أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - الفصول الاربعة















المزيد.....



الفصول الاربعة


شاكر خصباك

الحوار المتمدن-العدد: 2561 - 2009 / 2 / 18 - 03:44
المحور: الادب والفن
    


2004
الطفـولة والصــبا
ولدت ليلى و قيس في نفس العام. ونشئا وترعرعا في نفس المدينة. لكن طفولتهما وصباهما تباينا تبايناً عظيماً.

لــيلى
حين ولدت ليلى كانت فرحة الأبوين لا حدود لها. فقد عانى رؤوف وبهية معاناة شديدة وانتظرا سنين طويلة حتى أهلت عليهما ليلى أخيراً. قالت بهية وهي ترقد على سريرها في المستشفى وتوصل عينيها بعيني رؤوف: ماذا سنسميها يا رؤوف؟
قال رؤوف وهو يضغط يدها بين كفيه: نسميها باسم أعظم معشوقة لدى أجدادنا العرب. نسميها ليلى.
قالت بهية وعيناها تذوبان في وجه الطفلة: نعم يا رؤوف.. نسميها ليلى.. فهي بلا شك ستكون بجمال أمّها. وستكون أجمل من ليلى العامرية التي جُنّ قيس الملوح بحبها.
كان رؤوف وبهية السليمان مغرمين بأناقة قصرهما الفخم المطل على دجلة. وكانت غرف القصر مزدحمة بالتحف التي تخيّراها أثناء تجوالهما في البلدان. كانا يبالغان في الاعتزاز بها والحرص عليها. هكذا كان حالهما قبل أن تشرع ليلى بالزحف على الأرض.
وكان يوماً مشهوداً للأبوين يوم بدأ هذا الزحف. وكانت حركة ليلى بطيئة في البداية. كانت تتحرك لحظة ثم تتوقف لحظات مطوحة برأسها يميناً وشمالاً وكأنها تتفحص ما حواليها. وكان رؤوف يراقبها مفتوناً ثم يهتف: أنظري إليها يا بهية. إنها معجبة بالتحف بلا شك.
وكانت بهية ترد عليه ضاحكة: لا تبالغ يا رؤوف. كل الأطفال يتحركون بهذه الطريقة في بداية زحفهم.
لكن رؤوف كان مقتنعاً بأن التحف تجتذب اهتمام ليلى. وقد صدق حدسه. أخذت ليلى تتوقف أمام التحف وتحدق فيها طويلاً.
ثم أقبل اليوم الذي وقفت فيه ليلى على قدميها. وكان يوماً سعيداً احتفل به الأبوان. لكن هاجسا من القلق تسلل إليهما حينما أصبحت بعض التحف في متناول يدها. ثم وقعت الواقعة الأولى يوم ترنحت فازة رؤوف المفضلة بلمسة من ليلى ثم هوت على الأرض وتناثرت شظاياها. صرخ رؤوف جزعا: ماذا فعلت يا ليلى؟
فتجمد وجه ليلى، ثم انهلت دموع صامتة على وجنتيها. قالت بهية متجهمة الوجه: ماذا جرى لك يا رؤوف؟‍ كيف تروّع الطفلة هكذا؟
قال رؤوف معتذراً: ألا ترين ماذا حلّ بفازتي المفضلة يا بهية؟
قالت بهية: وهل فازتك المفضلة أحبُ إلى نفسك من ليلى؟
قال رؤوف: أنا آسف يا بهية.. ما كان ينبغي لي أن أفقد أعصابي.
وريّت رؤوف على رأس ليلى ملاطفاً لكن دموعها الصامتة ظلت تبلل خديها. فاحتضنتها بهية وغمرتها بالقبلات. هتفت غاضبة: اللعنة على فازتك يا رؤوف.. اللعنة على الفازات جميعاً.
ثم اندفعت نحو فازتها المفضلة وانتزعتها وخبطت بها الأرض فتطايرت أشلاؤها في كل الاتجاهات. فجّفت دموع ليلى في الحال وأشرق وجهها وتعالت ضحكاتها.
وتكررت واقعات التحف. وأيقن الأبوان أن ليلى تهوى التحف المحطمة. كانت تندفع زاحفة كالقذيفة نحو التحفة المتميّزة الجمال. ثم تنتصب على قدميها وتحاول هزها. فإذا لم تسقط تجمد وجهها وتسابقت دموعها.فيسرع الأبوان إلى عونها فتتدحرج التحفة وتتبعثر شظاياها. فتنطلق ضحكاتها السعيدة.
واحتار رؤوف وبهية ماذا يفعلان بتحفهما. فقد أخذت تتناقص يوماً بعد آخر. كان من الواضح أن هواية ليلى هي تحطيم التحف الجميلة، وأن تلك الهواية تكسبها سعادة فياضة. وكان لا بد لهما من إشباع تلك الهواية على نحو ما. وهكذا توارت التحف الغالية ونهضت في موضعها تحف مزيفة. وكان صدى ضحكات ليلى السعيدة يترافق دائماً مع تحطم التحف المزيفة.

كان يوماً مشهوداً في حياة رؤوف وبهية يوم أقبل عام ليلى الثاني. واقترح رؤوف أن تقام حفلة عيد ميلادها في القصر لتتوهج أنواره. لكن بهية أصّرت على إقامتها في أحد النوادي الكبرى. وانهمكا في إعداد قائمة المدعوين. وعانت بهية من صعوبة بالغة. فقد كان عليها أن تتذكر أسماء جميع زميلاتها المرموقات في الجامعة، وأن تحصر أسماء جميع مديرات متوسطات وثانويات العاصمة. قالت أخيراً وهي تتنفس الصعداء: ستكون الحفلة من الحفلات المشهودة في العاصمة لهذا العام يا رؤوف.
وقد كانت كذلك فعلا.

وكبرت ليلى وتنوعت نزواتها.وكانت تلك النزوات تسعد الأبوين. فحينما بدأت تفتنها الدمى لم يكن هناك حدود لرغبتها في اقتنائها.ولكنها لم تكن تحتفظ بها سوى أيام قلائل وسرعان ما تحطمها.
وافتتنت ليلى كذلك بالملابس المزركشة. وكانت مولعة بتجديدها. فضاقت بها خزانتها. وكانت بهية تضحك مسرورة وتقول لرؤوف: من شابهت أمها فما ظلمت.

عندما شارفت ليلى على الثالثة فكر الأبوان بإلحاقها بالروضة. وكان الأمر عسيراً على الأم. فقد اعتادت على اصطحابها إلى المدرسة. وكانت تشعر بالفخر وهي تشهدها تنتقل من حضن إلى حضن في غرفة المعلمات. وكانت تسأل المعلمات ضاحكة: ألا ترونها أجمل مني؟
فيرد عليها بعضهن باحتجاج: أبداً.. أبداً يا ست بهية. صحيح أنها تخبّل لكنك الأجمل.
وكانت ليلى تتفنن في اجتذاب المعلمات لكنها كانت تهفو إلى المعلمات ذوات الجمال المتميز.
بعد مناقشات طويلة استقر رأي الأبوين على إلحاق ليلى بـ"روضة الأزهار". وكانت مديرتها الست نجية من معارف الأم. قالت لها بهية: أرجوك أن ترعيها رعاية خاصة في أيامها الأولى يا ست نجية.
فقالت الست نجية: سأضعها في عيوني يا ست بهية.
وكان اليوم الأول لليلى في "الروضة" من أيام بؤسها.فللمرة الأولى في حياتها وجدت نفسها مشدودة إلى مقعد. تلفتت حواليها فرأت جميع الأطفال مشدودين إلى مقاعدهم وعيونهم معلقة على وجه المعلمة. وكان وجه الست خالدة صارماً وغير جذاب.وما أن انقضت دقائق حتى داخلها السأم. فتركت مقعدها وانطلقت تتجول في ردهة الصف متفحصة الصور المعلقة على الجدران. فأعادتها المعلمة إلى مقعدها. قالت لها بحزم: "لا تتحركي يا ليلى من مقعدك".
فتجمد وجه ليلى ثم أخذت الدموع تتسابق على خديها. لكن المعلمة لم تأبه لها.
في نهاية النهار استقبل الأبوان ليلى بلهفة. سألتها الأم: هل تونست يا ليلى؟
فبدأت دموع صامتة تسحّ على خديها. التفتت بهية إلى رؤوف وقالت منزعجة: ألم أقل لك إنها ليست مستعدة للروضة بعد يا رؤوف؟
فقال رؤوف معتذراً: لا بد لك أن تعالجي الأمر يا بهية.
وعاودت بهية زيارة الست نجية. قالت لها في تأثر: يظهر أن الست خالدة لم تهتم بوصيتك يا ست نجية فليلى عادت إلينا في أسوأ حال.
قالت الست نجية في شيء من الحرج: أنت تعلمين يا ست بهية أن اليوم الأول في "الروضة" صعب على الأطفال. لكنني سأنقلها على كل حال إلى صف الست فارعة.فالأطفال يحبونها كثيراً.
واستقبلها الأبوان في نهاية النهار في قلق. سألتها الأم: هل تونست يا ليلى؟
قالت ليلى وهي مشرقة الوجه: تونست كثيراً يا ماما. .
التفتت الأم إلى رؤوف وقد انبسط وجهها وقالت: سأحمل غداً هديتين للست نجية والست فارعة.
فقال رؤوف: نعم الفكرة.

بعد أن أنهت ليلى سنوات "الروضة" و "التمهيدي" حان ميعاد التحاقها بمدرسة ابتدائية. وبرزت معضلة لرؤوف وبهية . كان لا بد من أن تلحق بمدرسة خاصة بالطبع. وكانا يدركان أن أفضل مدرسة خاصة هي "مدرسة الراهبات".لكنهما كانا يدركان أيضاً بأن قواعدها الصارمة لن تناسب ليلى.
وصحبت بهية ليلى إلى "مدرسة الراهبات" في الباب الشرقي وهي ترتدي أجمل فساتينها. نظرت إليها المديرة باستنكار وقالت: أنت تعلمين يا ست بهية أننا نلتزم في مدرستنا بالزيّ الموحد.
قالت بهية: أرجوك يا ماسيرة أن تسمحي لها في الأيام الأولى فقط بارتداء ملابسها الاعتيادية.
قالت المديرة بحزم: لا يمكن في مدرستنا أن نخرج على النظام يا ست بهية.
وكرهت ليلى الزي الموحد بلونيه الأزرق والأبيض. وأمضى الأبوان أياماً يحاولان إقناعها بدون نجاح. ثم خطر لبهية أن تستعين بجدتها التي تحبها حباً جماً. وحضرت الجدة وتحاورت مع ليلى طويلاً حتى نجحت في إقناعها.
وتوقعت الأم أن تلقى ليلى في نهاية يومها الأول وهي في أيأس حال. ودهشت حين تلقتها عند باب المدرسة فإذا بها منطلقة الوجه باسمة الثغر. سألتها بلهفة: هل تونست يا ليلى؟
فقالت بحبور: أنا أحب هذه المدرسة كثيراً يا ماما.
في نهاية الأسبوع حملت بهية هدية ثمينة وانطلقت إلى المدرسة. قالت للمديرة: أريد أن أقدم هذه الهدية للمدرسة تعبيراً عن امتناننا لرعايتكم لابنتنا يا ماسيرة.
قالت المديرة: نحن لا نقبل هدايا يا ست بهية ولم نقم إلا بواجبنا.
وفي نفس اللحظة دخلت إحدى الماسيرات الغرفة.فقالت المديرة: هذه ماسيرة ماتلدا يا ست بهية وهي معلمة الصف الذي تداوم فيه ليلى.
فرنت إليها الأم في افتتان وقد راعها جمالها.قالت لها في امتنان: نحن عاجزون عن الشكر يا ماسيرة ماتلدا على رعايتك لليلى. فبفضلك صارت تحب المدرسة كثيراً.
فابتسمت ماتلدا ابتسامة وضيئة وقالت: لا شكر على الواجب يا أم ليلى، فليلى من أحب تلميذاتي.
توالت الأيام وليلى تشتد تعلقاً بالماسيرة ماتلدا وبمدرستها. ثم فوجئ بها الأبوان يوماً وهي تعلن لهما أنها ستصاحب صباح الأحد الماسيرة ماتلدا إلى الكنيسة. وارتاع الأبوان لذلك ارتياعاً عظيماً.ورفضا طلبها رفضاً قاطعاً. وقالا لها إن الكنيسة هي مكان تعبد المسيحيين ولا يجوز للمسلمين الحضور فيها.
وأصغت ليلى إليهما ووجهها يتجمد شيئاً فشيئاً ثم بدأت الدموع تنحدر على وجنتيها. ونهضت فجأة وتوارت في غرفتها وأقفلت عليها الباب. ورفضت أن تفتحه رغم توسلاتهما.
في صباح اليوم التالي بقي باب غرفتها مقفلاً. ووقف الأبوان بجواره يتوسلان إليها أن تفتحه. وأخيراً قالت بهية لرؤوف: لماذا لا نستنجد بجدتها يا رؤوف؟ إنها الوحيدة القادرة على إقناعها.وأنت تعلم أنها تقضي أحب أوقاتها في بيتها.
قال رؤوف: نعم الفكرة.
وحضرت الجدة وسمحت لها ليلى بالدخول. ثم خرجت بعد حين وهي متجهمة الوجه. قالت: إنها مصرّة على مصاحبة الماسيرة ماتلدا إلى الكنيسة.
فسأل الأب في حيرة: فماذا سنفعل إذن ؟
فكرت الجدة برهة ثم تساءلت: ولكن من قال إن ذهابها إلى الكنيسة يخالف ديننا؟ ولماذا لا نسأل إمام جامعنا في ذلك؟
قال رؤوف متهلل الوجه: نعم الفكرة. سأقصد الآن إمام الجامع وأستفتيه في الأمر.
وعاد رؤوف بعد حين وهو منطلق الأسارير وقال: أبشرا. الأمر ليس كما نظن. قال لي إمام الجامع أن الكنيسة هي بيت من بيوت الله وليس حراماً على المسلم الحضور فيها ما دام ذلك لن يؤثر على دينه.
وبات من المألوف أن تصحب ليلى الماسيرة ماتلدا صباح كل أحد إلى الكنيسة وهي ترتدي أجمل فساتينها.

وأمضت ليلى ثلاث سنوات في "مدرسة الراهبات" .وكانت تحظى بمكانة خاصة لدى الإدارة والمعلمات. ولم تكف طوال تلك السنوات عن زيارة الكنيسة بصحبة الماسيرة ماتلدا. ولم ينقطع أبواها عن التبرع للكنيسة.
عندما أدركت ليلى التاسعة من عمرها تغيّر نمط حياتها. فلقد عُيّن الأب سفيراً في الخارج. وأمضت ليلى بقية طفولتها وصباها تنتقل بين بلدان الغرب. ولم تخالط من الناس سوى أصحاب الحياة الرفيهة. ولم تعد إلى الوطن إلا وهي على أهبة الالتحاق بالجامعة.

قيــس

كان قيس أول ولد للأسرة وقد سبقته ثلاث أخوات. فأما الأب جابر الحسون فقد سر سروراً بالغاً. وقال: جاء أخيرا الولد الذي سيشد من أزري.
وأما الأم فتنفست الصعداء وهمست: الحمد لله… لن يسموني بعد الآن أم البنات.
وأما الأخوات فقد ابتهجن ابتهاجاً عظيماً. فقد حل في البيت أخيراً الأخ الذي ترقبنه طويلاً. واقترحت الأخت الكبرى سعدية أن يسموه قيساً فقد قرأت عنه في كتبها المدرسية كثيراً.
ومنذ اليوم الأول لقي قيس رعاية استثنائية. لم يكن الأخوات يمللن من حمله. وكن يتخاصمن على ذلك. ولم تتحول عينا الأم أيام النفاس عن مهده. وكانت تتوقع أن يحذو حذو أخواته فيلتهم ثديها.لكنه لم يفعل. كانت تدسّ الحلمة في فمه فيطوّح برأسه بقوة حتى ينتزعها. فكانت تقول لجارتها أم عمر مهمومة: بصرّيني يا أم عمر… ماذا أفعل؟ قيس لا يعجبه حليبي.
وكانت أم عمر تتأمله وهو ساكن في مهده مشرق الوجه فتهز رأسها وتقول: ابنك على أحسن صورة يا أم قيس.. صلوات على محمد.
وكان هاجس آخر يقلق الأم. فقيس لم يكن يبكي كأخواته. وعبّرت عن مخاوفها للأب. قالت له: أنت تدري يا أبو قيس أن كل بناتنا كن كثيرات البكاء. وقيس لا يبكي إلا قليلاً.
فقال الأب وهو يتمعن في وجه قيس مشغوفاً: إنه نعمة من الله يا أم قيس.
لكن هاجسها هذا ظل يراودها. وأفضت به إلى جارتها أم عمر. والتقت عينا أم عمر بعيني قيس فضحك لها. فهتفت في انبهار: سبحان الله.. إبنك يا أم قيس كامل مكمل من كله. وهو يضحك بدلاً من أن يبكي.. محصّن.
واغتاظ الأخوات من إشراك أمهم لأم عمر في هواجسها، وخشين على أخيهن من الحسد. وتداولن في الأمر. قالت سعدية: أفلا ترونها؟‍‍! إنها تكاد تأكله بعينيها.
فقالت خيرية: طبعاً فهي لم تلد ابنا جميلاً مثله.
قالت الأخت الصغرى صبيحة: قيس سيكون أحلى ولد في المحلة. والحق معها إن حسدتنا.
تساءلت سعدية: وهل نظل ساكتات حتى تصيبه بالعين؟!
قالت خيرية: وماذا نفعل إذا كانت أمّنا تشركها في كل شيء؟
قالت صبيحة : أنا عندي الحل.
تساءلت سعدية: وما هو؟
قالت صبيحة: فلنقرصه ونجعله يبكي حينما تكون أم عمر موجودة.
فصاحت بها خيرية: أسكتي يا مخبولة.. نقرص قيس ونجعله يتألم؟! والله لو فعلت ذلك لكفختك كفخة تطيّر دماغك.
وسكتت الأخوات وقد غلبهن الهم. ثم قالت سعدية في حزم: أنا لن أسمح لأم عمر أن تصيبه بالعين.
وهكذا كان. فكلما سمعت سعدية صوت أم عمر عند الباب هرعت إلى قيس وغابت به في الغرفة.ولامتها الأم فردت عليها محتجة: أفلا ترين يا أمي كيف تكاد تأكله بنظراتها؟ إنها ستصيبه بالعين.
فتسربت هواجس الأخوات إلى قلب الأم وأقرت تصرف سعدية. وكلما أبدت أم عمر رغبتها في رؤية قيس اعتذرت لها بأنه نائم.
وكبر قيس وكبر حب الجميع له. ولم يكن جسده يمس الأرض في الأشهر الثمانية الأولى. كان يتنقل بين أذرع الأم والأخوات. لكنه أصر في شهره التاسع على أن يزحف على الأرض. وكان يزحف بحركة متأنية ثم يجلس قبالة الأم أو أي من الأخوات المنهمكات في عملهن ويراقبهن في اهتمام.

حينما بلغ قيس الخامسة أعلن الأب أنه سيصطحبه معه إلى الدكان. وكان قيس طوال سنواته الخمس يلازم الدار ويرفض اللعب في الطريق. وكان كثيراً ما يؤدي الخدمات الصغيرة للأم والأخوات. وتلقت الأم والأخوات قرار الأب في جزع عظيم. قال الأب وهم مجتمعون على مائدة العشاء: حان الوقت لأن يصحبني قيس إلى الدكان قبل أن تأخذه منّا المدرسة.
فهتفت سعدية في ارتياع: لكننا تعوّدنا على وجوده معنا يا أبي. فكيف تريد أن تحرمنا منه؟
وقالت الأم وقد تعكّر وجهها: إنه ما يزال صغيراً على الدكان يا أبو قيس.
فقال الأب: وهل قلت أنني سأشركه في عملي؟ كل ما أريده هو أن أشبع منه.
قالت خيرية في حزن شديد: منذ غد سيكون بيتنا خالياً.
وقالت الأم وهي تهز رأسها مكتئبة: صدقت يا خيرية فقيس يملأ علينا البيت.
أما صبيحة فتعلقت عيناها بوجه قيس وا لدموع تسحّ على وجنتيها.
وكان قيس ينقل عينيه بين المتكلمين صامتاً. والتفت إليه الأب وسأله: ألا تحب أن تأتي معي إلى الدكان يا قيس؟
فهتف قيس مبتهجاً: نعم يا بابا. فأنا أريد أن أعاونك.
فضحك الأب ضحكة عالية وانحنى عليه يقبله في شغف.
في الصباح التالي عكف الأخوات على قيس يلبسنه أجمل ملابسه. وقال الأب متضاحكاً: ما هذا؟ هل هو ذاهب إلى عرس؟‍!
وقالت الأم: لا تسمح له أن يمسك مسمارا أو شاكوشا يا أبو قيس لئلا يؤذي نفسه.
وقرأت الأم والأخوات آية الكرسي وهن يراقبنه يغادر الدار بصحبة أبيه.
وكان يوماً استثنائياً للأب. كان يبدو عليه أن الحظ قد أنعم عليه بجائزة كبرى. فقد كان طوال الوقت منطلق الأسارير وابتسامة عريضة ترفرف على ثغره. واحتفل أهل السوق بقيس احتفالاً حميماً. فبادر أبو محمود بإحضار قدح شربت له وقدّم أبو جاسم له حفنة من "الجكليت". ومر بائع السمسمية فناداه أبو سليمان واشترى له قطعة كبيرة. فكان فم قيس مشغولاً طوال الوقت. لكن أنظاره لم تتحول عن أبيه. ولاحظ أنه يواجه صعوبة في تثبيت المسامير في منضدة متقلقلة فقفز نحوه وأسند جسده الصغير إليها. فهتف الأب مذعوراً: إرجع إلى كرسيك يا قيس.
لكن قيس ظل يسند ظهره إلى المنضدة.وقال: أريد أن أعاونك يا بابا.
وانتبه أبو محمود لصراخ الأب المفزوع فرأى قيساً وهو يجاهد لإسناد المنضدة. فقال وهو يبتسم ابتسامة رحيبة: دعه يا أبو قيس" ...دعه. لا تنهر الطفل.
ومنذ ذلك اليوم ألف أهل السوق أن يروا قيساً بجوار أبيه وهو ممسك بحفنة من المسامير أو بإحدى أدوات النجارة البسيطة.ولم يعد محبوب أبيه فحسب بل محبوب أهل السوق جميعاً.

وأدرك قيس السادسة من عمره فحان ميعاد التحاقه بمدرسة "باب الشيخ الابتدائية" . وكان ذلك الميعاد يثير في قلب الأب مزيجاً من مشاعر الابتهاج والحزن.فقد افترض أن تحرمه المدرسة من تواجد قيس في الدكان. لكنه فوجئ به عصر اليوم الأول يظهر أمامه برفقة سعدية. قالت سعدية: قيس أصر يا أبي على أن يأتي إلى الدكان.
هتف الأب وقد استخفه الفرح: لكنك الآن تلميذ يا قيس.
فقال قيس: ومن سيعاونك يا بابا؟
فاحتضنه الأب بقوة وغمر وجهه بالقبلات وقد اغرورقت عيناه بالدمع.

حينما انتهى قيس إلى الصف السادس واجه أزمة هددت علاقته بالدكان. وكان قد أثبت تفوقه في كرة السلة. فأيقن معلم الرياضة أنه ضالته المنشودة لفريق المدرسة. وعبثاً حاول إقناعه بالانضمام للفريق. وأخيراً لجأ إلى مدير المدرسة.قال قيس للمدير وهو يحاوره: أنا أعاون أبي في الدكان يا سيدي ولا وقت عندي للرياضة.
فخطر للمدير أن يتوجه للأب مباشرة. وزاره في دكانه وحدثه عن أهمية قيس للمدرسة وضرورة انضمامه لفريق الرياضة. فامتلأ الأب زهوا ووافق في الحال.وعاد الأب إلى المنزل مساءً وهو يكاد يطير فرحاً. وأنبأ الأسرة بزيارة المدير واعتزازه بقيس فضج البيت بالزغاريد. وهكذا حُرم الدكان من قيس. ولم يعد باستطاعته الحضور إلا في أيام الجُمع.

بعد أن أنهى قيس الدراسة الإبتدائية والتحق " بمتوسطة الغربية للبنين" أزمع الابتعاد عن كرة السلة والانصراف إلى الدراسة ومعاونة أبيه. ووجد زملاءه ينقسمون إلى فئتين هما فئة أبناء الذوات وفئة أبناء الكادحين. فنأى بنفسه عن الفئتين. وعُرف بتفوقه في الدراسة وبدماثة خلقه. وكان الأستاذ هادي مدرس الاجتماعيات من المعجبين بتفوقه وخلقه. وكان راديكالياً متحمساً، وكان يهاجم الأغنياء دائماً ويلقبهم بمصاصي دماء الفقراء. وكانت أفكاره تخلف في نفس قيس صدى عميقاً. وبينما كان الأستاذ هادي ذات يوم مسترسلاً في مهاجمة الأغنياء قاطعه نامق العبد لله، وهو من التلاميذ المشاكسين قائلاً: الأغنياء هم الطبقة المهمة في المجتمع يا أستاذ مهما قلت عنهم.
فرد عليه الأستاذ هادي ساخراً: إذا كان الأغنياء على شاكلتك فلا خير فيهم .
فضج الصف بالضحك. وبعد أيام شاع بين التلاميذ أن الأستاذ هادي نقل إلى مدرسة أخرى. وأدّعى نامق أنه المسؤول عن نقله . وراح يتحدث عنه بعبارات مهينة.فتصدى له قيس قائلاً: لا داعي لإهانة الأستاذ هادي يا نامق.
فنظر إليه نامق باستهانة وقال: وما شأنك أنت؟
فقال قيس: إنه أستاذي وأنا أحترمه وأجلّه.
فقال نامق: لا عجب في ذلك، فأنت تنتمي للطبقة الواطئة التي يدافع عنها. ألست ابن نجار في باب الشيخ؟
فقال قيس: أبناء الطبقة الواطئة الفقيرة هم أشرف منكم أنتم الأغنياء مصاصي دماء الفقراء فهم يكسبون عيشهم بعرق جبينهم، وأنا أفتخر بأنني ابن نجار.
فقال نامق في احتقار: الحق معك إن افتخرت بأبيك النجار فأنت تربيت في أوحال باب الشيخ.
فانقض عليه قيس وأخذ بخناقة. وقامت بينهما معركة حامية خرج منها قيس منتصراً.
واجتمعت لجنة انضباط المدرسة برئاسة المدير. ومع أن الشهود أجمعوا على أن نامق كان المتسبب في المعركة، لكنها أوقعت على قيس عقوبة الفصل لمدة أسبوع. وقيل إن المدير وقف إلى جانب نامق.
كانت تلك المعركة نقطة تحول في توجهات قيس. فقد صمَّم على أن يحتل مكانة مرموقة في الصف تتفوق على مكانة أبناء الذوات. وبدا له أن يستثمر موهبته في كرة السلة لتحقيق مآربه. وفي أول فرصة اشترك في مسابقة لصفوف المدرسة في كرة السلة. وذهل مدرس الرياضة وهو يراقب لعبه . واقتنع بأنه عثر على لاعب سيحقق لمدرسته الفوز على مدارس العاصمة.وبدأ مفاوضات طويلة معه للانضمام إلى فريق المدرسة لكن قيس رفض بإصرار، وبرر رفضه بحاجة أبيه إليه في الدكان. وكان قد أضمر أن يكون ثمن موافقته توسط المدير بنفسه لدى أبيه. وبعد ضغوط شاقة لمدرس الرياضة على المدير أدرك قيس بغيته ونجحت وساطة المدير . ثم صار قيس نجم الصف والمدرسة بما كسبه من انتصارات لفريقه على صعيد متوسطات العاصمة كلها.

عندما انتقل قيس إلى "الثانوية المركزية" كانت سمعته كبطل من أبطال كرة السلة قد سبقته. ومنذ الأسبوع الأول أُنيطت به رئاسة فريق المدرسة. وهيأت له هذه الرئاسة أن يتبوأ موقعاً متميزاً وأن يكون من أبرز تلامذة "الثانوية المركزية" .وكان يعاني في البداية من تأنيب الضمير لأنه لم يعد قادراً على معاونة أبيه. فقد كانت التدريبات تستغرق كل أوقات فراغه. وكانت الأنباء تبلغ مسامع الأب عن مكانته العالية في المدرسة لتفوقه في كرة السلة.فكان يرفض رفضاً قاطعاً معاونته. واقتنع قيس في النهاية بأن أسرته سعيدة بما يحرز من انتصارات في الرياضة. فاطمأن قلبه ولم يعد أمر الدكان يشغله.
وكان صعود نجم قيس في المدرسة مدعاة لاجتذاب زملائه إليه. وسرعان ما وجد نفسه محاطاً بالأصدقاء، لكنه تجنب الاختلاط بأبناء الذوات. وكان أحدهم ،وهو شوكت العادلي، دائم التقرب إليه. لكنه فشل في كسب صداقته. ويوماً قال له: لماذا ترفض صداقتي يا قيس؟
فأجابه: أبداً.. كل ما هنالك أنني مشغول دائما ً.ووقت فراغي موزع بين التدريبات والعمل في دكان أبي.
فرمقه شوكت بإعجاب وهتف: أحقاً ما تقول يا قيس؟ أأنت تساعد أباك في دكانه؟
فقال قيس في تحد: وماذا في ذلك؟ أهو أمر مثير للاستغراب؟
قال شوكت: بالعكس يا قيس. إنه أمر يثير إكباري وإعجابي الشديدين بك.
قال قيس مدهشا: أحقاً ما تقول؟
قال شوكت: بالطبع.وهل هناك أنبل من العمل وكسب الرزق الحلال بالجهد والعرق؟ إن أمثال هؤلاء الناس هم الذين يستحقون الاحترام والتقدير يا قيس لا أولئك الذين يسرقون جهد الآخرين ويعيشون في رفاه ورغد.
منذ ذلك اليوم توطدت أواصر الصداقة بين قيس و شوكت، وصار شوكت أحب أصدقائه إليه.ومع أن شوكت كان معروفاً بنشاطه السياسي، وكثيراً ما اشترك في مظاهرات ضد الحكومة، غير أنه تجنب الخوض مع قيس في السياسة. لكنه فاجأه ذات يوم قائلاً: غداً ستخرج مظاهرة ضد الحكومة يا قيس احتجاجاً على مواقفها المتعسفة من قضايا الشعب وسيشترك فيها عدد كبير من زملائنا. فما رأيك في أن تنضم إلينا؟
فقال قيس وهو يضحك: أنت تعلم يا شوكت أنني لا شأن لي بالسياسة. فأنا "طوبجي" ونشاطاتي كلها منحصرة في كرة السلة.
فقال شوكت: لكن أمثالك لهم أهمية كبيرة في السياسة يا قيس. فأنت أحد نجوم المدرسة البارزين والكثيرون من زملائنا معجبون بك. وإن اشتراكك في المظاهرة سيجتذب إليها عدداً أكبر من زملائنا.
ودار حوار طويل بينهما اقتنع قيس في نهايته بوجهة نظر شوكت. وكانت مظاهرة عاصفة سقط فيها عدد من القتلى من العمال والطلاب. واعتقل عدد كبير من المشاركين فيها كان من بينهم قيس وشوكت. وتلقت عائلة قيس نبأ اعتقاله بجزع عظيم. وقامت مناحة في البيت. واستبد بالأب حزن شديد، فكان يجلس طيلة النهار في دكانه وهو ذاهل شارد الأنظار. وعجز جيرانه في السوق عن مواساته.كان يرد عليهم وهو يهز رأسه : "عوضي على الله في قيس".
وانقضت أسابيع ثم فوجئ الأب يوماً بفتى يلقي عليه التحية. قال له: أنا شوكت العادلي يا عمي زميل قيس وصديقه.
فرد عليه وهو يرميه بنظراته الذاهلة: عوضي على الله في قيس يا بني.
قال شوكت: اطمئن يا عمي. سيطلق سراح قيس خلال أيام.
وأطلق سراح قيس بتدخل من والد شوكت الواسع النفوذ. وضج منزل الأسرة بالزغاريد. ونحر خروف أمام باب المنزل ووزع لحمه على الجيران.
عندما أدرك قيس ما سببه اعتقاله من أذى لأسرته عصف به تأنيب الضمير. قال وهو يتطلع إليهم بكدر وهم محيطون به: ما أشد أسفي لما سببته لكم من عكننة".
فقالت سعدية في احتجاج: أتسمي ما حدث لنا "عكننة" يا قيس؟! أنت ملأت بيتنا حزنا0 ح.
وقال الأب بأسى: أمك يا قيس لم تكن تغمض عيناها خلال الليل إلا ساعات قليلة.
فالتفتت إليه الأم وقالت محتجة: وهل كنت أنت تنام يا أبو قيس؟ كنت تتظاهر بالنوم لكنني كنت أعلم أنك صاح. وكان صدرك يضيق بأنفاسك.
وقالت خيرية: أما نحن يا قيس فكنا ندخل في مناحة كل ليلة قبل أ ن ننام.
قال قيس وهو يهز رأسه بحزن: لا أدري كيف أعتذر لكم عما سببته لكم من أحزان.
فنظر إليه الأب طويلاً ثم قال: إذا كنت تريد أن تعوّضنا عما أصابنا من أحزان يا قيس ففي إمكانك ذلك.
فقال قيس: أنا حاضر لأن أفعل أي شيء من أجلكم يا أبي.
فنهض الأب واختفى في الغرفة. ثم عاد يحمل قرآناً. قال وهو يناوله القرآن: اقسم لنا يا قيس على كتاب الله أنك لن تقرب السياسة بعد اليوم أبداً.
وتنقلت عينا قيس بين وجوه أفراد عائلته الذين تعلقت عيونهم بشفتيه وهي تنطق بضراعة موجعة. وأدرك أنه على وشك أن يتخذ قراراً قد يندم عليه طوال عمره. ثم امتدت يده إلى القرآن وأقسم لهم على ذلك.



الفصـل الثاني









اللقــــاء




كانت حياة كل من ليلى وقيس قد جرت بصورة اعتيادية في السنوات الثلاث لهما في الجامعة. ولم تتخللها أحداث ذات بال حتى ا لتقيا.
لــيلى
وكانت ليلى قد التحقت بقسم اللغة الانجليزية في كلية الآداب. وفي البدء حاصرتها خيبة أمل عظيمة. فلم يكن أي من زملائها يستحق أن تستقر عيناها على وجهه. ولم ينل غالبية زميلاتها رضاها شكلاً ومضموناً. وكانت أسابيعها الأولى شاقة جداً. وكان الملل يفترسها. وكانت ترفض جميع مظاهر الحياة من حولها. ولازمت مقعدها الدراسي طوال الوقت. واعتقد الجميع أنها متكبرة ومتعالية.
وكانت الزميلات قد توزعن في مجموعات متعددة.وكانت إحدى تلك المجموعات تشتمل على ثلاث تميزن بالجمال والرفاهية. وقد أطلق الطلاب عليهن لقب "مجموعة الهاي لايف".وأقرت ليلى أن تلك المجموعة مرشحة لصداقتها. وأقرت "المجموعة" أيضاً أن ليلى جديرة بأن تنضم إليها. واختارت لذلك مناسبة عيد ميلاد شهلاء. واستجابت ليلى للدعوة التي تلقتها من شهلاء. وهكذا أصبحت العضو الرابعة في "المجموعة". ثم احتلت مكان الصدارة فيها. وقد تميزت على العضوات الأخريات ببدلاتها المتجددة وبأناقتها المفرطة.
وكان السأم يأسر "مجموعة الهاي لايف" في فترات الاستراحة بين المحاضرات. ثم اكتشفن مرسم الكلية فتبدد سأمهن. وأخذن يمضين كل وقت فراغهن فيه. وشجعهن على ذلك ترحيب أستاذ المرسم كامل المفتي. وقد رسم في الأسبوع الأول "بورتريت" لليلى كانت مثار الإعجاب.وهكذا اكتسبت "المجموعة" لقباً جديداً هو "فنانات الهاي لايف".وطوال سنوات الجامعة ظلت "مجموعة الهاي لايف" ملتصقات ببعضهن حتى أثناء الإجازة الصيفية. وكانت لهن حياتهن الخاصة التي تتوزع بين الحفلات في بيوتهن الفخمة والسهرات مع الأهل في النوادي. ولم تقم علاقة عاطفية بين أية واحدة منهن وأي من زملائها. وقد حاول بعض زملائهن ذلك ففشلوا. وعاشت "المجموعة" عموماً كجزيرة منعزلة.











قـيس
وكان قيس قد التحق بكلية الهندسة- قسم الميكانيك. وكان يخطط للانتفاع من علمه في تطوير دكان أبيه. وكان يلزم الدكان أيام الجمع والإجازات.
ومنذ بدء العام الدراسي الأول انتسب لفريق كرة السلة واحتل مكان الصدارة. وبالرغم من أنه اجتذب اهتمام بعض زميلاته بتميزه في مباريات الكلية وبوسامته اللافتة للنظر لكنه لم يستجب لأية واحدة منهن. وظلت إحدى زميلاته في السنة الثانية هالة عبدالعزيز، التي كانت متميزة بجمالها ورفاهيتها تطارده بإلحاح. واستطاعت بعد جهد أن تنفرد به في نادي الكلية. قالت له: لماذا تصر يا قيس على رفض حبي؟ هل تراني دون طموحاتك؟
فقال قيس في لطف: أنت تعلمين يا آنسة هالة أنك هدف طموحات أي زميل من زملائنا. فما بالك بشخص مثلي ينتمي لعائلة متواضعة؟
قالت هالة: لا تقل ذلك يا قيس. فأنا لا تهمني هذه الفروق وإلا ما أحببتك.
قال قيس: أرجوك أن تعلمي يا آنسة هالة أنني مقدر لك عواطفك. لكنني شخص مستقيم ولا يمكنني أن أضللك. فالمفروض أن تنتهي العلاقة بيننا في مفهومي إلى الزواج. وظروفي لا تسمح لي بذلك.
قالت هالة: لكنني مستعدة لانتظارك يا قيس.
قال قيس: يا آنسة هالة... إن ظروفي لا تسمح لي بالتفكير في الزواج ولغاية سنين عديدة بعد التخرج. ثم أنني مصمم على ألا أربط حياتي إلا بإمرأة من مستواي. وهذا رأيي ولن أحيد عنه. ولا أريدك أن تتمادي في عواطفك تجاهي فهو ظلم لأنني مقتنع قناعة تامة بأنني لا أصلح لواحدة مثلك. وهذا آخر كلام عندي.
إثر ذلك اللقاء غابت هالة عن الكلية. ولم تفكر بعد ذلك أية زميلة أخرى بتجربة عاطفية معه.
ولقد وفى قيس طوال سنواته في الكلية بوعده لعائلته فنأى بنفسه عن السياسة بالرغم من انغماس الكثيرين من زملائه فيها.ولم يشترك في الانتفاضات الشعبية التي كانت تندلع ضد الحكومة بين الحين والحين والتي كان لحمتها وسداها العمال والطلاب. وكان ابتعاده عن السياسة يخلف وخزاً أليماً في قلبه.


ليـلى وقيس
في السنة الأخيرة من الجامعة التفت ليلى بقيس. وتم اللقاء بينهما يوم قامت مباراة في كرة السلة بين كلية الآداب وكلية الهندسة. وقد تأهبت كل كلية لهزيمة الأخرى فحشدت كل إمكاناتها لذلك.
واختار أستاد الرياضة في كلية الآداب حشداً من المشجعين كان من بينه "مجموعة الهاي لايف".وراقبت ليلى المباراة في فتور. وكانت تتلفت حواليها متعجبة من حماس الحاضرين. وأثبت قيس أنه بطل المباراة بلا منازع. وحصد لفريقه أكبر عدد من الأهداف. فكان ينال أكبر قدر من التصفيق. وشيئاً فشيئاً لفت قيس انتباه ليلى. وشيئاً فشيئاً تعاظم انجذاب ليلى إليه وهي تتأمل قامته السمهرية ووجهه البالغ الوسامة. وانبرت تصفق له بحماس كلما حقق هدفاً لفريقه. فالتفتت إليها رواء أخيراً وقالت محتجة: ما هذا يا ليلى؟ هل حضرنا لنشجع فريقنا أم فريق كلية الهندسة؟
فقالت ليلى: كيف لا يدهشك براعة هذا اللاعب يا رواء؟ إنه يستحق التشجيع أكان من فريقنا أم من فريق كلية الهندسة.
حينما انتهت المباراة بفوز فريق كلية الهندسة ارتسمت خيبة الأمل على وجوه "مجموعة الهاي لايف" إلا ليلى. فقد بدا وجهها متألقاً وعيناها لامعتان.وفجأة انطلقت كالسهم واخترقت الحشد الذي أحاط بقيس. قالت له وهي تمد يدها مصافحة: أهنئوك.. كنت رائعاً.
وحدق كل منهما في عيني الآخر.


ليلى
مناجاة
أعتقد أنني عثرت على ضالتي المنشودة أخيراً. نعم.. أنا واثقة من ذلك. لقد خفق قلبي وأنا أحدق في عينيه خفقاناً لم أعهد له مثيلاً. فهل هذا ما يسمونه الحب من أول نظرة؟!













قيس
مناجاة
ماذا أصابني حينما التقت عيناي بعينيها؟! لماذا ارتعش جسدي من قمة رأسي إلى أخمص قدمي؟ وحينما لامست كفي كفها خيّل إليّ أن ناراً اندلعت فيه! هل يعقل ما جرى لي تلك اللحظة وما أشعر به الآن؟!












لــيلى
أصبحت ليلى من هواة كرة ا لسلة تتسقط أخبارها بحماس. واستأثرت مباريات فريق كلية الهندسة بكل اهتماماتها. ورسخت قناعتها يوماً بعد يوم أنها أحبت قيساً من أول نظرة وأنه رجلها.
حين حدثت "مجموعة الهاي لايف" بأمرها أثار ذلك احتجاجهن أولاً ثم سلمن بالأمر الواقع. وتعهدت لها رواء باستقصاء خصوصيات قيس عن طريق ابنة عمتها لبنى الطالبة في كلية الهندسة.
ويوماً حملت رواء إليها أخباره. قالت وهن ينتبذن ركناً منعزلاً من حديقة الكلية: معلوماتي عن قيس غير مشجعة يا ليلى. وهي تقتضيك صرف النظر عنه.
تساءلت ليلى بانزعاج: لماذا؟ ماذا يعيبه؟
قالت رواء: إنه ليس من ثوبك فهو ابن نجار في باب الشيخ.
أطرقت ليلى دقائق وهي ممتقعة الوجه ثم قالت ببطء: وماذا في ذلك؟ الفقر ليس عيباً.
قالت سندس: هذا تطور جديد في أفكارك يا ليلى.
فقالت ليلى بلهجتها البطيئة: يمكن للمرء أن يقهر فقره بجده. والفقر ليس صفة لازمة.
وظلت صامتة برهة وهي مطرقة ثم تساءلت: أهذا كل ما عندك يا رواء؟
قالت رواء: لا.. فكل أخباره غير مشجعة. فهو لم يستجب لأية زميلة من زميلاته بالرغم من محاولات بعضهن.
قالت شهلاء: لعله يخطط لغزو قلب واحدة غنية تنتشله من فقره.
قالت رواء: لا أظن ذلك يا شهلاء. فقد أحبته إحدى زميلاته من أسرة ثرية وبذلت المستحيل معه ففشلت.
قالت سندس وهي تضحك: مالك ووجع الرأس يا ليلى؟
قالت ليلى وهي صارمة الوجه: اسمعي يا سندس.. واسمعوا كلكم يا بنات. إنه الرجل الذي أخترته وهو قدري.
وهكذا تعاملت ليلى مع قيس. وبدأت محاولاتها المضنية للاستجابة لقدرها. ولم تكن تتغيب عن حضور مباراة لقيس مهما تكن ظروفها. وكانت تلفت الأنظار بحماسها المتدفق وتصفيقها الحاركلما حقق قيس هدفاً لفريقه. وكانت تندفع نحوه كالصاروخ في نهاية المباراة وتظل تهز يده في حمية. لكن عواطفها الجياشة لم تزد قيس إلا تحفظاً.
في صباح جمعة فوجئ قيس بليلى وهي تلقي عليهم التحية.وللحظة عصف به ارتباك شديد لكنه تمالك نفسه سريعاً. وعكف على الكرسي الوحيد في الدكان ينفض عنه الغبار ثم قال بأدب: تفضلي يا آنسة.
تمتم الأب وهو يرنو إليها مدهشا: شرفتينا يا "خاتون".
رنت ليلى إلى قيس طويلاً وقد حشدت في نظراتها كل عواطفها فغض من طرفه.قالت: أريد أن أوصي عندكم على شمّاعة أعلق عليها أغلى ما عندي من أشياء.
قال قيس وهو يتجنبها بأنظاره: مع الأسف يا آنسة.. لا يمكننا الاستجابة لطلبك.
قال الأب متردداً: لكننا نصنع أحياناً مثل هذه الشماعات يا قيس.
قال قيس بلهجة حاسمة: لا يا أبي. ليس بمقدرتنا الاستجابة لطلب الآنسة.
قالت ليلى وهي تسمر عينيها على وجه قيس: لماذا ترفض طلبي ياقيس؟
لبث قيس صامتاً لحظات وهو يتجنبها بعينيه ثم قال: أرجوك يا آنسة أن تقدري ظروفنا المتواضعة، فلا يمكننا الاستجابة لطلبك.
تأملته ليلى طويلاً وهي غائمة الوجه ثم نهضت صامتة وغادرت المكان.












قيـس
منـاجاة
لماذا لا ترحمينني يا ليلى وتتركينني لحالي؟ إنني أتعذب يا ليلى.. أتعذب عذاباً عظيماً. إنني أقاوم حبك بطاقة تكاد تفوق طاقة البشر.
لقد أحببتك من أول نظرة.. هذا أمر لم أعد أشك فيه. أحببتك منذ وضعت كفك في كفي. منذ ذلك اليوم وصورتك تراود خيالي ليل نهار. وحينما لاحظت أنك تحرصين على حضور كل مبارياتي وأنك أشد المشاهدين حماساً لي أدركت أنك لست مجرد هاوية لكرة السلة. ثم كشفت لي تحرياتي أنك لست من هواة كرة السلة أصلاً ولا من هواة أي نوع من أنواع الرياضة. وعرفت ويا لحزني الشديد أنك من أسرة ثرية مرموقة وأن أباك قد تقلد مناصب دبلوماسية عالية وأنك أمضيت معظم حياتك متنقلة بين عواصم العالم. فأين أنا منك؟ أين منك اين نجار بسيط أمضى طول عمره في أوحال باب الشيخ كما قال له يوماً زميل من زملائه في المدرسة المتوسطة؟ وقد زادني ذلك إيماناً يا ليلى بأننا لا يمكن أن نلتقي مثلما لا يمكن أن يلتقي الشرق والغرب كما يقول المثل.كيف لي أن أتخلى عن القناعات التي تراكمت لديّ عبر سني طفولتي وصباي وشبابي؟
أرجوك يا ليلى.. ارحميني مما أكابده من عذاب!



ليـلى
لم يزد ليلى فشلها مع قيس إلا عناداً وإصراراً. وحكت لصديقاتها عن زيارتها لقيس في دكان أبيه وهن يجتمعن حول مائدة منعزلة في النادي. وكان حديثها يتسم بمرارة لاذعة. قالت لها رواء برفق: لماذا لا تصرفين النظر عنه يا ليلى؟ لقد جربت حظك معه وصغّرت نفسك في عينيه بما فيه الكفاية.
قالت ليلى وعيناها تتوقدان: لست أنا التي تهزم يا رواء. وأنا متأكدة أنه يحبني كما أحبه.
فقالت شهلاء: وإلى متى تظلين تقاسين يا ليلى؟
وقالت سندس: فعلاً. أنت لم تعودي تضحكين يا ليلى.
قالت ليلى بمرارة: أنا أتعذب فعلاً. هذه هي المرة الأولى في حياتي التي لا أنال فيها ما أريد.
وسكتت الصديقات وهن حزينات. ثم قالت شهلاء: لماذا لا توسّطي بينكما شخصاً آخر يا ليلى؟
فقالت ليلى بمرارة: ومن يمكن أن أوسّطه في مثل هذه القضية؟ لا أحد يعلم بحالي غيركن. ولا يمكن أن أهين نفسي أكثر مما فعلت.
فقالت شهلاء: أنا عندي الحل.
قالت ليلى: أنجديني به يا شهلاء.
قالت شهلاء: أرى أن توسطين الأستاذ كامل بينكما.
قالت ليلى باستنكار: الأستاذ كامل؟؟ لا..لا. لا يمكن أن أفضح نفسي أمامه.
قالت سندس: لا تنسي يا ليلى أنه يعاملنا معاملة الأب ولنا معزّة خاصة في قلبه.
وقالت رواء: وهو بالطبع شخصية محترمة في جميع الأوساط. فهو رسام مشهور ولا شك أن قيساً يعرف ذلك.
ظلت ليلى صامتة وهي خافضة الرأس. ثم قالت مقهورة: إذا كنتن ترين ذلك فسأفاتحه بالأمر.
وانتهزت ليلى أول فرصة للانفراد بالأستاذ كامل في المرسم وحدثته عن مشكلتها. فظل الأستاذ كامل دقائق صامتاً بعد أن فرغت من حكايتها. ثم قال أخيراً وهو يرمقها في إشفاق: ألا يمكن أن تنسي الأمر كله يا ليلى؟
فتساءلت ليلى باستنكار: ولماذا أنساه يا أستاذ كامل؟
فقال الأستاذ كامل: لأنني لا أريدك أن تتعذبي.
تساءلت ليلى: ولماذا تقول ذلك يا أستاذ كامل؟
قال الأستاذ كامل برفق: لأنني أخشى يا ليلى أن يقودك حبك إلى نفق مظلم.
قالت ليلى في خيبة: لست أفهم معنى قولك هذا يا أستاذ كامل.
قال الأستاذ كامل: أعني أنه ربما أمكنك التغلب على عاطفتك هذه فتريحين نفسك من متاعب أنت في غنى عنها. فمن الواضح أن ظروف قيس لا تسمح له بالاستجابة لعاطفتك".
قالت ليلى بتصميم: إعلم يا أستاذ كامل أن قيساً هو قدري ولا يمكنني التخلي عنه.
فكر الأستاذ كامل لحظة ثم سألها وهو يسمر أنظاره على وجهها: أنت تدركين ولا شك ما بينكما من فوارق اجتماعية يا ليلى. فهل أنت مستعدة لتحمل ما يترتب على ذلك من نتائج؟!
قالت ليلى وهي تهز رأسها بقوة: الحب لا يعترف بأمثال هذه الفوارق يا أستاذ كامل وأنا مستعدة لتجاوز كل الصعوبات.
قال الأستاذ كامل وهو يبتسم في استسلام: مع أن قولك هذا قول رومانسي يا ليلى وكثيراً ما أثبت فشله في الحياة العملية لكن من الواضح أنك قد اتخذت قرارك. وأنا حاضر لأبذل كل جهدي لمعاونتك.
قالت ليلى بحرارة وهي ترمقه بامتنان: شكراً جزيلاً يا أستاذ كامل.. أنت بمثابة أبي.









قـيس
زار الأستاذ كامل كلية الهندسة والتقى بقيس وضرب معه موعداً في "قهوة عرب". قال الأستاذ كامل: سأدخل في الموضوع مباشرة يا أخ قيس. أنا مبعوث من قبل ليلى رؤوف السليمان الطالبة في السنة النهائية من قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب،وهي إحدى طالباتي المفضلات في المرسم. وهي تتميز بأخلاق قويمة منذ عرفتها في سنتها الأولى. وقد حدثتني عنك كثيراً.
أصغى قيس وقد بدا التأثر على وجهه ثم تساءل: وبماذا تحدثت عني يا أستاذ كامل؟
قال الأستاذ كامل: حدثتني بأنها أحبتك وأنها تعتبرك رجلها.
فأطرق قيس صامتاً. قال الأستاذ كامل: أصدقني القول يا قيس.. هل تبادلها عواطفها؟
فهمس قيس بصوت مرتجف قليلاً: أنا أيضاً أحبها يا أستاذ كامل.
فقال الأستاذ كامل: ما دام الأمر كذلك فلماذا تتهرب منها وهي مطمح أي شاب؟
فلبث قيس صامتاً لحظات ثم تساءل وهو خافض الطرف: هل تعرف ظروفي يا أستاذ كامل؟
قال الأستاذ كامل: كل ما عرفته عنك أن عائلتك متواضعة وأن أباك يعمل نجاراً بسيطاً في باب الشيخ.
قال قيس: فلا بد أنك إذن تدرك سبب تهربي منها. فهي من أسرة غنية مرموقة وأنا من أسرة فقيرة متواضعة.ولا أريد أن أجلب الشقاء لنفسي ولعائلتي.
قال الأستاذ كامل: ومن قال إن أبناء الأسر الفقيرة هم دون أبناء الأسر الغنية؟ أنا نفسي من أسرة فقيرة وأظنك تعلم أنني احتللت موقعاً مرموقاً في المجتمع بجهودي. وأنت لاعب كرة ممتاز ولا شك أنك ستكون مهندساً ناجحاً. فلماذا تستصغر نفسك؟
فقال قيس: ليست المسألة مسألة استصغار لنفسي يا أستاذ كامل. فأنا أعتقد أن الفقراء أشرف من الأغنياء. فهم لا يستغلّون أحداً. لكنني أعتقد أنه من الصعب ردم الفجوة بينهما. فهل ترى وأنت صاحب تجارب غنية أن من الخير لي أن أطرح مخاوفي هذه وأستسلم لعواطفي؟
قال الأستاذ كامل: أصارحك يا قيس بأن تجاربي دلتني على أنه ليس هناك شيء مضمون في الحياة. والحياة ليست معادلة رياضية. لكنني أعتقد أيضاً أن حياة الشخص قد تقررها أحياناً فرص سانحة، فإن أضاعها أضاع ما يمكن أن يحدث تغييراً جوهرياً في حياته. وأرى أن هذه فرصة باهرة تعترض حياتك. ومن الخطأ إفلاتها بسبب أفكار واعتقادات مسبقة.أنت تحبها وهي تحبك وهذا هو الأمر المهم.وقد تكون هذه أعظم فرصة لك في الحياة فاغتنمها.
فكر قيس برهة وهو شارد النظر ثم قال: وهو كذلك يا أستاذ كامل.




ليلى وقيس
التقت ليلى بقيس عصر اليوم التالي في إحدى كازينات شارع أبي نواس المنعزلة. وكانت تبدو في أقصى حالات الابتهاج. وكانت ترتدي ثوباً بسيطاً رخيص الثمن اشترته خصيصاً لهذه المناسبة. أما قيس فكان يعاني توتراً واضحاً.قالت له ليلى وهي تسمر عينيها في وجهه:أنت تحبني يا قيس كما أحبك فلا داعي للمناورة والمداورة.وإنني أشعر كأنني أعرفك منذ زمن بعيد.وسأتحدث معك على هذا الأساس. وأريد أن أسألك سؤالاً خاصاً وأتوقع منك جواباً صريحاً.
قال قيس وهو يبتسم: اسألي يا ليلى وأعدك أن أجيبك بصراحة.
تساءلت ليلى :متى أحببتني؟
قال قيس وهو يبتسم: هذا سر لن أبوح لك به.
قالت ليلى وهي تحدق في وجهه: فإذن أنا سأجيب عنك.أنت أحببتني منذ التقت عينانا لأول مرة .فقد شعرت أن تياراً كهربائياً أنطلق في نفس اللحظة ووصل قلبي بقلبك. وأظنني صادقة في حدسي.
قال قيس وهو يهز رأسه مبتسماً: صادقة جداً.
سكتت ليلى لحظة ثم تساءلت:ألا يعني ذلك لك شيئاً يا قيس؟
تساءل قيس وهو يبتسم: ماذا يعني؟
قالت ليلى بحرارة :يعني أن حبنا كان مكنوناً في ضمير الغيب منذ جئنا إلى هذه الدنيا يا قيس.
قال قيس وهو يبتسم :ليس إلى هذه الدرجة يا ليلى .
قالت ليلى وهي تغرق عينيها في عينيه :أنا جادة في قولي هذا يا قيس ومؤمنة بما أقول.ومادمت أنت قدري وأنا قدرك وعلينا أن نقطع شوط الحياة معاً فلابد أن نفعل المستحيل لتحقيق إرادة القدر.وأنا مستعدة فعلاً لمواجهة هذا المستحيل.
صمت قيس طويلاً وهو خافض الطرف.ثم رفع عينيه إليها وقال:مادمت قد خططت يا ليلى لأن نقطع شوط الحياة معاً فينبغي لي أن أصارحك منذ البداية بكل شيء.
قالت ليلى: وهذا ما أريده يا قيس.
صمت قيس برهة ثم قال: أنت تعلمين يا ليلى أنني من عائلة فقيرة وأنني أنتمي لطبقة الكادحين..
قاطعته ليلى: وماذا يهمني ذلك؟ أنا أحبك وأنت تحبني وهذا كل شيء في نظري.
واصل قيس كلامه: هذا صحيح.. أنت تحبينني وأنا أحبك لكنك من أسرة عريقة غنية وأنا من أسرة فقيرة متواضعة. وهذه حقيقة لا يمكن تغافلها.وأنا أعتقد أن للأسر الغنية أسلوبها الخاص في العيش ولها عاداتها وتقاليدها وأعرافها التي تختلف عن أسلوب عيش الأسر الفقيرة00
قاطعته ليلى بصبر نافد: قلت لك إننا نحب بعضنا بعضاً يا قيس وكل الأمور الأخرى لا قيمة لها عندي.
قال قيس: ومع ذلك لا بد أن أطلعك على أفكاري يا ليلى.
قالت ليلى وهي تمد يدها وتضغط يده المطروحة على الطاولة: وأنا مصغية لك بكل مجامع قلبي يا قيس.
قال قيس: طبعاً أنا اقتنعت يا ليلى بعد صراع طويل مع نفسي أن الله كافأني على طيبتي بحبك، وأنني بذلك إنسان محظوظ.
قالت ليلى بحرارة: كلانا محظوظان يا قيس.
قال قيس: فاسمحي لي أن أخبرك إذن يا ليلى بأنني لا أنوي تجاوز حدود إمكاناتي المادية حينما ننشئ بيت الزوجية، وهي إمكانات محدودة طبعاً. ولست أرتضي الاعتماد على غيرنا في متطلباتنا المادية.أي أننا سنضطر إلى أن نعيش حياة متقشفة. فهل أنت مستعدة لممارسة حياة متقشفة ضمن ما سيوفره لنا دخلنا المتواضع حينما نتزوج يا ليلى؟
قالت ليلى بحماسة: مستعدة مئة بالمئة.
صمت قيس لحظة وهو مشرق الوجه ثم قال: وهناك حقيقة أخرى لا بد أن أذكرها لك أيضاً يا ليلى وهي أنني شخص ملتصق بعائلتي وأحبها حباً جماً. وأنا لست مستعداً للتخلي عنها بأي شكل من الأشكال ومهما تكن الأسباب.
قالت ليلى بحرارة: وأنا لا أرتضي لك أن تتخلى عن عائلتك يا قيس فستكون عائلتي أيضاً.
قال قيس في ارتياح: هذا كل ما أردت قوله لك يا ليلى حتى لا أخدعك بوعود زائفة. وأنت تعلمين طبعاً أننا سنواجه الصعوبات في السير في طريق حياتنا المشترك.
قالت ليلى: وأنا أعدك أن نقهر تلك الصعوبات يا قيس.
قال قيس: ولنتفق منذ الآن يا ليلى على ألاّ نبدأ مشروعنا إلا بعد صدور أمر توظيفنا.
قالت ليلى: كما تحب يا قيس.
منذ ذلك اليوم أصبح من المألوف أن تُرى ليلى بصحبة قيس في المرسم وفي نادي كلية الآداب. وقد طرأ تغيير على ملبسها ومظهرها وسلوكها. فقد تضاءلت زينتها وتميزت ملابسها ببساطة متناهية. وأخذت تتبادل الحوار والمجاملات مع زملائها في الصف وفي المرسم. وقال زملاؤها بعضهم لبعض: ليلى لم تعد واحدة من "مجموعة الهاي لايف" بعد أن أحبت قيساً. هكذا الرجال وإلا فلا.



الفصـل الثالث









أحلام مشتركة




إثر صدور قرار تعيين ليلى مدرّسة في متوسطة المستنصرية للبنات وقرار تعيين قيس موظفاً في وزارة الأشغال بدأت المرحلة المؤجلة من حياتهما. وكانا قد أمضيا أشهر الصيف في سعادة وهما يجتمعان عصراً مرتين في الأسبوع في المركز الثقافي البريطاني في الوزيرية ويشاركان في فعالياته الثقافية. واتفقا على أن تبدأ ليلى بمفاتحة أسرتها بمشروعهما.
ليـلى
كان مساء لطيفاً وكانت الأسرة تتناول القهوة في الشرفة المطلة على دجلة بعد أن فرغت من العشاء. قالت ليلى: عندي لكما نبأ قد يسركما أو يسوءكما وهي أنني قررت الزواج.
قالت الأم في عجب: ولكن كيف؟ أنت لم تتحدثي أبداً يا ليلى في هذا الأمر.
وقال الأب وهو يبتسم: ولماذا يسوؤنا مثل هذا النبأ يا ليلى؟
وتساءلت الأم باسمة: ومن المحظوظ من الأقرباء الذي وقع اختيارك عليه يا ليلى؟ هل هو ابن عمك أياد أم ابن خالك وضاح وكلاهما مغرمان بك ؟
قالت ليلى: إنه ليس واحدا من الأقرباء يا ماما. وأياد و وضاح يعلمان أنني لا أبادلهما حبهما .
قالت الأم باسمة: وهل نسيت يا ليلى كيف يتنافسان في أداء الخدمات لك حينما تحتاجين إليهما؟
فقالت ليلى: هذا شيء والحب شيء آخر يا ماما0
قالت الأم وهي تنظر إلى الأب ضاحكة: على كل حال كنت أتمنى أن تقتدي بأمك التي تزوجت ابن عمها.
قال الأب وهو ينظر إلى الأم ضاحكاً: ليس كل الأقرباء مثل أبيها الذي اعترف لإبنة عمه منذ صباها بأنها هي ملكته المتوجة.
ثم التفت إلى ليلى وتساءل: فمن هو إذن يا ليلى؟
قالت ليلى: إنه قيس الحسون وهو أحد خريجي كلية الهندسة لهذا العام.
تساءل الأب: أهو ابن التاجر عبدالغني الحسون؟
قالت ليلى: لا يا بابا.. أبوه نجار بسيط في باب الشيخ.
قفزت الأم في هلع وهتفت: ماذا تقولين؟
قالت ليلى بهدوء: أقول أبوه نجار بسيط في باب الشيخ.
تبادل الأبوان الأنظار في ارتياع وظلا للحظات صامتين وكأنهما عاجزان عن الكلام . ثم قالت الأم في غضب: على جثتي... أنا أصاهر نجاراً من باب الشيخ؟!
قال الأب بهدوء: قرارك هذا يا ليلى قرار غير معقول وغير منطقي فلا تنتظري منا أن نوافق عليه.
تساءلت ليلى ببرود: ولماذا لا توافقان عليه؟
قال الأب: لأنه قرار خطير جداً يدمر سمعتنا ويغرس رؤوسنا في الطين كما أنه يدمر مستقبل ابنتنا الوحيدة.
قالت ليلى: بالعكس يا بابا بل هو الذي سيوفر لي السعادة.
ورددت الأم كالمحمومة: عائلة رؤوف السليمان تصاهر نجاراً من باب الشيخ!! على جثتي.
ثم أضافت وهي تهز رأسها في سخرية: الآن فهمت أسباب هذا التغير في ملبسك. فلم تعودي تلبسين سوى الملابس التي تجعلك أقرب إلى الشحاذات.
قال الأب وهو يهز رأسه بخطورة :إنه قرار يغرس رؤوسنا في الطين فعلا .
قالت ليلى وهي تقف فجأة: أنا وقيس اتفقنا على الزواج مهما تكن الظروف ومهما تكن الأحوال.
وغادرت الشرفة مسرعة.
كانت بهية مرحة ضاحكة الوجه دائما. وكانت تردد أنها سعيدة بحياتها وبزوجها وبابنتها وأنه ليس هناك ما يكدر صفو حياتها. في صباح اليوم التالي لاحظ المعلمات مظهراً غير مألوف فيها. بدت كالمنكسرة وكأن كارثة ألمت بها. وأقبلن عليها يتساءلن عما بها فكانت تهز رأسها وترد عليهن ساهمة: مجرد صداع.. صداع قوي00قوي جدا0
وبسط الحزن جناحيه على الدار. ولم يعد أفراد الأسرة يتبادلون سوى عبارات معدودة. ولم تظهر ليلى على مائدة الطعام. كانت تعود من عملها فتعتصم بغرفتها أو تخرج عصراً وترجع في أوائل المساء. وامتنعت الأم عن الرد على تحيتها.
في بداية الأسبوع التالي التقى الأب بليلى في غرفتها. قال وهو يجلس على الأريكة بجوارها: رغبنا أنا وأمك في توفير وقت كاف لك للتفكير في قرارك. فلا شك أنه قرار سريع وعاطفي وغير مدروس.
قالت ليلى: أبداً يا بابا. إنه ليس قراراً سريعاً فقد اتفقت أنا وقيس على الزواج منذ نهاية العام الدراسي. وكنا ننتظر صدور أمر تعييننا لأفاتحكم بالأمر.
قال الأب: يجب أن تدركي يا ليلى أن الشاب الذي اخترته لا يصلح لك كما أنك لا تصلحين له من جميع الوجوه .
تساءلت ليلى: ولماذا لا يصلح لي وأنا لا أصلح له يا بابا؟
قال الأب: لأنه غير قادر على توفير متطلبات الحياة التي تعودت عليها. ودعك من مسألة أن مستوى أسرته لا يتناسب مع مستوى أسرتنا .
قالت ليلى: أنا أحبه وهو يحبني يا بابا ولا يهمني شيء آخر.
قال الأب: لنكن واقعيين يا ليلى .هل تتصورين أن الحب يمكن أن يلغي طباعك وعاداتك ورغباتك التي رسخت فيك منذ طفولتك؟
قالت ليلى: أنا واثقة من ذلك يا بابا ما دمت أحبه.
صمت الأب برهة وهو مكفهر الوجه. ثم رفع رأسه وقال: فإذن اسمحي لي بطلبين. الأول أن تمهلي نفسك أسبوعين للتفكير في قرارك بعيداً عن العاطفة المجردة. والثاني أن تضمني موافقة أمك في حالة إصرارك على قرارك. فموافقتي مشروطة بموافقتها.
قالت ليلى: كما تحب يا بابا.
وأفضى رؤوف لبهية بما دار بينه وبين ليلى من حوار. قالت في استنكار: هذا يعني أنك موافق على قرارها يا رؤوف.
فقال رؤوف : أبدا يابهية ولذلك فإنني ربطت موافقتي بموافقتك. وأنا أعلم أنك لا يمكن أن توافقي عليه .
قالت بهية في تصميم: بالطبع فلا يمكنني أن أوافق على قرارها أبداً. أنا أصاهر نجاراً من باب الشيخ!! عائلة السليمان00سليلة الثروة والجاه تصاهر عائلة من حثالات باب الشيخ00 على جثتي.
قال رؤوف برفق: ولكنك تعرفين ليلى جيداً يا بهية وتعلمين أنها لا تخضع للضغوط. وأرى أن من الأفضل لنا أن نلف حول قرارها بدلاً من مجابهته. وقد رجوتها أن تعيد النظر فيه بتعقل وأمهلتها أسبوعين. ويمكننا أثناء ذلك أن نستنفذ كافة السبل للضغط عليها.
قالت بهية وهي تهز رأسها بقوة: ولكن فليكن في علمك يا رؤوف أنني لا يمكن أن أوافق على أن تكون نداً لي زوجة نجار في باب الشيخ.. على جثتي.
واقتنعت بهية بوجهة نظر رؤوف. وراحت تفتش عن مخرج ينقذها من تلك الكارثة. ثم بدا لها أن تستعين بصديقات ليلى. واجتمعت بهن في بيت شهلاء. قالت وهي تنقل نظراتها العاتبة في وجوههن: أنا مستغربة كيف وافقتن ليلى على قرارها الخاطئ ولم تنصحنها.
فقالت شهلاء: الحقيقة أننا حاولنا ذلك يا خالتي أم ليلى، لكنك تعلمين أنها معتادة على استقلالية التفكير فلم ننجح معها.
قالت بهية في احتجاج: لا .. لا .. هذا عذر غير مقبول. فقرارها هذا قرار خطير جداً سيدمر سمعتنا ويحطم حياتها. وكان عليكن إقناعها بكل طريقة.
قالت رواء: نحن كنا ضد قرارها فعلاً يا خالتي أم ليلى. لكننا اقتنعنا في النهاية أنها تحب قيس حباً حقيقياً.
قالت بهية في عصبية: على كل حال هذا غير مهم. والشيء المهم أن مستواه غير مستواها، وأن زواجها منه سيحطم حياتها ويدمر سمعتنا. فأرجوكن أن تعاوننا في إقناعها.
تبادل الصديقات نظرات حائرة ثم قالت سندس: سنتكلم معها كما تريدين يا خالة أم ليلى ونحاول إقناعها. لكنك تعرفين ليلى أكثر منا، فهي إذا أتخذت قراراً لا يقدر أحد مهما كان أن يؤثر عليها.
بعد أيام ارتأت بهية أن تتواجه مع ليلى. قالت لها وهما يجلسان على الشرفة المطلة على النهر: إلى متى ستظلين تقاطعينني يا ليلى؟ أنسيت أنني أمك الحبيبة؟
فقالت ليلى: أأنا التي تقاطعك أم أنت التي تقاطعينني؟ ثم هل الأم الحبيبة هي التي تقف ضد سعادة ابنتها؟
قالت بهية: على العكس يا ليلى. أنا أحاول أن أجنب ابنتي ما ستواجهه من شقاء في حياتها. وهذا واجبي كأم.
قالت ليلى: فاعلمي إذن أنني سأكون شقية إذا لم أتزوج قيساً.
قالت بهية: افهميني يا ليلى. أنت تربيت طول عمرك في العز والرفاهية. وإذا تزوجت من قيس ستفقدين رفاهيتك وتشقين.
قالت ليلى: اطمئني يا ماما فالحياة البسيطة لن تشقيني.
حنت بهية رأسها وقد تفجر وجهها أسىً. ثم رفعت رأسها وقالت بضراعة: وماذا عنّا يا ليلى؟ ألم تفكري في ما سيحدث لي لو حكمت رأيك وربطت أسرتنا بأسرة من باب الشيخ؟ ألم تفكري بما سيلحق ذلك بسمعتي وسمعة أبيك بين الدبلوماسسيين من أذى؟ إنك ستغرسين رؤوسنا في الطين كما قال أبوك .
قالت ليلى: ولماذا لا تفكران أنتما أيضاً بما سيصيبني من تعاسة إذا لم أتزوج من قيس؟
قالت بهية بخيبة: أخبرني أبوك أنك وعدته بأن تعيدي النظر في قرارك وتفكري فيه بعقلانية ولكن لا يبدو أنك فعلت ذلك.
قالت ليلى: أنا فكرت بقراري بعقلانية فعلاً يا ماما لكن ذلك لم يزدني إلا قناعة به.
قالت بهية في حدة: هكذا أنت.. أنانية ولا فائدة معك ودماغك أقوى من الصخر فيما يتعلق برغباتك ولا تبالين بأي شيء في سبيلها.ولكن اعلمي أن رغبتك هذه لن تتحقق إلا على جثتي.
وقامت الأم غاضبة.
وحكت بهية لرؤوف ما دار بينها وبين ليلى من حوار. ثم تساءلت بمرارة: ماذا سنفعل يا رؤوف؟
قال رؤوف وهو يهز رأسه بحزن: أنا مثلك لا أدري ماذا يمكننا أن نفعل يا بهية.
قالت بهية وقد أظلم وجهها: يظهر أن الله كتب لي التعاسة في أواخر حياتي. فلا يمكنني أن أتصور نفسي نداً لواحدة مثل أم قيس. وإنني لأصحو من نومي مرعوبة وأنا أحلم بذلك.
قال رؤوف بحزن : وأنا مثلك يا بهية. لم يخطر على بالي يوما أن تصاهر أسرة السليمان أسرة نجار من باب الشيخ . بل وأن تضطرنا ليلى بالذات إلى ذلك وهي عاشت طول عمرها في جوّ أرستقراطي صميم ولم تعرف غير هذا الجوّ .
تساءلت بهية في أسى : أليس هناك من طريقة تمكننا من تغيير رأيها يا رؤوف؟
ظل رؤوف ساكتاً مهموماً، ثم قال فجأة وهو متهلل الوجه: خطرت لي الآن فكرة قد توصلنا فعلاً إلى هدفنا يا بهية.. وأعتقد أنها نعم الفكرة.
قالت بهية بلهفة: ما هي يا رؤوف؟
قال رؤوف: ربما استطعنا أن نجعل قيس نفسه يغيّر رأيه أو نجعل أهله يضغطون عليه ليغيّر رأيه.
قالت بهية: وهل من المعقول أن يفرط أهله بمثل هذه اللقطة؟!
قال رؤوف: من المؤكد أن أهله يحرصون على سعادته. فما رأيك لو زرت أباه وأقنعته بأن زواج ابنه من ليلى سيشقيه لأنها متعودة على الإسراف ولها عادات صعبة جداً؟!
قالت بهية:افعل كل ما تراه مناسباً يا رؤوف لإنقاذنا من هذه المصيبة.







قـيس
لم يفاتح قيس عائلته بمشروعه. وارتقب مساعي ليلى مع عائلتها. وكان قد اشترط عليها موافقة أهلها أولاً. وكانت ليلى تنبئه أولاً بأول بما يجري من تطورات. وكانت همومه تتكاثف إذ يتراءى له أنهما يسلكان طريقاً مسدوداً. لكن ليلى كانت تطمئنه بأن مفتاح الحل النهائي في يدها.
وبالرغم من أن همومه أخذت تقض مضاجعه لكنه نجح في كتمانها عن عائلته. ثم فوجئ يوما بجو كالح ثقيل يعتصر البيت. وانقلبت وجوه عائلته الضاحكة السعيدة إلى وجوه مدلهمة حزينة. وكانت نظراتها المهمومة ترتد سريعاً عن وجهه كلما اصطدمت بعينيه. وحدس أن ثمة حواراً هامسا يدور بينهم وراء الأبواب. واحتار في الأمر.. أتراهم كشفوا سره؟ ولكن أنىّ لهم ذلك؟
وذات يوم عاد إلى الدار وقت الغروب فوجد الجميع في انتظاره. قال مبتسماً: يبدو أن لديكم اجتماعاً.
فرنت إليه الأم طويلاً ثم أجهشت بالبكاء. فتساءل وهو ينقل عينيه في الوجوه جزعاً: ماذا بكم؟ أي كارثة حلت بنا؟
قال الأب بلهجة أليمة: لم تحل بنا الكارثة بعد يا قيس ولكنها ستحل.
سأله قيس: ماذا تقصد يا أبي؟
قال الأب: أقصد زواجك من ابنة رؤوف السليمان.
فتنفس قيس الصعداء وقال مبتسماً: أهذه هي القضية التي تحزنكم إلى هذا الحد؟
قالت الأم بين عبراتها: وكيف لا تحزننا يا قيس وهذا الزواج سيشقيك؟
وقالت سعدية: زواجك هو يوم المنى لنا يا قيس ولكن ليس من امرأة تشقيك. إنها من طينة ونحن من طينة.
وقالت خيرية: يا أخي قيس... لماذا ندوس على الجنّي ونسمّي بالرحمان؟ هناك ألف من تتمناك غيرها.
وقالت صبيحة بحماس: أنا أعرف بعض صديقاتي ممن يتمنين التراب الذي تدوسه قدماك.
قال قيس وهو يضحك: أنا أشكرهن على ذلك لكن قلبي اختار ليلى. والقلب وما يهوى كما يقولون.وقلب ليلى اختارني أيضاً من بين أقربائها ومعارفها الكثيرين. وهذا يعني أنها لا تعترف بالفروق بيننا.
قال الأب بلهجة مترددة: قد يكون هذا رأيها ولكنه ليس رأي أبيها.
سأله قيس في عجب: وما أدراك يا أبي؟
قال الأب بلهجته المترددة: إنه زارني يا قيس وتكلم معي حول القضية. وأكد لي أن زواجكما مصيره الفشل لأنها تختلف عنك في كل شيء وأنك لا تصلح لها وهي لا تصلح لك. فهي تحب البذخ وأخلاقها صعبة جداً وزواجكما سيشقيك ويشقيها.
قال قيس بمرارة: أنا متأسف أن يلجأ أبوها إلى هذا الأسلوب الرخيص ليخيفكم من زواجنا. وما كان يليق به أن يفعل ذلك. والحقيقة أنه وأمها يضغطان عليها لتغيّر رأيها لكنها صامدة. وأؤكد لكم أنها ليست بالصورة التي صوّرها أبوها وهي تحبني حباً حقيقياً.
قالت خيرية بحماس: وأنا أصدقها. فأين تجد مثلك؟
قالت صبيحة وهي تضحك: أنتما أحلى من قيس وليلى الأصليين.
قال الأب بلهجة رقيقة: ما دمت ترى ذلك يا قيس وما دمت واثقاً منها فسر على بركة الله. ولكن عدني ألا يتم زواجكما بدون موافقة أهلها.
قال قيس: وهو كذلك يا أبي.












قيس و ليلى
التقى قيس بليلي في المركز الثقافي البريطاني عصر الأربعاء وانتحيا ركناً منعزلاً في حديقة المركز. كان وجه ليلى ينطق بكدر ممض. تأمل قيس وجهها وهو خافق القلب. قال: من الواضح أنك لا تحملين أخباراً طيبة يا ليلى.
قالت ليلى: لا.. مع الأسف يا قيس. أمي ما زالت على موقفها المعارض، وأبي يربط موافقته بموافقتها.
وسكتت هنيهة ثم أضافت بمرارة: كنت آمل أن يلين قلباهما مع الوقت لكن موقفهما ظل كما هو. وبابا أكثر انفتاحاً من ماما. أما ماما فلم تترك وسيلة إلاّ طرقتها للضغط علي. وكانت تأمل أن تؤثر صديقاتي علي. واجتمع صديقاتي بي فعلا لهذا الغرض وحاولن إقناعي بكل طريقة ففشلن . فلما خابت كل محاولاتها لجأت إلى أسلوب آخر فادعت المرض ولازمت الفراش منذ أسبوع.
قال قيس في أسى: يظهر أننا نمضي في طريق مسدود يا ليلى.
قالت ليلى في احتجاج: لا يا قيس.. لا. يجب ألا يتطرق اليأس إلى قلبك. سننجح في النهاية. سنتزوج حتى لو لم يوافقا.
قال قيس: لا يا ليلى. لن نتزوج من دون موافقة أهلك. نحن اتفقنا منذ البداية على ذلك. وأنا لست مستعداً لأن أجعل أهلك ينبذونك بسببي.
فكرت ليلى قليلاً ثم قالت: أنا على كل حال ما أزال آمل أن ينجح أبي في الضغط على أمي ونيل موافقتها.
رمقها قيس متردداً ثم قال: اسمحي لي يا ليلى أن أقول أنك مخطئة في تصوراتك هذه فربما كان أبوك متشدداً أكثر من أمك.
سألته ليلى في عجب: ولماذا تقول هذا يا قيس؟أبي أكثر انفتاحاً في عقليته من أمي بالتأكيد.
قال قيس: المسألة ليست مسألة انفتاح أو انغلاق يا ليلى. فأبوك يعتقد أننا لا نصلح لبعضنا بعضا.
سألته ليلى في استغراب: ولكن لماذا تقول هذا يا قيس؟
صمت قيس لحظات ثم قال: لم أكن أود أن أطلعك على ما حدث يا ليلى. لكنني مضطر لكي تكوني على بينة من الأمر. أبوك زار أبي وحاول أن يقنعه بأنك لا تصلحين لي. وقال له إنك مولعة بالبذخ وأنك صاحبة أخلاق صعبة جداً وأن زواجنا سينتهي بالفشل وسيشقيك ويشقيني.
أطرقت ليلى ووجهها يترقرق بالألم. ثم قالت بلهجة مجروحة: ما كنت أتوقع من أبي أن يفعل ذلك. صحيح أنه ضعيف تجاه أمي لكنني لم أكن أتصور أن يبلغ الأمر به إلى هذا الحد.
وتلبثت صامتة دقائق وهي شاردة العينين متجمدة الوجه. ثم التفتت إلى قيس وقالت بلهجة حاسمة: مع الأسف يا قيس... إنهما لم يتركا لي خياراً آخر. وعندما قلت لك إن مفتاح حل قضيتنا بيدي فإنني عنيت ذلك.
ثم أضافت وهي تقف فجأة: وستثبت لك الأيام ذلك عما قريب.










ليـلى
ما أن دخلت ليلى الدار حتى قصدت غرفتها . وكتبت ورقة ألصقتها على الباب "ممنوع الدخول" .وأغلقت عليها الباب.
في أوائل المساء طرقت الخادمة الباب وأخبرتها أن أبويها ينتظرانها على العشاء. فردت عليها إنها ليست جائعة ولن تتعشى.
في الصباح التالي ترقبها الأبوان على مائدة الصباح فلم تظهر. وقصدها الأب وطرق باب غرفتها فلم تفتح. وهتف: ليلى.. ألا زلت نائمة؟ تأخر عليك الوقت للذهاب إلى المدرسة.
فردت عليه: أنا متعبة ولن أذهب إلى المدرسة.
وظل الأب واقفاً بجوار الباب دقائق ثم انصرف.
ولم تخرج ليلى ظهراً ورفضت تناول الغداء. وعند المساء دعاها الأب لتناول العشاء فرفضت. قال أخيراً: ستضطرينني إلى كسر الباب يا ليلى إن لم تفتحيه.
فردت عليه: إذن ستجدني ميتة قبل أن تفلح في ذلك.
قال الأب: اعلمي يا ليلى أنك لن تجبرينا بهذه الطريقة على الخضوع لنزوتك فلا يمكننا أن نوافق على تدمير حياتك وحياتنا.
وتولى عنها غاضباً.
في اليوم الثالث ارتأى الأبوان أن يستعينا بصديقاتها فحضرن جميعاً. قالت لها شهلاء متوسلة: افتحي لنا الباب يا ليلى. اشتقنا لرؤيتك.
فترامى صوت ليلى واهناً: لا تتعبوا أنفسكم. لن أفتح الباب إلا إذا تحقق مرامي.
قالت سندس: لكننا نريد أن نراك يا ليلى.
وقالت رواء: إننا اشتقنا إلى رؤيتك يا ليلى فاسمحي لنا بذلك.
قالت ليلى: وأنا أيضاً اشتقت إلى رؤيتكن. لكنني لن أفتح الباب إلا لشخص واحد هو قيس.
هتفت الأم في ارتياع: قيس...! لا شك أنها جنت،. على جثتي.
قالت شهلاء متوسلة: نحن حبيباتك يا ليلى... افتحي لنا الباب.
وقالت سندس: ولن نسألك شيئاً... نريد رؤيتك فقط.
قالت ليلى بصوتها الواهن: لا تتعبوا أنفسكم. لن أفتح الباب إلا لقيس.
انقضت أيام أربعة على ليلى وهي حبيسة غرفتها. وبالرغم من أن الرعب استبد بالأبوين لكنهما صمدا ولم يستجيبا لتوسلات الصديقات.في صباح اليوم الخامس حضر الصديقات وبصحبتهن جدة ليلى. صاحت الجدة في وجه ابنتها حالما دخلت: ماذا فعلتما بحفيدتي يا بهية؟
قالت بهية وهي تجهش بالبكاء: إنها تريد أن تذلنا في آخر عمرنا يا أمي. تريدنا أن نذهب إلى ابن النجار ونتوسل إليه ليحضر.
وقال رؤوف في استنكار: أترضين بذلك يا عمتي؟
قالت الجدة في غضب: نعم أرضى بذلك. فحياتها عندي أغلى من عنجهيتكما.
والتصقت الجدة بالباب وهتفت برقة: أنا جدتك يا ليلى. افتحي لي الباب. سيتم لك كل ما تريدين.
قالت ليلى بصوتها الواهن: أنا أريد أن أموت يا جدتي. لا أريد أن أعيش.
قالت الجدة في توسل: بل تعيشين وتنالين كل ما تريدين. فاسمحي لي بالدخول.
قالت ليلى: عديني ألا يدخل معك أحد يا جدتي.
قالت الجدة: أعدك يا حبيبتي.
انفتح الباب فمرقت الجدة وسرعان ما أغلق ثانية. وسمعت الجدة تولول: ماذا فعلوا بك يا حبيبتي؟
وترامى صوت ليلى الواهن وهي تقول: أريد أن أموت يا جدتي.
قالت الجدة وهي تبكي: بل ستعيشين يا حبيبتي ويتم لك كل ما تريدين.
ثم خفتت الأصوات واستحالت إلى همس. وأخيراً فتح الباب وظهرت الجدة وهي متجهمة الوجه. قالت بلهجة حاسمة وهي تخزر بهية: البسي ملابسك حالاً يا بهية لنذهب إلى بيت قيس ونحضره.
هتفت بهية محتجة: ولكن يا ما ما .. هل ترضين لي أن أهين نفسي إلى هذه الدرجة؟
قالت الجدة بلهجتها الحاسمة: نعم أرضى لأنني لا أسمح بأن تموت حفيدتي بسبب حماقتكما.
والتفت رؤوف إلى بهية وقال لها وهو يهز رأسه باستسلام: إسمعي قول أمك يا بهية فلا خيار آخر أمامنا.









قيس وليلى

وقع اختيار الزوجين على منزل في شارع الضباط. وكان يتألف من غرفة نوم صغيرة وصالة للمعيشة وحديقة ضيقة تحيط بالمنزل.وأثث المنزل بأثاث بسيط قام قيس بصنعه وساعده في ذلك جيران السوق. وكانت ليلى تقول لصديقاتها وهن يتجولن في أنحاء البيت: أنظروا إلى هذه الكراسي.. أليست فيها لمسة فنية رائعة لا تتوافر إلا في الأثاث الإيطالي؟ وتأملوا هذه الطاولات البديعة.. ألا تلاحظن أنها "أوريجنال" مئة بالمائة؟
وكانت الصديقات يتبادلن نظرات تنم عن خيبة الأمل،لكنهن كن يبتسمن ابتسامة شاحبة ويهززن رؤوسهن في إعجاب.
ومنذ الأسبوع الأول صممت ليلى على أن تكون مسؤولة عن شؤون البيت. قالت لقيس: أنت تعلم يا قيس أنني لم أعتد الأشغال البيتية فلا تضحك مني إذا رأيتني خائبة فيها.
فقال قيس: لا تحملي همّا يا ليلى فسأتولى القيام بكل شيء. فمنذ صغري وأنا أعاون أهلي في أشغال البيت.
فقالت ليلى محتجة: وكيف لي أن أرضى بذلك يا قيس؟يجب أن تعلمني لنشترك معا في أعمال البيت.
فقال قيس: ليس في الشهر الأول يا ليلى.. ربما في الشهر الثاني. أنت الآن ملكة البيت غير المتوجة.
ولم يكن هناك شيء ينغص على ليلى سوى الطريق الذي تقطعه إلى مدرستها. فقد كان عليها أن تبدل الباص ثلاث مرات. وكانت تلك المرة الأولى في حياتها التي تستقل الباص لكنها كانت تقول لقيس: إنني سعيدة يا قيس إذ بدأت لأول مرة في حياتي أتعرف على معاناة الناس.
وكان قيس يقول لها: ما كان أشد حماقتي يا ليلى حين تصورت أنه لن يكون بوسعك أن تتقبلي هذه الحياة المتقشفة.
وكانت ليلى ترد عليه بحماس: على العكس يا قيس.. إنني بدأت الآن فقط أفهم الحياة الحقيقية.
وأصرت ليلى على قيس في بداية الشهر الثاني أن يعلمها كل أشغال البيت وخصوصاً الطبخ. وكانت تقول له: أصبحت من المؤمنات يا قيس بالقول المأثور أن طريق المرأة إلى قلب الرجل هو معدته. ويجب أن أتقن الطبخ.
وكان قيس يرد عليها ضاحكاً: لكنني أحذرك يا ليلى أن هذا الطريق سيكون وعراً عليك، فلن تستطيعي منافسة أمي مهما برعت في الطبخ.
وكان حال ليلي يثير عجب صديقاتها. فقد يحدث أن تزورها إحداهن فتراها قد عصبت رأسها وأقبلت بحماس على تنظيف البيت. وقد تزورها أخرى فتراها في المطبخ وهي مقبلة على فرم البصل والثوم وتقشير الخضروات. وقد تزورها ثالثة فتراها منكبة على جلي النوافذ بهمة وحذق.
وفي إحدى جلساتهن الحميمة قالت شهلاء: أصدقينا القول يا ليلى.. هل صحيح أنك سعيدة وأنت تعيشين هذه الحياة المتقشفة؟
فقالت ليلى: طبعاً أنا سعيدة جداً لأنني تزوجت الرجل الذي أحبه.. لا تتزوجن يا بنات إلا من الرجل الذي تحببنه، فالحب فوق كل شيء.
فقالت رواء: لا بد أن الحب إذن يصنع الأعاجيب.
وقالت سندس وهي تضحك: اللهم احمنا من مثل هذا الحب.
كان كل من قيس وليلى يشعران فعلاً أنهما سعيدين كل السعادة بحبهما. وكثيراً ما تجادلا ايهما يحب الآخر أكثر من الثاني. ويوماً قال قيس لليلى: لقد تأكدت يا ليلى أنني أحبك أعظم مما كان قيس الملوح بحب ليلاه. وإن حبي ليشتد يوماً بعد يوم ولا أدري كيف سيمكنني التعامل معه.
فقالت له ليلى: ولكن من المؤكد يا قيس أنني أنا التي تحبك أشد مما كانت ليلى العامرية تحب قيسها.ودليلي على ذلك أن ليلى العامرية لم تكن مستعدة للتضحية بحياتها من أجل قيس وانصاعت لرغبة أبيها وخاتته وتزوجت من شخص آخر. في حين أنني كنت مستعدة للموت لو أصر أبواي على موقفهما.
فقال قيس: لكن قيساً ضحّى في النهاية بحياته بسبب حبه لليلى.
فقالت ليلى: لكنك لم تكن مستعداً مثله لأن تضحي بحياتك من أجلي واشترطت أن يوافق أهلي على زواجنا. ثم أنك تقسّم قلبك بيني وبين أهلك. أما أنا فلا أفعل ذلك.
فقال قيس: حبي لك يا ليلى غير حبي لأهلي. ثم من قال لك إنني لم أكن مستعداً للتضحية بحياتي لو تعقدت الأمور؟ كل ما هنالك أن الظروف خدمتني فلم أضطر لذلك. وعلى كل حال فأنا الآن "مجنون ليلى" حقاً!
فقالت ليلى ضاحكة: وأنا "مجنونة قيس" دون شك.
ولم تزر بهية ورؤوف منزل العريسين. وكانت بهية تقول لرؤوف: ليس بمقدوري أن أرى بعيني كيف تعيش ابنتي الوحيدة حياة الفقراء البائسين.
وكان رؤوف يرد عليها: الحق معك يا بهية.. لا شك أنه أمر محزن.
وألحت ليلى عليهما يوماً أن يقبلا دعوتها على العشاء. واستطاع رؤوف أن يقنع بهية بقبول الدعوة. وطوال الوقت كانت بهية تتلفت حواليها في اشمئزاز وهي تتطلع إلى الأثاث المتواضع.والتصقت عيناها بارتياع بوجه ليلى وهي تروح وتغدو بين الصالة والمطبخ وقد عصبت رأسها بمنديل ساذج وارتدت مريلة المطبخ.
حينما غادر الأبوان منزل ليلى كانت الدموع تلتمع في عيني بهية. قالت لرؤوف بصوت مشروخ: ما كان علينا قبول دعوتها والتفرج على بؤسها يا رؤوف.
فهز رؤوف رأسه قائلاً: فعلاً.. كانت غلطة.
وقالت بهية بلهجة مأساوية: لا بد أن نفعل لها شيئاً يا رؤوف.
فقال رؤوف في حيرة: وما عسانا نفعل يا بهية؟! أنت تعلمين أن زوجها يرفض أية مساعدة منا.
قالت بهية والدموع تكاد تطفر من عينيها: وكيف نسكت على بؤسها يا رؤوف؟
فقال رؤوف متأملاً: لكنها تبدو سعيدة يا بهية.
فقالت بهية في احتجاج: أبداً... أبداً. أنا لا أصدق ذلك. إنها تتظاهر فحسب .
غير أن ليلى كانت سعيدة فعلاً. وكانت تردد دائماً أمام صديقاتها حينما يجتمعن: إنني أسعد امرأة على وجه الأرض يا بنات. فأنا تزوجت أجمل وأحب رجل.




الفصـل الرابع







الأفــول


أمضى قيس وليلى العام الأول من زواجهما وهما مضرب المثل في السعادة الزوجية. ولم يكن يطيق أي منهما فراق الآخر. ووهت صلات ليلى بصديقاتها. وقاطع قيس أصدقاءه القدامى عدا شوكت الذي لم يعد يراه إلاّ لماما . واقتصر لهوهما على حضور بعض الفعاليات الثقافية في المركز الثقافي البريطاني ومشاهدة بعض مباريات كرة السلة والتنزه في شوارع الصليخ وعلى ضفاف دجلة.

ليــلى
في بداية العام الثاني طرأ تغيّر على سلوك ليلى. وكان من مظاهر هذا التغيّر ميلها إلى الإنفراد بنفسها وعزوفها عن تبادل الحديث مع قيس وغياب الإشراقة عن وجهها. وعزا قيس سلوكها الجديد إلى واجباتها المدرسية المرهقة التي تجعلها متعبة ومكتئبة. وتولى القيام دونها بكل الشؤون المنزلية.
وذات صباح رن جرس الباب الخارجي، وما أن فتحه قيس حتى رأى امرأة في ملابس شعبية. قالت له: أنا الخادمة.
فقال لها: أنت غلطانة في العنوان.
فترامى إليه صوت ليلى: دعها تدخل يا قيس.
ورحبت ليلى بالخادمة وأرشدتها إلى وظائفها. قال قيس وهو يرمق ليلى في عجب: ولكن من طلب هذه الخادمة يا ليلى؟
قالت ليلى: أنا طلبتها.
قال قيس: ولكنك تعلمين يا ليلى أن مواردنا لا تعيننا في الوقت الحاضر على ذلك. ونحن في الحقيقة في غنى عنها.
قالت ليلى بلهجة قاطعة: لا .. بل نحن بحاجة إليها. وكن مطمئناً فأهلي تكفلوا بأجرها.
في بداية الأسبوع التالي تعالى بوق سيارة صباحاً بجوار الباب. قالت ليلى وهي تستعجل في ملبسها: حضرت السيارة مبكرة عن موعدها.
تساءل قيس في دهشة: أية سيارة؟
قالت ليلى: سيارتنا.
ثم أضافت وهي تهرع إلى الباب: باي.. باي.
وفي كل صباح كان بوق السيارة يتعالى بجوار الباب. وكانت ليلى تلتقط حاجياتها في عجلة وتهرع خارجة.







ليلى
مناجـاة
لماذا صرت أضيق بحياتي؟! ولماذا هذا الاكتئاب الذي يأخذ بخناقي؟ولماذا أحلم هذه الأيام بحياتي في عواصم الغرب؟! وكم تبدو لي تلك الحياة الآن زاهية رائعة! كنا نمضي أوقاتنا في متعة دائمة. وكنا نقضي عطلات آخر الأسبوع في المنتزهات والحدائق والغابات أو على شواطئ البحر. ما أجمل الحياة الدبلوماسية!.. حياة كلها استمتاع وتنوع وتجديد. ولم تكن أمي تطيق البقاء ليلة واحدة بين جدران البيت. كان لا بد لنا من تمضية أمسياتنا في أجمل المقاهي وأرقى المطاعم وأفخم أماكن اللهو والسهر.
وهذا الحلم الذي أخذ يزورني المرة بعد المرة.. ما معناه؟ من المؤكد أنني نسيت جون منذ افترقنا بعد تلك الدعوة الفاشلة. وكان يمكن أن تدوم علاقتنا لولا تشددي.. وربما كانت ستتطور إلى أبعد من مجرد الصداقة. ولعلني كنت سأمضي بقية حياتي هناك. لقد خسرته بتشددي.. مع أن الإنجليزيات كن يحسدنني على رفقته. لكنني كنت قد أفهمته منذ البداية أن علاقتنا تخضع لشروطي وأن عليه أن يحترم تقاليدي الشرقية فوعدني بذلك.وقد وفىّ بوعده بالفعل، فكان يكتفي بتأبط ذراعي ونحن نتنزه في حدائق "هايد بارك" و "غرين بارك".وحينما كنا نغشى المراقص لم يكن يضم جسدي إلى جسده كما يفعل الراقصون.
ثم فاجأني ذلك اليوم بدعوتي لتناول الشاي في شقته فلم أجد ضيراً في ذلك. وأمضينا الوقت نتحدث في مواضيع عامة. وفجأة رماني بنظرة طويلة وعلى وجهه تعبير غريب ثم قال: أظننا نعيش في لندن يا ليلى ولسنا في بغداد. والمثل المشهور يقول "إذا كنت في روما فافعل ما يفعله الرومان".
ثم خلع قميصه وتحلل من بنطاله فافترسني غضب شديد وصرخت: اسمع يا جون.. أنا عذراء وسأبقى كذلك حتى أتزوج. وهذه هي تقاليدنا. وأنت وعدتني باحترامها.
فنظر إلي في برود واستعلاء وقال: فلماذا ظللت تلاحقينني إذن وأنت تعرفين طبيعة الحياة هنا؟!ولكن يظهر أنكم الشرقيون تظلون تحملون بذور التخلف في أعماقكم مهما عشتم في بلداننا المتحضرة.
وكان ذلك آخر لقاء بيننا.. ترى لماذا تعاودني هذه الأيام ذكريات حياتي في الغرب؟!










قـيس
كان اليوم خميسا. وفي عصر ذلك اليوم تلقى قيس من ليلى قولاً بعث رجفة باردة في جسده. قالت له: سأبيت الليلة في بيت أهلي يا قيس فلا تنتظرني.
فقال وهو يحدجها مرتاعاً: ولكن لماذا يا ليلى؟أنت لست معتادة على المبيت خارج البيت.
قالت ليلى: دعاني أهلي إلى سهرة خاصة في النادي وقد تطول إلى ساعة متأخرة. هل تريد أن تصحبني؟
قال قيس: أنت تعلمين يا ليلى أنني لا أستسيغ السهر في النوادي.
وسكت لحظة ثم أضاف وهو يبتسم: وكنت أحسبك صرت مثلي.
قالت ليلى: المهم أن تعلم أنني سأبيت هذه الليلة في بيت أهلي.
وحملت حوائجها وخرجت.
وتوالت الأحداث واقتنع قيس أن ليلى قد تغيّرت. لم تعد تطيق البقاء في البيت. واستعادت علاقتها الحميمة بصديقاتها واستأنفت معهن سهراتهن في بيوتهن وفي النادي. وصار من المألوف أن تمضي ليلة الجمعة في بيت أهلها.
ذات عصر أقتحم قيس الغرفة على ليلى .قال وهو يجلس على طرف السرير: هل لديك وقت لنتحادث يا ليلى؟
فرفعت عينيها عن كتاب بين يديها وقالت: أنا فعلاً سأخرج بعد قليل فلدي موعد مع شهلاء ورواء.
قال قيس: أعدك ألا يطول حوارنا.
وسكت لحظة ثم أضاف وهو يبتسم ابتسامة مرّة: وعلى كل حال فإننا نسينا التحاور فيما بيننا.
قالت ليلى: كان لدينا ما يقوله بعضنا لبعض.
قال قيس: على كل حال لديّ تساؤلات تستحق التحاور حولها يا ليلى.
تساءلت ليلى: وما هي؟
صمت قيس لحظة ثم قال وهو يعلق عينيه على وجهها: ألا تلاحظين يا ليلى أن عواطفك نحوي قد فترت؟ فهل بدر مني شيء يدعوك إلى ذلك؟
اعتدلت ليلى في جلستها وقالت: أنت مخطئ يا قيس فعواطفي نحوك لم تتغيّر.
قال قيس بلطف: كيف ذلك يا ليلى وأنت لم تعودي تطيقين البقاء معي في البيت؟
لبثت ليلى صامتة دقائق وهي تائهة النظر. ثم قالت وهي ترنو إليه برقة: أنت محق في ذلك يا قيس. فأنا لم أعد أحتمل البقاء في البيت .وتقتضيني الأمانة أن أصارحك بذلك.وإنني لأشعر بالاكتئاب والاختناق في البيت. لكن شعوري هذا ليس بسببك يا قيس. كل ما هنالك إنني صرت أضيق ذرعاً بحياتنا المتقشفة. وقد قاومت مشاعري هذه بكل ما أستطيع، وحاولت أن أروض نفسي على قبول الأمر الواقع ففشلت. وأنا آسفة إذ أقول لك ذلك. وإنني لأتعذب يا قيس لأنني نكثت بوعودي لك. لكن الأمر فوق طاقتي.. صدقني يا قيس. وكل يوم يمر عليّ أزداد اكتئاباً وضيقاً بحياتي هذه.
حنى قيس رأسه وكأن أثقالاً هائلة انحطت على كتفيه. وظل صامتاً دقائق كالمذهول. ثم رفع رأسه وقال بلهجة مجروحة: أنت تعلمين يا ليلى أن حبي لك لا حدود له وأنني مستعد أن أعمل أي شيء يرضيك. وما دمت ضقت ذرعاً بحياتنا المتقشفة فلا بد لي إذن أن أفكر بطريقة لتغييرها. وسأبحث عن أعمال إضافية تزيد من دخلنا للتخفيف من هذا التقشف.
قالت ليلى برقة: فلنتصارح يا قيس.. محاولتك هذه لن تضيف إلى دخلنا إلا الشيء القليل ولن تغير من حياتنا المتقشفة. وأنا في الحقيقة كنت أفكر طوال الأسابيع الماضية بالطريقة التي يمكن أن تعيد إلى حياتنا رونقها. وقد توصلت إلى الحل.
تساءل قيس بلهفة: ما هو يا ليلى؟! أنا مستعد لأي شيء.
قالت ليلى: أن تستثمر موهبتك في كرة السلة فتدر علينا ربحاً وفيراً.
قال قيس وهو يضحك ضحكة صغيرة: وكيف لموهبتي هذه أن تدر علينا ربحاً وفيراً؟ ومن يهتم في بلادنا بكرة السلة؟ هل تخيلت أننا في أميركا يا ليلى؟
قالت ليلى باهتمام: بالضبط يا قيس. نحن لسنا في أميركا. ولذلك فلا قيمة لموهبتك هنا. وعلينا أن نرحل إلى بلد تقدر فيه موهبتك وتتاح لك الفرصة لاستثمارها.
تساءل قيس في اضطراب: ماذا تعنين يا ليلى؟
قالت ليلى: أعني أنه يتوجب علينا أن نهاجر يا قيس. ومن المفضل أن نهاجر إلى أمريكا حيث يمكنك أن تستثمر هناك موهبتك أحسن استثمار فيتوفر لنا العيش الرغيد.
قال قيس في اضطراب: مستحيل.. مستحيل.
تساءلت ليلى في شيء من التهكم: ولماذا مستحيل؟ ألا ترى أن هذا هو الحل الوحيد أمامنا لإنقاذ حبنا؟
قال قيس في جزع: ولكن.. نهجر بلدنا ونترك أهلنا؟ لا يا ليلى.. لا يمكنني أن أفعل ذلك.. لا يمكنني أن أهجر أهلي.
قالت ليلى بلهجتها المتهكمة: ولماذا لا يمكنك أن تهجر أهلك؟ ألست أنا مثلك سأهجر أهلي؟ ثم أليس المفروض أن لحبنا الأولوية؟
قال قيس: ولكن ليس على حساب أهلنا يا ليلى.
صمتت ليلى طويلاُ ثم قالت وهي تسمَّر عينيها على وجهه: عليك أن تختار يا قيس بين حبك لي وحبك لأهلك.
قال قيس وقد استبد به الاضطراب: لا تظلمينني يا ليلى فلا علاقة لحبي لك بحبي لأهلي. لكن ما تقترحينه من حل يدمرني.
قالت ليلى بلهجة قاطعة: اسمع يا قيس. إنني توصلت إلى هذا الحل بعد تفكير طويل. ومن حقك أنت أيضاً أن تفكر فيه طويلاً كما فكرت أنا. وسأمهلك مدة شهر يتقرر بعده مصيرنا. وسأعيش في بيت أهلي خلال هذا الشهر ويحتجب كل منّا عن الآخر وكأننا في سفر إلاّ إذا وافقت على اقتراحي أثناء ذلك.
ثم نهضت عجلة وانهمكت في إعداد حقيبتها0 قالت أخيرا وهي تودع قيس: سيكون هذا الفراق اختبار لحبنا يا قيس وهو اختبار نهائي0
قال قيس بلهجة مخذولة: كما تشائين يا ليلى.
في تلك الليلة ظل قيس مستيقظاً حتى الصباح.وانهالت عليه الخواطر والذكريات.. كان ثمة حب عظيم يشده إلى أفراد أسرته منذ كان طفلاً يحبو. وكان يخيل إليه أن روح أمه قد ربطت به بخيط دقيق وأن حياتها قد تنتهي لو انقطع هذا الخيط. واعتبره أبوه هدية نفيسة من الله تقتضيه الشكر له ما دام حيّا. وكانت أخواته يتنافسن في حبه منذ وعى عليهن . ولا يمكنه أن ينسى تلك الكارثة التي ألمت بالبيت يوم مرض بالتايفوئيد وهو في الثامنة من عمره .واشتد عليه المرض حتى أشرف على الهلاك. كان الجميع يحفون بسريره ليل نهار. وكان يحدث له أن يفيق فيسمعهم يبكون مرّ البكاء. ولم تكن أمه تتناول من الطعام إلا ما يحفظ لها حياتها. وكان الأب يترك دكانه ويهرع إلى البيت بين ساعة وأخرى ليطمئن عليه. وانقطعت أخواته عن المدرسة ولم يفارقن سريره. وحينما أبلّ من مرضه وزار الدكان أقبل عليه جيران أبيه يحتضنونه ويقبلونه بشغف وكأنهم استردوا شيئاً غالياً فقدوه. وبدا السوق وكأنه في عرس.كيف له أن يهجر أهله الآن ويغادرهم إلى بلاد بعيدة؟ ولمن سيلجؤون إذا حزبهم مكروه؟ ومن الذي سيحل لهم مشاكلهم؟ فلقد اعتاد الجميع أن يلجأوا إلى مشورته منذ صار تلميذاً في الثانوية.ولقد كان المسؤول الأول عن زواج أخواته. فقد ربطن موافقتهن بموافقته. وبعد زواجهن ظل هو الوحيد القادر على حل ما يثور بينهن وبين أزواجهن من خلافات وخصوصا ما يحدث من خلافات دائمة بين صبيحة وزوجها رحومي. فهل باستطاعته أن يخونهم ويلقي كل ذلك الآن وراء ظهره ويهاجر إلى أميركا؟!
حينما أصبح الصباح كان قيس قد اتخذ قراراً لا رجعة فيه برفض اقتراح ليلى. لكنه شعر منذ اليوم الأول أنه يسبح في فراغ عظيم0 وأخذ احتماله لفراق ليلى يتهاوى يوماً بعد يوم. وكان يخيل إليه أحياناً أن ثمة غيمة سوداء قاتمة تكلكل ّ على البيت ولا تلبث حتى تنقشع. ولم يكن يدري ماذا يصنع بنفسه. كان يتنقل لساعات بين أرجاء البيت على غير هدى. وكانت ذكريات حياتهما السعيدة تحف به حيثما ولّى وجهه. وكان يخيل إليه أحياناً أن ليلى قد خرجت في أحد مشاويرها ولن تلبث حتى تعود. وجعل يهرب إلى دار أهله ويطيل المكث فيه. وكان ذلك يسرّ أخواته اللواتي كن يحدثنه عن كل شؤونهن0 لكن زياراته الطويلة كانت تضايق أمه. وفاجأته يومأ بسؤال لم يكن يتوقعه. قالت له وهي تتأمله بعيون مرتابة:هل أحوالك طيبة في البيت يا قيس؟
فضحك ضحكة مصطنعة وقال: بالطبع يا أمي. لماذا تسألينني مثل هذا السؤال؟
قالت وهي تهز رأسها: لا أدري يا قيس، لكن قلبي غير مرتاح.
وأثار سؤال أمه المخاوف في نفسه. فلعلها قرأت في وجهه ما يعتمل في صدره من أحزان. وقرر أن يختصر زيارته لأهله. لكن قراره هذا جابهه بمشكلة جديدة.فكيف له أن يواجه وقت فراغه المضني وقد باتت جدران البيت تخنقه؟!
ثم اهتدى إلى حل لهذه المشكلة وهو أن يقوم بالتجوال في شوارع بغداد ومحلاتها عصر كل يوم. وقال لنفسه: إن ذلك سيهيئ لي الفرصة للتعرف على مدينتي جيداً.
لكن ذلك التجوال كان ينتهي به دائماً إلى محلة الصليخ . فيحوم حول دار ليلى المرة بعد المرة. وكان يحاصره أثناء ذلك شعور قوي بأنه سيراها في أية لحظة. وكان يتملكه شوق ممض لرؤيتها.
وفي إحدى الليالي فوجئ بسيارتهم تدنو من الدار فغلبه اضطراب عظيم. وأسرع يتوارى في زاوية مظلمة . وخفق قلبه بقوة وهو يرى ليلى تترجل من السيارة. وانتظمته ارتجافة عنيفة هزت جسده هزاً.ولم تقو ساقاه على حمله فاستند إلى الجدار. وخيل إليه للحظة أنه يندفع نحوها ويتلقفها بين ذراعيه. وحينما غيبّها الدار غشيه دوار قوي فتهافت على الأرض.
وجر جسده المنهك أخيراً إلى مسكنه. وارتمى على فراشه بكامل ملبسه. كان مدمى القلب ملتاث المشاعر مهيض الجناح. وفجأة أجهش بالبكاء. وراح يهمس بعذاب: ماذا أفعل يا ربي؟ ماذا أفعل؟
أفاق قيس صباح اليوم التالي وقد ألمَ به ضعف ووهن شديدان. وصار أسيراً لفراشه وعيناه ملتصقتان بالسقف. ولم يعد يفارق الدار إلا لزيارة أهله.وأصبحت تلك الزيارات عسيرة عليه. فقد كانت عينا أمه الحزينتان تتجولان في وجهه باستطلاع أليم وكأنها تدرك ما يكابده من عذاب.
واشتدت عليه وطأة الأيام العشرة الأخيرة من المهلة. وكان يسمع أحياناً وهو ملازم لفراشه طرقاً على الباب فيهرع إليه وهو موقن بأن ليلى قد عادت إليه. ثم ينقلب إلى فراشه منكسراً مدحوراً والخيبة تدمي قلبه. ورغم خيباته المتكررة ظل يؤمن في أعماقه بأن ليلى ستتخلى عن اقتراحها وتعود إليه ً. وظل واثقاً أن حبهما سينتصر في النهاية على أية رغبات دنيوية.وكلما اقترب ميعاد الحسم كان شوقه لليلى يشتد اضطراماً. وصار يناجيها بصوت مسموع ويبثها لواعجه. ثم ينتبه إلى نفسه مذعوراً ويهتف بفزع: "أتراني سأصاب بالجنون كما حدث لقيس الملوح بعد أن فقد ليلاه؟".
وأخيراً حل يوم الحسم. وأدار قيس قرص التلفون في عصر ذلك اليوم وقلبه يدق دقاً عنيفاً وارتجافة قوية تهز جسده. لكنه بذل جهداً جباراً لكي يبدو صوته طبيعياً. وصافح سمعه صوت ليلى فقال: مساء الخير يا ليلى. كيف حالك؟
أجابت ليلى بصوت حيادي: أنا بخير. وأنت؟
قال قيس: وأنا كذلك0
صمتت ليلى هنيهة ثم قالت: أرجو أن تكون قد اتخذت القرار الذي يعطي الأولوية لحبنا يا قيس لكي نبدأ بإجراءات الهجرة.
فقال قيس: الهجرة يا ليلى أمر غير وارد. لكنني بلا شك سأذلل الصعوبات التي تواجهنا في حياتنا.
قالت ليلى بلهجة باردة: أهذا هو قرارك النهائي؟
قال قيس: أعتقد ذلك. ولكن..
قاطعته ليلى بلهجة حاسمة: هذا يعني أنك اتخذت القرار بأن أهلك هم الأصل في حياتك. إذن كل شيء انتهى بيننا.
وصمت التلفون. وللحظة بدا لقيس أنه لم يفهم ماذا قالت ليلى بالضبط. وافترسه جمود فظيع. وبقي قابعاً أمام التلفون وكأنه تمثال. ثم بدأ يستفيق من صدمته رويداً رويداً وقد امتلأ كيانه بشعور قاس، مرّ، مهين.






قيس
مناجاة
أيمكن أن ينتهي حقا ما بيني وبين ليلى بهذه البساطة؟ أنا لا أصدق ذلك0 أين ولّى حبنا العظيم؟! كيف يمكن أن يعجز هذا الحب العظيم عن التضحية برغبات ثانوية من رغائب الحياة؟ أفليس جوهر الحب التضحية في سبيل الآخر؟!
وعليّ أن أواجه خيارين؛ إما أن أخون أهلي وأهجرهم لأحتفظ بليلى أو أن أفقد ليلى وأحتفظ بأهلي. وكلاهما فوق طاقتي. فحياتي بدون ليلى صحراء قاحلة. وبعدي عن أهلي موت بطيء 00 فأية آلام وأحزان تلك التي سأكابدها في أيامي المقبلة!
ـ تمت ـ







#شاكر_خصباك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موت نذير العدل
- أين الحقيقة؟
- نهاية إنسان يفكر
- الواعظ
- التركة
- خواطر فتاة عاقلة
- العنكبوت
- الخاطئة
- رسائل حميمة
- انطوان تشيخوف -دراسة نقدية-
- الرجل الذى فقد النطق
- امرأة ضائعة
- صراع -مجموعة قصصية-
- بيت الزوجية -مسرحية-
- ذكريات ادبية
- القهقهة ومسرحيات اخرى
- الطائر
- كتابات مبكرة
- مسرحية -الغرباء-
- عالم مليكة


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - شاكر خصباك - الفصول الاربعة