رؤوفة شفوقة. أنتم متزاحمون كالذباب في البرد. شعرت بالأسف عليكم، وأحببت أن أقول كلمة رقيقة لأحييكم في بؤسكم، وأنتم تحولون عني وجوهكم القبيحة. حسناً. لست أبالي بهذا. (يتجه نحو فيديا) من أين قدمت؟
فيديا- أنا من هذه الجهات، من ميادين هامونيفسكي.
مريك - انهض.
فيديا - (معتدلاً في جلسته) حسناً؟
مريك - قف. - قف تماماً. أريد أن أضطجع هنا.
- مريك - أجل... اذهب واضطجع على الأرض.
افديا - ا مض في سبيلك... لست خائفاً منك.
مريك - أنت صبي ذكي.. هيا، قم، لا تثرثر. ستندم على ذلك أيها الأحمق.
تيهون - (إلى فيديا) لا تغضبه أيها الفتى... لا بأس.
فيديا - أي حق لك في هذا؟ أنت تنقّل عينيك ككلب البحر وتحسبني خائفاً منك. (يجمع حوائجه ويذهب ويضطجع على الأرض) الشيطان. (ينام ويغطي رأسه).
مريك - (يمهد فراشه على المصطبة) لاشك أنك لم تر الشيطان إن دعوتني بهذا. الشياطين لا يشبهونني. (يضطجع ويضع فأسه بحواره). اضطجعي هناك أيتها الفأس، يا ابنتي. دعيني أغطي مقبضك. لقد سرقتها، وهأنذا أتحدث عنها كما يتحدث أحمق عن لعبة. إنني آسف إذ أرميها بعيداً، وليس هناك مكان أضعها فيه... كزوجة سئمها زوجها... أجل... (يغطي نفسه جيداً) الشياطين لا يشبهونني أيها الفتى.
فيديا - (يخرج رأسه من تحت سترته) ماذا يشبهون إذن؟
مريك - إنهم يشبهون البخار، الروح، تنفخ هكذا (ينفخ)، إنهم مثل هذا. ليس في استطاعتك رؤيتهم.
صوت - (من الزاوية) إذا جلست تحت زحافة فستراهم.
مريك - جلست تحت زحافة ولم أرهم. النساء يتكلمن كلاماً فارغاً. وكذلك يفعل الفلاحون الأغبياء. ليس في إمكانك أن ترى شيطاناً ولا غول الغابة ولا شبحاً.. إن عيوننا لم تصنع لترى كل شيء. كنت أتوغل في الغابة أثناء الليل، عندما كنت صغيراً، لأرى غول الغابة. وأصرخ وأصرخ بأعلى صوتي، وأدعو غول الغابة دون أن تطرف عيني. وكان يبدو لي أنني أرى نوعاً من الكلام الفارغ، لكنني لم أر غول الغابة. كنت معتاداً أن أقصد ساحة الكنيسة ليلاً. كنت أريد أن أرى شبحاً. هذه كلها خرافات عجائز. رأيت جميع أنواع الحيوانات الوحشية، لكنني لم أر أي شيء من ذلك النوع، وأعتقد أنه كلام فارغ. العين لم تصنع لرؤية تلك الأشياء.
صوت - (من الزاوية) لا تقل هذا... قد يحدث أحياناً أن يرى الإنسان بعض الأشياء... كان أحد الفلاحين في قريتنا يقطع خنزيراً، ولما شق بطنه قفز منها شيء.
سافا - (يجلس) أيها الفتيان، لا تتحدثوا عن الشر. إنها لخطيئة يا أعزائي.
مريك - أهّا..! اللحية الرمادية، الهيكل العظمي. (يضحك). لا حاجة بنا إلى الذهاب إلى فناء الكنيسة لرؤية الأشباح، فستزحف نحونا من الأرض لتعظنا... خطيئة! وما شأنك لتعظنا بتصوراتك الحمقاء! أنتم أناس جهلاء تعيشون في الظلام. (يولع غليوناً). كان والدي فلاحاً. وكان مغرماً بالوعظ أحياناً. وذات يوم سرق كيس تفاح من الكاهن وجلبه إلينا وقال: حاذروا أيها الأطفال أن يمس أحدكم تفاحة قبل يوم تبريك التفاح في الكنيسة، إن ذلك خطيئة. الأمر ينطبق على هذه القصة تماماً، فيجب ألا يذكر الإنسان الشيطان، مع أنه قد يلاعبه. ومثال ذلك أيضاً هذه العجوز الشمطاء. (يشير إلى يفيموفنا). إنها تتحدث عن الشر وتحس أنه ينبع من داخلي، مع أنني أراهن أنها وهبت نفسها للشيطان نصف دستة من المرات على الأقل في أيامها بحماقاتها النسوية!
يفيموفنا - أوف... أوف... أوف... رحماك اللهم... (تخفي وجهها بين يديها) سافا، عزيزي.
تيهون - لماذا تخيفهم؟ إنها لطريقة طريفة تسلي بها نفسك. (يصطفق الباب بالريح) يا إلهي، الطف بناء. يالها من ريح مخيفة!
مريك - (يتمطى) أريد أن أختبر قوتي (يصطفق الباب بالريح)، أن أتصارع مع الريح... تلك الريح إنها لا تستطيع خلع الباب، لكنني أستطيع أن أمحو الحانة لو شئت. (ينهض ثم يضطجع ثانية) أنا كئيب جداً.
نازارو - صلّ أيها الكسول. ما الجدوى من التقلب على الجانبين؟!
يفيموفنا - لا تلمسيه... لا تضايقيه. إنه ينظر إلينا ثانية. (إلى مريك) لا تنظر إلينا أيها الشرير... عيناه... عيناه كعيني إبليس قبل صلاة السحر.
سافا - دعيه ينظر أنىّ شاء أيتها الحاجة، اتلي صلاتك، ولن تمسك العين الشريرة.
بورتسوف - كلا. لا أستطيع احتمال ذلك. إنه كثير جداً (يتجه إلى «البار») اسمع يا تيهون. للمرة الأخيرة، أتوسل إليك... نصف قدح.
تيهون - (يهز رأسه) فلوس.
بورتسوف - يا إلهي إنني أخبرتك من قبل. أنا فقدت كل شيء بسبب الشراب. من أين أعطيك نقوداً؟ من المؤكد أنك لن تتضرر إن أعطيتني جرعة من الفودكا دَيناً. الفودكا لا يكلفك أكثر من «كوبر» لكنه سينتشلني من العذاب. إني أتخبط في العذاب. إنها ليست نزوة، بل عذاب. أرجوك، افهم.
تيهون - قل هذا الكلام لشخص آخر غيري... اذهب وتسول من الناس الطيبين هنا، فليدعوك للشراب حباً بالمسيح، أما أنا فلا أحسن إلى المتسوّلين إلا بالخبز!.
بورتسوف - أنت قد تسلب هؤلاء المساكين، ولكن أنا؛ كلا، أشكرك. أنا لست ممن ينهبهم. لست من هذا النوع. أفاهم أنت؟ (يخبط «البار» بجمعه) لست من هذا النوع. (صمت). احم... انتظر لحظة... (يستدير نحو الججاج)... تلك فكرة... أيها الناس الطيبون... أليس فيكم من يمنحني «كوبراً»؟ أعماقي تتلظى للشراب. إنني مريض.
فيديا - شيء آخر... أيها النذل... أظن أنك لا تهتم بالماء؟
بورتسوف - كم أذل نفسي! كم أذل نفسي! لست أريد شيئاً. أنا لا أريد أي شيء. كتنت أمزح.
مريك - لن تستطيع أن تنتزع منه شيئاً أيها السيد. الجميع يعلمون أنه بخيل... انتظر لحظة... عندي «كوبر» في مكان ما. (يبحث في جيوبه) عليه اللعنة.. هل فقدته في مكان ما؟ حسبت أنني سمعت خشخشة في جيبي البارحة... كلا، ليس لديّ أيها الصديق.. إنه حظك السيّء.. (صمت).
بورتسوف - لابد أن أحصل على شراب، وإلا فسأرتكب عملاً وحشياً، أو أنتحر!... يا إلهي، ما العمل؟ هل أذهب؟ أخرج في الظلام وأمضي إلى حيث يقودني الحظ؟!...
مريك - لماذا لا تهدّئونه بعظة؟ وأنت يا تيهون، لماذا ترغمه على الخروج؟ إنه دفع لك أجرة ليلته، ألم يدفع لك؟ لماذا تطرده؟ الناس قساة هذه الأيام. إنهم مجردون من الرحمة والشفقة. الناس وحوش، إذا رأوا رجلاً يغرق صاحوا: «أسرع بالغوص فليس لدينا وقت للتفرج عليك... وراءنا عمل»... أما أن يلقوا إليه حبلاً فلا أمل في ذلك. الحب يكلف نقوداً.
سافا - لا تتعجل الحكم على الناس أيها الرجل الطيب.
مريك - اخرس أيها الذئب العجوز. أنتم قوم قساة. يهود. هيروديون. (إلى تيهون) تعال هنا. اخلع حذائي... انتبه جيداً.
تيهون - ، هل ستحصل له على الشراب؟ (يضحك) أنت مخيف.
مريك -قلت لك تعال هنا. انتبه جيداً. (صمت) ألا تسمع؟ أتراني أخاطب الجدران؟ (ينهض).
تيهون - هيا، هيا، يكفي هذا.
مريك -أريد أن تخلع لي حذائي يا مصاص الدماء وإن كنت متشرداً وشحاذاً.
تيهون - هيا، هيا، تعال واشرب كأساً... تعال وخذ شراباً.
مريك - رأيها الناس الطيبون؛ ماذ أريد؟ أسألته أن يدعوني إلى الشراب أم أن يخلع حذائي؟ ألم أتكلم بوضوح؟ ألم أقل شيئاً واضحاً؟ (إلى تيهون) أظن أنك لم تسمعني؟ سأنتظر دقيقة أخرى فربما سمعت.
(يسود الانفعال بين الحجاج والموجودين. ينهضون وينظرون إلى تيهون ومريك في توقع صامت).
تيهون - إنها ريح خبيثة تلك التي ساقتك إلى هنا. (يخرج من وراء «البار») سيد لطيف حقاً... هيا، أين هما؟ (يخلع حذائي مريك) أنت يا نسل قابيل...
مريك -حسناً، ضعهما جنباً إلى جنب.. هذا حسن.. بوسعك أن تمضي.
تيهون -(بعد أن يخلع حذائي مريك يعود إلى موضعه وراء «البار») أنت مغرم جداً بالعظمة. أرني شيئاً آخر من عظمتك وستطير خارج الباب بغمضة عين. أجل. (إلى بورتسوف الذي يدنو منه) أأنت ثانية؟
بورتسوف - أنت ترى... ربما كان في إمكاني إعطاؤك شيئاً ذا قيمة... إذا شئت سأ...
تيهون - لماذا تتمتم؟ تكلم بوضوح...
بورتسوف - إنها لقذارة ووضاعة مني، ولكني لا حيلة لي في ذلك. لست مسؤولاً عن ارتكاب هذه الفعلة. سأبرأ لو حوكمت عليها... خذها بشرط أن تسمح لي باستعادتها لدى عودتي من المدينة... سأعطيها لك أمام الشهود... أيها الأصدقاء، ستكونون شهوداً. (يخرج علبة ذهبية من جيب الصدر) ها هي ذي. كان الواجب عليّ انتزاع الصورة منها، ولكنني مبتلّ كلياً، وليس لديّ مكان أخبئها فيه... حسناً، خذها مع الصورة على أن تحاذر مسها بأصابعك... من فضلك، كنت فظاً معك يا عزيزي... كنت أحمقاً، لكنك يجب أن تسامحني و... لا تمسها... لا أريد أن تنظر إليها عيناك... (يناول تيهون علبة ذهبية ذات قلادة ذهبية).
تيهون - (يفحص العلبة) ساعة مسروقة. حسناً، لا بأس. خذ كأساً. (يصب فودكا في قدح)... ابلعها...
بورنسوف - لا تمسها بأصابعك... (يشرب ببطء، مع فترات تشنجية).
تيهون - (يفتح العلبة) احم... سيدة... من أين حصلت عليها؟
مريك - أرني... (ينهض متجهاً إلى «البار») دعني ألقي نظرة.
(ينحي يدي مريك) إلى أين تسحبها؟ انظر إليها وأنا ممسك بها.
فيديا- (ينهض ويقصد إلى تيهون) دعني ألقي نظرة أيضاً.
(حجاج وعابرون يتزاحمون حول «البار»).
مريك - (يقبض على يد تيهون الممسكة بالعلبة بشدة، ويحدق في الصورة صامتاً. (فترة صمت) جميلة هذه الشيطانة... سيدة!
فيديا - سيدة! بوسعك أن تدرك ذلك من الوجنتين والعينين... نحّي يديك قليلاً... لا أستطيع رؤية شيء... الشعر يتدلى إلى الخصر!... كما لو كانت حية!... إنها توشك أن تتكلم. (صمت).
مريك - إنها لخراب محقق لرجل ضعيف. إذا ارتبطت بامرأة كهذه (يهز يده) ففي ذلك نهايتك.
(صوت كوزما: «و و و...! كفّوا أيها الوحوش الميتة!» يدخل كوزما).
كوزما - (داخلاً) إذا اعترضت الطريق حانة فلا مجال لاجتنابها. قد تمر بأبيك في ضوء النهار ولا تراه، ولكنك ترى الحانة في الظلام وهي على بعد مائة ميل. افسحوا الطريق إن كنتم مسيحيين طيبين. هاي... أنت، هناك... (ينقر بكوبر على «البار») كأس من الماديرا الحقيقية. انتبه جيداً.
فيديا - إنه شيطان فائر.
تيهون - ا تلوّح بذراعيك. ستقلب شيئاً.
كوزما - هذه هي فائدة الذراعين... لكي نلوّح بهما... أنتم خائفون من المطر أيها المرفهون أحسب أنكم مصنوعون من سكر. (يشرب).
يفيموفنا - يحق للإنسان أن يخاف إذا هاجمته ليلة كهذه وهو في الطريق. شكراً لله، إننا آمنون جميعاً. هناك قرى وبيوت كثيرة على الطرق يستطيع الإنسان أن يجد فيها ملجأ من الجو. ولكن من المفزع أن يفكر الإنسان بما كان عليه الحال في الأزمان الغابرة. قد تسير مئات الأميال ولا ترى قطعة خشب، ناهيك عن القرى أو البيوت. كان لابد من الرقاد في عرض الطريق...
كوزما - أكنت تتجولين حول العالم زمناً طويلاً أيتها الفتاة العجوز؟
يفيموفنا - إنني مقبلة على الثمانين.
كوزما - ثمانون عاماً. سيصبح لك بعد قليل عمر نهر. (ينظر إلى بورتسوف) وأي صنف من الأسماك الغريبة هذا؟ (يتأمل بورتسوف بدقة) سيدي!
(يعرف بورتسوف كوزما فيجتاحه الارتباك، يتراجع إلى إحدى الزوايا ويجلس على مصطبة).
كوزما - سيميون سرجي (فتش. أيمكن أن تكون أنت؟ آه؟! كيف حدث أن تأتي إلى هذه الحانة؟! هذا المكان لا يليق بك.
بورتسوف - أمسك لسانك.
مريك - (إلى كوزما) من يكون؟
كوزما - ضحية تعسة. (يسير بعصبية رواحاً وجيئة بجوار «البار») في خمارة؟! حسناً، مطلقاً. في خرق..؟! ... سكران؟!... إنه لأمر يثير انزعاجي الشديد أيها الأصدقاء... إنه يربك عقلي... (إلى مريك في نصف همس) إنه سيدنا، ملاّكنا، سيمون سيرجيفتش، السيد بورتسوف... أنت ترى في أي حال هو! ماذا يشبه الآن؟ انظر إلى أي حد ينحدر السكر بالإنسان.. املأ كأسي. (يشرب)... إنني من قريته، بورتسوفكا، ربما سمعت بها، على بعد مائة وخمسين ميلاً من هنا... في منطقة يرگوفسكي... كنا عبيد أبيه... إنه لأمر مؤسف.
مريك - أكان ثرياً؟
كوزما - رجلاً خطيراً.
مريك - بدد أموال أبيه؟
كوزما – كلا انه نصيبه المحتوم يا سيدي العزيز 0 كان سيدا عظيما0 0غنيا عاقلا ( الى تيهون)أراهن أنك كنت تراه أحياناً في عربته ذاهباً إلى المدينة؛ خيل بديعة وعربة ذات نوابض... كل شيء من الصنف الأول. اعتاد أن يحتفظ بخمسة خيول يا ولدي... أذكر أنه كان قبل خمسة أعوام سائراً بجوار معبر ميكيشكيني، وألقى للرجل روبلاً بدلاً من كوبر وقال: ليس لدي وقت لانتظار البقية... خذ...
مريك - أظن أنه جن؟
كوزما - يبدو أنه في كامل قواه العقلية.. أصل مصيبته إفراطه في الشراب. ولكن مرجع المسألة إلى امرأة... أحب المسكين امرأة من المدينة... واعتقد أنها لا نظير لها في العالم... وقع في غرام غراب، وهي أجمل من صقر! كانت فتاة من أسرة طيبة. لم تكن إحدى بنات الطبقة المنحطة، أو أي شيء من هذا القبيل، لكنها.. كانت طائشة فقط.. تضحك وتضحك دائماً.. بدون عقل!... الناس يحبون هذا الصنف من النساء... إنهم يعتقدون أن تلك الفتاة ذكية. لكن الفلاحين يطردون مثل تلك الفتاة الطائشة خارج بيوتهم... حسناً، وقع في غرامها وقضي أمره. كان يسرف في العناية بها، هذا وذاك، شاي وسكر. وكانا ينفقان الليلة كلها أحياناً في قارب، أو في العزف على «البيانو»..
بورتسوف - لا تتحدث عنها يا كوزما. ما الفائدة؟ ماذا يهمهم أمر حياتي؟!
كوزما - معذرة يا صاحب السعادة. لم أقل شيئاً كثيراً... قلت لهم أشياء بسيطة، ذلك كل شيء. لم أستطع مقاومة رغبتي في الكلام، فقد انزعجت أشد الانزعاج... انزعاجاً فظيعاً...! املأ كأسي (يشرب).
مريك - (في نصف همس) وهل أحبته؟
كوزما - (في نصف همس يتحول تدريجياً إلى كلام اعتيادي) أعتقد أنها أحبته. لم يكن سيداً قليل الشأن. إنك لابد أن تحب شخصاً يملك ثلاثة آلاف فدان ونقوداً لا يمكنه عدّها. كان مبجلاً، محترماً، رزيناً.. كان يصافح جميع رجال الحكومة، مثلي ومثلك الآن بالضبط، (يتناول يد مريك) مع «نهار طيب» و«في أمان الله» و«أهلاً وسهلاً»... حسناً، ذات أمسية كنت أتمشى في الحديقة... كان هناك أميال من الحدائق... كنت أتمشى بهدوء... ولمحتهما جالسين على إحدى مصاطب الحديقة وهما يتبادلان القبلات (ينطق صوت قبلة) منحها قبلة، وهي -الأفعى- منحته قبلتين، وتناول يدها البيضاء فتورد وجهها والتصقت به. وقالت: «أحبك يا سنيا». فاندفع سنيا، كما لو كان قد جن، وراح يوزع الروبلات على الناس، روبلاً لهذا، وروبلين لذاك، ووزع مبلغاً يكفي لشراء حصان... وعفى عن جميع مدينيه في غمرة سروره...
بورتسوف - لماذا تواصل حكاية القصة؟ ليس لهؤلاء الناس إحساس... إنه لأمر مؤلم كما تعلم...
كوزما - لم أقل شيئاً كثيراً يا سيدي... إنهم يلحون في السؤال... لماذا لا أحدثهم بشيء قليل؟ هيا، هيا، لن أحدثهم بشيء بعد أن أزعجك ذلك. لن أحدثهم. لن أهتم لأسئلتهم.
(يسمع صوت عربة البريد).
فيديا - لا تصرخ... تكلم بهدوء.
كوزما - كنت أتكلم بهدوء. ولكنه يريد أن أمتنع عن حكاية قصته، فلم يعد في الاستطاعة عمل شيء. والحقيقة أنه لم يتبق ما يمكن قوله... لقد تزوجا... ذلك كل ما في المسألة... لم يتبق شيء آخر غير هذا... املأ كأسي. (يشرب) أنا لا أحب السكر. وحالما جلس علية القوم لتناول طعام الغداء على مائدته فرّت في عربة (في همس) إلى المدينة... إلى محام كان عشيقها... آه، ما قولكم في هذا؟ في تلك اللحظة بالضبط... لماذا، لاشك أن القتل جزاؤها العادل.
مريك - وماذا جرى له؟
كوزما - فقد صوابه.. كما ترى. بدأ يشرب قطرة، ثم تحولت القطرة إلى سطل... قطرة أولاً، ثم زجاجات... وما زال يحبها... تصوروا، يحبها!... لابد أنه الآن في طريقه إلى المدينة ليحاول التزود بنظرة منها... يتزود بنظرة ثم يعود راجعاً مرة أخرى...
(تقدم العربة إلى الحانة. يدخل عامل البريد ويشرب قدحاً).
تيهون - البريد متأخر اليوم.
(يدفع عامل البريد ثمن كأسه وهو صامت ويخرج. تبتعد عربة البريد وأجراسها تصلصل).
صوت - (من الزاوية) إنه لجو ملائم لنهب عربة البريد. سيكون ذلك أمراً ميسوراً.
مريك - عشت في هذه الدنيا خمساً وثلاثين سنة ولم أنهب البريد يوماً. (صمت). والآن، ذهبت. فات الأوان... فات الأوان...
كوزما - أفتشتهي استنشاق هواء السجن؟
مريك - كثير من الناس ينهبون البريد دون أن يسجنوا. وماذا لو أدى الأمر إلى السجن؟ (بلهجة موجزة) وماذا جرى فيما بعد؟
كوزما - تعني للسيد المسكين؟
مريك - ومن سواه؟
كوزما - المسألة الأخرى هي كيف انحدر إلى هذا الخراب. إن زوج أخته مسؤول عن ذلك. كان هذا مغرماً بالاستدانة. فكر في ضمان أعمال زوج أخته بتخصيص رأسمال قدره ثلاثون ألف روبل. كان هذا مغرماً بالاقتراض. كان يعلم كيف يغمس خبزه بالزبد. لم يحرك شعرة أبداً، الخنزير... يقترض، ولا يكلف نفسه مؤونة إعادة المال. وهكذا اضطر سيدنا أن يدفع الثلاثين ألف كلها... (يتنهد) لابد أن يجني الأحمق ثمرة حماقته. أصبح لزوجته أطفال من المحامي، وقد اشترى زوج أخته مقاطعة قرب بولتافا، أما هو فيتجول في الحانات كالمجنون، شاكياً للفلاحين أمثالنا: «فقدت إيماني أيها الفتيان... لا يمكنني أن أؤمن بشيء الآن». إنني أسمي هذا «ضعف الإرادة». لكل إنسان أحزانه، وقد تخز البعض في قلبه، لكن ذلك لا يدعو إل الانغمار في الشراب. خذ قسيس الكنيسة في قريتنا الآن؛ إن زوجته تخونه مع المدرس علانية، لكنه يتجول في القرية وثغره يحمل ابتسامة حقيرة... وإن كان وجهه قد نحل قليلاً...
تيهون - (يتنهد) يتحمل الرجال متاعبهم، كل حسب ما وهبه الله من صبر.
كوزما - لكن الناس يختلفون في احتمالهم، هذا أكيد. حسناً، كم الحساب؟ (يدفع حسابه لتيهون) خذ نقودي التي كسبتها بالعمل المضني. الوداع أيها الفتيان. أتمنى لكم ليلة سعيدة وأحلاماً مبهجة. يجب أن أركض... تأخر الوقت... إنني ذاهب لإحضار القابلة من المستشفى لسيدتي... لاشك أنها سئمت الانتظار، المسكينة العزيزة. (مهرولاً).
تيهون - (بعد فترة صمت) هاي... أنت... ما اسمك؟ خذ شراباً أيها المسكين.
بورتسوف - (يدنو من «البار» ويشرب) وهكذا أصبحت مديناً لك بكأسين.
فيديا - إنهما لا شيء. أغرق أحزانك في الشراب.
فيديا - خذ كأساً على حسابي أيضاً. (يلقي كوبراً على «البار») ستموت إذا شربت، وتموت إن لم تشرب. إنه لأمر حسن أن تمتنع عن الشراب، ولكن الفودكا تنعش القلب قسماً بالله. ولا يعود الحزن حزناًً إذا سكرت... ابتلعها.
بورتسوف - ورتفو، إنها ساخنة.
(إلى تيهون) هاتها. (يأخذ العلبة من تيهون ويتمعن في الصورة) احم... تفر في يوم زواجها.. يالها من امرأة!
صوت - (من الزاوية) صب له كأساً على حسابي أيضاً يا تيهون.
مريك -(يخبط العلبة بالأرض في عنف) عليها اللعنة.
(يمضي مسرعاً إلى موضعه ويضطجع ووجهه إلى الجدار).
(توتر).
بورتسوف - ما هذا؟ ما معنى ذلك؟ (يلتقط العلبة) كيف تجرؤ أيها الوحش؟ أي حق لك أن تفعل هذا؟ (بصوت باك) أنت تريد أن أقتلك، أليس كذلك؟ أنت أيها الفلاح الجاهل...
تيهون- لا تغضب يا سيدي... إنها ليست مصنوعة من زجاج.. إنها لم تتحطم... خذ كأساً آخر، ثم اذهب ونم. (يملأ له قدحاً آخر) ظللت أستمع إليك هنا، وقد حان موعد إغلاق الحانة (يتجه إلى الباب الخارجية ويغلقها).
بورتسوف - (يشرب) كيف تجرؤ؟! يا لك من أحمق! (إلى مريك) أتعلم أنك مجنون، حمار؟
سافا- أيها الأصدقاء الطيبون، اضبطوا ألسنتكم. ما الجدوى من إثارة الضجة؟ دعوا الناس ينامون.
تيهون - اضطجع... اضطجع.. يكفي هذا. (يتجه خلف «البار» ويقفل درج النقود) حان موعد النوم.
فيديا - أجل حان. (يضطجع) ليلتكم سعيدة أيها الأصدقاء.
مريك - (ينهض وينشر سترته على المصطبة) تعال وارقد هنا يا سيدي.
تيهون - وأين تضطجع أنت؟
مريك- في أي مكان... على الأرض. (ينشر صديريته على الأرض) الأمر سواء لدي. (يضع فأسه بجواره) سيكون الأمر مؤلماً له أن ينام على الأرض، فهو معتاد على الحرير وريش النعام.
تيهون - (إلى بورتسوف) نم يا صاحب السعادة. حدقت في الصورة وقتاً كافياً. (يطفئ الشمعة) دعه- ا. بورتسوف – (مترنحا)أين أرقد ؟
تيهون- في مكان المتشرد. ألم تسمع؟ إنه قدمه إليك.
بورتسوف- - أنا... أنا... سكران... هذا هو. أأنام هنا؟
تيهون - أجل، أجل. لا تخش شيئاً. نم. (يتمدد على «البار»).
بورتسوف - (مضطجعاً) إنني سكران... كل شيء يدور... (يفتح العلبة) ألديك قطعة من الشمع؟ (صمت). أنت فتاة غريبة الأطوار يا ماشا... تنظرين إليّ من وراء الإطار وتضحكين... (يضحك)... سكران... ينبغي ألا تضحكي على سكران... تحتقرين كل شيء كما يقول شاستيلفتش... وتحبين رجلاً سكيراً.
فيديا - ما أشد عواء الريح! إنها مخيفة!
بورتسوف - (يضحك) يا لك من فتاة! كيف تقدرين أن تدوري هكذا؟! ليس في الإمكان إمساكك.
مريك - إنه يحلم. إنه يواصل التحديق في الصورة. (يضحك). إنه لأمر عجيب... اخترع أولئك الناس الحاذقون مكائن وأدوية من جميع الأنواع، ومع ذلك فلم يكن لأحدهم من الحذق ما يكفي لاختراع دواء ضد الجنس الأنثوي... إنهم يحاولون علاج جميع الأمراض، وكأنهم لا يدركون أن النساء تفتك بالرجال أكثر مما تفتك بهم الأمراض... ماكرات، جشعات، ليس فيهن رحمة ولا عقل... الأمهات يحلن حياة زوجات أبنائهن إلى جحيم، والزوجات لا يشغلهن شيء سوى التفكير في الوسيلة التي يخدعن بها أزواجهن... ولا نهاية لذلك!
تيهون - سحب النساء عرف الديك، وهو ينتفن ريشه!
مريك- أنا لست الوحيد... من أمد بعيد جداً، منذ أو وجدت الخليقة، ظل الرجال يتعذبون... المرأة لم تقرن بالشيطان في الأغاني والحكايات بدون سبب.. لم تقرن عبثاً... نسبة الصحة في المسألة أكثر من النصف على أية حال... (صمت). ها هو السيد هنا يمثل دور المجنون. وأنا لم أترك أمي وأبي وأصبح متشرداً لحكمة ما...
فيديا - أكان سبب ذلك النساء؟
مريك- كما هو حال هذا السيد تماماً. أصبحت كالمسحور. وتباهيت بسعادتي ليلاً ونهاراً. ثم جاء الوقت الذي فتحت فيه عيني... إنه لم يكن غراماً، بل خداعاً لا غير...
فيديا - ماذا فعلت لها؟
مريك - ليس هذا من شأنك. (صمت). قتلتها. أتظن ذلك؟ أخفقت يداي... المرء لا يقتلهن بل إنه ليشفق عليهن... يعيش ويصبح... سعيداً! آه، لو أنك لا تتخايلين لعينيّ وأن بقدرتي أن أنساك... أفعى بين الحشاش. (قرع على الباب).
تيهون - من هناك بحق الشيطان؟ من؟ (قرع) من الطارق؟ (ينهض متجهاً نحو الباب) من الطارق؟ امض في طريقك... أغلقنا الحانة...
صوت - (وراء الباب) دعني أدخل يا تيهون لخاطر الله. كسر أحد النوابض في العربة. ساعدني. كن أبا لي. باستطاعتنا أن نصل إلى المنزل بطريقة ما لو كان لدينا قطعة من الحبل نربطه بها.
تيهون - من هذا؟
صوت - (وراء الباب) سيدتي مسافرة من المدينة إلى فارسونوفيفو... لم يتبق أمامنا سوى أربعة أميال.
تيهون - قل لسيدتك أننا سنعطيها حبلاً ونصلح النابض إذا أعطتنا عشرة روبلات.
صوت - (وراء الباب) أجننت؟ عشرة روبلات لقطعة من الحبل؟ أيها الكلب المجنون، إنك تبتهج بمتاعب الآخرين.
تيهون - أنت أدرى... لست مرغماً على إعطائها إن لم تكن راغباً في ذلك.
صوت - ص(وراء الباب) حسناً، انتظر قليلاً إذن. (صمت). تقول سيدتي: لا بأس.
تييهون - ادخل إذن. (يفتح الباب فيدخل دنيس).
دنيس - أسعدتم مساء أيها المسيحيون الطيبون. خذ، أعطني الحبل، أسرع. أسرع. أيها الفتيان؛ من سيمد إلينا يد المساعدة؟ سيكون لكم شيئاً.
تيهون - لا حاجة بنا إلى المساعدة. دعهم نياماً. سنتدبر الأمر معاً.
دنبس - أوف.. أنهكت. أنا بردان، موحل، وليس هناك خيط جاف واحد على جسدي. أمر آخر أيها تيهو-ن - أتريد غرفة أيضاً؟ دعها تتدفأ هنا إن كانت بردانة... سنجد غرفة لها! (يتجه إلى بورتسوف ويمهد المكان بجواره) انهض، انهض، في وسعك أن ترقد على الأرض لساعة واحدة فقط بينما تتدفأ السيدة. (إلى بورتسوف) انهض يا صاحب السعادة. اجلس قليلاً. (يجلس بورتسوف) هاك مكاناً لك.
(يخرج دنيس).
فيديا - ها هو ذا زائر جديد الآن، فليكتسحها الطاعون. لن نستطيع النوم حتى الصباح.
تيهون - من المؤسف أنني لم أطلب خمسة عشر روبلاً، فلا شك أنها كانت ستقبل بدون تردد. (يقف في الباب في هيئة المترقب).. وينبغي أن تحسنوا السلوك جميعاً.. بدون كلمات خشنة...
(تدخل ماريا يگوروفنا ووراءها دنيس. ينحني تيهون).
تيهون - تفضلي يا صاحبة السعادة. مكاننا لا يناسب سوى الفلاحين الفقراء والخنافس. لا تحتقريه.
ماريا - لا أستطيع رؤية شيء... إلى أين أسير؟
تيهون - من هذا الطريق يا صاحبة السعادة. (يقودها ليجلسها بجوار بورتسوف). أرجو أن تسامحيني فليس لدي غرفة منفصلة. ولكن لا تقلقي يا سيدتي فهم قوم طيبون هادئون.
ماريا- (تجلس بجوار بورتسوف) يا له من مكان خانق! كان في إمكانك أن تفتح الباب على الأقل.
تيهون -أجل يا سيدتي. (يهرول إلى الباب ويفتحها على مصراعيها).
مريك - الناس بردانون وهم يفتحون الأبواب. (ينهض ويصفق الباب) من تكون لتصدر الأوامر؟! (يضطجع).
تيهون - نمعذرة يا صاحبة السعادة... إنه إنسان بسيط... متأثر قليلاً... ولكن لا تجزعي.. لن يؤذيك.. ولكن عفواً يا سيدتي، فأنا لم أوافق على عشرة روبلات، بل على خمسة عشر روبلاً إذا شئت.
ماريا - حسناً، أسرع فقط.
تيهون - حالاً. سنصلحه في غمضة عين. (يخرج حبلاً من تحت «البار») هذه الدقيقة... (صمت).
بورتسوف - (يحدق في وجه ماريا يگوروفنا) ماريا... ماشا...
ماريا - (تنظر إلى بورتسوف) وماذا بعد؟!
بورتسوف - ماري... أهو أنت؟ من أين قدمت؟
(تتبين ماريا يگوروفنا بورتسوف فتطلق صرخة جزع، وتندفع بعيداً عنه إلى وسط الغرفة).
بورتسوف - (يتبعها) ماري... إنه أنا... إنه أنا... (يضحك) زوجتي، ماري. ولكن أين أنا؟ فليشعل أحدهم شمعة.
ماربا -ابتعد... أنت تكذب... إنه ليس أنت... هذا مستحيل.. (تخفي و- جهها بين يديها) إنها أكذوبة.. إنها سخافة..
بورتسوف - صوتها... حركاتها... ماري، إنه أنا، لن أكون بعد الآن... سكيراً... دقيقة... رأسي يدور.. يا إلهي... انتظر قليلاً... لا أستطيع أن أفهم. (يصرخ بصوت عنيف) زوجتي. (يسقط عند (يتحلق جمع حول الزوج وزوجته).
ماريا - ابتعد. (إلى دنيس) دعنا ننصرف. لا أستطيع البقاء هنا.
مريك - (يقفز ويحملق في وجهها) الصورة. (يقبض على ذراعها) إنها نفسها. هاي... أيها القوم... إنها زوجة السيد.
ماريا -أبعد يديك أيها الفلاح. (تحاول أن تسحب ذراعها) دنيس، ماذا تنتظر؟ (يخف إليها دنيس وتيهون ويمسكان مريك من تحت ذراعيه) هذا جحر لصوص... إنني لست خائفة منك... ابتعد.
مريك - قفي قليلاً. سأدعك تنصرفين حالاً. دعيني أقول لك شيئاً فقط.. شيئاً واحداً لكي تفهمي.. انتظري قليلاً. (يلتفت إلى تيهون ودنيس) ابتعدا أيها النذلان. لا تمسكاني. لن أدعها تنصرف إلا بعد أن أقول لها شيئاً.. انتظري قليلاً... دقيقة... (يقرع جبهته بجمعه) كلا، لم يهبني الله عقلاً. ليس بقدرتي أن أفكر بما أريد قوله لك.
ماريا (تسحب ذراعها)- ابتعد 00انهم سكارى 0دعنا ننصرف يا دنيس (تحاول ان تسير نحو
-الباب).
مريك - (يحجز طريقها) هيا... امنحيه نظرة واحدة على الأقل... أسعديه بكلمة لطيفة واحدة. لخاطر الله.
ماريا - أبعدوا هذا الرجل المجنون عني.
مريك - فلتذهبي إلى الشيطان إذن أيتها المرأة اللعينة. (يطوّح بفأسه).
(اضطراب عنيف. الجميع يقفزون في ضوضاء وهم يطلقون صيحات الفزع. يقف سافا بين ماريا يگوروفنا ومريك. يسحب دنيس مريك بعنف، ويحمل سيدته إلى خارج الحانة. يتسمّر الجميع ا في أماكنهم.
(صمت طويل).
بورتسوف - (يحاول أن يمسك الهواء بقبضته) ماري... أين أنت... ماري؟
نازارو - آه يا إلهي... آه يا إلهي... سحقتم قلبي أيها القتلة... ويا لها من ليلة مخيفة!
مريك - (ينزل اليد التي تحمل الفأس) هل قتلتها؟
تيهون - اشكر الله فقد أنقذت حياتك هذه المرة.
مريك- لم أقتلها إذن... (يتجه إلى موضعه مترنحاً) لم يكن مقدراً لي أن أموت بسبب فأس مسروقة. (يترامى على سترته ويجهش بالبكاء) أوه، أيها البؤس، أيها البؤس الساحق. أشفقوا عليّ أيها المسيحيون الطيبون.
ستار

شاكر خصباك مسرحياً(*)
□ كريم جثير
(القهقهة ومسرحيات أخرى) مجموعة من المسرحيات القصيرة هي آخر ما صدر للقاص والكاتب المسرحي المعروف شاكر خصباك وضمن سلسلة أعماله الأدبية الكاملة الصادرة عن مركز عبادي للدراسات والنشر -صنعاء- وقد ضمت هذه المجموعة بالإضافة إلى مسرحية (القهقهة) ثلاث مسرحيات أخرى هي (دردشة) و(هو وهي) و(في انتظار جودو) وجميعها من المسرحيات القصيرة وذات فصل واحد. ولأهمية هذه المسرحيات من ناحية المضامين التي تضمها والبناء المتنوع الذي اختاره كاتبها لها، ولما تشكله أيضاً من أهمية خاصة بين ما كتبه خصباك من مسرحيات خلال مسيرته الإبداعية الطويلة، هذا وغيره دعانا لأن نقف عندها وبهذا المقال القصير.
من ينظر إلى أعمال شاكر خصباك المسرحية السابقة ورغم أهمية كل من مسرحيتي (الشيء) و(بيت الزوجية) وغيرهما، لابد بأنه سيلحظ تحولاً في توجه خصباك بكتابته المسرحية. وقد بدا هذا التحول منذ مسرحية (الديكتاتور) الصادرة العام الماضي عن مركز عبادي أيضاً. وجاء ذلك بعد أن كان خصباك يكتب النص المسرحي وفي ذهنه القارئ وليس الجمهور الذي سيأتي لمشاهدة العرض، أو لنقل كان يراعي الجانب الأدبي أكثر من الجانب الدرامي معتمداً على المتعة التي تولدها قراءة النص وليس تلك المتعة الناجمة عن تجسيد هذا النص على خشبة المسرح مما يذكرنا ذلك وعلى نحو ما بأعمال (علي أحمد باكثير) ونصوصه المسرحية التي رغم كثرتها لم يقدم منها إلا القليل على الخشبة، وبأعمال (توفيق الحكيم) رغم الفرق بين مسرح الحكيم الذهني ومسرح خصباك.. ومع ذلك فلا نرى في ذلك ما يشكل عيباً في الكتابة المسرحية أو يقلل من قيمة هذه النصوص كونها تدخل ضمن تراثنا الأدبي.. سواء جاءت بشكل مقصود أي ما كتبه (الحكيم) لتحقيق مسرحه الذهني ودعوته إليه، أو ما كتبه باكثير باهتمامه بالتاريخ وحواراته الطويلة المغرقة بالتفاصيل.. أو جاءت كما كتبه خصباك، لعدم وجود مسرح يتلقف مسرحه ويكون منطلقاً لكتابته المسرحية الأولى وعدم وجود مسرح كما هو الآن. وكان النص المسرحي ينفذ إلى القارئ مطبوعاً أكثر مما هو متجسداً على خشبة المسرح.. وبطبيعة الحال لا يعني ذلك أن هذه النصوص خالية من الجانب الدرامي. فلو بحثنا لوجدنا فيها الكثير مما هو درامي والكثير منها يصلح لتقديمه على الخشبة وإن كان ذلك يحتاج إلى بعض الصياغات الدرامية من قبل المخرج، كما أنها أكثر أهمية في تحديد تراثنا المسرحي وتاريخه والعودة إليها لدراسة ذلك من المسرحيات الأخرى التي شكلت أهم ظواهر مسرحنا العربي. ورغم أننا ندرس مسرحنا على ضوء تلك الظواهر إلا أن تلك الظواهر لا تدخل ضمن تراثنا الأدبي.. وحتى رواد المسرح لم يتركوا لنا من النصوص المسرحية التي تدخل ضمن هذا التراث.. وقد أشرنا من قبل -في مقال سابق- إلى ما تناوله (محمد مندور) وبكتابه في المسرح النثري، إذ يقول «ها هي بين أيدينا روايات مارون نقاش الثلاث تعود إليها فتجدها مكتوبة في لغة خليط من الفصحى واللغة التركية أحياناً واللهجتين العاميتين المصرية والشامية بما يصيبها من الركاكة والتفكك والأخطاء النحوية.. إلخ».
ومهما يكن من أمر، تبقى أهمية النص المسرحي سواء كان هذا النص أدبياً خالصاً -وهذا النص لا وجود له فالنص المسرحي لابد أن يحتوي على قدر من الدراما وإلا ما سمي بنص مسرحي- أو كان نصاً مسرحياً درامياً خالصاً وهذا هو الآخر لا وجود له، فالنص المسرحي لابد وأن يصب في قالب أدبي أولاً ليتجسد فيما بعد على خشبة المسرح وتتضح قدرته الدرامية بصموده على الخشبة وإمكانية تجسيده عليها أكثر من غيره من النصوص. وها هو شاكر خصباك وباتجاهه إلى الخشبة واقترابه منها أكثر عبر مسرحياته القصيرة والتي دعتنا إلى هذه الوقفة كما ذكرنا.. إذ يقدم لنا في مسرحية (القهقهة) فرقة مسرحية تقدم عرضاً مسرحياً للجمهور، والعرض كله عبارة عن قهقهات متواصلة حتى يسأم الجمهور هذا العرض ويطالب الممثلين بالتوقف عن ذلك وتفسير ما يحدث. ويكتشف الجمهور أن هذه القهقهات هي المسرحية كلها. ووسط هذه القهقهات يبدأ حوار بين الجمهور والممثلين ومؤلف المسرحية حول دور المسرح وأهميته في حياة البشر وحول المسرح الجاد والمسرح التجريبي والمسرح التجاري وبالتالي الذائقة الجمالية للجمهور.
وتنتهي المسرحية بخروج الجمهور بينما تستمر القهقهات من قبل الفرقة المسرحية.. وهذه المسرحية القصيرة التي تجمع بين الطرافة والجد والروعة وإن انطلقت من فكرة بسيطة إلا أن هذه الفكرة سرعان ما تتطور لتصل إلى مناقشة موضوع في غاية الأهمية بين الفرقة والجمهور وعبر بناء درامي متنامي وضمن فضاء مفتوح يجمع بين ما يجري على الخشبة والجمهور فيلتحم الممثلون بالنظارة، بل إن المساحة التي يأخذها الجمهور من الحوار والحدث تصبح أكثر مما تأخذه الفرقة المسرحية أو ما يجري على خشبة المسرح..
أما مسرحية (دردشة) وهي الثانية من هذه المجموعة المسرحية.. فهي بالفعل عبارة عن دردشة بين عدد من الشخصيات بصالة فندق في الشمال. وتبدأ الدردشة بموضوعات بسيطة حول الطقس ومغيب الشمس في المصيف.. وتتطور للتطرق إلى موضوعات تتعلق بالمسؤولية وبالتربية ثم بالسياسة وبوضع البلد، خاصة بعد جلوس الزبون الجديد الذي يجلس على مسمع مما يدور. وسرعان ما يتدخل هذا الزبون الجديد وبشكل فضولي مستفز ويهدد الجميع لأنه لا يعجبه هذا الحديث، أو هذه الدردشة التي يعتبرها خيانة وتخريب للوطن متكلماً باسم النظام. ثم يغادر الصالة إلى غرفته ليتصل بأحد المسؤولين محرّضاً إياه على الجماعة. فيبقى الجميع بموقف لا تحمد عقباه وفي انتظار مصيرهم المجهول الذي ليس من الصعب علينا تحديده. والحقيقة أن هذه المسرحية ورغم عمق الموضوع الذي تطرحه وبناء الشخصيات بناءً متكاملاً إلا أنها أقل مسرحيات المجموعة بناءً درامياً. فهي تأخذ من الدردشة بواقعيتها وتفاصيل انتقالها من موضوع إلى آخر ولا تملك فعلاً درامياً يحرك الأحداث إلا عند تدخل النزيل الجديد واستفزازه للآخرين بحديثه معهم وصعوده إلى غرفته، الذي يجعلنا في حالة من الترقب وانتظار ما سيحدث بينما تنتهي المسرحية وقد توقفت الدردشة.
وأما مسرحية (هو وهي) فهي أكثر مسرحيات المجموعة إثارة بالنسبة لي وذلك لموضوعها الذي يتناوله الكاتب وأسلوب كتابتها..
(هو وهي) عجوزان سئِما الحياة ورتابتها وقررا الانتحار.. إلا أنهما يفشلان ويعودان إلى مواصلة حياتهما.. هي إلى اهتمامها بأثاث البيت وبنفض ما عليه من تراب اليأس... وهو بالعودة إلى كتبه، كما يعودان إلى انتظارهما المشترك لولدهما..
وقد قام الدكتور شاكر ببناء المسرحية على شكل لوحات تتكون من حوارات قصيرة وباستخدام الصمت ليكون فاصلاً بين لوحة وأخرى.. حيث وضع عند نهاية كل لوحة صمت ممتلئ يساعد في تطور الحالة الدرامية والزمن النفسي للأحداث مع انسجام ذلك مع موسيقى تصور الملل واليأس تستمر طوال المسرحية خصوصاً في فترات الصمت، لتتحول أخيراً إلى موسيقى ناعمة تصور الأمل والتفاؤل عند نهاية المسرحية. ومسرحية (هو وهي) من أجمل مسرحيات المجموعة بحواراتها المكثفة وبأسلوبها الرشيق وبحبكتها الدرامية التي تنضج على نار هادئة مما يجعل المسرحية أشبه بقصيدة تمثل دورة الحياة وهي تتحرك بين الملل والرتابة التي يصل الإنسان إليها بعد أن يحقق جميع أحلامه وطموحاته وقد خبر الحياة وعاشها بطولها وعرضها ووصل إلى شيخوخته حيث استنفذ كل ما كان يرغب أن يحققه أو يفعله ووصوله إلى الرتابة ومحدودية عالمه التي تقوده إلى الملل.. وبين الأمل الذي يبقى على الدوام وهو يحرك تلك الشخصيتين من جديد..

ثم تأتي مسرحية (في انتظار جودو) آخر مسرحيات المجموعة.. والتي اقتبس عنوانها من مسرحية (بيكيت) الشهيرة. وهذه المسرحية تطرح موضوع السلطة وعلاقتها بالشعب الذي يرزح تحت قمعها وأساليبها التي تقوده إلى المهانة ومصادرة أبسط حقوقه. والحقيقة أن هذا الموضوع ليس جديداً في أدب خصباك وقد تناوله في أكثر من عمل، ولكن هنا يقدمه بأسلوب جديد عبر المزيج الرائع بين الواقع والخيال وباستخدام الروح الشعبي في الحوارات وامتزاج ذلك باستخدام الحكم والأشعار.. كما أن هذا العمل ضاج بقدراته الدرامية الواضحة عبر المشاهد التي تدور بين (السيد) ومجاميع الناس لتصل المسرحية إلى ذروتها والمأساة على أشدها عندما يقوم (الشاب1) بقتل (رجل1) الذي كان يردد بين الحين والآخر «ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع» لتنتهي المسرحية وهي تقودنا إلى البحث عن منقذ يخلص الناس من (السيد - الدكتاتور) الذي يتحكم بمصائر البشر والذي يأكل ما لذ وطاب حتى التخمة ولا يرمي إلا بالعظام إلى الأفواه الجائعة. وهو لا يتردد بأن يطلب منهم تقبيل قدميه القذرتين. ورغم صعوبة المواجهة أو الثورة عليه في المرحلة التي تصورها المسرحية من حكم السيد فإننا نجد وفي نهاية المسرحية حاجتنا إلى منقذ وبالتالي إلى الثورة التي تقود إلى إسقاط السيد والقضاء عليه بعد أن طفح الكيل..
رجل2: جودو وحده القادر على إنقاذنا من أسر السيد.
شيخ1: كلكم جودو لو شئتم.
شيخ2: لا تصغوا إلى كلام هذا الشيخ الأحمق.. إنه يريد أن يوقعكم في بلية.
أصوات متوسلة: (وهم يرفعون أذرعهم): جودو.. جودو.. نحن في انتظارك يا جودو.
شيخ1: (ناظراً إلى الموجودين برثاء) سيكون انتظاركم بلا نهاية أيها المسكين.
(فترة صمت.. يقفز شاب رقم2 نحو الكرسي ويخاطب الأطفال التماثيل)
شاب2: هيا بنا يا أطفال ننشد نشيد الرجل الشجاع.. «ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.. ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع..» إلخ.. وهكذا نرى بأن المسرحية تريد أن تقول لنا بأن (جودو) ليس بمعجزة تأتي من السماء إنما جودو هو الشعب نفسه وعلى يده سيكون الخلاص.
وأخيراً فإن مسرحيات هذه المجموعة تستحق القراءة والتأمل.. كما أنها تستحق تقديمها على خشبة.. ودعوة للزملاء في المسرح اليمني لقراءة هذه الأعمال المسرحية القصيرة وسيجدون فيها مشاريع لعروض مسرحية ناجحة تغنيهم عن متاعب البحث عن النصوص المسرحية وهذه المجموعة المسرحية الرائعة عند متناول يدهم.

مجموعة (عهد جديد)(*)
□ من مقال للأستاذ الدكتور صفاء خلوصي

..كنت أريد أن أقول كلمتي وإن كانت موجزة في كتابك الأخير (عهد جديد). أتريد كلمة مطوّلة فيها شتّى النعوت الفارغة والاسترسال الذي لا طائل تحته أم تريدها كلمة مختصرة؟ إذا كانت الأخيرة فإليكها. لقد كتبت في قصتك (عهد جديد) شيئاً خالداً بحق. فهذه أوّل قصة عراقية محليّة بحتة يجيد فيها قاصّ عراقي ويبرع في تصوير أدق دقائق حياتنا العائلية. وباعتقادي أنك لو لم تكتب شيئاً آخر سوى هذه القصة، والتي من الخطأ أن يطلق عليها الإنسان (أقصوصة) لطولها ولطبيعة موضوعها، لحقّ لك أن تحمل لقب (قاصّ). وأجمل ما أعجبني في قصتك هذه وصفك الرائع لحياة رجل محدود التفكير وقابليَّتك في إبراز ما يسمّيه الغربيون (اللمسات الخفيفة) في القصة.

ومن عجب أنني قرأت لأحد الكتّاب في نقد كتابك هذا بأن قصصك يعوزها شيء من العمق وتفهّم لعلم النفس! يا عجباً! كيف تكون قصة أعمق من (عهد جديد)، وكيف يقال عن مؤلفها ذلك وهو الذي صوّر نفسية أسرة عراقية برمّتها بهذه المهارة والحذق وقوة التعبير؟! لا يا أخي.. لا. إنه أراد أن ينتقد فأخطأ وجه النقد. كان عليه أن يقول فقط إن العنوان لا يليق بهذه القصة العظيمة. ولقد أبديت براعتك حقاً حين لم تعتمد على موضوع الحب وحده في عقد قصصك بل وذهبت إلى أنك جردت بعض قصصك من عنصر الحب إطلاقاً دون أن تفقد القصة رواءها وروعتها وأخذها بجماع القلوب كما فعلت في قصة (عهد جديد)، و(الدخيل)، و(الرهان)... إلخ.


..وأخيراً إن بقيت لي كلمة أقولها فهي تهنئة صميمة مشفوعة بمصافحة حارة على هذا المجهود الذي إن لم يكن خير ما ستنتجه فهو من خير ما أنتج في عالم القصة العراقية حتى الآن».

عهد جديد(*)
□ الكاتب المصري/ عباس خضر
هذه مجموعة قصصية لكاتب قصصي جديد، هو الشاب العراقي الأستاذ شاكر خصباك.
أعرف نزعة شاكر مما قرأته له من قبل في (الرسالة) وفي مجموعة سابقة. وأعرفها منه صديقاً طالما التقيت به في القاهرة خلال السنوات التي قضاها طالباً بجامعة فؤاد الأول. فلما أصدر مجموعته هذه صدر هذا الصيف وقبيل رحيلي إلى المصيف، كانت مما احتقبته، عسى أن يذهب عن نفسي ما ألمّ بها فأشتاق إلى المتاعب المتعة.
أحب من الأدب -أكثر ما أحب- ذلك النوع الذي يتخذ كاتبه أخاه الإنسان موضوعاً له، على أنه أخوه.. أخوه كيفما كان، لا يرتفع عنه لأن الأقدار أو الأسباب الاجتماعية أرادت له الحرمان والجهل وسوء الحال، لا يتخذه ألهية ولا طرفة يلهى بها ويطرف، بل يراه أخاً له يرثي لحاله ويأسو جراحه ويلتمس له -كمطلق الإنسان- البرء والسعادة.
وعندما قلت «أعرف نزعة شاكر» كنت أعني تسديده إلى ذلك الهدف الذي أحببت أن أرافقه -بقراءته- في الاتجاه إليه.
هذه قصة (عهد جديد) -وهي قصة كبيرة جعلها في مقدمة المجموعة وسماها باسمها- تعرض لنا أسرة جزار عراقي جعل الكاتب نفسه أحد أبنائه وتحدث بلسانه كدأبه في سائر القصص، ولابد أنه يتخذ هذه الطريقة -طريقة التحدث بضمير المتكلم- استكمالاً للاندماج في جو القصة، وهو وإن كان تخيلاً إلا أن ظلال شخصية الكاتب تظهر في كثير من قصصه، كالقصص التي يصور فيها حياة شباب ينزلون في القاهرة لدى أسر (بنسيون).
نعود إلى قصة (عهد جديد) فنراه يصور لنا حياة تلك الأسرة تصويراً ينقلنا إلى ذلك البيت الصغير الذي تعيش فيه، وكأننا نجالس الرجل وابنيه ونؤاكلهم على الحصير الذي يفترشونه في مدخل البيت. والحادثة التي تدور عليها القصة في غاية البساطة وهي تتلخص في أن الجزار يعامل أسرته بخشونة وغلظة، وخاصة زوجته وابنه الكبير، فلا يفتأ يوبخ الولد على كل تصرفاته ويوجه إلى أمه قوارص الكلم. فيثور الابن وينفجر في وجه أبيه محتجاً على إهانة أمه في إحدى المرات، ويغادر المنزل والبلدة (الحلة)... وتمر أيام لا يعلمون له مقراً ولا مرتحلاً، حتى يهتدي الوالد إلى أنه رحل إلى كربلاء ليعمل عند قصاب هناك على أن يستدعي أمه لتعيش معه بعيداً عن أبيه الفظ الغليظ، فيجزع الرجل ويلين جانبه ويخفض صوته ويحسن ألفاظه، ثم يبعث بزوجته إلى كربلاء، فتعود بولدهما، وما يراه الأب حتى يخرج من صلاته ويتجه إلى ابنه فرحاً قائلاً بصوت متهدج: الحمد لله على السلامة يا نجم.
الوقائع الظاهرة قليلة بسيطة، ولكن الكاتب يأخذنا إلى وقائع أعمق وأحفل، هي التي تجري في نفوس أفراد الأسرة جميعاً. فبعد أن عرفنا شخصية كل منهم عن طريق تصرفاته جعل يحركهم عندما وقعت المحنة التي زلزلت أركان البيت، وهي اختفاء نجم، جعل يحرك مشاعرهم ويصف حركاتهم وفقاً لطبيعتهم، فالأخت البكاءة (أم دمعة) لا تنفك عن البكاء، والأخت الجامدة تعبر عن التياعها لاختفاء أخيها بجمودها.. على طريقتها. وقد أفاض في وصف المعالم الظاهرة والدقائق النفسية، وهو في كل ذلك يسير في خطة القصة المؤدية إلى نهايتها والمعرب عن عقدتها وهي تغير الأب من حال إلى حال واستئناف الأسرة عهداً جديداً صار فيه الرجل الجافي إنساناً رقيقاً.
وتتمثل في هذه القصة خصائص الكاتب الشاب، وأولاها نظرته الإنسانية، فقد نقد الأب وصور حماقته نقدا وتصويراً بَالغَين في الروعة ولكنه ما تخلى عن العطف عليه كإنسان مسكين ضل سواء السبيل ثم اهتدى أو هدي إليه.
وثانية الخصائص للأستاذ شاكر دقة الرسم مع تجنب الفضول، فقد عرفنا بكل شخصية من الشخصيات حتى كأنهم من معارفنا الأقدمين وحتى لأحسبني إن ذهبت إلى (الحلة) سأبحث فيها عن منزل ذلك القصاب واسأله عن أفراد أسرته لأطمئن على حالهم جميعاً. وهو يفيض بالحديث عن أشياء كثيرة فلا يمل لأنك تشعر أنك في طريق القصة لم يعرج بك إلى هنا أو هناك، وفي خلال هذا الحديث تتجسم لك أصالة الكاتب في تصوير البيئة، وفي إجراء الكلام على ألسنة الأشخاص بما يناسب حالهم، فالجزار مثلاً يشبه زوجته بالنعجة، وابنه بالخروف، وأبناء هذه الأيام بالجاموس الهائج.
وثالثة الخصائص التي ألمحها في قصص شاكر خصباك هي النقد الاجتماعي. فليست واقعيته من قبيل (التصوير الفوتوغرافي) وإنما هو ينظر إلى ما وراء الظواهر لينفذ إلى الحقائق ويلقي الضوء على ما يعترضه من مظاهر الحياة الإنسانية، وفي كثير من قصصه أهداف بعيدة، كقصة (أغلال) التي يثير فيها قضية حب بين صعلوك وإحدى طالبات المدارس، فيصور الفارق الاجتماعي بينهما عائقاً ظالماً. أليس للصعلوك قلب كغيره من الناس.
وأنت بعد كل ذلك تحس روح القصاص العذبة وظله الخفيف وطلاوته التي تأسرك وتشوقك إلى النهاية، على رغم ابتعاده عن الإغراب وافتعال المفاجآت.
وقبل أن أنظر إلى (الكفة الثانية) أحب أن أهنئ عالم الأدب العربي الحديث بهذا الشاب الذي يرجى أن يكون فيه من أعلام القصة المبرزين.
وهاك ما أراه من محتويات (الكفة الثانية):
1- لاحظت في بعض القصص اهتمامه بما يشبه التعليق على النهاية أو الزيادة على النهاية بما لا داعي إليه وأحياناً تفسد الزيادة الموقف، وذلك كما في قصة (الرهان)، و(قلب كبير) فقد عني فيهما بالتعبير عن ألمه بعد الخاتمة التي كان يحسن السكوت عليها، والحالة النفسية مفهومة وينبغي أن يدع القارئ يدركها من طبيعة الموقف. وفي قصة (حب بالإكراه) كانت نهايتها مصرع الفتاة التي أثارت حنقه وغيرته، وكان يحسن صنعاً لو أنه ترك القارئ يفكر في هذا المصرع وكيف وقع، ولكنه راح يتساءل: هل اختل توازنها أو أنه دفعها بيده؟ فأفسد الموقف احتمال دفعه إياها أي قتلها. وفي رأيي أن القصاص غير مسئول عما يحدث بعد أن يعرض صفحة معينة من الحياة هي التي انفعل بها وتعلق بها موضوعه، فليس مطالباً بأن يجعل الأبطال يعيشون في (التبات والنبات) ويخلفون صبياناً وبنات، أو يلحق بهم مفرق الأحباب وهادم اللذات...
2- لاحظت في بعض القصص مجانبة لمنطق الواقع، ففي قصة (الدخيل) سكن غرفة في شقة تسكنها أرمل توفي زوجها منذ شهر، اسمها (ثريا) فلم يمض الأسبوع الأول حتى تأبط ذراع الزوجة وذهبا إلى السينما. فلو فرضنا أنها (استلطفته) بهذه السرعة استلطافاً أذهب الحزن من قلبها بهذه السرعة أيضاً، أفما كان من اللائق أن تتحرج قليلاً فلا تخرج معه إلى القهوة والسينما وهو متأبط ذراعها أمام الناس في الشهر الثاني لوفاة زوجها الذي تنطق حوادث القصة بحزنها عليه؟ كل ذلك واسمها (ثريا) لا مرجريت) ولا (راشيل).
3- أسلوب شاكر خصباك عذب حي والحوار فيه طبيعي جميل، وهو يستكمل بذلك أدوات القصصي الفنان، ولكن.. -وليس قليلاً ما بعد (لكن)- تعوزه السلامة اللغوية والنحوية في كثير من المواطن، ومن أمثلة ذلك استعماله الامتنان بمعنى الشكر في قوله (ص110): «والحق أنني عظيم الامتنان لذلك الطفل» والخطأ النحوي ظاهر في قوله (ص111): «لم أكن بأحسن حال منها» وهو يستعمل حيث للتعليل في قوله (ص114): «وكذلك يفقد الموقد الذي حفرته في إحدى زوايا الغرفة صلاحيته للعمل حيث يمتلئ بالماء»، ويقول: «إحدى المستشفيات» في (ص135) بدل «أحد المستشفيات». ويقول: «الأشياء المفقودة التي يعثر بها» في (ص144) بدل «يعثر عليها».
وإني آسف لهذا النقص في كتابة صديقي شاكر خصباك، وتدفعني الغيرة عليه وعلى مواهبه الممتازة إلى إبدائها، وأدعوه إلى أن يتألم من هذا الذي أكتبه، كي يعمل على تمام ذلك النقص وهو من القادرين على التمام.

عهد جديد(*)
□ أحمد بهاء الدين

لا شك أن كل المثقفين العراقيين يعرفون الكثير عن القصة المصرية القصيرة، على حين أننا نجد أن المثقفين المصريين لا يكادون يعرفون شيئاً عن القصة العراقية القصيرة، وذلك للنقص البادي في التبادل الثقافي بين مصر والبلاد العربية. على أن الأستاذ شاكر خصباك قد أتاح بهذه المجموعة القصصية للمثقفين المصريين أن يقرؤوا نموذجاً ممتازاً للقصة العراقية، فالأستاذ شاكر من كتّاب الطليعة في العراق. وقد أقام في مصر زمناً ليس بالقصير أخرج لنا فيها مجموعتين كانت مجموعة (عهد جديد) هي الثانية بينهما.
وأول ملاحظة تلفت نظر القارئ الشبه بين الحياتين المصرية والعراقية. فالشخصيات التي تقدمها لنا هذه المجموعة واللامح والجو مما يمكن أن يجده القارئ المصري مألوفاً لديه في الريف والمدينة على حدّ السواء. فقصة (أعوام الرعب) مثلاً يرى القارئ المصري مثيلاً لها في جو المظاهرات والكفاح السياسي الذي نعيش فيه هذه الأيام. وشخصية (عبد علي) في قصة (صديقي عبد علي) عرفنا أشباهها في الحرب الأخيرة. وفي قصة (عهد جديد) ترى ذلك الجو وتلك العلاقات التي نعرفها في كثير من البيوت الشعبية في مصر. ولم تمر حياة الكاتب في مصر بغير تسجيل، فتراه يثبت تلك الفترة في قصتين منهما تلك القصة الإنسانية الرائعة (الدخيل).

الدكتور شاكر خصباك في روايته الجديدة (الأصدقاء الثلاثة)(*)
□ أ. د. عبد العزيز المقالح
الدكتور شاكر خصباك واحد من علماء العراق بل من علماء الأمة العربية البارزين في مجال علوم الجغرافيا، وهو في الوقت ذاته روائي وقاص وكاتب مسرحي، تربو أعماله الأدبية المنشورة على ثلاثين عملاً. ومشكلته، أو بالأصح مشكلتاه، أن شهرته العلمية طغت على شهرته الأدبية، وأنه احترف المعارضة لأنظمة الحكم في بلاده منذ نعومة أظفاره. وبسبب ذلك دخل السجن وعرف المنفى الاختياري والاضطراري ولا يزال منذ أكثر من عشرين عاماً يعيش خارج بلاده ويبدو أنه لن يعود إليها قريباً. وروايته الجديدة تتجسد في بناء فني بديع. وتدور أحداثها حول معاناة العراق وأهله في مرحلة ما بعد الاحتلال بكل ما أسفرت عنه من بشاعة وما كشفت عنه من حفريات لأحقاد متراكمة في اللاوعي الشعبي عبر العصور.
ومنذ بدأ فن الرواية في كشف العالم الجواني للروائي وللعالم من حوله، وهو الفن المناسب لرصد ما يتمخض به واقع الشعوب والأفراد من أحداث ومتغيرات سواء كانت نحو الأفضل أو الأسوأ. وفي العمل الروائي يستطيع الكاتب أن يختفي بسهولة وراء أبطاله وأن ينطقهم بما يريد أن يقوله هو دون أن تطاله المسؤولية المترتبة على تلك الأقوال، وهو في استخدام القناع الرمزي لأبطاله أقدر من الشاعر في ذلك لأن آفاق العمل الروائي أوسع للبوح الواقعي والتخيلي في حين تضيق هذه المساحة لدى الشاعر، لاستغناء الشعر عن التفاصيل واكتفاء لغته بالإيماء عن التصريح ولأسباب أخرى ليس هذا مكان الحديث عنها.
لا يعيِّن الدكتور شاكر خصباك في روايته مكاناً ولا زماناً محددين، لكنهما يدركان دون حاجة إلى ذلك. فالمكان هو العراق والزمان هو المرحلة الراهنة بعد سقوط نظام صدام حسين واحتلال العراق وما تجري على جنباته من مآس تراجيدية تزيد عاماً بعد عام بل يوماً بعد يوم. أما أبطال الرواية فهم الأصدقاء الثلاثة الذين يشير إليهم العنوان، وهم يمثلون العراق بعقائده الدينية الثلاث: الإسلام، والمسيحية، والصابئية. والأصدقاء الثلاثة لا يحضرون في الرواية بوصفهم يمثلون هذه الديانات الثلاث وإنما بوصفهم مناضلين عراقيين ينتمون إلى الوطن الواحد. وقد درسوا في مدرسة واحدة، وكانوا يعملون منذ وقت لم تحدد الرواية زمنه في تنظيم سري يحارب كل أنواع الاحتلال ويقاوم الطغيان والعمالة ويحلم بنظام وطني يحافظ على سيادة الوطن ويعطي لكل ذي حق حقه. دخل ثلاثتهم السجون وعانوا من الاضطهاد في فترات متقطعة. لكن ما حدث لهم أخيراً في مناخ الاحتلال الراهن يعتبر الأسوأ بالقياس إلى كل ما شهدته البلاد وعانت منه. فليس المطلوب من الأصدقاء الثلاثة أن يغيروا انتماءاتهم السياسية ولا حتى معتقداتهم الدينية، المطلوب فدية تعيدهم إلى الحياة أو موت محقق ولا أحد في مقدوره أن يفتديهم لا حزبهم العاجز ولا أصدقاؤهم الفقراء.

تقوم الرواية على تخطيط فني محكم تتواصل معه الأحداث من خلال الحوار تارة، وتارة أخرى أو بالأصح تارات من خلال السرد الذي يأخذ فيه كل صديق من الأصدقاء الثلاثة مساحة كافية في سرد سيرته الذاتية وما تعرض له في حياته من ملابسات وهموم وما امتلأت به نفسه من خيالات وأحلام. وتتوقف بهم الأحداث عند اللحظات التي ألقت عليهم القبض فيها جماعة غامضة لتنال مقابل إطلاق سراحهم فدية بالعملة الصعبة (الدولار). وفي تقنية بارعة التصوير والتقطيع والاسترجاع تتوالى فصول العمل الروائي وتتنامى الأحداث وكأننا أمام مشاهد سينمائية مغرقة في الواقعية وفي الوقت ذاته مغرقة في الغرائبية والخيال.
إن الأقطار العربية كلها، تعاني من اختلال الأوضاع لكن عراق اليوم وحده يعاني من الأسوأ. وتستيقظ في وقته الراهن أشباح تراكمات لم تكن متوقعة. إنه وطن يتفتت كأقصى ما يكون التفتت، ليس في التراب ولكن في البشر، ويتشظى ليس في السياسة والثقافة وإنما في الانتماء الوطني. إنه شعب عظيم لا تليق به هذه النهاية التراجيدية القاسية، ولا يليق بعاصمة الحضارة العربية بغداد ما تشهده كل يوم من مآس وجرائم وتطهير عرقي ومذهبي يسحق الناس والأرض سحقاً.
لقد سقط الأصدقاء الثلاثة قتلى، وكأنما حالة التعايش سقطت معهم وانهارت صورة العراق الواحد والحلم الواحد المشترك. وفي نهاية الرواية وقبل أن يبدأ القتلة بسحل زكي وبعده يوسف ثم علي، قبل ذلك بدقائق معدودات يتجه (علي) إلى والده الذي مات قبل سنوات بسبب مرارة حياته تحت وطأة النظام السابق يبشّره في مناجاة روحية بسقوط النظام السابق، وفي الوقت ذاته يشكو إليه مرارة النظام الجديد قائلاً: «وها هو النظام قد سقط يا أبي، ولكن هل ما حدث كان سيخرجك من حزنك حقاً؟ لا شك أن ما يحدث الآن كان سيضرم حزنك. فلقد حدث يا أبي ما لم يخطر على بال أحد. إنه فاق حتى الخيال. فالناس يعانون من فظائع لم يشهدوا لها مثيلاً. فهم يقتلون كل يوم بالجملة ويعذبون عذاباً منكراً. وها أنا وأصدقائي نتوقع أن نذبح في أية لحظة. فهل يحق لي أن أظل متمسكاً بموقفي المتفائل يا أبي أم أن علي أن أعترف بمقولتك في أواخر حياتك بأن الشر قد انتصر على الخير ولم يعد هناك من أمل؟!».
وهكذا أفلح الكاتب عبر اختيار الأصدقاء الثلاثة أن يستثمر الطاقة الرمزية لما يمثلونه من شرائح اجتماعية مجسداً عبر ذلك وبصيغة عالية ما يعانيه العراق شعباً ووطناً وتاريخاً.

القاص شاكر خصباك(*)
□ عبد الملك نوري
يجلس أمامك بمباذله البيتية في غير تكلف في مكتبه الصغير -غرفة الضيوف- وراءه مجموعة من أسفار الأدباء العالميين وحوله بعض الأثاث البسيط بألوانه الحارة. وقد تجد بعض الكتب والأوراق ملقاة هنا وهناك. وتصغي إلى الراديو يرسل موسيقى هادئة من أحد الأركان بينما تحضر زوجته استكانات (أقداح) الشاي وتجلس في المكتب متمتعة بدفء الحديث. عندئذ يغمرك ذلك الجو العائلي البسيط وتحس أن البيت إطار حياته الطبيعي وموضع حنانه الدافئ الذي لا يحد. وقد تمر في ذهنك ذكريات مشوبة بأشواق غامضة - منظر عائلي في إحدى مسرحيات تشيخوف.. شخصية معلم طيب القلب من رواية قديمة، أو ذلك الإحساس الشعري الدافق في أقاصيص كاترين مانسفيد.. تحس أنك في عالم صغير هادئ بعيد عن ضوضاء العالم الخارجي. تطل عليك فيه باستمرار عيناه الذكيتان المتحركتان وراء النظارة وتلك البسمة المتفتحة أبداً على شفتيه. وقد تبتسم إذ تجده أحياناً يثور ويتهم نفسه بالعجز إزاء ما صنع الآخرون من جبابرة الأدب العالمي.. تبتسم وتدرك أنه واحد منا.. في الطريق.. يعاني مثلنا مشقاته الجمة. ولكنك تدرك أيضاً أن مثل هذا الشخص لا يمكن أن يقعده اليأس عن مواصلة المسير وهو يملك كل تلك الطاقة الحيوية التي دفعته من (صراع) إلى (عهد جديد). في هذه المجموعة القصصية الأخيرة شيء من قسوة الحياة ومرارتها بينما لا توجد مثلها في نعومة حياته البيتية وفي هذا الدفء الحنون الذي ينتشر من شخصه أينما حل. ولكنك تعلم حالاً أن شاكر خصباك ليس من الكتّاب المنطوين على ذواتهم.. إن أمامه الحياة بأجمعها يستمد منها أقاصيصه وإنه ذو بصيرة. وهو ينقل عن الواقع ولكنه ينقله ببساطة محببة. وكثيراً ما يكون هو المتكلم في أقاصيصه الذي يعرض حلقات القصة واحدة بعد أخرى. وهو يمتاز على الآخرين الذين ينقلون عن الواقع بأنه يتعمق في مواضيعه ويكتب أقاصيص حقيقية لا مقاصات. وأخيراً يمتاز بجهاده المخلص الدائب في سبيل تحسين فنّه وتطويره. وإزاء ذلك كله لا تملك إلا أن تبمناسبة صدور (صراع)(*)
□ أ. د. علي جواد الطاهر
(1)
كما أن الكلام على فوائد الأدب أصبح من فضول القول.. كذلك أصبح الكلام عن فوائد القصة. ولا غرو فهي فرع حيّ؛ نابض، فاتن.. أجل فاتن، وهل هناك من ينكر السحر الذي يسيطر عليه وهو يقرأ القصة، السحر الذي يغريه فلا يستطيع معه قطع القراءة.. ثم السحر الذي يدخل إليه فكرة القصة شعوراً ولا شعوراً.. ثم السحر الذي يفعل فعله في توجيه حركاته وسكناته؟
ولكن ليس هذا مجال الكلام على فوائد القصة، بل لم يعد يمثل هذا الكلام مجال.. وقد قطع (العالم) ثمار القصة مادياً ومعنوياً. ولِمَ لا والقصة عنصر أساسي في آدابهم؟! أما نحن، في أدبنا العربي فأين القصة؟! وأين فعلها؟! وأين مكانتها؟!.. أين؟! إن القصة الحقيقية معدومة في أدبنا القديم. أما الحديث -وحتى في مصر ولبنان- فالحكم نفسه يكاد يكون نافذاً.. أو قل إن القصة بعيدة عن بلوغ الدرجة المطلوبة. وإذا كان هذا في مصر ولبنان حيث لمسنا محاولات مشكورة، وأحياناً ناجحة، فواحسرتاه على العراق؟! العراق بعيد.. بعيد.. بعيد..
أجل، إنه بعيد وهده حقيقة مرة (تزعل) الكثيرين. ولكن يجب أن تذكر ويجب أن تسجل ويجب أن تعلن.
أجل، إن النثر الفني عامة والقصة الفنية خاصة معدومة في العراق؛ وإلا فأين القصّاص المتفنن؟! وأين القصة الفنية؟! وأين أين؟! كل ما لدينا لا يتعدّى محاولات عابرة تحقيقاً لشهوة مرفقة بخبرة هزيلة.. وإذا كانت (كل) هذه موجعة فضع محلها (جل) من قبيل المجاملة، وبئست المجاملة.

(2)
أقول هذا؛ بمناسبة صدور (صراع). وما هو (صراع)؟! لعلك عرفته قبلي.. إنه (مجموعة قصص عراقية) ألفها (شاكر خصباك) وطبعها في مصر، وأهداها لأستاذه الكبير محمود تيمور. وقدّم لها الأستاذ عبد المجيد لطفي. وكان مما جاء في هذه المقدمة: «لقد بدأت القصة في العراق بداية حسنة ولا ريب في ذلك.. فقد استطعنا أن نكتب في القصة بنجاح يبشر بأمل وارف..». وهنا لا أريد أن أسأل الأستاذ عن «هذه البداية الحسنة!» ولا أريد أن أسأله عن هذا النجاح. ولا أريد أن أسأله تعداد أعلام القصة العراقية، لا.. فجواب هذا معروف لديّ! إنه صفر دون شك.. لا.. لا أريد ذلك.. وإنما أريد أن أنقل قوله «ومن هؤلاء الناجحين الذين نتوسم فيهم بشائر النبوغ، وننتظر منهم تقدماً واضطراداً في هذا المضمار صديقنا الأستاذ شاكر خصباك صاحب هذه المجموعة القصصية الرائعة، وهو شاب حدث قرأت له قصصاً ناجحة في بعض المجلات فأعجبت بها فائق الإعجاب. وقد كتبت إليه مبدياً هذا الإعجاب فما خيّب ظني به، إذ وجدت نفسي بعد هذا أمام هذه المجموعة من القصص العراقية الجديدة». فهل هذا الذي قاله (الأستاذ لطفي) صحيح؟ وأن في (الأستاذ شاكر) نبوغاً؟ وأن في أسلوبه حيوية وروعة وإخلاص؟ سنرى ذلك فيما بعد، بل سنراه الآن، فما أريد أن أقف عند (صراع) قصة قصة ألخصها وأحللها وأنقدها.. فإني أحب أن أترك ذلك لغيري من القراء. فها هي ذي المجموعة أمامهم: (صراع - عجيب - دكتور القرية - بداية النهاية - لقمة العيش - أحلام ضائعة - بوبي - عذاب - خطيب الحرية - ضحية - أحلام الشباب).
هذه هي المجموعة أمامهم، ولهم أن يقرأوا، لهم أن يمدحوا، ولهم أن ينتقدوا ولا شك أنهم فاعلون.
أما أنا.. فأود أن أسجل ملاحظات عامة. وأول ما يجدر ذكره أن تسمية الكتاب بـ(صراع) مشتقة من اسم القصة الأولى. ولكن ذلك لا يعني أن القصص الأخرى بعيدة عن (الصراع).. لا فكل ما في الكتاب صراع.. صراع الجنس، وصراع الاقتصاد، وصراع التقاليد.. وكل هذه الصراعات في مفهوم العصر الحاضر أمر واحد.. بل كلها يؤدي إلى نتيجة واحدة.. هي التقدم إلى الأمام، وأنا متأكد بأن شاكر هدف إلى هذا.. لأنه من القصاصين الذين يحملون فكرة ويهدفون نحو غاية ويسيرون بوعي.
ومن ينكر أثر القصص التوجيهي؟! القصص الذي يشرب قلبك الحب والخير والجمال، القصص الذي يشحنك ثورة على الدعارة والشر والقبح؛ القصص الذي وفر رواء الأسلوب وصحة الفكرة.
أجل.. الأسلوب والفكرة.. أجل.. لا يفعل القصص مفعوله في الإصلاح الاجتماعي ما لم يوفر الأسلوب الفني والفكرة الصالحة، أما إذا فقد أحد هذين الشرطين فهو إما قصة فنية هدامة.. وإما فكرة معقولة لا تغري المجموع ولا تستهويه ولا تشحذه، وقد دار برأس عدد من حملة الأفكار أن يغروا الناس بأفكارهم بتقديمها باسم القصة، ولكنهم لم يحظوا بغير الفشل لبعدهم عن الفن.. أجل.. الأسلوب والفكرة يجب أن يتوفر للقصة التوجيهية الناجحة. الفكرة والأسلوب يجب أن يسيرا فيها يداً بيد. يجب أن يتمازجا. يجب أن يكوّنا شيئاً واحداً.
وقد حاول شاكر التوفر على هذه الوحدة. وقد نجح نجاحاً ملحوظاً. ولكن بعد أن آمن بضرورة هذه الوحدة. وهذا أحد العوامل الأساسية التي تميّز قصصه في (صراع) عن قصصه الأولى. أجل؛ فأسلوبه حسن وأنا متأكد بأنه سيكون في أقرب وقت أحسن وأحسن، بل لم لا نقول إنه أحسن. إنه أسلوب قصصي ناجح.
فأنت تلمس الروح القصصي جلياً في كل مكان. إنك أمام قصاص في كل ما تقرأ. إنك أمام قصص لها طابعها الفني لا حكايات على السلاطين وكيفما اتفق. بل إنك تؤمن تماماً أنك أمام قصاص منذ الجملة الأولى لأية قصة، ولا غرو فإن شاكراً قد وفّر ما كان يسميه أجدادنا النقاد ببراعة الاستهلال. أجل، إن من مزاياه الأساسية براعة الاستهلال القصصي. وحسبك لتتأكد من هذا؛ أن تقرأ أي مطلع لأية قصة من (صراع).
على أن القضية ليست قضية مطلع فحسب. لا. فهناك أيضاً براعة العرض وبراعة الختام. ومن هنا وهناك جاء عنصر الإغراء، فإنك ما تكاد تقرأ الجملة الأولى حتى تواصل وتواصل وتواصل إلى الجملة الأخيرة حيث تدري ولا تدري. واللطيف في أمر هذا الإغراء، أن عوامله خفية، فهو إغراء سام ليس من ذلك النوع الرخيص الذي يزجه بعض القصاصين زجاً بالإكثار من المفاجأة البهلوانية استجداء لإثارة انتباه الصبيان وسعياً وراء اللعب بعواطفهم أملاً بأن يقال فلان قصاص مغر.
لا، إن عوامل الإغراء في قصص شاكر خفية، وهذا شرط في القصة الناجحة، هي خفية، هي نتاج عوامل عدة سارت يداً بيد، وتمازجت وتوحدت. منها ما كان مأتاه الفكرة الصحيحة الصادقة الصالحة ومنها ما كان مأتاه التأكيد الخاص في الضرب على وتر الغريزة الجنسية، وفعل الدينار، واصطراع الأجيال، مع ثوب فني مرصع بالاستعارات المناسبة ومزين بالأخيلة الملائمة ومحلّى بالألوان الأخاذة. بل، ومنها ما كان مأتاه ما أوضحه الأستاذ لطفي في مقدمته أن هذه القصص «..منتزعة من صميم حياتنا ومن بين أهلينا وأصحابنا وجيراننا، ومن بين التعساء والأشقياء والمعذبين والجهلاء، ومن بين الأغنياء المتبطلين الذين لا يرون الحياة غير معدة يجب أن تملأ بما لذّ وطاب، ويأبون رؤية النور والحياة الصادقة وما فيها من جميل التضحية والإصلاح». ومن أن هذه القصص «تضعنا وجهاً لوجه مع حقائق مرة كثيراً ما حاولنا التهرب منها وخشينا إزاحة النقاب عن وجوهها الكالحة المغبرة، لكن الأستاذ شاكر خصباك وجد الجرأة ليقول كل شيء بصراحة أظن أنها لا تطاق لدى البعض أكثر الأحيان». ومن أن هذه القصص «تتحدث عن طائفة من الناس - عن مآسيهم وآمالهم وذكائهم وبلادتهم، بيد أنه لم يتحدث عنهم كأفراد إلا لأنهم يمثلون عدداً كبيراً من نظرائهم.. وقد استطاع قاصنا أن يصف التفاصيل في حياة شخصياته بدقة وبراعة وأن يحلل نفسياتهم تحليل المقتدر حتى لتكاد تراهم وتعرفهم في الحياة العامة وتحسب أنه يتحدث عن أناس سبق أن عرفتهم وبلوتهم، وهذا توفيق كبير حقاً، بل إنه البراعة القصصية ذاتها».
على أني نسيت التأكيد على ناحية أخرى من نواحي القصة الناجحة ومن نواحي قصص شاكر، ومن نواحي الإغراء، ذلك هو الحوار، فقد أجاده شاكر إجادة ملحوظة.
كما أني نسيت التأكيد على ميزة أخرى في قصص شاكر، نسيت أن أذكر أنه يأخذ الصغير، الذي ينظر إليه كأمر تافه حقير، لا يستحق عناية ما، يأخذ، ويوليه عنايته، وما يزال به حتى يقدمه إليك بشكل يدفعك للاهتمام به! ولعل في ملاحظات الأستاذ لطفي شيئاً من هذا.
هذه بعض مزايا (صراع)؛ هي بعض ما أعرف؛ وأصارحك بأني لم أقصد إليها في كلمتي هذه، وإنما أخذت طريقها عفواً فأهلاً وسهلاً. أما قصدي الأول فهو للتحدث عن (شاكر) نفسه.
شاكر.. ولد شاكر في الحلة عام 1930 معمّاً مخولاً فكلا البيتين من آل خصباك وآل شهيب، بيت كريم مثقف؛ يتذوق الأدب بل يمجده، بل ينتجه، هذا إلى التحرر الكافي الذي يتسم به الأب والذي كان بموجبه أن متع ابنه بقسط كبير من الحرية، وراح يهيئ له حاجياته، ويحقق له طلباته، ويحترم له حركاته. وحسبك أن الابن كان يستطيع أن يشتري أي كتاب ويناقش في أي فكرة، ويكتب في أي موضوع، أقول هذا وأنا أعرف أن الكثيرين من الآباء عندنا يصبّون على أبنائهم سوط العذاب إذا ما نشروا قصة غرامية أو تكلموا في قضية سياسية أو نقدوا قاعدة اجتماعية.


وإذا ذكر فضل الأب فلا تنس فضل الإخوان، فضل الدكتور جعفر، الذي اهتم بأخيه ووجهه منذ الدراسة الابتدائية إلى مطالعة القصص، وقد كان لمجلة (سمير التلميذ) مكانها الأول من هذا!
وقد حدث في هذا التاريخ أن تأسست (المكتبة العامة) في الحلّة، وكنت كلما دخلتها وجدت طفلاً مكباً على المطالعة! من هو؟ لم أكن أعرفه قط، بل إني لا أراه إلا في المكتبة، ولكن صورته بجرمه الصغير ذائباً في كتابه أمام هذه المنضدة الكبيرة التي لا يكاد يحصل على راحته فيها، صورته هذه لا تزال واضحة المعالم في مخيلتي، وأكبر الظن أنه كان يقرأ كل شيء ويخص القصص بالدرجة الأولى.
كان يوالي الدراسة في المكتبة، ويوالي اصطحاب الكتب، ويوالي شراء المنشورات، وهو تلميذ. أقول (وهو تلميذ) لأننا ألفنا التلميذ -مع الأسف- أحد اثنين: إما لاهياً لاعباً عابثاً. وإما آلة تعيد في قراءة الصفحات المحدودة من دروسه وتبدي، (يدرخ) ويصم ويحبر. همه الوحيد أن يأخذ العشرة من عشرة. ومن المؤسف أيضاً أن هذا الأخير بفعلته هذه كان ينال العشرة من عشرة، وينال ثناء المدرسين وينال احترام الجميع. وأقل ما يثني به عليه أن فلانا (تلميذ صدك)، تلميذ بكل معنى الكلمة، تلميذ لا يعرف غير دروسه. ولو عقل القوم لاحتقروا هذا (الفلان) ولعلموا أنهم إنما يعدمون مؤهلاته بهذا الثناء الغلط، ولعلموا أن قاعدة «أما ترى الحبل بتكراره بالصخرة الصماء قد أثرا» قاعدة لا تصلح إلا للأغبياء والبلداء.
هذا هو التلميذ عندنا. أما شاكر فما رضيت نفسه أن يكون هذا الفلان. إن المدرسة ومدرسيها وكتبها ليست إلا ناحية واحدة من هذا الكون الواسع. ما قيمة هذه المدرسة بالنسبة لما تزخر به المكتبات ولما تنتجه المطابع كل يوم ولما تبدعه القرائح كل لحظة؟ إن عليّ أن أقطف الثمر من أكثر من بستان واحد، عليّ أن أخرج من محيط المدرسة الضيق، عليّ أن أقرأ أكثر ما يمكن، بل عليّ أن لا أتأخر عن الشر عند الحاجة.
وهذا ما حدث بالفعل. فقد نشر شاكر قصصه في سن مبكرة جداً. بدأ في النشر وهو في الثانوية بل في المتوسطة، ولا تتصور أن المجلات الكاسدة هي التي تخص شاكر. لا، فقد فتحت له أمهات المجلات العربية صدرها وحسبك منها (الطريق) و(شهرزاد) و(الرسالة) و(الأديب). بل إنه زاد على المطالعة والنشر بأن كوّن صداقات أدبية لها أثرها الكبير. وحسبك أن يكون على رأس هؤلاء الأصدقاء الأستاذ الجليل محمود تيمور، ومكانة تيمور من القصة أظهر من أن يدلّ عليها والذي يجدر ذكره أن الأستاذ تيمور كان -ولا يزال- يحترم شاكراً، وكانت نسخة شاكر تصل العراق من مؤلفات تيمور. ولهذا لا أراني أخطأت حين قلت عند تشرفي بزيارة تيمور فسألني عن شاكر: «إن شاكراً هذا إذا أصبح -وسيصبح فعلاً- شيئاً، فإن لتيمور فضله الواضح في تكوين هذا الشيء». أجل، إن تيمور عامل واضح في تكوين شاكر، وتبدو لهذه العوامل في أسلوب شاكر آثار، ولا غرو فتلمذة الكتب والمراسلة تفوق تلمذة المدرسة.
وهذا وذاك.. يدل على أثر له قيمته، يدل على أن الكفاءة تثبت نفسها بنفسها. فمع أننا في عصر الوساطات إلا أن شاكر كان يبعث قصته لمجلة ما فتنشرها له دون أن تعرفه. ثم يدل على أثر آخر له قيمته أيضاً.. يدل على أن إنتاج شاكر لم يكن هزيلاً، لا يكاد المحرر يقرأه حتى يضحك ويرميه في سلة المهملات وهو يردد: «كم ابتلاني الله بهؤلاء الذين تحدثهم أنفسهم بأمور ليسوا منها في شيء». إنه يقرأ، فيعجب، فينشر.
ولكن.. ولكن هل كان هذا (الولع) بهذا النوع من النشاط يعوق تفوق شاكر المدرسي؟ لا. أبداً، فهو دائماً في الطليعة. في الأمام. الأول، وهذا يكفي لإقناع الآباء والمدرسين والتلاميذ لأن يقلعوا عن ضلالهم القديم.
على أن الحق يقال أن النظريات التربوية قد تقدمت وأن بعض المدرسين كان يشجع شاكراً ويقدره ويحترم سلوكه. وإني لأحسد إنساناً له هذا النشاط، إنساناً ينهمك في كتابة القصة ليلة الامتحان ثم يدخل (البكالوريا) في الفرع الأدبي، ويخرج منه متفوقاً مرفوع الرأس، أول زملائه، وإذن فالبعثة حقه الطبيعي.
أجل، حقه الطبيعي، وكان حريّاً بأولي الأمر أن يلحظوا موهبة شاكر ونشاطه الخاص، وتفوقه الخاص، فيبعثوه بما يتسق وطبيعته؛ ولكن ذلك لم يقع وإنما بعث شاكر لدراسة الجغرافية في مصر.
ولكن للفطرة التي استفادت من ظروف كتلك التي مرّ ذكرها، وهيأت لها من الأجواء كتلك التي سلف الحديث عنها، واخترقت من القيود كتلك التي مر الكلام عليها، أقول إن هذه الفطرة وحدها كفيلة بأن تقوّي الأمل بأنها هي هي نفسها ستعرف كيف تستفيد وكيف تهيأ وكيف تخترق. وهذا ما حدث فعلاً، فإن شاكر ما كاد يصل مصر حتى اقتنع أن في الجغرافية مجالاً جديداً للقصاص. ثم إن له في مصر أصدقاء مرموقين في دنيا القصة العربية، وإذا كنت قد عرفت الأستاذ تيمور فاعرف الآن نجيب محفوظ وعبد الحميد السحار.
ثم إن عليه أن يراجع قصصه السابقة ويضيف إليها تعديلاً ويزيد عليها جديداً، وينشرها في الناس. وهذا ما حدث فعلاً إذ طلع علينا بأولى مجموعاته (صراع).
طلع علينا (بصراع) وعمره.. كم عمره؟ أتدري كم؟ لقد سألت أحد الأدباء الذين قرؤوا لشاكر فقال إنه لا يقل عن الأربعين. ولاشك في أنك إن قرأت قصصه ووقفت على ما فيها من أفكار وما لها من أسلوب، ولن تستطيع أن تقدره بأقل من الأربعين. إن عمر شاكر يصلح لأن يكون مسابقة أدبية، ولكن (الأستاذ لطفي) أفسد علينا طرافة هذه المسابقة، إذ كتب في المقدمة ما كتب من أنه (شاب حدث). أجل، إنه شاب حدث، إنه دون العشرين.
وهذا دليل جديد على أن الرجل مفطور على القصة. أجل القصة فطرة؛ القصة موهبة خاصة، وهذه الموهبة الخاصة هي العامل الأول في تكوين القصاص، أما ما عداها فمهذبات ومشجعات ومعجلات.
أجل القصة فطرة يا شاكر، أُخاطبه بالذات لأنه طالما أنكر ذلك وادّعى أنها مران. وهذه الفطرة، وهذه العوامل، وهذا الصراع؛ كل ذلك يؤيد أن (القطر) سينهمر، وأن الفجر سيصبح، وأن النواة ستثمر.
(3)
ولكن هل إن شاكراً يخلو من مناطق ضعف؟ أستغفر الله ما قلت هذا! فإني طالما صارحته بأنه لن يكون القصاص الكامل ما لم يتوفر على إتقان تام للغة أجنبية واحدة على الأقل. وإني أرى أن يتأنى قليلاً في إخراج قصصه الأخرى قدر ما يقتضيه الإتقان؛ وقدر ما يستلزمه التوفيق بين الجغرافية والقصة، وقدر ما قطف من ثمار تأخير إصدار صراع مدة تقترب من عام كامل، بل إن غلاف صراع مع ما يدل على جمال فكرة الرمز وهي الصراع بين القبح والجمال، بين الظلام والنور، والشيطان والملاك؛ إلا أن المرأة فيه -مع مزيد الأسف- لا تمثل المرأة العراقية كما هي ولا كما يجب أن تكون، هذا إلى أن تكوينها مصري، على أن السبب في هذا يرجع إلى الرسام بالدرجة الأولى.
أجل، ما قلت أن شاكراً يخلو من ضعف، لا، وإنما كل ما في الأمر أني أخذت الكلام من ناحية وتركت لغيري الكلام في النواحي الأخرى من محاسن ومساوئ.

مجموعة (صراع)(*)
□ غائب طعمة فرمان
..ومما جاء في المقال: والكتاب الذي أعرضه على القارئ الكريم الآن هو (صراع) لقصّاص عراقي شاب ولا أكون مغالياً إن قلت إنه خطا خطوة رائعة في مضمار القصة العراقية. بعض المآخذ يبرز بين القصة العربية الناجحة عالي الرأس.
والمؤلف شاب له أحلامه ونزعاته وميوله ونفس متوقدة حساسة تستلهم الحياة فيبرز لنا نواحي خير ما يقال فيها إنها تقع في محيطنا ولكننا نتغاضى عنها لأننا نحفل دائماً بالحوادث والمفاجآت.. بأقاصيص البطولة والشجاعة. أما الحوادث الصغيرة الساذجة الغنية بالأحاسيس والانفعالات النفسية فإننا نضرب كشحاً عنها ولا نعيرها أي التفات. لكن الأستاذ شاكر خصباك يدرك تمام الإدراك هذه الحقيقة في فن القصص فنراه لا يحفل بالحوادث والمفاجآت بل يخلق من الحوادث الصغيرة عملاً فنياً بإطار من التحليل النفسي، ويخلق الجو المشوّق الذي يدفعك إلى الاعتراف بأن للكاتب موهبة فنية ووعياً عاماً في جميع الأمور.. وأغلب أقاصيص الأستاذ شاكر حافل بهذا النوع من التحليل النفسي. وتلك فضيلة أسجلها للمؤلف من غير إجحاف. ففي الكتاب أقاصيص أول ما يطالعك فيها تحليل نفسي موفق وجو قصصيّ كامل وموهبة فنية رائعة وحياة عامرة بالمشاعر وحركة في نبض الحس وفيض الشعور. وخلاصة المطاف أن هذا الكتاب نصر جديد للقصة العراقية ومحاولة موفقة لإنشاء قصص عراقية ناجحة في رأي الفن ورأي الحقيقة».
ولقد كتب غالب طعمة فرمان مقالاً آخر عن (صراع) في مجلة (العالم العربي) المصرية دافع فيه عن الكتاب ضد هجوم شنّه عليه فؤاد الونداوي، وهو الكاتب الوحيد الذي هاجم الكتاب، ومما قال فيه: «لا ريب في أن الأدب العراقي الحديث يحتاج إلى كثير من الرعاية وإلى كثير من نكران الذات وإلى كثير من الإخلاص لكي يستكمل شخصيته ويكوّن كيانه ويصبح ذا طابع قومي صادق. والمعلوم أن النقد الأدبي -في معناه المتداول- يقف حكماً عادلاً ومرشداً موجهاً للأدب يقوّم معوجّه ويحكم عليه حكماً لا يميل مع الهوى ويوجّه الكاتب إلى مواضع الضعف فيه وينبّهه إلى مواقع الجودة والبراعة. وفيما عدا تلك الأحوال لا يعتبر الكلام المتحامل المهدم المفتري نقداً أدبياً بل هو معول للهدم يورث الحقد ويزرع بذور الشقاق والنفاق ولا يكسب الأدب منها شيئاً. وأعيذ الأدب العراقي الحديث بالحق من شر هذه الآفة.
إذا سلمنا بذلك كانت كلمة السيد فؤاد الونداوي في عدد مجلة (النفير) الصادرة في 15/1/1949 عن كتاب (صراع) لشاكر خصباك ما هي إلا تحامل لا مبرّر له وهدم لا يورث إلا الحقد. وكل منصف قرأ تلك الكلمة رأى أثراً مما يبعث في الصدور المخنوقة المهشمة من الغيظ. ولا يقف أمام أعيننا إلا معنى واحد لهذه الكلمة وهو أن الكاتب يحمل للمؤلف ضغناً وحقداً وموجدة.. والأدب يأبى أن ينحط إلى درك التقاذف والسباب والتحامل والحقد. وقد ساءني كثيراً أن أقرأ هذه الكلمة لاسيما وأننا في بدء نهضتنا الأدبية. وإن طبيعة الدور الذي يمرّ به أدبنا يستلزم منّا الصدق في القول والإخلاص في الحكم والالتجاء إلى مقاييس شريفة عادلة حين نحكم على الأشياء. ولكن بعضنا من أمثال الونداوي يضرب صفحاً عن تلك البدهيات ويلتجئ إلى ما في قلبه من حقد وبغض ويجعلها مقياساً للحكم والنقد. فكيف نعلل وجود مثل هذا التحامل؟ فإما أن يكون المتحامل جاهلاً أو أن يكون حاقداً وكلا الأمرين بليّة وآفة. فليس للجاهل الحق في الكتابة وليس للحاقد الحق في إلقاء الأحكام. وعندي وعند كل الناس أن الحاقد جاهل وليس أدل على ذلك من إبراز حقده في مواضع مقدسة. والحقد ينشأ من أن يكون الحاقد أدنى مرتبة من المحقود عليه أو ذو مواهب لا يستطيع أن ينالها الحاقد. وكل تلك الأشياء تقف أمام قارئ تلك الكلمة.
ولست بصدد إلقاء حكمي على الكتاب فلي مقالة فيه ستنشرها مجلة (الرسالة) وهناك أضع محاسن الكتاب ومعايبه. ولكنني أمام كلمة آلمتني فأجرت على قلمي هذه الكلمات وكل شيء لا يبررها أبداً. بل إنها أوقفتني أمام شيء ممقوت وهو الكراهة. فالسيد الونداوي ألقى أسدالاً على قلبه ووجدانه وخط هذه الكلمة الشوهاء وأبرز هذا الحقد المقيت. فإذا بذلك الإنتاج المبارك الذي يستحق كل تشجيع وتقويم ورعاية (مفاجأة سيئة)... لماذا؟! لا لسبب، فالأديب المتحامل لم يعلل لنا ذلك ولم يقنعنا بل حاول تحطيم الكتاب وتمزيقه إذا صح أن مثل تلك الكلمة تحطم كاتباً وتمزق كتاباً.. إن مثل أحكامك الجائرة هذه يا سيدي الكاتب لا يجوز أن تنشر لأن القارئ يقرأ الكلمة ولا ينتهي إلى شيء، بل كل ما هنالك بعض الألفاظ التي أعتقد أن الأديب المتحامل لم يفهمها بل جاءت على لسانه لا لشيء إلا لأنها متداولة شائعة على ألسنة الأقلام. ولأنها لا تكلف جهداً ولا تشتري بطاقة بل هي خلاصة (الموضة) العصرية في اصطناع النقد.. فالحقيقة أن معظم القصص التي اشتمل عليها الكتاب تنمّ عن موهبة عظيمة وتبرز جهداً مشكوراً، ولكن المتحامل لم يقل هذا بل راح يتحامل من غير سبب.. وقد لاحظت التكلف الوارد في آخر الكلمة ظاهراً جلياً. ولست أدري ما الصلة بين الحكم على الكتاب وبين نقد ناجح للمؤلف لبعض الكتب. إن كل ذلك يبرهن على أن كلمة الونداوي عبارة عن تحامل لا مبرر له».



عجب بشخصه كفنان وكإنسان.



دراما الواقع الحصيفة
قراءة في الأعمال المسرحية للدكتور (شاكر خصباك)
□ د. علي حداد(*)
في البدء:
بدأب مكتشف وإصرار عاشق، وبمقدرة مكتملة الأدوات واليقين واصل الدكتور (شاكر خصباك) تقديم عطائه السردي المتنوع في انشغالاته وتكيفه الأجناسي منذ مراحل شبابه الأولى، وحتى بعد ستة عقود من عمره المديد، من دون أن تزحزح دأبه الكتابي هذا أو تزاحمه انشغالاته العلمية الرصينة -وهو أستاذ علم الجغرافية المشهود لكتاباته وترجماته فيه بالتميز- كما لم تثنه عن ذلك ظروف دراسته وتدريسه وإقامته في أكثر من بلد ومدينة وارتحاله المزمن عن بيته ومكتبته.
كتب الدكتور شاكر خصباك -فضلاً عن كتابات متنوعة أخرى- الرواية والقصة القصيرة والمسرحية النثرية. وكان في ذلك كله قد اختط لتجربته مسارات من الإمعان الخاص في الرؤية والتشكل القيمي وكذلك في الطبيعة الفنية التي يرسخها ويحرص على الانتماء الواعي إلى منطوقها الجمالي.
ولمناسبة صدور المؤلفات الإبداعية الكاملة للدكتور خصباك( )، فقد سعينا في قراءتنا هذه إلى تخير أعماله المسرحية موضوعاً نعاينه ونتأمل متحققه، وهي جديرة بذلك، حتى أنها لتضع مؤلفها بين كتاب المسرح العراقي والعربي المعدودين الذين توافروا على منجز كبير في حصيلته، ربما جارى -أو فاق- ما كانت عنده من حصة للرواية والقصة القصيرة.
لقد ترسخت مسيرة المنجز المسرحي عند شاكر خصباك وعلى امتداد الخمسة والأربعين عاماً الماضية. فقد شهد العام 1962م ظهور مسرحيته (بيت الزوجية). وإذ خلا العامين اللاحقين من الإشارة إلى أي إصدار مسرحي فقد نشرت في العام اللاحق لهما مسرحيته (الغرباء 1965)، وفي العام الذي يليه مسرحيته (الشيء 1966) أما بعد ذلك فكان من اللافت للانتباه توقف الكاتب عن الإصدارات المسرحية، ولفترة قاربت الستة والعشرين عاماً بدا أنه كان منكباً في خلالها على إصدار رواياته ومجموعاته القصصية، وحتى العام 1992 الذي ظهرت فيه مسرحيتاه: (القضية والمخذولون)، لتتوالى بعد ذلك عودته المجتهدة نحو المسرح، عبر ما أنجزه من نصوصه المسرحية اللاحقة: القهقهة 1993م، الغائب 1994م، دردشة 1994م، الجدار 1994م، هو وهي 1995م، الدكتاتور 1995، اللص 1996م، التركة 1996م، البهلوان 1997م، في انتظار جودو 1998م، العنكبوت 1998م، ليل ليس له آخر 2001م، تجربة مسرحية 2003م، الرجل الذي فقد النطق 2003م، الواعظ 2007م، أين الحقيقة 2007م.
لقد تبنت الأعمال المسرحية للدكتور (شاكر خصباك) توجهات من الرؤية خاصة، تجري مياهها في أنساغها النصية جميعها، تؤازرها نسقية متزمتة في التزاماتها البنائية ومقومات التشكل النصي المسرحي وعناصره التي عنّ لنا -في هذه القراءة- أن نتخير من بينها عنصر (الصراع) الذي بدا لنا -من دون أن تكون تلك أفضلية له على سواه من العناصر- جديراً بالمعاينة والاستنطاق لطبائعه وفاعليته والكيفيات التي تشكل فيها.
الصراع... المفهوم وتمثلاته:
يمنحنا تأمل البعد الفلسفي للصراع فرصة الانهماك بتأشير تجلياته الممعنة في الحضور من حولنا، فما حركية الكون وتشكلات مظاهر الطبيعة وسلوكيات الموجودات الحية إلا مساحة لفاعلية من الصراع لا تهدأ أو تتوقف. ولعل في منطوق القانون الطبيعي الذي تحتكم إليه كثير من مظاهر الوجود والقائل بـ(البقاء للأصلح) ما يجعل من الصراع حقيقة ماثلة لا تنطفئ جمرة اليقين بها.
ويتبدى الصراع سمة أساس في تشكل الذات المفردة، مثلما يشخص ظاهرة دالة في مسار الاجتماع البشري وما يتحقق له. ويبدو أن مفهوم الصراع ومضامينه قد تم تحفيزها لتنساح أبعد من وجودها في الطبيعة المقنن بثوابت من التماثل السلوكي والاحتياج الغريزي ومكابداته، لتنال حصتها في الوجود البشري وممارساته متعددة المضامين والتشكلات، ثم لتنقل بعد ذلك -في رغبة لكسر حدود الفاعلية الإبداعية المنشدة إلى أقل أبعادها وأبسطها- لتصبح مؤشراً دالاً على حركية خصبة في المنجز الإبداعي وتمثلاته، بل وهويته أيضاً.
لقد عدّ (فرويد) الصراع مرتكزاً أعمق تتأسس عليه عملية الإبداع حتى في أفقها الذاتي، حيث يعايش المبدع صراعه مع ذاته التي قد تبدو على نحو ما حالة مرضية تتعاور وجود ذلك المبدع، وهو ما عناه فرويد حين رأى «أن القوى الدافعة للفنان هي الصراعات نفسها التي تدفع أشخاصاً إلى العصاب»( ).
وإذا كنا سنقرر تلك واحدة من آليات الصراع ذات النزوع الفردي ومن خلال التصادم المؤكد بين الذات ومكتنزاتها الذهنية، فإن آفاقاً أكثر تواتراً هي التي تنهض بجوانب التشكيل الفكري والفني للإبداع، عبر ما يشرع وجوده له ويتملاه من الوقائع والمواقف ويرصده من السلوكيات المتشادة المتناقضة. ومن هذه الرؤية يذهب المبدع إلى ما يتعاور وجوده الاجتماعي، ويحاور وعيه وحواسه فيرصده ويتمثله ليعيد إنتاجه إبداعياً من خلال تشكيله أو مشاكلته، أو تبني موقف الشاهد المحايد الذي يقوم بتوصيفه وإبرازه في مساحة التلقي المنشود.
وفي ذلك كله فإن جغرافية التشكل الإبداعي وأجناستيه تبقى آماداً منشغلة بالصراع ومستجيبة لتمظهراته أكثر من أية فاعلية أخرى، وهو ما تبناه السرد -والسرد المسرحي خاصة- وأعلن عن تمايزه الأجناسي من خلاله.
لعله من المؤكد القول إن النص المسرحي، هو أكثر تجليات شرعة الصراع وقيمها بين مختلف الأنواع السردية، إذ لا تكاد المسرحية تجد هويتها -بعد تلبس الشخصيات وجودها الحواري فيها- إلا في مسار المواجهة المتصارعة بين تلك الشخصيات، ومن منطلق ذلك اليقين فقد عرّفت بعض المعاجم (الصراع) بكونه «التصادم بين الشخصيات أو النزاعات الذي يؤدي إلى الحدث في المسرحية»( ).

ويتأكد حضور الصراع في المسرح حين يكون هو ذاته الصنيع الدرامي الذي ينجزه تضافر مجموع عناصر النص وفاعلية التواصل بينها إذ لا يكاد أي من تلك العناصر لتبرز قيمته المؤثرة من دون أن يكون للصراع تجلياته فيه، وبما ينهض بالمسرحية إلى حيث تبدو صنيعاً جمالياً له مقوماته التي يتعاورها ذلك العنصر المقيم في كل منها، وهو ما يمكن أن نؤشره في الترسيمة الآتية:

إن عنصر (الصراع) هو حيوية المسرحية وسرها العميق الذي تتضح قيمتها الفنية فيه ومن خلاله، حتى أننا لنشارك أحد الباحثين في المسرح قناعته في أنه لم يقرأ مسرحية ذات قيمة فنية لم يكن الصراع ركنها الركين وأساسها الأول( )، وهو ما كان قد أكده (برونتير) حين رأى أن الأساس الذي تبنى عليه المسرحية إنما هو الصراع( ). أما (أريك بنتلي) فعدّ الصراع الأفق المؤكد لتشخيص الدراما في أي عمل فني، إذ «إن رؤية الدراما في شيء ما إنما تعني تبين عناصر صراع فيه، والاستجابة عاطفياً إلى عناصر الصراع هذه»( ).

وهكذا فلقد تأكدت لعنصر (الصراع) أهميته الباذخة في فن المسرح -من دون أن يغيّب في سواه من الفنون- حتى صار بالإمكان دراسة الحركية التاريخية والفنية التي تحققت للمسرح من خلال تقصي محمولات هذا العنصر وما تكرس له من قيم في الرؤية وأنساق من الإجراءات التي تأطر فيها.
حركية الصراع في النص المسرحي ومتحققاته:
شهد الصراع في النص المسرحي تطوراً دائباً فيما تهيأ له أن يقوم عليه وينجزه، حتى صار بالإمكان -ومن خلال تأمل طبيعته وآليات تشكله- أن نضع الإصبع مؤشرة الانتماء المذهبي الذي يعلنه ذلك النص، مثلما نتمكن به من ملاحقة التجارب المسرحية وأفق التشكل التاريخي الذي يتعاورها. وبذا يمكن القول: إن تاريخ تطور الصراع في النص المسرحي هو ذاته التاريخ الذي شهده المسرح عالمياً في مسيرته المتصاعدة.
لا يكاد الدارسون ليختلفون على كون الصراع هو البعد المدل على خصوصية المسرحية الإغريقية وصيرورتها الجمالية، وما لها من فخامة التكوين في الشخصيات والوقائع والانشداد القيمي المعلن حيث يأخذ ذلك الصراع وجهته البادية في كونه صراع (أقدار) تترسم مكابدة الإنسان الفرد مما اختطته لها القوى العليا من مصائر يحاول الإفلات منها، ولكن من دون جدوى فهي واقعة لا محالة.
وقد ترسخت قيمة ذلك الصراع في المسرح الإغريقي من خلال تمثله مجساً في تحديد نوع المسرحية، فإذا انتهى الصراع نهاية مأساوية كانت المسرحية من النوع (التراجيدي). أما إذا انتهى الصراع فيها تصالحياً فستكتسب وصفها النوعي في كونها (كوميدية).
وفي مسرح القرون الوسطى أخذ الصراع نمطيته التعبيرية المغايرة حيث أمسى صراعاً بين شخصيات تستأثر بها رغائب وسلوكيات متضادة، تتأطر في بعدين من التوصيف، أولها ما نظر إليه على أنه (دوافع شريرة) وصفت بكونها (الخطايا السبع) وهي: الزهو، الحسد، الخمول، التهور، البخل، الغضب، الشراهة، وبإزائها فهناك (الفضائل السبع): الإيمان، الأمن، الكرم، العدل، قوة التحمل، ضبط النفس، الحكمة. ومن خلال رسم شخصيات العمل المسرحي وهي تتمثل هذه السمات (الخيّرة) أو تستجيب إلى مناهضتها (الشريرة) يتولد الصراع بل العمل المسرحي كله( ).
لقد تبدى الصراع في تلك المرحلة في مسيرة المسرح العالمي مرتبطاً برغبات ودوافع سلوكية ونفسية طاغية يتحكم نمطها بوجود الذات المشخصة في النص، ويدفعها إلى تمثله تحت وطأة إرغام داخلي وإكراهات شعورية متصارعة تستبد بالشخصية وتهيئها للتعبير عن مواقف وأفكار متصارعة وعلى نحو مباشر، وهو ما أسس لنوع خاص من الصراع ذي الطبيعة الخارجية التي تسـيدته وتكاملت فيه لتذهب الشـخصية في النص المسرحي -ومن خلال ما يتجسم فيها من دوافع ورغبات- إلى مواجهة الأخرى التي هي نقيضتها فيما توافرت عليه من ذلك كله.
ومع شكسبير وما ساد في مسرح عصره فقد تجلت للصراع قيم مضافة وذات تمايز خاص في الآن نفسه عبر حالة من التداخل بين ما هو خارجي تبرزه تناقضات في المواقف والإرادات التي تعايشها شخصيات النص المسرحي، وما هو بعد داخلي للصراع يتمثل أحوالاً من الاحتشاد الشعوري الذي تكابده الشخصية، لتتماهى مع ارتكاساته النفسية والسلوكية ويتأطر وجودها فيه.
ولعل في مسرحيات شكسبير الأشهر: (روميو وجوليت) و(هاملت) و(عطيل) ما يبرز تلك الثنائية الدالة التي نهضت بالصراع في المسرحية وحددت سماته( ).
تبدت في العصور الحديثة قيم مغايرة شكلت أنماطاً جديدة من الصراع تداخل فيها ما هو تمثل لانهماكات الشخصية الشعورية وما هو ذهني موجه بعوامل الوعي المدرك وتكشفاته السلوكية. وقد تمثل الأدب -والفن المسرحي خاصة- تلك القيم وأسس عليها آفاقاً لتشكلات نصية مغايرة، وهو ما يمكن رصده في كثير من أعمال برناردشو وهنريك ابسن وسواهما.
لقد تبنت المسرحية الحديثة النثر شكلاً تعبيرياً فكان ذلك إيذاناً بتوجه موضوعاتي جديد تكرس لتمثل الواقعة الاجتماعية، ومعالجة تناقضات الوجود البشري في أبعاده الواقعية المعيشة. وقد أوجب هذا التوجه فاعلية جديدة من (الصراع) المستمد من طبيعة المشكلات والمواقف التي تعايشها الشخصيات في النص المسرحي، وهي تتحرك في جدلية الحدث الاجتماعي ومواضعاته المتضادة، وهو ما كان (أميل زولا) قد رصده مؤكداً رؤيته في أن تكون العوامل التي تحيط بالإنسان هي المؤشر الحقيقي الذي يهيمن حضوره في المسرحية( ).
وعلى أساس هذه الرؤية فقد أمسى الإنسان العادي بطلاً له ما للأبطال التراجيدين في المراحل السابقة من خصوصية وجود، ولكنه مختلف عنها في طبيعة ما يكابده من صراعات مع مواضعات محيطه الاجتماعي في سلوكياته ومواقفه تلك التي يجد ذاته في حالة من التضاد معها، متسلحاً في خضم هذه المواجهة بقدرات من الوعي والإرادة المدركة والمعرفة المتميزة. وهكذا أمسى البطل المسرحي تجسيماً لنزوع واقعي معلن، إذ هو -وطبقاً لقول (آلاردس نيكول): «واحد منا مقذوف به حياً فوق المسرح... ضد واحد من بني جنسه، ضد أطماع أولئك المحيطين به، ضد رغباتهم وأهوائهم وحماقاتهم، وضد أحقادهم»( ).
مسرح شاكر خصباك... الرؤية ومساحة الانشغال:
(1)
يذهب شاكر خصباك في مسرحياته -كما هي رواياته وقصصه القصيرة- وجهة تنماز بخصلتين أساسيتين لم يعرف عنها أنها فارقتهما أو سعت إلى غيرهما، الأولى وتتمثل في الرؤية الواقعية الرصينة التي هي عليها، والأخرى كونها تعلن عن انتماء جيلي خالص لما تناءى عنه على مساحة الامتداد الزمني الذي تشغله.
فأما كونها ذات وجهة واقعية رصينة فإنها تخبر عن تشبث صاحبها بتلك الرؤية ويقينه الراسخ بقيمها، وهي حالة تتجاوز التمثل الفكري وانهماكاته لتصبح ارتكاناً لا حياد عنه ومحارسة سلوكية يتم استنطاقها في الممارسة الأدبية وبحرص شديد على كامل اشتراطاتها.
إن الكتابة عند شاكر خصباك -وبمختلف أجناسها وتنوعها التعبيري- هي تمثل لواقع إنساني تؤثر قيمه وتقول كلمتها فيه وتحاور متلقيها ليشاركها اليقين السلوكي والمعرفي الذي تتبناه. وفي ذلك يؤسس خصباك لفاعلية التواصل مع الآخر تلك التي يعدها واحداً من مبررات توجهه الكتابي، حيث يعلن أن «من جملة بواعث انصرافي إلى الكتابة المسرحية هي رغبتي في إيصال أفكاري إلى القراء على نحو مباشر»( ). منطلقاً من القناعة بأن «الأدب المسرحي يتحمل هذا النوع من الخطاب المباشر الذي يمكن أن يجرى على ألسنة أبطال المسرحية»( ). لقد دلف شاكر خصباك -ومن خلال هذه القناعة- إلى جيله الخمسيني في الأدب العراقي، وتلك هي الخصلة الدلالية الأخرى التي وسمت منجزه الأدبي كله، فعبر المذهبية الواقعية التي ترسم محمولاتها الفكرية والتعبيرية أدب ذلك الجيل تشكلت مساحة مهمة ومؤثرة في الواقع الثقافي والإبداعي العراقي مستجيبة لجملة من العوامل والدوافع التي تبناها المشهد السياسي واستوعبها الواقع بمحدداته القيمية الاجتماعية، وصدح بها الفكر باتجاهاته وهي تتلقى ما يعكس وعياً جديداً على مستوى الفكر الإنساني وطروحاته الثورية الضاجة التي وجدت لها استجابات عميقة الغور في بنية المجتمع العراقي الناهض حديثاً. لقد جعل ذلك كله من الواقعية بسمتها المباشر فاعلية مهيمنة على مجمل التوجهات الثقافية التي شغلت بها الساحة العراقية في جوانب وعيها المختلفة التي كان الأدب والفن السائدين من أبرز تمثلاتها الشاخصة مما عكس نوعاً خاصاً من (الفهم المرآتي للواقعية) على حدّ وصف الدكتور حاتم الصكر، حيث «صار الاقتراب من الواقع تصويراً وتطابقاً لا تمثيلاً وترميزاً هو المحدد لفنية الفن والأدب»( ).

لقد جسدت مسرحيات خصباك تلك الرؤية، فتلمست طريقها نحو منجز مسرحي واقعي يتمثل القيم الاجتماعية وما تتأسس عليه من أشكال متصارعة، في مواقف يقينية تعد الأدب رصداً لتفاعلات الواقع الاجتماعي والممارسات السائدة فيه على مستوى وعي الذات الفردية بها، وفي أفق حضورها الجمعي المعلن. ومن هنا ذهبت تلك النصوص المسرحية التي قدمها الكاتب لترصد المشكلات الاجتماعية والتفاعلات السلوكية، وهي تواتر حضورها في تكيف إنساني يكررها على رغم المسيرة المتصاعدة للبشرية في دعائم وجودها المعرفي والمتحقق العلمي لها. وهي قناعة ذات ترسخ بعيد في رؤية شاكر خصباك، فعنده «أن الإنسان لم يخط خطوة واحدة في حياته الروحية والاجتماعية منذ آلاف السنين فما زال يؤمن بعقائد وأفكار تسير حياته الاجتماعية كان قد تبناها منذ عقود سحيقة، بينما يفترض تقدمه العقلي هجر تلك العقائد والأفكار البالية. وما زال الإنسان خاضعاً لغرائزه الفجة وأنانيته التي يغلفها بلاف مهلهل من البرقع الحضاري الذي ينبذه حالما تصدم مصالحه ورغباته الذاتية مع مصالح الآخرين»( ). وفي ظل تلك الأهواء والمطامع التي تهيمن على جوانب من سلوك الفرد في محيطه الاجتماعي وتتحكم في ممارساته فإن رصد الفعل الإنساني المضاد لذلك يصبح واحدة من المهمات والأعباء التي ينهض بها النص الأدبي لشاكر خصباك، وهو يتمثل جانباً من قناعات كاتبه التي تقول بأن «مثابرة الإنسان على بلوغ المجتمع الأمثل هي التي أخرجته من عهد الغابة ورفعته إلى مجتمعاته الحاضرة، رغم نقائصها ولا ريب في أنه سيظل يكافح لبلوغ هذا الهدف حتى يدرك بغيته»( ).
(2)
يتساءل (أريك بنتلي) عن مساحة الدراما في الحياة المعاصرة. فلا ريب عنده بوجود من يقول: «إن العناصر الدرامية نادرة فيها، وإن الحياة اليومية مملة ويعوزها الصراع»( ).
وعند الكاتب نفسه فإن من يقولون بذلك إنما ينظرون إلى الأعمال الدرامية بوصفهاً أحداثاً وحسب، وهم بذلك يستبعدون الاستجابات الذهنية والعاطفية التي يعايشها كل منا وتشده بحدود نسبية معينة تختلف عما يقع لغيره منها. ومن هنا «يصبح السؤال عن مدى درامية حياتنا أمراً ذاتياً في جزء منه، فما يجده الواحد منا مملاً قد يجده الآخر مثيراً»( ).
ولعل الدكتور (شاكر خصباك) من بين أولئك الأدباء المعاصرين الذين جعلوا هذه الرؤية نصب أعينهم وتمثلوها يقيناً يواصلون تداوله في منجزهم الإبداعي.
لقد تبنت نصوص خصباك المسرحية الحدث الواقع بمحمولاته الاجتماعية محوراً لانشغالاتها، ليتبدى لها من ثم شكل محدد من الصراع لا يكاد يقارب صراع الأقدار والمصائر، مثلما تغيب عنه تلك الانشغالات الذاتية المتهافتة على مكابدات شعورية ضيقة، إذ هو صراع مواقف وإرادات تتقاطع وتتشاكل مجسدة لطبائع الشخصيات -ذات التشكل الواقعي المعيش- ومواقفها المتباينة، وذلك ما يمكن التدليل عليه من خلال معاينة الثيمات الرئيسة التي قامت عليها معظم تلك النصوص. لقد كان التوقف عند المشكلات الاجتماعية هو المحور الغالب على مسرح خصباك، عبر معالجات نصية لوقائع يتواتر حضورها في الحياة اليومية. فقد جسدت مسرحية (بيت الزوجية) ما يمكن أن يسببه التفاوت الاجتماعي بين الزوجين من صراع خفي ومعلن في الآن نفسه، وما ينتج عنه من خلافات لابد لها أن تأخذ بالتصاعد حتى تكون نتيجتها انفصال الزوجين عن بعضهما( ).
في حين دارت مسرحية (التركة) حول الرغبة الأنانية عند بعض الأبناء لبيع بيت العائلة الكبير وتقاسم ثمنه، من دون أن يعيروا أي اهتمام لمشاعر أمهما -وكذلك أختهما العانس- اللتين بقيتا فيه طيلة عمرهما( ). أما مسرحية (الغرباء) فقد أبرزت حالة التفاوت السلوكي وأساليب التعبير المتناقضة عن الأفكار والمشاعر التي تعايشها عائلة محدودة الأفراد، ولاسيما حالة التباين الواضحة بين الزوجة العطوف كثيراً، والزوج المسكون برغبته الجارفة لتحقيق طماحه، وهو ما يصل بالأحداث إلى خاتمة حزينة ومؤثرة( ).
وعكست مسرحية (العنكبوت) واقع عائلة متوسطة الحال، يجسد كل فرد فيها حالة فكرية وسلوكية مختلفة عن الآخرين وغير منسجمة معهم وبما يخبر عن صراع الإرادات متباعدة في توجهاتها ومتضادة في قناعاتها( ). وفي مسار متقارب مع سابقتها جاءت مسرحية (القضية) لتتحدث عن عائلة من المسـتوى الاجتماعي نفسه، يواجه الأب فيها -وهو السياسي السابق والأديب المثقف- وقد أصبح مقعداً ضغوط الزوجة والأبناء لكي يتنازل عن قناعاته السياسية السابقة وينضوي في السائد الراهن من الممارسات، ليحقق لعائلته احتياجاتها، وهو ما يضعه في صراع نفسي حاد ينتهي به إلى الرضوخ أخيراً. ولكنه يواصل رفضه وإن من خلال موقفه السلبي من كل الوقائع التي تجري حوله( ).
إن من يتأمل النصوص المسرحية السابقة ستشخص أمامه تلك التمثلات الواقعية المؤشرة فيها عبر استيعابها للحدث الاجتماعي والتعامل معه كثيمة فكرية وسلوكية تتجاوز التأطير التاريخي والخير المكاني المتقن لتكون تشخيصاً لمواقف يمكن تصور وقوعها في أي وجود اجتماعي مماثل، ولكن ذلك لم يكن مانعاً لأن تأخذ بعض المسرحيات مساراً له توقفاته عند واقعة أو وقائع لها توصيفها المؤشر لحالة تاريخية بعينها كالذي جاءت عليه مسرحية (الشيء) التي تمثلت واقعة حقيقية عايشها الدكتور خصباك نفسه حين اعتقل في العام 1963 مع مجموعة من المثقفين والسياسيين العراقيين وأودع في أحد سجون بغداد( ). لقد جسدت هذه المسرحية حالة الصراع الفكري والسلوكي التي يعانيها أولئك السجناء وهم يواجهون عنت السلطة العسكرية التي قامت بانقلابها آنذاك، لتصادر الحريات الفكرية والسياسية وتمارس أقسى أنواع البطش والتنكيل بكل من يعارضها من المثقفين العراقيين.
وإذا كانت مسرحية (أين الحقيقة) في ثيمتها الأساس تتردد كثيراً على المنطوق الاجتماعي للوقائع فقد أفردنا الإشارة إليها هنا بسبب ما اختطه المؤلف لها من تقنية مغايرة في تقديم الحدث وتقصي حركيته التي جاءت متجاوزة تشكله الحواري على ألسنة الشخصيات الرئيسة بل من خلال إعادة الوقائع تمثيلاً داخل النص وبجهد شخصيات أخرى تتقمص أحوال الشخصيات الأساس وهيآتها، وتنطق بما كان قد دار بين تلك الشخصيات من حوارات، عبر تداخل الماضي بالحاضر الذي تتحرك فيهما أحداث المسرحية في مسعاها لكشف الحقيقة الضائعة عن انتحار الشخصية الرئيسة فيها، تلك التي يقع الصراع بين مختلف الشخصيات في تقييمها سلوكياً، لتكون الرؤية المركزية لهذه المسرحية تلك القناعة التي ترد على لسان المخرج -وهو إحدى شخصيات تلك المسرحية- حيث يقول: «إن إدراك الحقيقة أمر صعب جداً في كل زمان ومكان، إذ ليس هناك حقيقة مطلقة، فكل منا ينظر إليها من زاويته الخاصة»( ).
حين تغادر مسرحيات الدكتور شاكر خصباك تلك التوجهات الاجتماعية الرصينة الحضور فيها فإن معالجاته ستذهب إلى حيث تتبنى أفقاً لا يبتعد عن ذلك كثيراً، وإن بدت له سياقاته الفكرية الخاصة والتوطيد التعبيري الدال عليها.
إن انشغالاً متميزاً يذهب لتشكيل الوقائع في تقنية مغايرة، تبتعد عن الملاحقة المتواترة التي تمسك بالحدث منذ بدايات تشكله لتسيره حتى آخر خيوطه. فهو -أي النص- يأتي من خلال الوقوف عند واقعة بعينها ورصدها لا بوصفها حدثاً بل من خلال تشكلها رؤية ذهنية تطل بمحمولها اليقيني الراسخ في الوعي الإنساني المتأمل لها. وهذا نوع من النصوص المسرحية يمكن تسميته بـ(النص الرؤية) وهو ما يمكن التمثيل له بمسرحية (الدكتاتور) التي لاحقت جوانب من سير الحكام والملوك والأباطرة على مر التاريخ، وتأملت أفكار كثير منهم وأفعالهم وادعاءاتهم التي تسعى إلى تبرير صفحات تاريخهم الدموي وتلميعها لتنتهي عند القول بأن ما شهده التاريخ الإنساني هو مسار متواتر من التناسل الدرامي لأولئك الملوك والحكام المستبدين، مهما تبدلت أسماؤهم وتعددت أزمنتهم، وهي قناعة طالما رددها الدكتور شاكر خصباك في كتاباته الفكرية وكذلك في عدد من نصوصه السردية المختلفة( ).
إن اهتماماً بيناً بهذا النوع من نصوص الرؤية هو ما نشهده في بعض أعمال خصباك المسرحية -ولاسيما تلك النصوص القصيرة ذات الفصل الواحد- حيث لم تكن الوقائع لتتطور فيها كثيراً لأنها قامت على تأسيس لرؤية مسبقة يكون النص تقولاً لاحقاً عنها( ).
ينال الصراع في أعمال خصباك المسرحية مارة الذكر توصيفه المتعدد الذي يشهد تداخلاً بين ما هو (صراع حسي) تعايشه الشخصيات ويتأطر وجودها النصي من خلاله، ليمسي هوية سلوكية لها، وما هو (صراع ذهني) بعكس الأبعاد الفكرية ومستوى الوعي الذي يتراص فيه وجود الشخصيات على جانبي الصراع وقيمه التي يؤشرها النص. ومن هنا فقد بدا أن ذلك الصراع الذي تصنعه تباينات في الوعي والمواقف مهيأ لأن يقع في أي لحظة من مسار الحدث وحركيته لأن نتيجة حتمية لما تحمله الشخصيات وتؤسس عليه مواقفها. ومن سمات الصراع في نصوص خصباك انسيابيته الطبيعية وابتعاده عن أن يكون مفاجئاً أو مسرفاً في التهويل وغرابة التصرف، مثلما لا يتصاعد في الغالب عليه ليصبح عدوانياً مدمراً للشخصيات على جانبيه، فهو يتأطر في حيز التمثل الواقعي الذي لا يكسر أفق انتظار التلقي عبر تمثله لما يحصل مكروراً في الحياة اليومية لمجتمعاتنا.
ومن هنا فقد انتهت معظم النصوص تاركة بعدها مساحات بيضاء لنهايات مفتوحة يمكن للمتلقي أن يضعها لاحقة للأحداث التي حواها متن النص، يكون الاستناد فيها إلى خبرة القارئ وما يواجهه من تجارب مماثلة، لا شك في أنه قد شهد بعضها فيما يجري حوله.
(3)
يضع الدكتور شاكر خصباك شخصيات نصوصه المسرحية على نحو نسقي خاص، ومما يجعلها تتداول ثيمة الصراع على مستوى من التماثل السلوكي في وقائع شاخصة الحضور الاجتماعي، لتعايش صراعاً بحدود تلك الوقائع وغاياتها وهي معبأة بترسم قيمي محدد لها مسبقاً، فيه كثير من قناعات المؤلف وأبعاد رؤيته التي يمكن تلمس محمولاتها الفكرية فيما قدمه من كتابات فكرية أو عايشه من أحداث واستجابات أعلنت عن الوجهة التقدمية الرصينة التي تبناها قناعات ومساراً لمنجزه الأدبي.
لقد غلب على مسرحيات خصباك توجهها لتجسيد واقع بعينه هو ذلك الذي تعايشه الطبقة الوسطى، وهي طبقة مثقفة، لها تطلعاتها المخبرة عن خصائص وجودها الاجتماعي وانشغالاته وكذلك المقدرات الذهنية والثقافية التي تصنع لها مكانتها ودورها الإنساني البارز.
إن شخصية (الطبيب) و(المحامي) و(الصحافي) و(المدرس) والسياسي ذي الوعي الناضج هم التشكيل البارز في أعمال خصباك المسرحية.
وبإزاء شخصية الرجل فإن مساحة متساوية للشخصيات النسائية هي ما تبرز في النصوص جميعاً، فبمواجهة شخصية (صادق) في مسرحية (القضية) كانت هناك زوجته (وفية)، وبمقابل (صلاح) كانت زوجته (راقية) في مسرحية (بيت الزوجية) ومثل ذلك ما كانت عليه مسرحية (العنكبوت) التي وضعت الزوجة (منيرة) على حدّ من الفعل مع زوجها (جابر). وكذلك كان وجود (عاطفة) مماثلة لزوجها (صالح) في مسرحية (الغرباء). ومع وجود هذه الثنائية العائلية المتساوية بين الزوجين فإن حضوراً لشخصيات نسائية أخرى يتحقق بمقدار ما كان للرجال منه، وتتمثل في أعداد الأبناء والبنات والإخوة والأخوات والأقارب والقريبات، وذلك كله يرد لتأكيد البعد الواقعي الذي تأسست على مرتكزاته نصوص خصباك جميعها، مثلما يجسد وعي كاتبها لدور المرأة ومكانتها الاجتماعية المتميزة، لاسيما وهي تعبر عن انتمائها إلى تلك الطبقة الوسطى ذاتها، وتتحسس وجودها الفاعل فيها.
يؤكد الدكتور شاكر خصباك في إحدى نظراته أهمية دور الفرد المتميز بمواقفه ومقدرته على الصمود والمواجهة. ولكنه يرهن تلك المكانة بما يمكن أن تحققه من فعل اجتماعي يأخذ بالاتساع فعنده: «إن صمود الفرد الواحد له أهمية.. لأن هذا الصمود سيكون الشرارة التي تشب منها النار، فالفرد الواحد سيتحول إلى أفراد، والأفراد سيتحولون إلى مجموعة، والمجموعة ستتحول إلى مجاميع، إلى أن يصبح الفرد جمهوراً عظيماً يندفع كالسيل العرم في مواجهة الطغيان»( ).
لقد تبنى خصباك هذه الرؤية في نصوصه المسرحية، وهو يخبر عنها من خلال الغياب الواضح لتلك الشخصية التي توصف بالبطل الفرد، فوجود مثل هذه الشخصية لا يترسخ في النص إلا وهو يحقق تفاعله الاجتماعي مع سواه من الشخصيات التي تقف معه على قدم واحدة من المساواة وبها يصنع لتلك النصوص بطولة جمعية مشتركة، تنعكس في محددات الصراع الذي يأخذ طابعاً مجتمعياً، تتكيف الشخصيات فيه عبر حالة من التراصف التي تتبناها مجموعة منها، لتواجه نقيضها من الشخصيات، وهي تقف على الطرف الآخر.
تبقى ملاحظة أخيرة يمكن تأملها بشأن تلك الشخصيات وتتمثل في إعلان كثير منها عن حضوره في النص، ليس من خلال دورها في سياق الأحداث ومقدرتها الفاعلة على تحريكها باتجاه متصاعد بقدر ما كان وجودها مؤسساً على محمولها الذهني الذي اختطه الكاتب لها، وتدخله في وضع حوارات محددة تبوح بها، وبما يؤشر تشخيصها على نحو ذهني أكثر مما هو فاعلية حضور سلوكي مؤثر، وذلك ما عكس هيمنة دالة لذهنية شاكر خصباك الروائي على الآخر المسرحي فيه وهي مسألة كان (جورج سانتيانا) قد تنبه لها وهو يحدد الطريقة التي يقدم كل من الروائي والمسرحي عملهما فيها، فعنده أن الروائي إنما يرى الأحداث عن 00طريق أذهان الآخرين، في حين أن المسرحي يتيح لنا رؤية أذهان الآخرين عن طريق الأحداث( ).
(4)
تتجلى في نصوص الدكتور شاكر خصباك المسرحية جملة من الدلالات الفنية والتقنيات التعبيرية التي تؤشر -على نحو أو آخر- مساحة الاستجابة لقيم الصراع ومنطلقاتها، ليتواشج ذلك كله مع مجمل العناصر التي أفصحت عنها تلك التجارب المسرحية المقدمة.
إن نظرة عامة لطبيعة بناء المسرحية الكمي عند خصباك تظهر أن مجمل مسرحياته قد وردت بفصول ثلاثة أو ما هو دون ذلك. وعندنا فإن تلك واحدة من محددات الرؤية الواقعية التي أقام الكاتب مسرحه عليها.
لقد كان من تقاليد المسرحية في عصر النهضة بناؤها على أساس الفصول الخمسة، وهي في ذلك تواصل التقاليد التي أرساها المسرح الإغريقي ثم المسرح الروماني من بعده وتلتزم باشتراطاتها( ).
وحين برزت المذهبية الواقعية في المسرح فقد سعت إلى تجاوز ذلك التقليد وتبني فكرة قيام المسرحية على فصول ثلاثة أو أقل من ذلك وهو ما تمثله الكتاب الواقعيون، ومنهم الدكتور شاكر خصباك، فجعل كذلك مسرحياته: القضية، الشيء، الغرباء، العنكبوت، أين الحقيقة.
أما المسرحيات الأخرى فقامت على فصلين كمسرحياته: بيت الزوجية، التركة.
في حين لم تتجاوز المسرحيات: المخذولون، الغائب، القهقهة، دردشة، هو وهي، اللص الفصل الواحد. أما مسرحية (الجدار) فقامت على أساس اللوحات التي بلغت تسعاً.
تتأطر لغة النص المسرحي عند شاكر خصباك في ثلاثة أبعاد:
الأول: هو التوجه الفني الممسك بالنزعة المذهبية الواقعية وما هي عليه من حرص على أنساق لغوية تستجيب لمقتضيات التعبير فيها.
الثاني: طبيعة التأسيس الفكري والسلوكي الذي اختطه لشخصياته ومسعاه إلى جعل حواراتها متجانسة مع ما لها من حصة في الوعي والثقافة، والارتهان الطبقي المتعين فيها.
الثالث: نوعية الانشغالات والمشكلات التي تواجهها تلك الشخصيات، والكيفيات التي تؤطر موقفها منها، تلك الانشغالات التي لم تكن مكابدات ذهنية ذات طبيعة تأملية لقضايا وجودية كبرى، بما تستوجب معه لغة عالية تسايرها، مثلما لم تكن انشغالاتها من النمط الشعبي المباشر في تعبيريته، وهو ما تناسبه اللهجة الشعبية أكثر من سواها( ).
لقد نأى خصباك بحوارات شخصياته عن هذين النمطين ليأتي به في لغة وسطى بينهما، فهي مع كونها لغة عربية فصيحة إلا أنها من السهولة ووضوح المسعى التعبيري ما بدت فيه قريبة جداً من اللغة اليومية المحكية، ولاسيما لدى الفئة المثقفة التي كانت شخصيات نصوصه كلها تقريباً نماذج دالة عليها. وحين يجد الكاتب ألا مناص من إيراد المفردة الشعبية فإن قصدية واضحة لديه هي التي تستدعي ذلك، فهو يورد بعض الألفاظ والعبارات لتبيان حدود الشخصية وما تتوافر عليه من ذخيرة وعي خاصة بها( ).
لا خلاف على حقيقة أن الحوار هو العنصر القادر على توطيد الوجود المعلن للنص المسرحي والتكوين المشخص لحركية الحدث وإبراز الشخصيات في أبعاد واضحة الملامح.
وإذا سبقت الإشارة إلى طبيعة اللغة الحوارية التي وظفها الكاتب في نصوصه فإن ما نود تأشيره هنا متعلق بطبيعة الحوار ومسار حركيته لإنجاز الواقعة النصية. فلكون معظم الشخصيات مؤسسة فكرياً على نحو مسبق وبحدود معقولة من الوعي وأسباب الثقافة فإن جدلاً ذهنياً متسعاً تضمنته حواراتها التي ربما طال بعضها حتى ليتجاوز الجد المتاح من تبادل الحديث بين الشخصيات في الواقع الفعلي الذي تعكسه تلك المسرحيات. لقد كان ذلك سبباً في جعل حركية الأحداث واضحة البطء وتلك حالة منطقية متوقعة، فحين يكون الحوار منشغلاً بتأكيد الوجود الذهني للشخصية فإن حركة الوقائع لن تكون بالمقدار ذاته من الفاعلية والتصاعد في نموها التي نلمسها فيما لو تبنى حوار تلك الشخصيات نزوعها نحو الممارسة السلوكية وما تتخذه من مواقف معلنة تواجه بها الشخصيات الأخرى التي تناهضها.
يأخذ الاسم في عنوانات النصوص المسرحية وكذلك فيما تخيّره الكاتب لشخصياته منه - سمات متعينة فيه تجعله جديراً بالتأمل بوصفه فاعلية لغوية دالة.
فلقد أشرت عنوانات المسرحيات -في الغالب عليها- أفق التوجه الواقعي الذي كان عند الكاتب وسيلة وغاية في الآن نفسه لتقديم رؤاه ومقاصده. ومن هنا فقد غلب على سياقات العنونة عنده تمثلها المباشر لموضوعة النص فعنوانات من مثل: (بيت الزوجية) و(الغرباء) و(التركة) و(أين الحقيقة) و(المخذولون) و(البهلوان) و(الواعظ) و(ليل له آخر) إنما تضع أفق التلقي في مواجهة مدركة لتفوهات النص ومحمولاته الدلالية.
وفي المقابل فإن عنوانات من مثل: (الشيء)، (العنكبوت)، (الدكتاتور)، (القهقهة)، (الجدار)، (في انتظار جودو) تتطلب حيزاً من التأويل المؤجل الذي لا يمكن نيله وفهم مغزاه الدلالي إلا بعد قراءة النص المسرحي كاملاً.
وحين تأمل الأسماء التي تخيرها الكاتب لشخصياته فإن تبيان المقاصد الواقعية التي يرقى إليها لن تكون بعيدة، إذ حملت تلك الأسماء دلالات متعددة، يعبر بعضها عن البعد الواقعي لها، مثلما يؤشر جانباً من التشخيص الشعوري والسلوكي الذي حملها الكاتب إياه، إذ لم تغادر مسميات الشخصيات ما يتم تداوله في المساحة الاجتماعية التي ترصدها النصوص، وهي تذهب إلى معاينة جوانب من حياة الطبقة الوسطى التي سبق لنا تحديد بعض من سماتها.
لقد بدا على أسماء كثير من الشخصيات -ولاسيما الرئيسة منها- أنها تستجيب كثيراً لملامح رسم الشخصية والأبعاد الشعورية والسلوكية التي أرادها الكاتب لها، ليتمثل كثير منها المحتوى الدلالي الذي يدل عليه اسمه، ففي مسرحية (القضية) كانت شخصية (صادق) متطامنة تماماً مع اسمها، إذ لم تغادر هذه الشخصية حالة التيقن الفكري التي هي عليها حتى حين أرغمتها الاحتياجات العائلية على الرضوخ لغير ما تؤمن به. فلقد جعلها دفاعها عن قيم تأسيسها النبيل تختار الصمت ملاذاً تواجه به رغبات من حولها. وكان (راشد) في المسرحية ذاتها رجل مخابرات، ولعلها غير خافية تلك الصلة بين وظيفته وما يوحي به اسمه.
وكانت (وفية) زوجة (صادق) تجسيداً معبراً عن دلالة اسمها فقد حافظت على تلك الصفة إلى آخر المسرحية.
وإذ كان وجود (صلاح) في مسرحية (بيت الزوجية) متوافقاً مع دلالة اسمه، حيث جسدت مواقفه وأفكاره ذلك المعنى، فقد كانت زوجته (راقية) متماهية مع دلالة اسمها أيضاً عبر سلوكها المتعالي وغرورها، ومفاخرتها بانحدارها الاجتماعي.
وفي مسرحية (الغرباء) بدت شخصيته (عاطفة) استجابة تامة لمعنى اسمها فهي غاية في الحنو على كل من هم حولها. أما مسرحية (الشيء) فقد كان اللافت فيها حضور السجناء جميعاً بالأسماء الشخصية الدال عليهم، في حين تم الاكتفاء بالرتب العسكرية لسجانيهم: (الرئيس)، (الرائد)، (الملازم)، (نائب الضابط) وذلك ما نرى فيه تجسيداً لرؤية الكاتب في تأكيد البعد الاجتماعي المتنوع الذي جاءت عليه الشخصيات المضطهدة لتمثل فئات الشعب كلها، بإزاء غياب المسمى الخاص -الذي هو جزء من الوجود الإنساني لكل منا- عن الشخصيات المتسلطة على أولئك السجناء، لتكون تجسداً لنظام عسكري، لا ملامح له كان قد فرض نفسه على الشعب بقوة السلاح.
نشارك أحد الباحثين المسرحيين القناعة في حرص كتاب المسرح الواقعي على ذكر المكان وتأثيثه بموجودات حقيقية، تعكس هيأته التي هو عليها، استناداً إلى عالمها الحقيقي، وهو عالم محدد ودال على مجموعة اجتماعية (جماعة، شريحة، طبقة)، وبما يفصح عن حالة التطابق بين الأشياء على المسرح والأشياء في الواقع( ).
لقد كانت مسرحيات خصباك التزاماً طيعاً بهذه الرؤية وتنفيذاً مؤكداً لها، فقد طال تردده في نصوصه على المكان الواقعي بتكويناته، وبما يعلنه عن المستوى الاجتماعي للشخصيات التي تعيش فيه، فكان الغالب على توصيف المكان عنده أنه مكان (عائلي): بيت أو صالة أو حديقة. تؤطر بموجودات معهودة من الأثاث والمستلزمات العائلية الأخرى. حتى أمسى ذلك لازمة توصيفية يضعها الكاتب في بداية نصه. فهو إما أن يكون: «صالة متوسطة السعة ذات أثاث بسيط» (مسرحية القضية، 5/21). أو هو: «صالة متوسطة السعة صفت حول جدرانها المقاعد الخشبية الطويلة. تبدو المقاعد قديمة لكن أفرشتها نظيفة. في ركن الصالة يقوم تلفزيون على منضدة عالية الأرض مفروشة ببساط شعبي. للصالة بابان، أحدهما باب الدار الرئيس والثاني ينفتح على ممر تتوزع فيه بقية الغرف ومرافق الدار. في نهاية الممر باب يؤدي إلى الحديقة»(مسرحية التركة، 5/101).
أو يأتي وصفه على النحو الآتي: «غرفة الاستقبال فسيحة، وذات أثاث حديث تتوزع الزهور في أرجائها» (الغرباء، 4/193).
أو كما يلي: «غرفة ذات أثاث متواضع يشتمل على سرير ومنضدة كتابة وخزانة كتب وخزانة ملابس وأريكة وبضعة كراسي» (بيت الزوجية، 4/251).
وسيلاحظ أن الكاتب وحين يخرج عن المكان الاجتماعي المعهود (البيت) فإن وصف ذلك المكان البديل يكاد يكون مجملاً وخالياً من التفصيلات، فحين كان المكان في مسرحية (الشيء) هو السجن فقد جاء وصفه كما يلي: «زنزانة ضيقة لا تزيد مساحتها على تسعة أمتار مربعة، ذات نافذة صغيرة في أعلى الجدار المواجه للباب. الزنزانة عارية من الأثاث كلياً» (4/69).
أما في مسرحية (الدكتاتور) فلكون المكان ذا طبيعة مطلقة، فليس هناك من إشارة تفصيلية عنه، حيث وصفه المؤلف بالآتي: «الستارة مفتوحة والمسرح مضاء بنور خافت، في صدر المسرح كرسي تخطف أنواره البصر وقد سلط عليه ضوء ساطع» (5/171).
أما مسرحية (أين الحقيقة) فقد جاء وصف المكان: «تجري أحداث المسرحية في ميدان عام تحيط به الأشجار» (5/255).
وفي مجمل المسرحيات فقد تبدت على المكان صفة (الحيادية) إذ هو لا يكاد يضفي على وجود الشخصيات فيه، وكذلك على أفعالها وما تنجزه ما يدل على فاعليته، فتلك الشخصيات يمكن لها أن تنتقل إلى غيره ويظل صراعها قائماً.
لقد كانت المهمة الأبرز للمكان في نصوص خصباك هي تأطير وجود الشخصيات وتكريس مساحة التمثل الاجتماعي لحركتها فيه. أما عنصر (الزمان) فقد بدا عليه أنه مطلق غالباً، حتى ليخلو من أية استجابات لأبعاد التأطير التاريخي ودلالتها التي إن وجدت بعض ملامحها فإنها لا تمثل استيقافاً زمانياً للوقائع وما تجسد فيها من صراع سلوكي أو قيمي بل إن تلك الزمانية تنفتح وعلى نحو مثير لتؤكد حضورها المتواتر في الأحوال المتماثلة مع ما يرصده النص المسرحي من مشكلات اجتماعية أو استيقافات فكرية.
لقد كان خصباك حريصاً على رمزية الزمان في نصوصه وأفقه المتسع لكل الحالات المماثلة التي تشهد تكرار الواقعة ذاتها.
ففي مسرحية (الشيء) مثلاً كان المكان هو (السجن) وكان (زمان) الواقعة حقيقياً وهو العام 1963م وما شهده من انقلاب عسكري وقتل واعتقالات لكل معارضيه. ولكن النص وهو يرصد تلك الزمانية المؤشرة تاريخياً لا يقيد وقائعه وشخصياته بإطارها الضيق بل ينفتح بها ليكون تمثلاً لهذه الواقعة وغيرها، وهو ما يمكن الحديث عنه في أزمنة سابقة وأخرى لاحقة تتطابق مع هذا الذي يشهده النص.

خاتمة:
لم يعرف عن الدكتور شاكر خصباك ميله إلى المسرح الحديث جداً( ). ومرد ذلك عنده ما أرساه لتوجهاته المسرحية من أفق واقعي التزم به، ولم يحد عن اشتراطاته مطلقاً بل ظل يواكبه وينطلق منه لتجسيم الواقعة الاجتماعية وإبراز مضامينها.
لقد تمثلت نصوصه المسرحية في ثيماتها الأساس تلك الوجهة المنشغلة بالواقع الراهن والمتلبسة لقضاياه، والكيفيات التي تشكل فيه أحداثاً ومواقف، راحت تلك النصوص تعيد إنتاجها بإصرار مدرك، وهو ما تكشفت من خلاله فاعلية صراع آني ومكرور يقف كل منا على مقربة منه، بل إنه ليعاينه ويعانيه يومياً شاخصاً في السلوكيات والمواقف والرؤى التي تهيمن من حوله في أحوال من الاشتباك الدائب.
إن طبيعة الصراع -في الغالب على مسرح شاكر خصباك- هو ما يعكسه سلوك الشخصيات ومواقفها وليست القوى القدرية الخارجية، مثلما ليست هي الدوافع الشعورية والانفعالات الضاغطة على دواخل الشخصيات التي تؤدي بها إلى نوع من الهيجانات السلوكية غير المتزنة أو غير المتوقعة. إن ما رصده شاكر خصباك في نصوصه المسرحية هو انهماك الشخصيات بواقعها وحدود وعيها الذي تخيرته، ليكون هو المجسد لحركية الصراع وتمثلاته، حيث يتوازى ذلك مع حضور النوازع الذاتية والرغبات المؤشرة في السلوك البشري المعهود وبأبعاده الشعورية واللاشعورية، ليصنع الحد التشخيصي للشخصيات وأبعاد صراعها مع سواها، ولاسيما تلك التي تتضاد معها. ولعل من اللافت للتأمل أن هذه الوجهة الاجتماعية هي الأقرب للتشخيص على خشبة المسرح وجذب الجمهور المتسع لمشاهدتها والاستجابة لما تعرضه من موضوعات اجتماعية تشغله كثيراً ويعايشها في واقعه اليومي المعيش. ولكن خصباك -وهو يكرس جهده المسرحي لمثل تلك التوجهات- يفاجئنا بقوله: «أنا لا يهمني أن تمثل مسرحياتي، أو أن تروج في السوق بل يهمني أن أعبر عن آرائي الخاصة»( ).
وعندنا فإن ذلك مؤسس عنده على قناعة فنية أكثر منها موضوعية عن طبيعة مسرحياته التي أخذت سمتاً أدبياً يكون الاشتغال الذهني فيه هو الهم الأول للكاتب، متجاوزاً بسببه النزعة المطلوبة لتحريك الأحداث على نحو درامي تتدافع فيه ثيمات الإثارة والتهويل والمبالغة في تجسيم الحدث وإظهاره( ).
الهوامش:
علاقتي بالأدب والمجلات الأدبية(*)
رسالة من د.شاكر خصباك إلى د.عبد العزيز المقالح
□ د. شاكر خصباك

أخي العزيز، الشاعر الكبير/ الدكتور عبد العزيز المقالح..
لقد سألتني أن أحدثك عن علاقتي بالمجلات الأدبية خصوصاً، والأدب عموماً. ولكن قبل أن أحدثك عن ذلك، أود أن أطرح سـؤالاً يتردد في أعماقي دوماً: هل الفن -بمختلف أشكاله- إحدى غرائز الإنسان، شأنه شأن غرائزه الطبيعية الأخرى؟ أم أنه من نزواته العارضة؟ وأنا شخصياً لم أصل إلى جواب لهذا السؤال. ولعل غيري قد توصل إلى الجواب. وأصارحك يا أخي الدكتور عبد العزيز بأنني كثيراً ما وجدتُني أصل إلى الاعتقاد بأن غريزة الإنسان الفنية لا تقل سطوة عن غرائزه الأخرى، بدليل أنها رافقته منذ تبلورت شخصيته وانفصل عن الحيوان وانتقل إلى مرحلة ما نسميه (مرحلة الإنسان العاقل) Homo Sapience، وهي المرحلة التي بلغ فيها حجم مخه درجة النضج (2500سم3). في هذه المرحلة هجر الإنسان السكنى في العراء، واتخذ الكهوف سكناً له، وعرف أول صورة من صور المجتمع البشري. وفي هذه المرحلة مارس الإنسان غريزته الفنية، وتمثلت ملامحها في الرسوم التي خلَّفها لنا على جدران الكهوف. ولا ريب في أنه مارس أيضاً صوراً أخرى من صور الفن، تتمثل بممارسته للموسيقى والغناء.
أما صور الفن الأخرى، كالشعر والحكاية، فقد مارسها في وقت لاحق، بعد أن تقدم في مدارج الرقي. ولدينا نصوص متفوقة من الشعر والحكاية والنصوص الدينية، يعود تاريخها إلى ما يتجاوز السبعة آلاف عام في الحضارتين المصرية والعراقية.
أستخلص من هذه المقدمة أن ممارسة الفن بأشكاله المختلفة ليست نزوة طارئة من نزوات الإنسان، يختص بها أناس معينون؛ بل هي غريزة من الغرائز التي لحقت به منذ تميز عن عالم الحيوان. وكل ما في الأمر أن طائفة من البشر طوروا تلك الغريزة لديهم ومارسوها بشكل من الأشكال (فنوناً تشكيلية أو موسيقى أو غناء أو أي لون من ألوان الكتابة الأدبية)، وآخرون أهملوها، لسبب أو لآخر، فضمرت لديهم وضعف دورها في حياتهم. وخلاصة القول: إن ممارسة الفن بأشكاله المختلفة ليست قدراً يختص به أناس معينون، بل رعاية لهذه الغريزة البشرية.
ويبدو لي يا أخي الدكتور عبد العزيز أنني كنت ممن وفَّرت له ظروف حياته رعاية هذه الغريزة وتطويرها. ففي وقت مبكر من حياتي (وبالتحديد منذ كنت في السادسة من عمري، وكنت في الصف الثاني الابتدائي) بدأتُ برعاية هذه الغريزة عن طريق قراءة المجلات المخصصة للأطفال، واستهواني ما تضمنته من حكايات ساذجة. وهكذا تعرفت على مجلة (سمير التلميذ) التي كانت تصدر في مصر. إذن بوسعي القول: إن هذه المجلة هي معلمي الأول في فن القصة، وهي التي عززت في نفسي حب الأدب. وفي وقت مبكر أيضاً أسلمتني مجلة (سمير التلميذ) إلى مجلة أخرى هي مجلة (الرواية) المصرية، التي كان يصدرها الأستاذ أحمد حسن الزيات، في الثلاثينيات من القرن الماضي، وكنتُ يومذاك قد بلغت الصف الخامس الابتدائي. ومعنى ذلك أنني قمت بقفزة نوعية من حياتي الثقافية؛ فلا مجال للمقارنة بين مجلة (سمير التلميذ) الخاصة بالأطفال وبين مجلة الرواية التي كانت تشتمل على قصص هي من عيون الأدب العالمي. وإنني لأعجب، وأنا أستذكر تلك المرحلة من حياتي الآن كيف تسنى لي القيام بتلك القفزة النوعية خلال سنوات قلائل. ومما يحيرني أيضاً أنني لا أتذكر أية مجلة وسطية بين هاتين المجلتين. ولابد لي أن أؤكد هنا أنني تتلمذت في الأدب القصصي على أقلام مجلة (الرواية)، وأن فضلها عليّ لا حدود له. وبهذه المناسبة أُحيِّي المرحوم أحمد حسن الزيّات على ما أسدى للأدب العربي من خدمة لم تقتصر على إصدار مجلة (الرواية) بل وإصدار زميلتها مجلة (الرسالة)، العظيمة أيضاً، التي تتلمذ على أيدي كتّابها أجيال عديدة من الكتّاب والمثقفين العرب.
وفي مرحلة الدراسة الإعدادية بدأت أتابع المجلات الثقافية والعربية عموماً، فضلاً عن الصحف اليومية التي كانت تخصص أبواباً للأدب. لكنني لا أستطيع القول إنني أدين لإحداها بفضل كبير عليَّ.
وأعود مرة أخرى إلى رصد مجلتين أدين لهما بالفضل أيضاً في مسيرتي الأدبية: إحداهما عراقية هي مجلة (الهاتف) النجفية، والأخرى لبنانية هي مجلة (الأديب).
فأما مجلة (الهاتف) فقد كان يصدرها المرحوم جعفر الخليلي، وهو كاتب قصصي. وقد أصدر بضعة كتب قصصية، لعل من أبرزها (في قرى الجنّ). وهو يصنف في العادة ضمن المرحلة المبكرة من تاريخ القصة العراقية التي مهّد كتّابها لمرحلة القصة العراقية الفنية. ومن أبرزهم: محمود أحمد السيد، وعبد المجيد لطفي، وعبد الوهاب الأمين، وعبد الحق فاضل. وعلى الرغم من أن مجلة (الهاتف) كانت مجلة أدبية عامة، لكنها كانت تعنى عناية خاصة بأدب القصة. ولا شك في أن لها فضلاً كبيراً على القصة العراقية، وقد كانت تُصدر دوماً أعداداً خاصة بالقصة ونقدها. فمن الطبيعي أن تجتذبني هذه المجلة. وقد صرتُ من كتّابها الدائمين، وذلك في مرحلة دراستي الإعدادية، وقد ربطتني فيما بعد بصاحبها صداقة لطيفة. وعلى صفحاتها تعرفت بصديقي الأستاذ عبد المجيد لطفي، الذي تفضل فكتب المقدمة لأول مجموعة قصصية صدرت لي في القاهرة عام 1948، هي مجموعة (صراع) والتي كانت قصصها قد كتبت بين أعوام 1945 و1948. وكان قد بعث إليَّ قبل ذلك رسالة يطري فيها على قصصي التي كانت تنشر تباعاً في المجلات العراقية والعربية. وقد ربطتني به صداقة متينة إلى آخر عمره المديد. وقد ظلّ يكاتبني باستمرار بعد مغادرتي وطني، العراق، وإقامتي في اليمن. وما زلت أحتفظ بالعديد من رسائله التي تُعدّ من أجمل الرسائل الأدبية.
وأما المجلة الثانية التي أدين لها بالفضل في هذه المرحلة المبكرة من حياتي الأدبية، فهي مجلة (الأديب) اللبنانية لصاحبها البير أديب. وأزعم أن هذه المجلة كانت تلي مجلة (الرسالة) المصرية في أهميتها في عالم الأدب يومذاك. ولعل أبرز خصائصها أنها كانت تشجع التيارات الحديثة في الأدب العربي، ولاسيما الشعر. لذلك كانت تعنى عناية خاصة بأدب الشباب. ولم يكن غريباً أن تشجع هذه المجلة التيارات الحديثة في الشعر، فقد كان صاحبها شاعراً مجدداً بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى. والحقيقة أن قصائد البير أديب بأجمعها كانت تخرج على النمط التقليدي للشعر العربي السائد يومذاك. وكان مجدداً بحق. ومن المؤسف أنه نادراً ما يُذكَر اليوم باعتباره من الرعيل الأول من مجددي الشعر العربي. وهذا إنكار مجحف بحقه، ولست أفهم سببه. ولا شك في أن روّاد شعرنا الحديث كانوا قد تتلمذوا بشكل أو بآخر على صفحات مجلته. وفي عقد الأربعينيات كانت مجلة (الأديب) هي الأولى بين المجلات الأدبية التي تفتح صفحاتها على مصراعيها للتيارات الحديثة للشعر والقصة. وقد ربطتني بألبير أديب يومذاك صداقة طيبة. وحينما مررت ببيروت في صيف عام 1951 عند عودتي من القاهرة إلى وطني إثر انتهاء دراستي الجامعية، دعاني إلى وليمة في بيته، حضرها بعض الأدباء اللبنانيين، وتسنى لي بذلك التعرف عليه شخصياً، فأسرني بدماثة خلقه.
في مرحلة دراستي الثانوية، وقبل سفري إلى القاهرة مبعوثاً من وزارة المعارف العراقية، انعقدت الصلة بيني وبين مجلات وصحف عديدة، في العراق ولبنان ومصر وسورية، وكان على رأسها مجلة (الرسالة) المصرية، ومجلة (الطريق) اللبنانية التي كان يصدرها الحزب الشيوعي اللبناني، ومجلة (شهرزاد) التي كان يصدرها الأديب المرموق رئيف خوري. وكنت أثناء ذلك أحرص على كتمان حقيقتي عن تلك المجلات، أي حقيقة كوني تلميذاً في المدرسة الثانوية. فكانت مجلة (الرسالة) مثلاً تقرن اسمي بلقب (الأستاذ). وكذلك بقية المجلات الأخرى العربية والعراقية. وكنت في تلك المرحلة المبكرة من حياتي غزير الإنتاج، ولم يكن يمرّ أسبوع دون أن تظهر لي مقالة أو قصة في إحدى الصحف أو المجلات العراقية. بل كثيراً ما كنت أُستكتَب من قبل أصحاب المجلات للإدلاء برأيي في القضايا الاجتماعية والأدبية. وكان نقدي للكتب القصصية يلقى ترحيباً من المجلات العربية كـ(الرسالة)، و(الأديب)، وكذلك من قبل المجلات والصحف العراقية. ولذلك كثيراً ما كان الكتّاب الكبار يبعثون إليّ بمؤلفاتهم، وعلى رأسهم: محمود تيمور، ونجيب محفوظ، وعبد الحميد جودة السحَّار، وغيرهم من الكتّاب العرب. وأزعم أنني نلت شهرة طيبة لدى القراء العرب يومذاك، وخصوصاً العراقيين، لكثرة ما كنت أنشر من مقالات. وأحسب أنني كنت أكثر شهرة كأديب منّي اليوم. وحينما أراجع الآن تلك الفترة من حياتي وأنا بين الخامسة عشرة والسابعة عشرة من عمري، أعجب كيف كنت أمتلك كل تلك الطاقة الفكرية. ولم يكن نشاطي يقتصر على الكتابة الأدبية فحسب، بل كنت منغمراً في قراءة واسعة النطاق. ولم تكن قراءتي تقتصر على الأدب، بل كنت أقرأ في كل الحقول: الاجتماعية، والاقتصادية، وحتى الفلسفية. ولم أكن في الوقت نفسه بمعزل عن السياسة، بل كنت مشاركاً فيها، خصوصاً وأن تلك الفترة من تاريخ العراق كانت تشهد تحولات سياسية مهمة. وكانت مدينتي (الحِلَّة) تحفل بالنشطاء السياسيين، لاسيما ممن كان يتبنى الاتجاهات اليسارية التي كنتُ ولا أزال محسوباً عليها. وأتذكر من طرائف تلك المرحلة أنني كنت قد غادرت العراق للدراسة في مصر في أواسط عام 1948. وفي تلك الأشهر قامت حركة سياسية، وبالذات في شهر أيلول/ سبتمبر، ضد رئيس الوزراء صالح جبر، مطالبة باستقالته، لممالأته للإنجليز، أُطلق عليها اسم (وثبة 48). وأغارت شرطة الأمن على منزلنا مطالبة بتسليمي لأنني كنت أتصدر المظاهرات وأخطب فيها ضد الحكومة. ولما أخبرهم أخي الكبير أنني لست موجوداً في العراق أصلاً، وأنني أدرس في مصر، رفضوا تصديقه واعتقلوه نيابة عني لكي أسلم نفسي. وبقي أخي المذكور معتقلاً بضعة أيام حتى استطاع أحد أخوالي من ذوي النفوذ في المدينة أن يقنعهم بأنني خارج العراق فعلاً. ومما يثير استغرابي الآن أيضاً هو أن كل ذلك الانشغال والنشاط الفكري لم يصرفني عن دروسي، فكنت من الطلبة الأوائل في صفي، بدليل أنني أُرسلت في بعثة إلى مصر. وهي حقيقة سجلها الدكتور علي جواد الطاهر في مقالته عن مجموعة (صراع).
وفي أثناء دراستي في مصر كانت صلتي بالمجلات الأدبية محدودة. واقتصرت على مجلتي (الرسالة) و(الأديب) إلى حدّ كبير. فلقد شغلت بالدراسة في حقل بعيد عن الأدب، هو الجغرافيا. وكنت عازماً على التفوق فيه لكي يتسنى لي بعد نيل الليسانس (B.A) مواصلة الدراسة فيه لنيل الدكتوراه. وقد دفعني ذلك إلى تخصيص جزء مهم من وقتي لهذا الغرض، حتى أن طموحاتي العلمية شجعتني على ترجمة كتاب مهم من الإنجليزية كان قد صدر في أواخر الأربعينيات، لأستاذة الاقتصاد في جامعة لندن دورين وارنر، وكان بعنوان (الأرض والفقر في الشرق الأوسط). وكان كتاباً رائعاً، يدرس بعمق مشكلة الملكية الزراعية في بلدان الشرق الأوسط. لكنني فوجئت وأنا أقوم بالاتصالات لطبعه، بأن اقتصادياً عراقياً قد سبقني إلى ترجمته هو الدكتور أحمد حسن السلمان، الذي كان يومذاك مديراً للبنك الصناعي، وأنه قد دفعه إلى المطبعة، فأسقط في يدي وألغيت ترتيبات الطبع. والحقيقة أن وقتي لم يكن يومذاك يتسع للكتابة في الأدب، عدا هوايتي الحقيقية، وهي القصص، والتي أثمرت في سنتي النهائية من الجامعة صدور مجموعتي القصصية الثانية (عهد جديد) في عام 1951، من قبل لجنة النشر للجامعيين. لكنني كنت أخصص جزءاً مهماً من وقتي للالتقاء بمعارفي وأصدقائي من الأدباء الذين كان عددهم كبيراً. وكان هؤلاء الأدباء يتوزعون على شكل مجموعات (أو شلل). وكنت القاسم المشترك بين تلك المجموعات. فقد كان هناك محمود تيمور الذي كنت ألتقيه أسبوعياً في قهوة الجمّال في شارع محمد فريد، على ما أتذكر. وكان هناك (شلة) نجيب محفوظ التي كانت تلتقي صباح كل جمعة في كازينو أوبرا في ميدان إبراهيم باشا، وكان أعضاء هذه المجموعة الرئيسيين: نجيب محفوظ، وعبد الحميد جودة السحّار، وعلي أحمد باكثير، ومحمد عبد الحليم عبد الله، ومحمد عفيفي، وعادل كامل. ولكن كان يتردد عليها أيضاً يوسف السباعي، وأحمد عباس صالح، ومحمود البدوي، والمخرج صلاح أبو سيف، والممثل يحيى شاهين.
وكان هناك (شلة) أحمد بهاء الدين، وتضم يوسف الشاروني، وفتحي غانم، وأحمد عباس صالح، ونعمان عاشور، وعبد الرحمن الشرقاوي. وكانت تجتمع في مقاه متفرقة.

وكانت هناك ما يمكن أن نسميها (شلة) أحمد حسن الزيّات، التي كانت تجتمع عصر كل اثنين في دار مجلة (الرسالة). وكانت تضم الزيّات، وأنور المعداوي، وعباس خضر، وأفراد آخرين يختلف عددهم ولا يحضرون باستمرار، منهم توفيق الحكيم، وساطع الحصري، وإبراهيم بيّومي مدكور. وكانت هناك (شلة) تسمى باسم (الأمناء) نسبة إلى الأستاذ أمين الخولي، وكانت تجتمع أسبوعياً في شقته بمصر الجديدة. وكان أغلب الحاضرين من تلامذة الخولي ومريديه، وكانوا يدعون إلى الأدب الواقعي الذي يعنى بهموم الشعب. وكان من جملة حضورها: الدكتور عبد الحميد يونس، وأنور المعداوي، وزكريا الحجاوي. لكنني كنت دائم الزيارة والاجتماع بأدباء آخرين أيضاً خارج هذه المجموعات، من أمثال: الدكتور عبد القادر القط، والدكتور علي الراعي، وكمال منصور، وآخرين لا أتذكر أسماءهم الآن. وكنت كذلك أزور الأدباء الكبار في بيوتهم أو مقاهيهم أو مكاتبهم. وممن تشرفت بزيارته الدكتور طه حسين، وكذلك توفيق الحكيم، والدكتور زكي مبارك. ولست أدري لماذا ظللت مصرّاً على عدم زيارة الأستاذ عباس محمود العقاد، مع أنه كان يدير ندوة أسبوعية في بيته؛ ولعلي لم أكن ميالاً لأدبه. كما أنني لم أجد رغبة في الالتقاء بإبراهيم عبد القادر المازني. وكانت هذه الزيارات والاجتماعات بكبار أدباء العرب يومذاك تستنفد الكثير من وقتي، لكنها كانت تملأني متعة، وتثري من ثقافتي في الأدب واطلاعي على مجريات الساحة الأدبية.
حينما عدت إلى بلدي بعد حصولي على الليسانس في الجغرافيا من جامعة القاهرة 1951، عانيت من ضيق شديد لحرماني من ذلك الجو الأدبي والثقافي الحافل، لاسيما وأنني أمضيت صيف عام 1951 في مدينتي الحلة بجوها الأدبي والاجتماعي الراكد، في انتظار تعييني في إحدى المدارس الإعدادية أو الثانوية. وكنت أراسل أثناء ذلك بعض أصدقائي الأدباء في القاهرة. وممن كنت أكاتبهم المرحوم أنور المعداوي الذي كان يطمئنني بأنني ما ألبث حتى أنغمر في حياتي التعليمية والتي سألقى فيها بلا شك متعة جديدة. وكنت أتوقع أن أُعيَّن في إحدى مدارس الحلة، باعتبارها مسقط رأسي؛ لكنني فوجئت بتعييني في إحدى مدارس بغداد، بل في واحدة من أفضل مدارسها الإعدادية، وهي متوسطة الغربية النموذجية للبنين. وانشغلت في حياتي التعليمية الجديدة انشغالاً عظيماً، لأنني وجدتها فرصة لتلقين التلاميذ الصغار الأفكار الإنسانية التي أدين بها. ولا أبالغ إن قلت إنني كنت من أكثر المدرسين قرباً لقلوب التلاميذ مما كان يعينني في توجيههم إلى المبادئ الإنسانية والوطنية. ومما زادني قناعة فيما بعد بتأثيري فيهم الحادثة التي وقعت لي بعد ما يزيد على عشرين عاماً. ففي صيف عام 1975 قمت بزيارة سياحية إلى الاتحاد السوفييتي، بصحبة زوجتي وابنتي. وفي إحدى الأمسيات قصدنا أحد المطاعم الكبرى في موسكو. وكانت موائده مزدحمة للغاية، عدا مائدة اشتملت على ثلاثة كراسي شاغرة. فاستأذنا من شاغلي المائدة في الجلوس معهم فأذنوا لنا بذلك. وكانوا من المواطنين العرب، وكانوا يستمتعون بجو مرح. ولكن ما إن اتخذنا مقاعدنا حتى سادهم جو من التحفظ، مما أشعرنا بالحرج. وبعد دقائق التفت إليّ أحدهم وسألني: هل تتذكرني يا دكتور شاكر؟
فقلت: وهل كان بيننا معرفة؟
فقال: طبعاً! قد كنت أستاذي في متوسطة الغربية.
فقلت: لا شك أنك كنت صبياً صغيراً، فكيف لي أن أتذكرك؟
فقال: لكننا لن ننساك أبداً يا دكتور شاكر لأنك علمتنا الوطنية.
فالتفت إليّ الآخر وقال لي ضاحكاً: فلا شك إذن أنك لا تتذكرني يا دكتور شاكر.
فسألته: وهل كنت زميله؟
فأجاب: لا، لكنك درّستني في متوسطة المنصور، وأنا أؤيد صديقي، فأنت الذي علّمنا الوطنية والأفكار العظيمة، وكنت أحبّ مدرس إلى نفوسنا.
وقال الثالث: أما أنا فلن أسألك إن كنت تتذكرني أم لا يا دكتور شاكر، فأنت قد درستني في متوسطة المنصور أيضاً. ونحن لن ننساك يا دكتور شاكر.. لن ننساك أبداً.
فقلت: لكنكم لم تعرّفوني بأنفسكم.
فقال أحدهم: أنا الملحق العسكري في موسكو، ويشرفني أن أكون في خدمتك طوال وجودك هنا.
وقال الثاني: وأنا آمر الفرقة الثالثة في البصرة، وقد حضرت إلى موسكو في مهمة عسكرية. وأنا أضع نفسي في خدمتكم وإن لم أكن أعرف موسكو كما يعرفها زميلاي.
وقال الثالث: أما أنا فالمسؤول الحزبي عن العراقيين في الاتحاد السوفييتي، وأنا أيضاً في خدمتكم يا دكتور شاكر، فلا يمكننا أن نردّ لك جميلك علينا.
فقلت لهم بلهجة بين الدعابة والسخرية، وبدون مجاملة حسب طريقتي المعتادة: فإذا كنتم تعتقدون بأنني علمتكم الوطنية والأفكار النبيلة فكيف تفسرون إذاً اعتقالي في اليوم الأول من ثورتكم عام 1963(*)؟
فأجاب أحدهم: لا شك أن أكبر أخطاء تلك الثورة اعتقال المفكرين والأساتذة من أمثالك من المشهود لهم بالوطنية. ولكنك تعلم يا دكتور شاكر أن الثورات الكبرى حبلى بالأخطاء.
انشغلت إذن في أثناء سنتي التدريسية الأولى بعملي الجديد الذي صرفني نوعاً ما عن ممارسة الأدب. لكنني ما لبثت أن عدت إليه ثانية وبقوة. فقد اتصل بي في أوائل عام 1952 الدكتور سهيل إدريس بعد أن نال الدكتوراه في الأدب من فرنسا وعاد إلى لبنان وأخبرني أنه بصدد إصدار مجلة أدبية سيطلق عليها اسم (الآداب) وأنه يدعوني للانضمام إلى هيئة التحرير، وأن أكون ممثلاً للمجلة في العراق. فرحبت بدعوته. وكنت على صلة وثيقة بسهيل إدريس من عام 1946 أو 1947، وكانت واسطة تعارفنا مجلة (الأديب) البيروتية، وقد كتبت فيها عن مجموعتيه القصصيتين: (أشواق)، و(كلهن نساء)، وقد سُرَّ كثيراً لتلك الكتابة، واتصلت بيننا المراسلة منذ ذلك الوقت. وحينما سافر للدراسة في باريس كتب إليّ أنه ينوي كتابة أطروحته عن القصة العربية، وسألني المعاونة في المادة المتعلقة بالقصة العراقية. ففعلت ما كان بوسعي.
وبعد أن أبلغته بموافقتي على الانضمام إلى أسرة التحرير، كرست الكثير من وقتي للاتصال بالأدباء العراقيين وحثهم على الكتابة في مجلة (الآداب). وقد صارت مجلة (الآداب) فيما بعد منبراً للاتجاهات الحديثة في الأدب العراقي، وخصوصاً الشعر. وحينما صدر العدد الأول من المجلة، كان من جملة مواده قصتي (الكسيح)، وكانت القصة الوحيدة التي استخدمت فيها اللهجة العامية في الحوار، فجعل الدكتور سهيل من ذلك قضية للحوار.
وفي مقتبل عام 1953 وجدتني منغمراً مرة أخرى في نشاط أدبي مشابه. فقد اتصل بي ذات يوم شخص لم أكن قد سمعت باسمه من قبل، هو المرحوم الدكتور صلاح خالص. وكان قد عاد من باريس قبل شهور قليلة وهو يحمل الدكتوراه في الأدب العربي. وأخبرني أنه وجماعة من الجامعيين عازمون على إصدار مجلة ثقافية، وقد وقع اختيارهم عليّ لأكون محررها الأدبي. فرحبت باقتراحه. وبدأت العمل معهم في التهيئة لإصدار المجلة. ونشطت في الاتصال بالأدباء العراقيين وحثهم للكتابة في المجلة. وكان من جملة من اتصلت بهم الشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي كان زميلي في متوسطة المنصور، وتربطني به صداقة. وكان يومذاك ما يزال شاعراً مغموراً. وقد نشرت له المجلة في عددها الأول قصيدته الجميلة (الملجأ العشرون). وكانت تلك القصيدة الواسطة التي قدمته للشيوعيين الذين كانوا يبحثون عن بديل للشاعر بدر شاكر السياب الذي انفصل عنهم وأخذ يعاديهم ولا أدري لماذا! وكان السياب شاعراً مناضلاً بحق. وقد دخل السجن مراراً، وفُصل من الكلية. وكان قد حقق منذ أوائل الخمسينيات شهرة طاغية كشاعر يساري. وإنني لأحتفظ عنه بأجمل الذكريات. وأتذكر أنني سألت الجواهري يوماً: «من خليفتك يا أبا فرات؟» فأجابني في الحال: «بدر شاكر السياب». ولعل النقطة السوداء الوحيدة في تاريخ السياب أنه هجى عبد الكريم قاسم، زعيم ثورة 14 تموز، حين سمع بإعدامه على أيدي ثوار 14 رمضان، إثر محاكمة دامت أقل من نصف ساعة، مع أن عبد الكريم قاسم، كان قد أرسله للعلاج في لندن على حسابه الخاص.
أما عبد الوهاب البياتي فكان ذا اتجاه قومي يميني، وكان منعزلاً بطبيعته وقليل الأصدقاء. كما أنه لم يحب الإسهام في المناسبات الوطنية بأي شكل من الأشكال؛ لذلك كان نكرة أثناء وجوده في دار المعلمين العالية. لكنه تحَّول بقدرة قادر إلى شاعر محسوب على الشيوعيين، وراحوا يطبّلون له ويزمّرون. ولعل الضرر الوحيد الذي أصابه جرّاء إسهامه في مجلة (الثقافة الجديدة) أنه فُصل من وظيفته وسيق للخدمة العسكرية. ويقال إنه أخبر الشاعر ناظم حكمت، حينما التقاه في موسكو، أنه كان قد صعد على المشنقة لكنه أُنزل منها في آخر لحظة، ولا أدري مدى صحة هذا القول.
ولقد صدرت مجلة (الثقافة الجديدة) في أواخر عام 1953. وكنت أحسب أنها مجلة ثقافية مستقلة، ولكن ظهر لي فيما بعد أنها واجهة علنية للحزب الشيوعي. وربما كانت السلطة تعلم بذلك لكنها لم تكن تملك دليلاً على ذلك. لذلك ما إن صدر العدد الأول منها حتى عمدت إلى إغلاقها. لكن القائمين عليها لم يلقوا أسلحتهم، وراحوا يفتشون أن يفتشوا عن (امتياز) جديد، وحصلوا عليه فعلاً، وتولى هذه المرة محام مشهور اسمه عبد الرزاق الشيخلي (والغريب أنه كان محسوباً على التيار القومي) مهمة المدير المسؤول للمجلة، وكان في الوقت نفسه عضواً في المجلس النيابي. وصدر العدد الجديد باسم (الثقافة الحديثة). وما كاد يظهر حتى سارعت السلطة إلى سحب (الامتياز) ثانية. وفكر القائمون على المجلة بطريقة أخرى يحافظون بها على اسم المجلة. وكان (مجلس السلم العالمي) قد طلب يومذاك من محبي الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف الاحتفال بمرور خمسين عاماً على وفاته. فاقترحتُ عليهم أن أتولّى إخراج كتاب عن تشيخوف، عوضاً عن المجلة. فرحبوا بذلك. فانهمكت ليلاً ونهاراً في عملي، واستطعت أن أنجز الكتاب في موعده. وقد اشتمل على مختارات من قصصه ومسرحياته القصيرة، مع دراسة عن أدبه، وملخص عن أهم المحطات والأحداث في حياته. وصدر الكتاب في مطلع الشهر، أي في موعد صدور المجلة، تحت عنوان (منشورات الثقافة الجديدة)، وكان أول منشور تصدره لمجلة (الثقافة الجديدة). وفيما بعد أصدرت ديوان (أباريق مهشمة) لعبد الوهاب البياتي، ومجموعة عبد الملك نوري القصصية (نشيد الأرض) وكذلك المجموعة القصصية الأولى لفؤاد التكرلي، عام 1954. وبهذه المناسبة أذكر أن كتاب أنطوان تشيخوف كان يومذاك من أوائل الكتب التي تصدر باللغة العربية عن تشيخوف.
واستشاطت السلطة غضباً، وأخذت تعد العدة للانتقام من المساهمين في المجلة. وتسربت إليّ أخبار الحملة المتوقعة عن طريق أحد أقربائي المتنفذين، وحثَّني على ضرورة الإفلات منها. فخطر لي أن أسافر إلى إنجلترا وأواصل دراستي العليا في الجغرافيا، وهو ما كنت أخطط له. واستطعت بالفعل أن أفلت من قبضة السلطة قبل أن تصدر أوامر التوقيف. فسافرت إلى لندن في أواسط عام 1954، ومكثت فيها حتى 1958، حيث حصلت على الدكتوراه. وقد قامت ثورة 14 تموز قبل عودتي إلى البلاد بأشهر قليلة. ومن الجدير بالذكر أن أوامر التوقيف قد صدرت بالفعل بعد سفري بقليل، وشملت: الدكتور صلاح خالص، والدكتور صفاء الحافظ، والدكتور فيصل السامر، وإبراهيم كبَّة، وعبد الوهاب البياتي.ثم سيقوا فيما بعد إلى معسكر للجيش في (خان بني سعد)، القريبة من بغداد، للتدريب على الخدمة العسكرية. ومن الجدير بالذكر أن الحكومة التي شكلت بعد ثورة تموز، ضمت اسمين من الأسماء المذكورة، هما: إبراهيم كبَّة، وفيصل السامر.

هذه أبرز معالم صلاتي بالمجلات الأدبية يا أخي الدكتور عبد العزيز، والتي اضطرتني الظروف إلى التخفيف منها فيما بعد، بل إلى حد الانقطاع أحياناً. فبعد عام 1945 شغلت بدراسة الدكتوراه في الجغرافيا في إنجلترا بحيث صرت في شبه عزلة عن المجلات الأدبية العربية. وحينما عدت إلى الوطن في عام 1958 عُيِّنت مدرساً في جامعة بغداد. وقد اقتضت مني حياتي الجديدة الانصراف إلى مهمتي العلمية الجديدة التي كان لابد لي أن أخلص لها وأن أثبت جدارتي فيها. ثم عُزلت عن الجامعة في حركة البعث لعام 1963 واضطررت إلى الهجرة إلى المملكة العربية السعودية بدعوة من مدير جامعتها يومذاك، الدكتور عبد العزيز الخويطر. وقد أمضيت فيها أربع سنوات أستاذاً في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود). وحينما عدة إلى الجامعة في عام 1968 شغلت مرة أخرى بعملي الأكاديمي. واضطررت إلى الانسحاب من العمل الأدبي والإسهام في المجلات الأدبية، لأن أفكاري لم تكن تتواءم وسلطة البعث الحاكمة. ثم أُحلت إلى التقاعد في عام 1980، أو على الأصح فُصلت من الجامعة، لأنني كنت يومذاك في أواخر الأربعينات من عمري ولست في سن التقاعد، فعشت في عزلة في بيتي. وقد رفضت السلطة الموافقة على طلبات الالتحاق التي وردتني من بعض الجامعات العربية. وأخيراً بعد خمس سنوات استجابت السلطة في عام 1985 لطلب جامعة صنعاء للالتحاق بها. ولا شك في أنني سعدت بالتواجد في اليمن في جامعة صنعاء؛ فقد أتيح لي العودة إلى الأدب من جديد والتعبير عن أفكاري بحرية. واستطعت بذلك أن أخرج أهم أعمالي الأدبية بما توفر لي من حرية في التعبير عن أفكاري. وقد أسرتني رعايتكم الكريمة يا أخي الدكتور عبد العزيز، كونكم مديراً للجامعة يومذاك، وهي رعاية لم أحظَ بها في بلدي مما جعلني أتمسك بالبقاء في اليمن وعدم التفكير في العمل في أي جامعة عربية أخرى. تحية عطرة لك لأنك أتحت لي الفرصة لمواصلة الكتابة الأدبية وألف شكر لك على رعايتك.
إشارة:
الدكتور شاكر خصباك واحد من أبرز علماء الجغرافيا في الوطن العربي، وهو صاحب إسهامات بارزة وعالية المستوى في الفنون السردية المختلفة من رواية وقصة قصيرة ومسرح، وله العديد من المؤلفات. يعمل منذ أعوام كثيرة أستاذاً في كلية الآداب بجامعة صنعاء. وقد صدرت مؤخراً مؤلفاته الإبداعية في دمشق في ثمانية مجلدات تحت عنوان (المؤلفات الإبداعية).
- ولد شاكر خصباك في مدينة الحلّة - العراق، عام 1930.
- نال شهادة الليسانس في الجغرافيا من جامعة القاهرة، عام 1951، وشهادة الدكتوراه في الجغرافيا من جامعة ريدنغ - بريطانيا، عام 1958.
درس في جامعات بغداد والرياض وصنعاء، ونال درجة (الأستاذية) عام 1974.

مسرحية العنكبوت المقطع المحذوف _ المشهد الثاني

جابر – " وهو يضحك" مع أننا الرجال نمثل الجنس الخشن كما تقولون عنا .
منيرة - " لباهرة " كان يجب أن تخلقي رجلا لا امرأة فأخلاقك أقرب الى أخلاق الرجال.
باهرة – " لجابر " أنا أرى العكس يا بابا فهناك من النساء من هن أشد خشونة من الرجال وخصوصا إذا مست مصالحهن. " ملتفتة إلى عاصمة " أليس كذلك يا عاصمة ؟
عاصمة – " وهي تهز رأسها في لامبالاة " لا أدري . لم ألاحظ ذلك.
باهرة – أفلا تلاحظين يا عاصمة أن زميلاتك في العمل لا حديث لهن إلاً عن الطبخ والملابس وشؤون البيت والأطفال ؟ " وهي تضيف ضاحكة " وربما عن الممثلين والممثلات إذا كن من المثقفات اللواتي يقرأن المجلات المصورة.
عاصمة – لا تنسي يا باهرة أنني أعمل في مصرف لا في مدرسة وموظفي المصارف لا مجال لديهم لتبادل الأحاديث وقت العمل .
باهرة – بل أنت التي لا تشاركين في أحاديث زملائك .
منيرة - عاصمة حكيمة ولا تتدخل في شؤون غيرها.
جابر – " وهو يضحك " عاصمة محايدة مثل سويسرا.
عاصمة – " بعد لحظة " ومتى سيحضر الأستاذ ثامر يا باهرة ؟
باهرة – هو على وشك الوصول يا عاصمة .
منيرة – وكم ستطول زيارته ؟
باهرة – لن تطول زيارته يا ماما فثامر لا يحب الثرثرة وهو حريص على وقته .
منيرة – مع أن بضاعة المعلمين هي الكلام .
" يسمع رنين الجرس الخارجي "

باهرة – " وهي تقفز نحو الباب في انفعال " ها هو حضر .
" تختفي باهرة دقائق ثم تظهر وبصحبتها ثامر "
باهرة – أقدم لكم زميلي الأستاذ ثامر .
ثامر – مساء الخير .
منيرة - " في تحفظ " مساء النور .
عاصمة – أهلا أستاذ ثامر .
جابر " في حرارة " أهلا وسهلا أستاذ ثامر تشرفنا ." وهو يشير إلى أحد المقاعد " تفضل .. تفضل .
ثامر – " يجلس على المقعد بأدب " شكرا .
جابر – هذه فرصة طيبة لنا لنتعرف إلى زميل من زملاء باهرة .ونحن سعداء بذلك .
ثامر - وهي فرصة أسعد لي لأن أتعرف إلى والد ووالدة الآنسة باهرة .. حقيقة أنا سعيد جدا. " بعد لحظة " ربما لا تستطيعون أن تتصوروا مدى التقدير والإحترام والإعجاب الذي نشعر به نحو الآنسة باهرة . وهذا ليس شعوري الشخصي فقط بل شعور الزملاء جميعا .
باهرة – " وهي تضحك بخجل " لا تبالغ يا ثامر .
ثامر – " لباهرة " أنت تعلمين أنه ليس من طبعي أن أبالغ وهذا هو رأي الزملاء فيك جميعا .
جابر – "بسرور " صحيح ؟ ما أسعدنا بذلك . " بعد لحظة " غير أن ما تقوله يا أستاذ ثامر ليس مستغربا بالنسبة لنا فهذه هي باهرة التي نعرفها .
باهرة - " في خجل " شكرا يا بابا .
منيرة – " بلهجة متحفظة " ليس هذا غريبا على بنات العوائل .
ثامر – ليس كل بنات العوائل مثل الآنسة باهرة يا سيدتي العمة ." وهو يلتفت إلى باهرة باسما " والآنسة باهرة تعرفهن خيرا مني .
جابر – لكل ظروفه وللظروف حكمها يا أستاذ ثامر .

































#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة حب
- الفصول الاربعة
- موت نذير العدل
- أين الحقيقة؟
- نهاية إنسان يفكر
- الواعظ
- التركة
- خواطر فتاة عاقلة
- العنكبوت
- الخاطئة
- رسائل حميمة
- انطوان تشيخوف -دراسة نقدية-
- الرجل الذى فقد النطق
- امرأة ضائعة
- صراع -مجموعة قصصية-
- بيت الزوجية -مسرحية-
- ذكريات ادبية
- القهقهة ومسرحيات اخرى
- الطائر
- كتابات مبكرة


المزيد.....




- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - شذرات