أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - طار إلى حيث ريتا!














المزيد.....

طار إلى حيث ريتا!


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 2378 - 2008 / 8 / 19 - 06:59
المحور: الادب والفن
    


"لا الرحلةُ ابتدأتْ، ولا الدربُ انتهى". لكن هناك طفلا عاد إلى بيته القديم فلم يجد لُعبتَه وسريرَه وكراريسَ الرسم والزيتونة. لم يجد البيتَ ذاتَه. لا البيتُ ولا الحارة التي بها البيتُ. ولا الشوارعَ ولا الحيَّ. لم يجدِ القريةَ بحالها. يبحث الصغيرُ في الخريطة ويشير بإصبعه: كانت هنا بلدتي، وهنا بيتي. فأين راحت؟ ويجيبُ الكبيرُ: محاها صهيونُ يا ولدي ليحطَّ محلَّها أرضا يبابا! هيا بنا، يا صغيري إلى بيروتَ إلى القاهرةِ إلى تونسَ إلى باريسَ. وإلى كلِّ مكانٍ عدا فلسطينَ. فلسطينُ ما عادت لنا. فيطرقُ الصغيرُ برهةً ويتعوّد حزمَ حقائبه. لكن امّحاءَ بقعةٍ من الأرض كانت مسقطَ رأس الصبي، لا من كراسة الجغرافيا ولا من الخريطة بل من الكوكب بأسره، سيورثُ قلبَ الصبيّ الوجعَ. فيشبُّ الفتى بقلبٍ لا يكفُّ عن السؤال ولا يبرحه الانفطار. رغم هذا، وربما بسبب كل هذا، سيقدرُ أن يحملَ هذا القلبُ الصغيرُ المعلولُ وطنا بأسره. "وطنُ ينزفُ شعبًا ينزفُ وطنا يصلحُ للنسيان". سيحمل هذا القلبُ المنذور للغربة مسألةً لا تزالُ تعيي العالمَ بحثا ومناورةً واتفاقياتٍ ومراوغةً وضجيجا وضحايا وقصائدَ ودماءً. فيتعلم هذا القلبُ الشعرَ، ويعلّمه. ويعرفُ كيف يغدو، بقلمٍ أعزلَ، مقاتلا خطِرا أبيضَ الكفّين. يواجه الموتَ مرتين. ويهزمُ الموتَ مرتين. فالموتُ جبانٌ إذا ما واجهته. حاول أن يعلّم الموتَ أن يكون صيادا شريفا، لا قناصا نذلا ينال الضحيةَ دون نبل، فقال له: "ويا مَوْتُ انتظرْ/ يا موتُ/ حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الربيع وصحّتي/ لتكون صيَّاداً شريفاً لا يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النبع/ .../ لا تُحَدِّقْ يا قويُّ إلى شراييني لترصُدَ نُقْطَةَ الضعف الأَخيرةَ/ أَنتَ أَقوى من نظام الطبّ/ أَقوى من جهاز تَنَفُّسي/ ولَسْتَ محتاجاً- لتقتلني- إلى مَرَضي/ لا تكن شُرطيَّ سَيْرٍ في الشوارع/ كن قويّاً/ ناصعَ الفولاذ/ واخلَعْ عنك أَقنعةَ الثعالب." ثم يفاجئُ الموتَ بأنه يعرف مدى ضعفه، وبأنه لا يقدر سوى نزع الروح عن الجسد، أما ما صنع الإنسانُ من فنون وفكر وعلم فلا قِبَل للموت بقتلها: "لم يَمُتْ أَحَدٌ تماماً/ تلك أَرواحٌ تغيِّر شَكْلَها ومُقَامَها/ .../ أَنت مسؤولٌ عن الطينيِّ في البشريِّ، لا عن فِعْلِهِ أو قَوْلِهِ/هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها/ هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد/ الرافدين/ مِسَلَّةُ المصريّ/ مقبرةُ الفراعنةِ/ النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ/ وانتصرتْ/ وأِفْلَتَ من كمائنك/ الخُلُودُ/ فاصنعْ بنا/ واصنعْ بنفسك ما تريدُ."
حمل محمود درويش قضية الوطن ومقاومة المحتلّ في قلبه المتعَب. حملها وَهَنًا على وهن. لكنه في الأخير قرر أن يختار خيارا جماليا مغايرا. لونا آخر من ألوان المقاومة. قال: كلُّ شعرٍ جميل هو مقاومة. ضجَّ الرجلُ أن سجنه الناسُ في خانة المقاومة، وفقط. أراد أن يحلّق في المدى الأرحب للشعر.
لكنْ، حتى وإن طلبَ إلى الجماهير أن تقرأه كشاعر وليس كـ"قضية"، حتى وإن رأى نفسَه أكبر من القضية، وهو حقًّا أكبرُ من القضية، كلُّ شاعرٍ حقيقيّ هو أكبرُ من كلِّ قضية، ذاك أن الشعرَ يحملُ القضايا في أروقته، والشاعرَ الحقَّ يحملُ في قلبه القضايا، فينصهرُ بها وتنصهرُ به، حتى وإن تنصّلَ درويش في الأخير من شعره السياسيّ العروبيّ القديم، وانتصر لشعره الجديد الأكثر كونيةً وحياةً وطفولةً وحبًّا ونجوى، رغم كلِّ هذا، وربما بسبب كل هذا، يظلُّ درويش الشاعرَ الاستثنائيَّ الذي قصائده أشرسُ على العدو الصهيوني وأعتى من طلقات المدفع ورصاص المناضلين. نعم، فللكلمة طاقةٌ. وحتى إن خفتت طاقةُ الكلمة الآن في ظل مجتمعاتنا العربية الهشّة الآخذة بدأبٍ في الانحدار الثقافيّ والمدّ السلفي التغييبي المظلم، تظلُّ للكلمة طاقةٌ. فماذا عن طاقةِ كلمةٍ تنطلق من مداد فارس عزَّ نظيرُه بحجم محمود درويش؟ مَن مثله حفر بطاقات مواطَنةٍ على قلب كلّ عربيّ حين قال: "سجّلْ أنا عربي/ ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ/ وأطفالي ثمانيةٌ/ وتاسعهُم/ سيأتي بعدَ صيفْ! / ... /سجِّل/ أنا عربي/ سلبتَ كرومَ أجدادي/ وأرضاً كنتُ أفلحُها/ أنا وجميعُ أولادي/ .../ إذن/ سجِّل/ برأسِ الصفحةِ الأولى/ أنا لا أكرهُ الناسَ/ ولا أسطو على أحدٍ/ ولكنّي/ إذا ما جعتُ/ آكلُ لحمَ مغتصبي /حذارِ حذارِ من جوعي /ومن غضبي."
نعم قصائده الجديدة انتصرتْ للحياة والحب، لكن الوطن لم يغب. فلسطينُ حاضرةٌ في كلِّ كلمةٍ من قصائده، وإن أنكر هو هذا. لأن فلسطينَ بالنسبة لدرويش ليست موضوعةً شعرية تحضرُ وتغيب. إن هي إلا قطعةٌ من ذاته وخيطٌ من نسيجه. لا قِبل له بالتحرّر منها ولو شاء.
لكن القلبَ المرهقَ تعب من خذلان العدو وغياب الوطن وقسوة الأصدقاء. تعب من سجن القضية ومن سجن القصيدة ومن سجن الهوية، فاختارَ أن يطيرَ، بعدما عاش سنواتٍ (بعمرِ حزيرانَ المرِّ). إلى أين سيطيرُ القلبُ؟ إلى حيث ريتا. أينما كانت سيطيرُ إليها كي يستريح فوق قلبها. آن للقلب المتعب أنْ ينامَ. فنمْ ملء جفونك، يا فتى الشعر النبيل، عن شواردها. عليكَ الشعرُ والسلامُ والحبُّ. عليكَ، يا درويش، الحياة.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لأني إذا مِتُّ أخجلُ من دمعِ أمي
- العادات الشعبية بين السحر والخرافة
- تأنيث العالم في رواية ميس إيجب. من الذي قتل مصر الجميلة؟
- على باب فيروز
- شجرةُ البون بون
- قارئة الفنجان
- هنا فنزويلا
- اِستمرْ في العزف يا حبيبي!
- لسه الأغاني ممكنة؟
- ارفعْ مسدسَك عن أنفي، أُعْطِكَ فرجينيا وولف
- سؤالُ البعوضةِ والقطار
- ترويضُ الشَّرِسة
- مَن يخافُ -حين ميسرة-؟
- ولم يكنِ الفستانُ أزرق!
- أعوامٌ من النضال والاعتقال-مشوار فخري لبيب
- إلى أين تذهبُ الشمسُ... يا جوجان؟
- انظرْ حولك في غضب
- ثقافةُ الوقوف في البلكونة !
- بالطباشير: فقدانُ الهالة
- داخل رحم


المزيد.....




- المخرج علي كريم: أدرك تماما وعي المتلقي وأحب استفزاز مسلمات ...
- وفاة الممثلة كيلي ماك عن عمر ناهز 33 عامًا بعد صراع مع السرط ...
- ليدي غاغا تتصدر ترشيحات جوائزMTV للأغاني المصورة لعام 2025
- عشرات الإعلاميين والفنانين الألمان يطالبون بحظر تصدير السلاح ...
- بين نهاية العباسي وأواخر العثماني.. دهاليز تظهر أثناء حفر شا ...
- ظهور جاستن ببير مع ابنه وزوجته في كليب أغنية Yukon من ألبومه ...
- تونس: مدينة حلق الوادي تستقبل الدورة الرابعة لمهرجان -نسمات ...
- عشرات الفنانين والإعلاميين يطالبون ميرتس بوقف توريد الأسلحة ...
- حكايات ملهمة -بالعربي- ترسم ملامح مستقبل مستدام
- مسرحية -لا سمح الله- بين قيد التعليمية وشرط الفنية


المزيد.....

- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - طار إلى حيث ريتا!