أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - ونثرنا ضمائرنا على الجدران//قصة قصيرة















المزيد.....

ونثرنا ضمائرنا على الجدران//قصة قصيرة


تحسين كرمياني

الحوار المتمدن-العدد: 2460 - 2008 / 11 / 9 - 07:52
المحور: الادب والفن
    


[أنا وأنت،كوكبان..في الكون/مسافران ضائعان../أنا وأنت،حرفان..مبهمان/لا يفك رمزيهما أنس ولا جان]..(بيشنك)
***
[ ليس بالضرورة أن تعني هذه القصة أحداً وقد تعني أيضاً من باب المصادفة..]
***
في غبشٍ آيل للصحو،كان يندفع مثل دلافين في لحظة مرح رافعاً أنفه،يتبجح بخطواته المتثاقلة،تلك الخطوات المتناغمة ما بين جسده المتناسق وخياله الخصب،لا هو طويل ولا قصير وليس ببدين أو نحيف،خلته في تلك الرؤية ما يزال يواصل كما عهدته حروبه الخيالية،رغم أنف ما جرى من تبدلات جوهرية في كل ميادين الحياة،حروب كانت تتوالد لبراءة أمزجتنا ومصداقية أفكارنا،كانت تتعلق إلى حدٍ ما بنقاهة عقولنا وعفوية قلوبنا مرحلة المراهقة،رغم الفرحة المباغتة التي غمرتني والرغبة الملحة التي أججت فضولي كي أنطلق وأباغته من حيث لا يشعر،توالد فجأة هاجس صلبني فبقيت مثل مشلول يستصرخ ولا مجير حيثما كنت،من وراء نافذة غرفتي ـ بين مصدق وغير مصدق ـ رحت أراقبه في صباح بدأ يبتلع بقايا شوارد ظلام منحل،سادني يقين أننا من جديد سنلتقي كثيراً كما كنّا طالما بزغ مثل شمس تخلص من براثن كسوف،صديق صدوق،واثق من كل ما يقول ولو كان فيه شيء من غرابة فكر أو لا معقول،لعب في تلك الأزمنة الطفولية والشبابية دوراً فاعلاً في حياتي،حافلاً بالتناقضات الودودة وكل إشكاليات اللعب الحر في صياغة ما نرغب من أسمال أفكار تنافي واقعنا المر ولا تهادن ما هو صادر من أعداء الجمال الروحي للأشياء،انتشلني من بحر اللهو وأسقطني برغبة مني واندفاع في بحر الكلمات قبل أن يتركني أسير عزلة ويرحل..!!
***
قال لي ذات يوم :
ـ اللهو يسلبك مستقبلك..
ـ أنا أشطر الصف..(قلت له)..
ـ الشهادة سجن متوارث،حطم هذا السجن يا زميلي..؟؟
ـ وأي سجن تقترح يا ملعون..
ـ الشعر..وحده من يثبت أن الدنيا محض هراء ووهم..
اندفعت أتبعه،يزودني بمتاع لا ينضب،كتب ومجلات وصحف تتحدث عن الثقافة وتطرح من غير خوف جرأة أفكاراً وحرية آراء مخيفة،وراح يسمعني أنا المشدوه إزاءه غريب كلام حتى اكتشفوا أنني في الليل أهذي وفي النهار أشرد بعيداً عن كل ما يدور من حولي،وسيماً كان حد اللعنة متأنقاً بأبسط هندام،جذب أنظار كل حلوة تلاعبت أحشاءها على وتر الرغبة وحلمت به ولداً(تايتنيكياً)*رغب دائماً أن أتبعه في تجوالات ملؤها السخرية وتفسير كل ما يصادفنا أو نصادفه بشيء من فلتان اللسان والرغبة في تدمير قوانين الحياة المتوارثة،وغالباً ما نترك كل شيء ليجرفنا تيار الثقافة النبيلة لنستحم في بحيرة الشعر،نمضي حيثما تكون هناك ممرات وطرق لا تلوكها إطارات المركبات،أزقة تتعرج في التواءات ثعبانية تعج دائماً بفوضى الحياة..!!
***
مرة قال لحظة تأوهت فتاة مرت بالقرب منا:
ـ من يجري خلف فتاة ليس بوسعه تحرير العالم من سجونه..!!
كل جملة كنت أعرف أين مرماها وما هو مغزاها،ليس بوسعي أن أنسى يوم وقف في الصف لحظة طلب منه مدرس مادة العربية أن يروي شيئاً عن حلمه المستقبلي،صب جام غضبه على(الفراهيدي)قبل أن يرفع كفه اليمين كما لو كان في لحظة أداء القسم ويصرخ :
ـ سأنسفه من رف الزمن..!!
لا يتكلم إلاّ فلسفة وزادني رغبة أن أكون شطره الآخر لقيادة حلمه المؤرق وتحرير ما كان يراه رماد عصور تصخرت،رغب أن يكتشف طرق غير مجربة لتحرير هموم القلب وسموم الرأس،كي ينقذ البشر ـ هكذا كان يحلم ـ من سيادة البربرية..!!
***
مرة قال:
ـ سيأتي اليوم،لابد أنه آتٍ يا زميلي،سترى يا عزيزي،كيف تنطلق مواكب الناس لارتداء أسمال جديدة أفصلها كما يرضي مزاجي،أسمال قد تربك وتصعق الذائقة لكنها ستغدو موجة عارمة،قبل أن تتكشف الحياة عن وجه أكثر معقولية للتعايش..!!
أذكى في أحشائي نيران لا تخمد ورسم لي دروب حلمه الجميل،ومضيت دون أن أشعره أسهر وأبحر في متون ممنوعات الكتب بحثاً عن تغريدٍ لم يسبقن إليه شاعر،ترى أين كان ومن أين هل بعدما صار نقطة ضوء في ذاكرة منهكة..!!
***
كنت لحظتها أطارد ذؤابات قصيدة ظلت تتماوج في محراب ليلي وبكرت النهوض من أجل اقتناصها،وفي غمرة شرودي شعّت تلك النقطة وكشفت المسافة الممتدة من نافذة غرفتي وحتى الشارع الممتد على طول الوادي،لا يمكن أن أنسى مشيته،قلبي دليلي،عزف بغتة،ما أن ظهر ذلك الإيقاع الراسخ المتناغم مع ضربات قدميه،صاحت أغواري:هو..هو..!!من وراء دخان بقايا رماد نيران عيد(نوروز)**..تمكنت أن أميزه وأقتنصه وعاد إلى ذهني ما قاله ذات مساء ونحن نسير على رصيف الشارع الترابي وكان هناك رهط صبيان يراكمون الإطارات المستهلكة داخل بطن الوادي الذي يلاصق الشارع حتى نهايته قبل أن يذكوا نار الفرح فيها:
ـ النيران قصائد متمردة..!!
أتذكر أنني وقفت وحدقت في عينيه،وقف هو أيضاً ورفع كفه كما كان يفعل كلما أراد أن يرسم شيئاً أو يحرر فكرة من مستودع أحلامه الملائكية..قال:
ـ النار قصيدة متحررة بلا صوت،الصوت قصيدة متحررة بلا نار،النار تحرق الجسد والصوت يحرق الأعصاب ومثلما الصوت هو هروب من الجسد أي من سجنه،النار أيضاً هروب من الجسد من السجن،أليس الشعر هو هروب الكلمات من الجسد من السجن..!!
مسك كفي اليسار وقادني من جديد،لم أجد لحظتها ما أحاجج به فلتته وخلته يمزح كما كان يفعل في كل حواراته سواء معي أو مع كل من يسأله،وقال لحظة انطلقنا:
ـ كل شيء ينطق بلهجته فلماذا ننطق نحن بلسان(الفراهيدي)..!!
لقد سأم الشعر القديم وهيأ أجوبة كانت تضحكنا كلما كان مدرس مادة اللغة العربية يحاول أن يبحر في آتون قصيدة كلاسيكية،ويوم سأله مدير المدرسة عن سبب هذا التمرد عن التراث،قال:
ـ أستاذ أكره البلابل الداجنة..!!
ـ ستلف وتدور وتسقط في القفص يا شاطر..(أجابه المدير)..
ـ لن أغادر غابة الزمن ،أنها بلا حدود،سيشهد التاريخ على ما أقول..!!
وجدته على حق يوم سرد لي أن سبب بلاء الناس شعراء العمود،هذا الشعر كان أبن لحظة عماء ـ هكذا قال ـ كون المرحلة كانت غابيّة وكان لابد من وسيلة لتأجيج النفوس وإلهاب الحماس وجعل المرء ثوراً جامحاً يقتحم المنايا بعد أن يفقد شعوره،حتى الغزل ـ على حد تعبيره ـ كان حرباً ضد الكينونة من أجل إخماد شهوة وبالتالي هو حرب ضروس ما بين كائن ضعيف وآخر عنيف،كان شعر العمود وسيلة لتحقيق الغايات،لذلك كان أجندة للكذب والتزلف والتودد والرياء،شعراء اليوم ما أشبههم بشعراء البارحة،لهم ما كان لدى السابقين من قلوب هشة،وصدق من وسمهم سدنة الغاوين،ها هم وجدوا السجن القديم ذي الستة عشر خانة ملاذاً أو ساحة مأمونة ومؤهلة لكسب القوت وتحقيق الغايات غير النبيلة..وأضاف:
ـ يا صاحبي لا تستغرب إن قلت لك أن(الفراهيدي)قرر الانتقام من الآتين حين شعر بفشله الذريع أن يغدو شاعراً ولمكره تمكن أن يبتكر سجناً لوقف زمن الشعر..!!
***
قال عنه مدرس العربية شخصية( بالومارية)***..مليء بأفكار جريئة ومسلية ودائماً كان درسه من أروع الدروس،كان يحررنا من سجن المواد البالية ويبيح لنا أن نختار ما نراه خارج بلادة المنهج كي نطلق عقيرتنا كل على هواه،ونعبّر عمّا يجيش في صدورنا من غريب أفكار..!!
***
ذات درس كان أحد الطلبة نائماً وفي لحظة هدوء عم صوت(شخير)ضحكنا قبل أن يقوم صاحبي ويقول :
ـ أتدرون أن الشخير قصيدة عمودية..!!
ندت صرخة موحدة و ضحكة مجلجلة دفعت(المدير)أن يركض نحونا،فتح الباب ووقف:
ـ أضحكنا معك يا شاعر..(قالها بشيء من العصبية)..
لم يبدل من نظرته بل قال بكل ثقته المطلقة بآرائه:
ـ كنت بصدد أن أثبت لهم أن لا فرق بين الشخير والقصيدة العمودية أستاذ ..
ـ وما هو أوجه الشبه يا شاطر..
ـ الشخير عزف ثابت الإيقاع كما قصيدة العمود،ليس كل إنسان بوسعه أن يقول الشعر كذلك ليس كل إنسان يشخر،الشعر والشخير لا يقتصران على جنس محدد، ألا تروا معي أنهما يثيران الأعصاب وكليهما يتحرران في لحظة غياب الوعي،في لحظة شرود..!!
ضحك المدير وضحكنا..!!
***
ها هو يهل مثل قمر غاب طويلاً في جوف خسوف،لقد هرب من جحيم البلاد ولم يعد يحتمل لا جدوى حياتنا وأراد أن يؤسس في مناخ خادم مهما كانت التكلفة نظريته التحديثية وإنقاذ جنس الشعر،أنبل المواهب الإنسانية على حد زعمه من الرتابة والكسل،كما قال لي يوم ودعته،قرر أن لا يرتدي لباس الحرب التي خيمت علينا وأختار المنفى ملاذاً ملائماً وحاضنة لابد منها لديمومة أفكاره..يوم رحيله كفكف دموعي بمنديله،قال لي:
ـ لا تنتظر مني رسائل،أخشى أن يعتقلوك..!!
***
تأكدت منه وهيأت نفسي للقاء غير معهود في اليوم اللاحق،بكرت أيضاً النهوض واسترجعت الكثير مما كان تاريخاً حافلاً بالمسرات قبل أن تلتهمنا الحروب والمجاعة،لم يتأخر ظهر كما الشمس في ميقاته،في الأفق المتناهي،حيث البيوتات المطلة على الشارع وهي تدرأ الكسل أمام نسمات آذار اللاسعة،والمحال التي راحت ترفع الحجابات عن كنوز أحشاءها،العابرون كل إلى سعيه،وكما حدث صباح أمس،أرتجف قلبي لحظة بان،لم أحتمل نفسي هذه المرة،ولم يباغتن هاجس الشلل كما فعل يوم أمس،اندفعت مثل مخبول خارجاً،كان قد وصل بداية سوق المدينة،عجلت من خطواتي كأني أطارد متلبس بجرم،شقيت زحام العمال المتراصون على جانبي الشارع،اجتزت بشق النفس قاطرة باعة الأرصفة والعربات المتراصة على خط الرصيف،لكنه ذاب كقطرة ماء في رمال ساخنة،فتشت كثيراً ولاحقت كل من تلامح بهيئته،عدت متعباً وراح ظن يجرفني وشك يلتهمني،قد أكون مخطئاً في تقديري،قرار صرفت وقتاً لإقراره،وصلت المنزل وجلست قرب النافذة ووجدته من جديد يطل على مسرح خيالي..!!
***
قال لي ذات يوم:
ـ أتدري يا عزيزي(السيّاب)سيّاف آخر..!!
ـ أرجو أن لا تقول،تم تحريف الفاء إلى باء ..
ربت على كتفي ومسك كفي اليسار وقادني صوب الأزقة الأثيرة،قال:
ـ سجن(السيّاب)أرحم قليلاً من سجن(الفراهيدي)..!!
ـ ألا يعني هذا أن سجن(الفراهيدي)آيل للزوال..
وقف ورأيت إلتماعات الدهشة في حدقتيه،سحب نفساً وحرر شهيقاً صائتاً،عانقني وأمطر وجنتي بوابل قبلات،رفع يده كما كان يفعل وهتف:
ـ بلغت مرامي..
ـ لم أفهم ماذا تقصد بمرامك ..
ـ أنا الجلاد القادم يا صاح..!!
قال ذلك وشاركته سعادته لحظة ضحك،توقف وألقى نظرة عميقة كانت قبل أن يفه:
ـ سأزيل مبدأ الوراثة..!!
ـ أي وراثة يا شاعر..
ـ سجون(البصرة)ما عادت تنفع في يومنا هذا..!!
ـ أية سجون يا ملعون ..
ـ ألا ترى أن(الفراهيدي)سلمها لـ(لسيّاب)..!!
ـ آه فهمت أنهما من(البصرة)طبعاً..
شرح أشياء كثيرة ومثيرة،وصف عملية انفجار الحياة وتقدمها بعمليات هروب متلاحقة من سجن لسجن،من ركوب الحمير إلى المركبات ثم الطائرات،وأعتبر زراعة المحاصيل الصيفية في الشتاء والشتائية في الصيف هي عمليات تحطيم وتبديل سجون وقال أيضاً:
ـ ألا من حقي نقل السجن من(البصرة)إلى هذه المدينة البائسة..!!
***
تمرغت البلاد بوحل الهزائم وموت لغة الفرح،هاجر من هاجر لتحطيم سجن واقعه وبقى من بقى بلا طموح،عاجزاً متسربلاً باليأس ليغرد في سجون بالية..
***
أقنعت نفسي من بعد هواجس ورؤى وظنون بأنه هو،لا أحد في مدينتنا يشبهه في السير،وحده كان يمتلك صفة نادرة،أينما يرغب أو يجبره مزاجه يتوقف،يحدق بتأمل،كان يصوغ فكرة جديدة أو يحاول أيجاد تفسيراً ملائماً لحالة عرضية تواجهه،لا يمكن أن أخطأ في التقدير،هو..هو..مضيت أسير ماضٍ ثقيل أندفع ليحاصرني،أجلس أراه يلاصقني وحين أستلقي في فراشي يستلقي جنبي،هكذا كنّا سابقاً،قررت أن أباغته هذه المرة،لن أدعه يفلت كما فلت مني،ومع الفجر برز متألقاً من الأفق الداخن،ضوء يمشي بتؤدة،انطلقت بهوس صوبه،قررت أن أقف بدربه،سأصرخ وفق مزاجي،هكذا عزمت أمري،يقيناً سيفتح ذراعيه وأفتح ذراعي،قررت أن أعاتبه بلهجة شعرية حماسية،كونه جاء من غربته ولم يسأل عني،سنتعانق لا محال ونوقف سير المركبات في الشارع،ستطلق منبهاتها وربما ـ هذا ما أتوقعه ـ سيقول أنظر يا صاح،هذه المركبات ما تزال تحرر الشعر العمودي رغم نجاة حياتنا من خانقيها،ربما سنرقص رقصة جديدة هو مبتكرها،ولم لا،رغم أنه كان يريد من الشعر أن يكون غير مقيداً بمقاليد الرقصات المتوارثة،أراد شعراً أسمعني الكثير منه،خلته كلام مجنون،أمشي وفرح كبير يغمرني وأنا أتقدم باتجاهه،سأقول له ذهب الجلاد،أرجو أن لا نهيأ أرضية لآخر،لفتت نظري حقيبة نسيجية يتأبطها،ذكرتني بحقيبته يوم الدراسة،كان يمتلك حقيبة غريبة،أقتناها من سائح فقد ماله أو سرق منه،لم يوضح أكثر من ذلك يوم سألناه،صار أمامي بمسافة لا تزيد على مائة متر،فجأة غير مساره وعبر إلى الجهة الأخرى،لم أنفعل خلته فلتة من فلتاته المجاملاتية وهيأت نفسي لواقعة مشهودة،لكنه مضى بهدوء كأنه لا يعرفني،كانت أسماله مرقعة بنثار أصباغ ملونة،إجتازني و استدرت متوقعاً كل شيء منه،راح يشق الصباح بمشيته الهوينى،رافعاً أنفه وواضعاً سيجارة في فمه،شيء لم اعهده فيه من قبل،ساورني الظن أنه ربما تلوث كما تلوث رهط من أبناء البلد يوم حطموا سجونهم الأخلاقية ونهبوا كل ما هو ممتلكات عامة بعد غزو البلاد،سار صوب الشرق،هناك كانت معتقلات تعج بالناس،تحطمت وصارت منازل غير قانونية،تبعته لا أعرف لم،شيء ما شدني إلى ذلك،وصلت إلى بدايات منازل متعرجة وتذكرت قوله يوم كنا نتجول بين منازل تجاوزت على القانون،جدران متباينة ومتعرجة،جدار صاعد وآخر نازل:
ـ أتدري..البيوت قصائد..!!
ـ فراهيدية أم سيّابية..!!
ـ كل بنّاء ماهر هو شاعر مجيد،أنظر إلى هذه التشوهات،أنها تدل على مواهب متعثرة ما تزال تقبع في سجونٍ قديمة..!!
تابعته من مسافة معقولة إلى حيث كان يمشي،أخترق ممرات متعرجة ومنازل بائسة أقامها أرهاط بشر وجدوا أجواء مهيأة بعدما حطموا قلعة كانت في يوم ما السور الحصين للبلد،ثكنة عسكرية وسجن عملاق للجنود الفارين من جحيم الحروب،وجدته يقف أمام هيكل بيت غريب،لأوّل مرة في مدينتنا ألاحظ بيت فوق بيت،خلاف ما هو مألوف من طرز منقرضة ظلت تأكل أعصابنا وتبدد أحلامنا،عالج أكرة باب عريض،وقفت قرب صبي يعرض على لوح خشبي متدرج علب سجائر ولأوّل مرة أيضاً أجدني أمد يدي وأستل من علبة مفتوحة سيجارة وأضعها بين شفتي،رأيته يعتلي ألواح مثبتة فوق براميل فارغة كجسر بموازاة الواجهة الأمامية للبيت العجيب،جلست أراقبه وأنا بين رغبتين متصارعتين،أن أباغته أو أقبر هذا الفضول المتنامي في،اعتلى الجسر وبدأ يحرك صندوقاً يتلامع من أثر سقوط أشعة راحت تنسل من بين الغيوم المتناثرة،لاح الجدار وهو يكتسب رونقاً كأنه جدارية ناطقة فوق طلل وخرائب،لقد كان ينثر(الأسمنت)بصندوق لا أدري أهو من بنات خياله أو ثورة تكنولوجية جلبها من العالم المترامي الذي أبتلعه لحين من الدهر،شيئاً فشيئاً بدأت ألوان متجانسة تجذب النظر ورأيت بالفعل رؤوس تطل من وراء الأبواب والنوافذ ومن فوق الجدران المتناصية لرجال ونساء،أهالي مدينتنا أباً عن جد كانوا يعالجون جدران البيوتات الطينية بشفرة مسطحة نطلق عليها(مالنج)****أما ما كان يحمله صندوقاً عجيباً غريباً،يبصق رذاذ الأسمنت الملون بشكل ساحر،فتذكرت يوم قال لي:
ـ صندوق الوجدان ما عاد ينفع في يومنا هذا لقول الشعر،لابد من صندوق بديل يحتوي آلامنا ويلبي طموحاتنا،نحن في زمن ممنوع أن تقول فيه الحقيقة..!!
وتذكرت أيضاً:
ـ أنا الجلاّد القادم../..نقل الوراثة الشعرية..!!
لابد أنه جاء بثورته العملاقة وحقق غايته النبيلة لتحطيم السجون المتوارثة وأنه سيشعلها حرباً قبل أن تندفع الجموع لركوب هذه(الموجة الجديدة)..أتذكر أيضاً أنه قال لي ذات يوم:
ـ أريد أن أحوّل مجرى الشعر من بحر القيود إلى رذاذ متناثر..!!
ها هو ينثر ـ لا فرق ـ الكلمات أم الأسمنت أو(الجص)..على هذا الصمت،لم أجد ما يدفعني إليه،كان يجب أن أعود وتركت الفرصة لليوم اللاحق،وللحقيقة أقول بعد أيام ذهبت إلى البيت العملاق،رأيته كفتاة ناهد،تبرز فتنتها إلى الفضاء،بيت كأنه يحكي قصة جديدة،ولكن لم أجد زميلي،لقد اختفى ثانية،ومضت الأيام والأشهر،الشيء الذي ظل يسطع وينمو هو ما جاء به من موجة عارمة هزّت المدينة وجعلت الناس يندفعون لتطبيق هذا العمل البشري الساحر،كل واحد كان يحمل صندوقاً معدنياً وينثر خياله على جدران منزله،يقيناً أن صاحبي حقق رغبته وحطم سجناً وراثياً وفرض بكل هدوء وجبروت سجناً آخر لنثر الخيال على بياض ـ لا فرق ـ الورق أو الحائط،ومن يوم اختفائه،قلت وداعاً للأنظمة القديمة ومرحباً بعالم بلا قيود،وداعاً لقصيدة العمود والشعر الحر وأهلاً بقصيدة النثر،لا فرق..المهم براعة توزيع الكلمات لصنع خطاب جمالي يبهر العين طالما الجوهر بات في هذا الزمان في خبر كان،وفي اليوم اللاحق قررت أن أبدأ بجدران بيتي بعدما هيأت صندوقي،رأيت جدران بيتي المتهالكة مسرحاً للتجريب قبل أن أنثر خيالي فوق أديم الورق الساحر،وفي غضون يومين أو ثلاثة أيّام،كانت جدران البيت لافتة للنظر وتماشي الذوق العام..!!
***
* تايتنيكيّاً :نسبة إلى وسامة ـ فرناندو دي كابريو ـ بطل فلم(تايتنيك).
** نوروز :العيد الوطني للأمة الكردية،يصادف 21 من شهر آذار.
*** بالومارية : نسبة إلى ـ السيد بالومار ـ لأيتالو كالفينو.
****مالنج : شفرة صفيحية مسطحة تستخدم في البناء لصقل الجدران والأرضية.
***



#تحسين_كرمياني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بجلطة شعريّة..مات بطل رواية(نافذة العنكبوت)
- الأتفاقية الأمنية بين مطرقة أمريكا وسندان الفوضى
- أنا كاتب تلك الفصة
- شيء ما يحدث
- لحظة فقد ذاكرته
- أنا كاتب تلك القصة
- في حدثين منفصلين
- حفيد العاشق محروس
- مضت ساعات الندم
- براءة اكتشاف..البرلمانيون لا يقرؤون
- صبر العراقي..أيّوبي
- الجنود لا يتحركون ليلاً
- هل قلت شعرا
- ولد روائياً
- ثغرها على منديل//قصة قصيرة//
- يوم أغتالوا الجسر //قصة قصيرة//
- سراب..أو..ترنيمة لغزالة القلب//قصة قصيرة//
- كلب الأمبراطور وقصص أخرى
- الرقيب الداخلي
- من أجل صورة زفاف//مسرحية//المشهد الأول


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تحسين كرمياني - ونثرنا ضمائرنا على الجدران//قصة قصيرة