أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ممدوح رزق - قراءة في ( قصائد امرأة سوداء بدينة ) ل ( جريس نيكولز )















المزيد.....


قراءة في ( قصائد امرأة سوداء بدينة ) ل ( جريس نيكولز )


ممدوح رزق

الحوار المتمدن-العدد: 2455 - 2008 / 11 / 4 - 04:35
المحور: الادب والفن
    


ماذا أعلنت ( جريس نيكولز ) بداية ؟ .. أعلنت أن ثمة امرأة كتبت قصائدا تستند بشكل أساسي ومتعمد على كونها سوداء وبدينة .. هكذا دون صفات أو سمات أخرى لم تساهم بنفس القدر الذي بذله ( السواد ) و ( البدانة ) في انتاج هذه القصائد .. إذن هي قررت أن تمارس احتفاءً متحديا للمفاهيم اليقينية للقبح التي ظل العالم يرسخها بإصرار على مدار الزمن .. قررت الاحتفال بالهوية المنبوذة اعتياديا التي تحملها وذلك بإثباتها والتمسك بها بل وتصديرها إلى الحياة كعنوان وجود .. الهوية كقدر عقابي لم تكن هذه القصائد نتيجة الهروب أو الاختباء منه أو حتى الدفاع عن النفس في مواجهته بل على العكس كانت توثيقا لتبنيه ورعاياته ودعمه و لتحول هذا القدر / العقاب نتيجة هذا الاعتناء من أداة للقتل إلى أداة للسخرية الطفولية أدت إلى انقلاب السحر على الساحر بواسطة الشعر .. الشعر الذي يجعل القدر يتخذ اتجاهات مضادة ومسارات عكسية نحو صانعه .

( السواد ) و( البدانة ) .. الجسد ولونه .. البدانة كعار جسدي تاريخي مقابل النحافة كتعريف تقليدي للجمال !! .. السواد كوباء عنصري محفور في ذاكرة الدنيا مقابل البياض كمرادف للتميز والتفوق والتحقق الأمثل للإنسان المقدس !! .. لدينا هنا إذن حضور شرس لميراث اجتماعي وثقافي وحشي يتمثل في هاتين الفضيحتين الشهيرتين والتي كان على هذه الذات أن تحملهما معا : ( السواد ) و ( البدانة ) .

ما الذي تفعله المرأة السوداء البدينة في قصائدها إذن ؟
المرأة السوداء البدينة تخرج لسانها بتهكم هاديء نابع من طبيعتها الرقيقة في وجه هذا الميراث بكل أخلاقياته وحماقاته وأمراضه وجرائمه وتشوهاته .. تركل بقدمها السمينة مؤخرة التاريخ الهائل من الظلم والقهر والقتل وذلك بالتصالح مع تعريفها الشخصي الذي اختزل كينونتها عمدا إلى السواد والبدانة والذي أصابها هذا التاريخ به كي يمارس ضدها سلطته الإقصائية والإلغائية بما يتناسب مع مشروعه الدموي .. التصالح الذي يجعل هذا التعريف الاختزالي يتحول إلى صفة جمال مؤكدة تضاف لكافة صفات الجمال الأخرى وفي نفس الوقت إلى إدانة أبدية لكافة المرجعيات والأدوات والإجراءات التي جعلت منه صفة من صفات القبح ، وأخيرا تقوم بنسف تلقائي وبديهي لهذا التعريف وهدم أسسه الهشة الغبية والتافهة التي طالما امتلأت بأسباب تفتتها وفنائها وضياعها الذاتي .. الضياع على يد المرأة السوداء البدينة داخل قصائدها إلى نفسها والعالم .
كتبت ( جريس نيكولز ) في نص ( الجمال ) :
الجمال هو
امرأة بدينة سوداء
تمشي عبر الحقول
وتضغط زهور الكركديه
المتطايرة إلى خدها
بينما تسلط الشمس
الضوء على قدميها

المرأة السوداء البدينة تتمسك بالسجن الذي حبسها العالم بين جدرانه كي تهدمه وتعيد بناءه لصالحها فتتحول ـ كأمرأة بدينة سوداء ـ إلى تعريف للجمال رغم كل شيء ودون اعتبار لأي شروط أو قرارت أو أحكام ضدية جاهزة ترفض هذا الارتباط والتلازم والتوحد بينها وبين الجمال .. كلمات بسيطة مكثفة للغاية كموسيقى ناعمة تتألف من وخزات حانية أشبه بتساقط رقيق للمطر .. الجمال هنا هو عمق الانسجام والألفة والتوافق بين الشاعرة وبين مفردات الطبيعة : الحقول .. زهور الكركديه .. الشمس ، وأيضا الأمواج و البحر حين تكتب :
الجمال هو
امرأة بدينة سوداء تركب الأمواج
منساقة إلى سلوى بعيدة
بينما البحر يعود
ليعانق ظلها

هنا أيضا توجد الوحدة .. الوحدة التي تنكشف بغياب أي آخر في النص .. لا يوجد أي حضور فعلي لأي ذات أخرى وكأن هذه الوحدة الصريحة في تلك اللحظة شرط ضروري لتحقق الجمال .. لتنفيذه بكامل حقيقته وبأتم ملامحه وتفاصيله الواقعية الصافية .. فقط المراة البدينة السوداء والطبيعة و .. السلوى البعيدة .. الطقس الحميم للغاية الذي يجمع بين المراة والطبيعة هنا يمثل الآن حافزا بديهيا للسفر الباطني نحو الفردوس القديم البدائي حيث يكمن الجمال في حالته النقية القصوى .. الفردوس الذي ينطوي على نفسه كوجود كلي أو رمز أو فكرة مستقلة وفي نفس الوقت يحتفظ بذاكرة خاصة جدا للمرأة البدينة السوداء .. جمال الطبيعة كتاريخ كوني يتم استرجاع بداياته في لحظة نشوة سحرية للوصول إلى براءته الأولى واندماج هذا الجمال بالجمال الإنساني الشخصي واستحضار روح الماضي التي تحتضن طفولته وتكمن بها ( السلوى ) التي يحتاجها الواقع الحالي لهذه المرأة .

تستمر الوحدة وهدم أصنام الجمال الأزلية التي صنعها العالم و كذلك السخرية الحميمة التي تشعرك أنها نابعة من روح طفلة صغيرة إضافة للمعاناة كمحرّك رئيسي للحياة في نص ( المرأة البدينة تذهب للتسوق ) :
المرأة السوداء البدينة لا تستطيع سوى استنتاج
أن الأمر عندما يتعلق بالموضة
يصبح الاختيار ضئيلا
لا شيئ أكبر من مقاس 14

هدم أصنام الجمال ـ التي تخاطبها الموضة وتشتغل عليها ـ لا يعني نفيها التام أو إلغائها وإنما هدم تعاليها ووهم تفوقها وتفردها بأعلى الطبقات مثالية وكمالا .. الهدم هنا هو إثبات للجمال فيما هو منفي وملغي ومقصي / ما هو أكبر من مقاس 14 .. إثباته فيما هو منبوذ عادة باعتباره قبحا لا يقبل الجدال .

أتصور أنه من الضروري الالتفات والتفكير في شيء مهم جدا تستند عليه امرأة تتحرك في الدنيا بهذا الشكل .. شيء قوي وراسخ للغاية يعيش مطمئنا بداخلها .. من الضروري التفكير في الكرامة .. الكرامة التي تقف حائلا بين النفس وبين الخضوع للاستلاب والتشيوء والإبادة .. التي تضمن للذات دائما سلامة قدراتها على الرفض والمقاومة والتحدي ومجابهة الإحباط واليأس والتهميش بأي طريقة .. الكرامة التي ـ رغم كل شيء ـ لا يعنيها المعجزة السافلة التي تسمى ( الكون ) بكافة أخلاقياتها الفاسدة .. تكتب في نص ( الهروب من الفخ ) :
ترفض أن تكون عارضة
لمحنتها
المرأة السوداء البدينة
سارت في دوائر
لا تؤدي لمكان

وفي مقطع آخر :
هربت من
الرجال الذين يرون فقط
نبعا من الأطفال
في فخذيها
عندما توجد الجبال
على حلمتيها

الهروب هنا كطريقة مقاومة تتفادى بها التحول إلى ماكينة جسدية لإنتاج الجنس والأطفال .

تعود المرأة السوداء البدينة للاندماج والتوحد مع الطبيعة وتفاصيلها الرقيقة وكذلك مع الوحدة والماضي ولكن هذه المرة من أجل تأمل الموت في نص ( موت استوائي ) :
المرأة البدينة السوداء تريد
بعض الدفء ونبات الخبازي
في قدميها
ثوب بلون البحر
لتلتف به

هذا فيما يخص الطبيعة أما فيما يخص الوحدة فكتبت في مقطع آخر :
المرأة البدينة السوداء تريد
بعض الصياح
لا مجرد كفكفة دموع صامتة ساذجة
وانسحاب نعش مهذب

الوحدة التي تظهر في المشاعر الخافتة والانفعالات الواهية التي تنطفيء سريعا والتي يربت بها الآخرون على جثتك كآلات حزن مجهزة جيدا للمرور العابر وعدم التوقف طويلا أمام موتك .. هذه الوحدة القاسية في الموت التي لا تتمناها انعكاس للوحدة التي عرفتها وجربتها وتألمت بسببها في الحياة وجعلتها تشعر بأنها ستستمر وتظل حاضرة حتى في لحظة موتها .. أما عن الماضي فكتبت في مقطع آخر :
في القلب
الكامن بصدر أمها الجميل
تحت الظل البارد
لأشعة الشمس المباركة
بين كتل
من جثث أهلها

العودة .. ليس في الحياة فحسب وإنما ـ وربما بشكل أقوى ـ عند الموت حيث الإقامة الأبدية التي لن تكون سعيدة لدى ( الطفلة ) إلا في حضن الأم والعائلة .

الوحدة والخوف والمعاناة الناجمة عن إهمال وجودك في العالم كلها مشاعر مناسبة تماما لاستدعاء الرغبة اللاارادية في ترويضها باطنيا بحلم احتفالي هزلي كالذي جاء في نص ( النظر إلى ملكة جمال العالم ) .. روح الدعابة الثملة التي تحملها هذه المرأة دائما والمشحونة بطاقة وفيرة من مرارة استبعادها من الاحتفال الواقعي للجمال الإنساني المشيد وفقا للشروط الظالمة للعالم .. روح الدعابة الحزينة تجعل المرأة السوداء البدينة أثناء نومها تشارك في حفل اختيار ملكة جمال العالم :
الليلة الكل يحدق في
المرأة السوداء البدينة
بعض الملكات ( السمينات على الأقل
لو لم يكنّ بدينات وسوداوات )
سوف يؤيدن اسمها

ليس هذا فحسب بل أن المشاركات الأخريات اللاتي يتحقق في أجسادهن المعايير التقليدية للجمال لا يمتلكن ـ رغم ذلك ـ ثقة الفوز داخل حلم المرأة السوداء البدينة :
تظهر نحيلات طموحات واحدة بعد أخرى
كاشفة عن ثرواتها في يأس لا يخلو من الأمل

الحلم سينتهي وستستيقظ المرأة السوداء البدينة لتمنح نفسها ما تؤمن أنها تستحقه فعلا :
استيقظت المرأة السوداء البدينة
وصبت بعض النبيذ
نخبها
وكأنها فازت

كلمات قليلة في نهاية النص تشعرك باقتضاب الألم .. باقتضاب البكاء تحديدا .. والبكاء المكتوم بتحديد أكبر .. كأن نخب الفوز هو التأكيد على الهزيمة أو كأن الانتصار الذي تدرك تماما أنه مستقر وثابت في أعماقها رغم كل شيء يلازمه ويرتبط به دائما أيضا إخفاق وفشل مستمر في تحويل أمنياتك إلى عالم حقيقي بديل لا يقتصر على الأحلام .

تعود ( جريس نيكولز ) لتذكيرنا برهان المرأة السوداء البدينة على الطبيعة .. الرهان لدرجة التشبع والانغماس والاندماج التام .. لدرجة التوحد .. الطبيعة هنا هي كل ما يعنيه السحر البدائي الخام النقي الطفولي الذي لم يصيبه الأذى والإفساد .. هي كل ما يعنيه الجمال البريء الذي جاءت منه روحها والتي تحمل بداخلها روحه ـ أي الجمال ـ بالضرورة .. الجمال الذي يمثل بالنسبة لها الإيمان اللازم لمواجهة القبح .. تسأل المرأة السوداء البدينة في نص ( أسئلة صغيرة تسألها المرأة السوداء البدينة ) :
هل ستنظف الأمطار
الأرض من الألغام
وفضلات المحار ؟
هل ستقذف البحار
بأسماك متألقة
في موجة خلف موجة من
المياه الضحلة السامة ؟

نحن إزاء طفلة رقيقة جدا تحمل قلبا أبيضا صغيرا وأفكارا ومشاعرا مرهفة للغاية ليس فيها سوى الحب والنشوة والافتتان بجمال الطبيعة التي تتأمل سحرها بعينين صافيتين وفي نفس الوقت تحمل بداخلها وعيا قاسيا بمصائب وكوارث وشرور الدنيا .. أسئلة تجمع بين براءة الطفولة النقية والمتفائلة وبين خبرة النضوج والمعرفة والاستيعاب اليائس لبشاعة الحياة .. الأسئلة الناجمة عن المأزق المستمر لطفلة لم يحترم العالم طفولتها .. الانتهاك الذي جعل وعيها بالبشاعة يرتد إلى أصل الوجود نفسه بالسؤال الختامي للنص :
هل ستعجبني حواء
وهي تغريني مرة أخرى
لو ظللت حيا ؟

سؤال موضعه في النهاية يتسق مع شموله واتساعه اللانهائي وأصالته التي تحوي كافة الفروع .. يمكن اعتبار السؤال محاكمة للاعتياد وللجمود ولغياب الدافع أو المبرر أو الرغبة في مواصلة الحياة إلا لكونها تسبق الموت فحسب .. الرغبة التي حين حدثت في المرة الأولى كانت عظيمة ومدهشة وفي أكثر حالاتها توهجا واندفعا وشوقا .. الرغبة التي أمرضها البؤس والتعاسة والتهديد الدائم بالفناء ( لو ظللت حيا ) .. المرأة السوداء البدينة تسأل هل يمكن للحياة / حواء أن تعيد للإنسان إحساسه البدائي بها لو قدّر له أن يواصل العيش ؟

يتواصل توحد المرأة السوداء البدينة مع الطبيعة كانحياز إنساني وجمالي في نص ( بعد ذلك ) :
المرأة السوداء البدينة
سوف تبرز من الغابة
وهي تزيل النباتات
الملتصقة بشعرها

وفي نهاية النص :
المرأة السوداء البدينة سوف تظهر
ودون خوف أو ارتجاف
تراهن على دعواها ثانية

التوحد مع الطبيعة يلازمه بالضرورة الإيمان بالنفس .. الاتكاء على الروح النقية المطلقة والغير عدائية واعتبارها مصدرا لمنح الأمان والأمل في التحقق الإنساني رغم الشرور والهزائم .
التوحد مع الطبيعة يلازمه أيضا الحنين الذي يعني استرجاع البداية الشفافة للتكون الذاتي فتكتب مثلا في نص ( كالشعلة ) :
في لندن
في كل لحظة
تنتابني تلك الرغبة
لطعام أمي

وفي مقطع آخر :
أحتاج لهذه الصلة
أحتاج لهذه اللمسة المنزلية
أؤرجح حقيبتي
مثل الشعلة
أثناء البرد

طعام الأم .. المنزل .. الذاكرة الحاضرة كي تحتضنك في أي لحظة لتمنحك الدفء في أوقات البرد الداخلي قبل الخارجي .. البرد الذي يؤلم كل ماله علاقة بالباطن الشخصي وهو في نفس الوقت يجهّز لأكثر احتفالات الحنين قوة وحميمية داخل الروح المنهكة للذات التي فقدت نشوة بدايات حضورها في العالم .

في نص ( الربيع ) تكتب المرأة السوداء البدينة :
بعد نوبتين غير متوقعتين
من الأنفلونزا هذا الشتاء
لم تكن لدي أي فرصة
( حتى لإخراج القمامة )

وفي نهاية النص تكتب :
فتحت الباب
وخطوت للخارج
فقط لأحصل على هذا النرجس الوليد
الذي يداعب عيني

يمكننا أن نستمر دائما وإلى ما لانهاية ونقول : إنه التوحد المعتاد الأبدي بين المرأة السوداء البدينة والطبيعة .. الطبيعة هنا التي يمثلها ( النرجس الوليد ) .. حسنا يمكننا أيضا أن نفعل أكثر من ذلك ونقول أن التوحد هنا مع الطبيعة كان أكثر وضوحا وقوة وجمالا ؛ فالنرجس الوليد هو نفسه الطفلة السوداء البدينة .. المرأة السوداء البدينة لم تفتح الباب وتخطو للخارج رغم أنفلونزا الشتاء التي منعتها من القيام بأبسط أمور حياتها اليومية لم تفعل ذلك إلا لكي تحصل على نفسها .. تحصل على نفسها كطفلة / النرجس الوليد .. الطفلة التي ستمنح المرأة المشاركة في الوحدة والبرد والمرض .. المشاركة في وجودها نفسه بصفتها أي الطفلة هي أكثر ما تحتاجه المرأة السوداء البدينة في الحياة .. بصفتها الجمال الحقيقي الوحيد الذي تؤمن به هذه المرأة وتعرف أنه أثمن وأغلى ما فقدته في عمرها وأنه لا شيء يمكن أن يعيده إليها إلا الطبيعة ولو على هيئة نرجس وليد .

في نص ( في انتظار ابتسامة " ثيلما " ) والذي أهدته إلى ( ثيلما ) جارتها الأفروآسيوية هندية المولد تكتب :
تريدين أن تمسكي
العالم بيديك
وتصلحيه
كما تصلحين غرفة معيشتك
تريدين أن تمسكي بظلم الحياة
الكثير والقليل ، وتسحقيه بيديك
بحلوه ومره
تريدين أن تصرخي
لأن رأسك صغير جدا
على أحلامك
والأطفال يجرون بسرعة
يتصرفون كالمهرجين
ويدمرون الأثاث

هذا الخطاب الذي يبدو موجها من المرأة السوداء البدينة نحو جارة حقيقية اسمها ( ثيلما ) نلاحظ أنه بدأ بإهداء ليس عاديا .. هي لم تكتب مثلا ( إلى ثيلما ) فقط ، ولا ( إلى ثيلما جارتي ) فقط بل كتبت ( إلى " ثيلما " جارتي الأفروآسيوية هندية المولد ) .. هذا الحرص على ذكر تعريف تفصيلي بهذا الشكل للمرأة المهدى إليها النص ليس صدفة بل بالعكس أتصوره رسالة تحمل دلالة هامة يتم الكشف عن أبعادها داخل النص .. الرسالة التي حملها الإهداء تريد المرأة السوداء البدينة من خلالها أن تجعلنا بينما نخطو داخل النص نتأمل جيدا وقبل أي شيء الروح المقطّعة لهذه المرأة والموزعة بين انتماءات مختلفة .. أشلاء الجارة المتناثرة في أكثر من اتجاه للهوية وبالتالي لدى هذه الأشلاء أكثر من سبب مقنع للضياع أو على الأقل للتشوش وفقدان المعنى الأكيد للحقيقة والأمان المرتبط بها .. تريد المرأة السوداء البدينة أن تجعلنا نتأملها هي نفسها جيدا بينما نتأمل ( ثيلما ) ولهذا من الممكن جدا أن نعتبر أن هذا الخطاب صالحا لأن يكون مونولوجا داخليا من المرأة السوداء البدينة لذاتها دون إغفال شروطه الواقعية التي قررها النص في كونه موجها بالفعل إلى جارة تحمل اسم ( ثيلما ) .
رسالة إلى الجارة .. رسالة إلى نفسها .. ولما لا تكون رسالة للخلاص نفسه كدلالة أكثر عمقا للنص .. الخلاص الذي لا يأتي أبدا وربما يحتاج لأن يتحدث شخص ما مع نفسه أو مع جيرانه عن مآسيهم الصغيرة / الكبيرة للغاية حتى يفكر ويقرر المجيء .. الخلاص الذي يصلح العالم ويسحق ظلم الحياة ويحقق الأحلام .. الخلاص الذي يجعل الأطفال هادئين ولا يدمرون الأثاث ويمنحنا بالمناسبة انتماء يوفر لنا الحماية المطلقة من الأذى وهوية مستقرة تفصل الألم والتعاسة عن إنسانيتنا .
رسالة المرأة السوداء البدينة موجهة إلينا جميعا .. ليس لنفسها أو للجارة أو للخلاص بشكل كلي فحسب .. بل لكل إنسان يريد أن يصرخ لأن رأسه صغير جدا على أحلامه .. المرأة السوداء البدينة تقول لنفسها / ( ثيلما ) / لنا في نهاية النص :
بينما أجلس بين ذلك كله
أراقبك
وأعلم أنك في أية لحظة الآن
ستظهر ابتسامتك
لتغمرنا وتداوينا كلنا

الابتسامة .. الانتصار الذي نمتلكه فعليا في هذا الوجود والذي نعلم جيدا أي هزائم وخيبات وانكسارات تعيش وراءه .. الدواء الذي لا يشفينا من المرض والشقاء ولكنه يداوينا من اليأس والإحباط ويعيد إلى قلوبنا طاقة الانتظار التي استنفذها الحزن .. يعيد إلينا القدرة على الإيمان بأنفسنا ورعاية الأمل في ذواتنا والتمسك بأحلام الشفاء الكامل .

في نص ( طفولة ) تعطينا المرأة السوداء البدينة ما يشبه خبرة الطهي الأول والمبكر لشخصيتها .. الشخصية التي ستواجه لعناتها الخاصة حين تتجاوز مرحلة الطهي هذه .. بعد مشاهد قليلة جدا من ذاكرتها الطفولية تكتب :
في مدرسة الأحد
لم نكن نتعلم أن نصلي
لأرواح أسماك المياه النقية
التي ماتت

الأسماك التي ماتت هي تلك الأسماك التي كانت تأتي قبل الجفاف في حشود وتتخبط عند الباب الخلفي لمنزل الطفلة الصغيرة التي ستصبح فيما بعد إمراة سوداء بدينة .. الأسماك كانت تأتي عند هذا المكان وفي هذا الوقت ميتة لسبب أو لآخر .. ربما شاهدت الطفلة الصغيرة هذا الموت بشكل واقعي .. ربما أيضا لم تمت الأسماك عند هذا المكان وفي هذا الوقت ولكن الطفلة الصغيرة تدرك جيدا أن هذه الأسماك ستموت مثلها مثل أي شيء يشبهها .. كل هذا ليس بأهمية ما جاء في جملة ( لم نكن نتعلم أن نصلي لأرواح أسماك المياه النقية التي ماتت ) .. هل يجب الآن وعلى الفور استدعاء نص ( موت استوائي ) والذي تناولت فيه المرأة السوداء البدينة موتها الشخصي ؟ .. لماذا نستدعي هذا النص الآن ؟ .. التوحد مع الطبيعة الموجود في هذا النص يتطابق مع ما يوجد في نص ( طفولة ) والمتمثل في مظاهر عديدة مثل : الأمطار .. ضوء الشمس .. المياه .. الأسماك
كذلك العودة إلى الماضي حاضرة بل أن النص بأكمله قائم على ظرف طفولي بحت .. وهناك الموت أيضا .. لكن هذه المرة لا تتناول المرأة السوداء البدينة موتها الشخصي وإنما تتناول موت أسماك المياه النقية .. في الحقيقة لا يوجد فرق فهي حينما تتحدث عن موت الأسماك فكأنما تتحدث عن نفسها ليس لمجرد توحدها المعروف والثابت مع الطبيعة وإنما لأن موت الأسماك تجربة طفولية تم تخزينها داخل الروح وكان يجب أن يعاد تأملها من جديد حينما تصبح الطفلة إمرأة سوداء بدينة .. الأسماك تموت وكذلك الطفلة .. الأسماك لا يصلي عليها أحد وكذلك الطفلة .. أما المياه النقية فهي ليست سوى الطفولة ذاتها .. كأن المرأة السوداء البدينة توقن الآن أنها حينما كانت طفلة وتنظر للأسماك الميتة فإنما كانت تتطلع إلى نفسها .. لم يكن من الممكن أن تدرك ذلك لحظتها وإنما كان يجب أن تصبح إمرأة سوداء بدينة كي تدرك ذلك .. كي تدرك أن الطفلة تموت كالأسماك ولا يتم احترام موتها مثلما لا يتم احترام موت الأسماك .. الطفولة لن تصير سوى ذكريات وألم مواجهة اللامبالاة والوحدة في الموت .. موت المرأة السوداء البدينة سيكون مهملا مثل موت الطفلة الصغيرة وأسماك المياه النقية .

يهمني جدا أن أقول أن ( قصائد إمرأة سوداء بدينة ) ليس كتابا بقدر ما هو منزل دافيء يحمل تاريخا بعيدا بشكل ما ومغلق على حميمية ناعمة تحتضنك بهدوء بينما تسمع صوت المطر ينهمر في الخارج وأنت تستعيد الذكريات والصور القديمة والوجوه التي تتبادل في أحلام يقظتك الدعابات المرحة كالأطفال .. منزل يجعل عينيك تتابعان من وراء نوافذه وبمنتهى النشوة الأشجار الواقفة داخل حديقة شاسعة وممتدة بالزهور الجميلة وتطل على بحيرة صافية بينما قمم الجبال العالية والمتلاصقة منتصبة في خلفية المشهد كي يكتمل تحول العالم لحظتها إلى فيلم كارتون ساحر .. داخل قلبك .

* * *
http://mamdouhrizk.blogspot.com/

الكتاب : قصائد إمرأة سوداء بدينة
شعر : جريس نيكولز
ترجمة : نانسي سمير
سلسلة آفاق عالمية
الهيئة العامة لقصور الثقافة
مارس 2002
* * *



#ممدوح_رزق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جزء من رواية ( سوبر ماريو ) / تحت الطبع
- مراعاة النائم في قاعة العرض
- بعد صراع طويل مع المرض
- جحيم عابر لا يتدخل فيما لا يخصه
- الشعر / العدالة الكونية الوحيدة
- التدوين .. الأدب .. الكتابة
- جامع الطلقات الفارغة
- بأمل أن تغفر لنا الرمال المتحركة هذه الضوضاء الخفيفة
- أصلح الأماكن لإخفاء الكاميرا
- رحم واسع يسمح بهزة رأس صغيرة
- براحة ضمير كاملة
- الخيارات المتاحة في حركة الرأس باتجاه الحائط
- ضرورة أن أكون في أمان كهذا
- ما لم يذكره ( سلاح التلميذ )
- أنا أسوأ من ذلك بكثير
- السينما كتجميل للأنقاض الخالدة
- الشعر قصيدة النثر الكتابة … ( لاشيء غريب .. لا شيء عادي )
- مبررات ضعيفة لإساءة الظن بوظيفة الأشلاء
- … وصلاة على روحك لن تعترف بشيء
- نصوص


المزيد.....




- باتيلي يستقيل من منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحد ...
- تونس.. افتتاح المنتدى العالمي لمدرسي اللغة الروسية ويجمع مخت ...
- مقدمات استعمارية.. الحفريات الأثرية في القدس خلال العهد العث ...
- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ممدوح رزق - قراءة في ( قصائد امرأة سوداء بدينة ) ل ( جريس نيكولز )