|
لكي لا يتكرر - 8 - شباط اسود آخر
امين يونس
الحوار المتمدن-العدد: 2551 - 2009 / 2 / 8 - 09:59
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في 1963 ، كنا نَسْكنُ في دارٍ مؤجرة في محلة الامين ، الشعبية ، في بغداد الجديدة . اصحاب دارنا اي بيت " ام عدنان " كانوا يملكون منزلاً آخر يقيمون فيه ، على بعد مئة متر . كنتُ في الصف الثالث الابتدائي حينذاك . كانت البيوت متناثرة هنا وهناك ، والفضاءات الخالية متوافرة بين المنازل ، حيث نجتمع بعد المدرسة في ساحةٍ مُتربة ، نتقاذف الكرة اللاستيكية الصغيرة ام خمستاعش فلس ! رغم اعمارنا الصغيرة ، شعرنا ان شيئاً جللاً حدث . فإخواننا الكبار وآبائنا ، تغيروا فجأةً ، اصبحوا قلقين ، طلبوا منا عدم الإبتعاد عن البيت كثيراً ، في صباح ذلك اليوم المشؤوم ، سمعنا صوت إطلاقات نارية قريبة من بيوتنا ، وقبلها كان اخواي قد خرجا . في تلك الفترة كان ابي يستمع بقلق الى الراديو الذي بدأ يذيع المارشات العسكرية والبيان رقم واحد حول نجاح " الثورة " وسقوط عبد الكريم قاسم ! قبيل الظهر ، شاهدنا مجاميع مسلحة اغلبهم من الشباب ، يجوبون المنطقة ، ويطلقون النار على بعض اسطح البيوت بصورة عشوائية . قال ابي ان هؤلاء هم بعثيون ويقول الراديو انهم " حرس قومي " . رغم المنع المفروض علينا من اهالينا ، فلقد كنا نتجمع نحن الصغار بين الفينة والاخرى امام احد البيوت ، لنتبادل الاخبار والمعلومات . قال علاوي منفعلاً ، ان الحرس القومي قتلوا والد " حسن " ، زميلنا في الصف ، امام منزلهِ وجثته مازالت هناك . صديقنا " طالب " كان يبكي وهو يقول بأنهم أخذوا والده واخوه الاكبر . في مساء اليوم التالي 9 / 2 ، ذهبت مع ابي الى بيت جارنا " ابو علي " الوحيد في دربونتنا الذي كان عندهم تلفزيون ، وشاهدنا المنظر المروع لجثث الزعيم عبد الكريم قاسم وفاضل المهداوي وآخرين ، وجنود " الثورة " يبصقون عليهم امام الملأ . وتتالت بيانات " عروس الثورات " ومن بينها البيان المشؤوم رقم " 13 " ، الذي حّرض عصابات " الحرس القومي " على إبادة الشيوعيين والوطنيين . مرت الايام ، مُرعبة مليئة بالخوف والترقب ، وإنطبعت في اذهاننا ذكريات رهيبة عن ذلك الشباط الاسود ، الذي حَّول المساءات الرمضانية الجميلة ، في بغداد وانحاء العراق ، الى اوقاتٍ لإمتهان الانسان وهدرِ كرامتهِ . ستة واربعون سنة مّرَتْ ، كفيلة ان نغفر ، جديرة ان نسامح ، ولكن لا يجوز ان ننسى ! فبمجرد ان نفقد الذاكرة ، نفسح المجال لعودة الفاشية من جديد بوجهٍ آخر واسم مختلف . الاحداث التأريخية لا تقع إعتباطاً ، فالواقع اليوم هو " نتيجة " ل " أسباب " حصلت خلال السنوات السابقة . وما يجري اليوم سيكون " سبباً " لِما سيحصل بعد عدة سنوات . خيطٌ رفيع يفصل بين " الفكر القومي " وبين " الفكر الفاشي " . فإذا تّطرف الفكر القومي وإنحدر الى متاهات العنصرية ، وإنتهج الإقصاء وإلغاء الآخر ، فانه يقترب حثيثاً من الفكر الفاشي . وهذا ماحصل مع الفكر القومي العروبي في العراق وغيره ، متمثلاً في حزب البعث العربي وبعض القوميين العرب . محطات مهمة - رغم الخِصال الجيدة العديدة ، في شخصية " عبد الكريم قاسم " ، مثل نزاهتهِ المشهود بها ، ووطنيتهِ ، فأن تذبذبه وتردده في اتخاذ القرارات المصيرية ، وإنفراده في الحكم ، وخطأه المميت في إستقراء الاحداث وثقتهِ الموهومة بضباط الجيش ، وتهاونه مع المتآمرين . كل ذلك كان من الاسباب المؤدية الى إنقلاب 8 شباط . - إخفاق الاحزاب الوطنية المؤيدة لثورة 14 تموز ، في لعب دورٍ اساسي في الحكومة ومراكز إتخاذ القرار ، وخصوصاً الحزب الشيوعي العراقي . فالعلاقة الشائكة والقلقة بين عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي ، خلقت الفُرص لكل اعداء الثورة للإنتعاش وحياكة المؤامرات التي تكللت بالنجاح في 1963 . حتى " المقاومة الشعبية " ، هذه الميليشيا المسلحة التي شكلها الحزب الشيوعي ، في ارجاء العراق ، من اجل الدفاع عن الجمهورية ، بعد مؤامرة الشواف ، هذه المقاومة التي انضم اليها مئات الآلاف اثناء " المَد الثوري " وقامت فعلاً بدفاعٍ باسل عن الجمهورية ، لم تستطع الإستمرار . بل ونتيجة اخطاء بعض الإنتهازيين الذين إنضموا الى المقاومة الشعبية ، ومارسوا افعالاً بعيدة عن الروح الثورية الحقة . وكذلك " سيطرة " لجان المقاومة الشعبية على معظم الشارع ، أخاف عبد الكريم قاسم ، فطلب بحل المقاومة الشعبية . - تركيز " عبد الناصر " جل نشاطه ، في محاربة حكومة الجمهورية العراقية ، بالتنسيق مع سوريا القومية وعدد من الضباط البعثيين والقوميين العرب العراقيين ، وتسخير الاعلام المصري والسوري لتشويه صورة الثورة العراقية الفتية ، وإرسال الاسلحة والاعتدة والاموال ، الى بعض العشائر في الموصل خصوصاً وحث الضباط على التمرد ، كل ذلك ادى الى محاولة الإنقلاب التي قام بها " عبد الوهاب الشواف " ، التي سيطر فيها على مدينة الموصل ، وانتهت " حركته " بفشل ذريع . تاركةً أثراً سيئاً على عموم المجتمع العراقي . ودّقتْ أسفيناً بين المكونات السياسية ، إمتَدَ تأثيره الى سنوات لاحقة ، وتداعياته ماثلة للعيان الى يومنا هذا . - ان التساهل المُفرط ، تجاه القوميين العروبيين ، وعلى رأسهم " عبد السلام عارف " ، كان سبباً أساسياً للمآسي التي حدثت في 1963 . وهذا يثبت ان سياسة ( عفا الله عما سلف ) ليست صائبة في كل زمان ومكان . - كذلك إفساح المجال لحزب البعث للعمل بحرية خلال منتصف الستينيات ، وتغلغل ضباطه المشبوهين في الجيش ، وميلهم الغريزي لحياكة المؤامرات ، ادى الى إنقلاب 1968 . الذي أعاد نفس الطاقم الدموي الى واجهة الحكم في العراق . - والان بعد التغيير في 2003 ، والهزيمة النكراء لحزب البعث والفكر العروبي الضيق بصورة عامة ، عادت بوادر خطرة الى الواجهة السياسية العراقية . فبحجة المصالحة الوطنية ، يريد البعض ، ليس العفو عن البعثيين العاديين الذين لم تتلطخ اياديهم بدماء الشعب العراقي ( وهم الغالبية العظمى من البعثيين ) ، بل يقصدون جلاوزة النظام المقبور بكل قيادييه المجرمين وكبار ضباط الجيش والامن . حتى ان هنالك مَنْ يجهر بتمنياته ببروز " حزب العودة " الاسم الآخر لحزب البعث . تغذية الروح العشائرية وترويج القبلية المتخلفة ، مظهرٌ آخر لتعبيد الطريق امام العودة المأساوية الى الوراء . صعود هذا الخليط الخطر المشبوه ، من الفكر العروبي القومي المتطرف والضباط الكبار المغامرين من الجيش الصدامي السابق وبعض شيوخ العشائر المتلهفين لترسيخ الاقطاع . كل هؤلاء ، ينبغي الحذر منهم بجدية بالغة . ينبغي عدم الإستهانة بفوز بعضهم هنا وهناك في الانتخابات الاخيرة . فكل المصائب تنبع من الاهمال والتسيب وعدم تقدير الخطر القادم . العراق ليس بحاجة الى المزيد من التجارب المريرة . ولقد اثبت الفكر البعثي " بكل ملحقاته القومية العروبية " خلال العقود الاخيرة من تأريخ العراق ، بانه فكر فاشي ، ينبغي عدم السماح بعودته تحت اي عذر كان ، شأنه في ذلك شأن الحزب النازي الالماني والحزب الفاشي الايطالي ، المحظوران رسمياً . - 8 شباط الاسود 1963 ينبغي ان لا يتكرر . وذلك يتطلب الفضح المُبكر لكل التوجهات المشبوهة . وتعرية التطرف والعنصرية اينما ظهرا . وذاكرةً وقادة ، قد تغفر وقد تصفح ولكنها لا تنسى !
#امين_يونس (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
على هامش إنتخابات مجالس المحافظات
-
شعارات المالكي .. بين النظرية والتطبيق
-
مليون صوت مُجّيَر مُسبقاً لأحزاب الاسلام السياسي
-
حرب المُلصقات : - مَديونون - و - شنو الداعي ؟ - !
-
- مبايعة - أوباما والدروس المستخلصة
-
القائمة الوطنية العراقية ..تدمير من الداخل
-
دعايات نصف مُغرضة !
-
أهالي ضحايا حلبجة ينتظرون الجواب
-
الإصلاح السياسي في اقليم كردستان .. ضرورة مُلّحة
-
إستثمار نَزْعة العمل الطوعي الجماعي
-
ميزانية 2009 ، تحتَ رحمة سعر برميل النفط
-
شعب غزة .. بين همجية إسرائيل والسلطات المغامرة والفاسدة
-
لِيِكُنْ عيد رأس السنة الإيزيدية ، عطلة رسمية في الاقليم
-
محمود المشهداني ..نهاية مسيرة رَجُل.. بداية مرحلة جديدة
-
إنتخابات مجلس محافظة نينوى .. إضاءة
-
تكافؤ الفرص في إنتخابات مجالس المحافظات
-
علي الدّباغ ومواعيد عرقوب !
-
حذاء خروتشوف وقندرة منتظر الزيدي !
-
في ذكرى تأسيسهِ الثلاثين .. تحية الى pkk
-
عودة العشائرية
المزيد.....
-
-الموت أحلى من العسل-.. متظاهرة إيرانية في طهران توجه رسالة
...
-
ماذا حدث بين سفيري إسرائيل وإيران بمجلس الأمن؟
-
مقتل 70 فلسطينياً في قصف إسرائيلي على قطاع غزة، واشتباكات في
...
-
بين الغضب واللامبالاة: كيف تنظر الشعوب العربية إلى إيران في
...
-
قصف صاروخي إيراني يشعل حرائق ويتسبب بأضرار في بئر السبع
-
حرب إسرائيلية إيرانية.. هل تتدخل أميركا؟
-
الملاكم ناوروتسكي.. لماذا تخشى أوروبا الرئيس البولندي الجديد
...
-
محادثات إيرانية أوروبية بجنيف وعراقجي: لا حوار مع واشنطن
-
5 مدمرات أميركية في المنطقة لحماية إسرائيل و-نيميتز- تصل خلا
...
-
ما هي القاذفة الأمريكية الشبح -بي-2- التي تعول عليها إسرائيل
...
المزيد.....
-
كتاب تاريخ النوبة الاقتصادي - الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الواجبات عند الرواقي شيشرون
/ زهير الخويلدي
-
كتاب لمحات من تاريخ مملكة الفونج الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
كتاب تاريخ سلطنة دارفور الاجتماعي
/ تاج السر عثمان
-
برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية
/ رحيم فرحان صدام
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
المزيد.....
|