أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - فاطمة ناعوت - العصافيرُ ستدخلُ الجنة














المزيد.....

العصافيرُ ستدخلُ الجنة


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 2484 - 2008 / 12 / 3 - 09:50
المحور: سيرة ذاتية
    


حين مجموعةٌ من الأصدقاء يذهبون إلى مطعم ليلتفّوا حول وجبة من البطاطس المقلية، هل تخطرُ ببالهم الرحلةُ الطويلة التي قطعتها حبّةُ البطاطس، أو حبّة القمح التي ستغدو رغيفا، منذ بذرْها في التربة حتى تصلَ إليهم في صحن أنيق يحملُ توقيع المحل؟ أيُّ يدٍ حفرتِ التربةَ؟ أيُّ يدٍ دسّتِ الجذرَ أو البذرة؟ أيُّ يدٍ روتِ الأرضَ، وراقبتِ انشقاقها، وانبثاقَ برعمٍ، سيشتدُّ عودُه بعد يوم حتى تستوي عليه الثمرةُ باسقةً شهية تَسُرُّ الناظرين. يومٌ آخر وتتوهجُ بنضجها لتنتظرَ اليدَ القاسية التي ستنزعُها من رَحِمها. لكنها، ثمرةَ البطاطس، شأنها شأنَ الأنبياء والمناضلين الذين يبذلون أرواحَهم من أجل آخرين، ستقدم عمرَها القصيرَ راضيةً مرْضية. ثم تستسلمُ في أكفانها الخيش إلى شاحنةٍ ستنقلها إلى مذبحتها الجديدة. يدٌّ تخلعُ عنها الكفنَ، وأخرى تنزعُ القشرةَ، وأخرى تُقطّع الجسدَ الغَضَّ العاري شرائحَ، ويدٌ أخيرة تزجُّ بها في المحرقة. ثم أيادٍ كثيرةٌ، أيادي الأصدقاء سالفي الذكر، تدسُّ الشوكةَ، وتلتهم.
قليلون من يتأملون رحلةَ العذابِ الطويلةَ تلك، وبَذْل النفس. لكن فنانا هولنديا راقيا مفرطَ الحسِّ اسمه "فان جوخ"، لا شك أحدُ هؤلاء القِلّة. وإلا ما تفسير عشرات اللوحات الفاتنة التي حملت عناوينَ مثل: القرويُّ يحفرُ الأرض. زوجةُ القرويّ تدسُّ جذورَ البطاطس. القروية تحرقُ الأعشابَ الضارة. وفي أخرى تحرثُ الأرض. القرويُّ يصنعُ سلّة. الفلاحون يحصدون القمح. زوجةُ القروي تحزّم عيدان القمح. القرويّةُ تقطّع القشَّ. الحاصدُ بالمنجل (طالع الصفحة الأخيرة من الجريدة)، وفي الأخير: آكلو البطاطس. وحتى لم ينسَ حياتهما الفقيرةَ في بيتهما الريفيّ البسيط؛ فنجد لوحاتٍ عدّةً مثل: زوجة القروي ترتقُ الجواربَ، تغزلُ قبعّةً من القش، تحيكُ الملابسَ أو تغسلها على النهر، تكنسُ الدار، تهدهد طفلها، تقشّر البطاطس، تتناول وجبتها، تتدفأ أمام النار، تجلس حزينةً على باب كوخها تفكر. واللوحة الفاتنة "الخطوة الأولى"، التي تمسكُ فيها بيدي صغيرها تعلّمُه المشيَ، وأبوه يقف في البعيد فاتحا له ذراعيه.
كلُّ هذه الفتنة وأكثر رسمها جوخ حين رحل إلى الجنوب الفرنسي ليستقرَ في مدينة "آرل" الساحرة. خلّدَها بريشته، كما لم تخلدها كتبُ التاريخ الساذجة. رسم لياليها تضيئها النجوم، وفجرَها تباغته شمسٌ خجول. غسقَها يودّع الشمسَ. رسم أنهارَها وجسورَها وأعشاشَ طيورها. حدائقَها الساحرة بمروجِها ومراعيها. قمحَها وزهورَها وعشبَها وصفصافاتها وكستناءاتها الحمراء وصنوبراتها وسنديانها التي تكاد تصرخُ طربا، وترقصُ رافلةً في ألوانها الزاعقة الكثيفة، القاتمة جدا حينا، والمشرقة جدا حينا. ألوانٌ استحضرها جوخ بضرباتِ فرشاته الواثقة، الثقيلة الرهيفة، في آن. ألوانٌ جلبها، لا عبر عينيه اللتين تريان، بل عبر إحساسه الداخلي الذي لا يصوّر أو يصف، بل يشعرُ بالشيء، ثم يعيد خلقه.
ما الذي جعلني أقلّبُ في مكتبتي لأستخرجَ كتالوجَ حبيبي القديم فان جوخ الذي يكسوه الغبار؟ مشاركتي في معرض "الكتّاب يرسمون لصالح ضحايا الدويقة" في جاليري مجلة بورتريه. كنتُ نسيتُ أن في الفرشاةِ واللون متعةً وملاذا، لا يقلًُّ حُنوًّا وأمانا عن الموسيقى، التي أهربُ إليها كلما قستِ الحياة! ابحثوا يا أصدقائي عن لوحاتِ هذا العظيم وتأملوها مليًّا. فمن يشاهدُ لوحاته سيدخل الجنّة. لأنكَ بعد تأملها والإبحار فيها سوف تَشِفُّ مثل ملاكٍ، وتطيرُ مثل عصفور. والعصافيرُ، حتما، ستدخل الجنة.





#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يا مولانا رفقا بالصبيّ!
- انظرْ أمامَك بغضب
- الجميلة بحق!
- تلصّصٌ على بيتِ شاعر
- فنجان نسكافيه لكل متهم
- تعالوا نركب عَجَل!
- شيءٌ من -الحبِّ- و-العدل- يا -حبيب العادلي-!
- اِرجعْ للخلفِ قليلا حتى ترى
- وجهُكِ الذي يغيبُ من شباك الفصل
- مسيحي -بس- طيب!
- فنجانُ الشاي العُنصريُّ
- هذه ليست كُرَة، إنها صديقي!
- اللعنةُ تريدُ أن تضحك
- طبلةُ المسحراتي
- أخافُ اللونَ الأبيض
- هَدْمُ الأهرامات
- عزيزي أنيس منصور.. شكراً
- إلا درويش يا صهيون!
- طار إلى حيث ريتا!
- لأني إذا مِتُّ أخجلُ من دمعِ أمي


المزيد.....




- سلمان رشدي لـCNN: المهاجم لم يقرأ -آيات شيطانية-.. وكان كافي ...
- مصر: قتل واعتداء جنسي على رضيعة سودانية -جريمة عابرة للجنسي ...
- بهذه السيارة الكهربائية تريد فولكس فاغن كسب الشباب الصيني!
- النرويج بصدد الاعتراف بدولة فلسطين
- نجمة داوود الحمراء تجدد نداءها للتبرع بالدم
- الخارجية الروسية تنفي نيتها وقف إصدار الوثائق للروس في الخار ...
- ماكرون: قواعد اللعبة تغيرت وأوروبا قد تموت
- بالفيديو.. غارة إسرائيلية تستهدف منزلا في بلدة عيتا الشعب جن ...
- روسيا تختبر غواصة صاروخية جديدة
- أطعمة تضر المفاصل


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - فاطمة ناعوت - العصافيرُ ستدخلُ الجنة