أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ممدوح رزق - الشعر قصيدة النثر الكتابة … ( لاشيء غريب .. لا شيء عادي )















المزيد.....


الشعر قصيدة النثر الكتابة … ( لاشيء غريب .. لا شيء عادي )


ممدوح رزق

الحوار المتمدن-العدد: 2140 - 2007 / 12 / 25 - 09:32
المحور: الادب والفن
    


حينما أسترجع تفاصيل المعركة الشهيرة التي دارت في منتصف القرن الماضي بين ( جان بول سارتر ) ومعارضيه حول أفكاره عن ( الأدب الملتزم ) أجد أنها تمتلك من الأسباب القوية ما يجعلها مهيأة للتفاعل الجمالي وإثارة الجدل مع معطيات اللحظة الحاضرة وذلك فيما يتعلق بقضايا ( الشعر ) و ( النثر ) بإخلاص بديهي للطبيعة الجوهرية للموروث الإنساني المؤثر والمحرض بالضرورة على تشكيل السياقات الزمنية المتعاقبة لتجربة الوجود في العالم .
كان ( سارتر ) يرى أن ( ميدان المعاني إنما هو النثر ؛ فالشعر يعدّ من باب الرسم والنحت والموسيقى . فالشعراء قوم يترفعون باللغة عن أن تكون نفعية . وحيث إن البحث عن الحقيقة لا يتم إلا بواسطة اللغة واستخدامها أداة ، فليس لنا إذن أن نتصور أن هدف الشعراء هو استطلاع الحقائق أو عرضها وهم كذلك لا يفكرون كذلك في الدلالة على العالم وما فيه وبالتالي لا يرمون إلى تسمية المعاني بالألفاظ لأن التسمية تتطلب تضحية تامة بالاسم في سبيل المسمى ) ” 1 ” .
قد يبدو من هذه التفرقة بين ( النثر ) و ( الشعر ) التي صاغها ( سارتر ) أنها راجعة بالأساس لرؤيته للـ ( حقيقة ) التي يتم البحث عنها والتي كانت عنده مرتبطة بالصلة التاريخية التي المفترض أنها تجمع بين الكاتب وبين الآخرين الذين يخوضون معه غمار عصر واحد والتي تعتمد على الثقة المتبادلة في اعتداد الفرد بحرية غيره من طبقته أو وطنه ثم الإنسانية بشكل عام وهذا ما كان يخالف طريقة عمل ( الشعر ) الذي كان ( سارتر ) يرى أنه يخلق من الإنسان أسطورة في الوقت الذي يسعى فيه ( النثر ) لرسم صورته بالكشف عن جوانب الحياة والواقع .
إذن فالمسألة تتعلق بشكل مباشر بفكرة الإخلاص لهموم اللحظة الإنسانية في مظهرها الإجتماعي الذي يقود بالضرورة للإخلاص للهم الإنساني في مظهره العام وهذا ما كان يرد به ( سارتر ) على معارضيه الذين كانوا يتحدثون عن مخاطر التعمق المباشر في الوعي العصري الذي يهدد الأدب بجعله موقوتا ومحددا .
ويتابع ( سارتر ) طرح أفكاره قائلا : ( إن الشاعر يخسر بوصفه إنسانا ويكسب بوصفه شاعرا . وهذا هو سر ضياعه وسر اللعنة التي يحمل دائما طابعها والتي يعزوها دائما إلى تدخل ظروف خارجة ، في حين هي اختياره المحض ، فليست نتيجة لشعره ، ولكنها أصله ومنبعه . فهو على ثقة بالإخفاق التام لسعي الإنسان . وهو يرتب أموره ليخفق في حياته الخاصة كي يتخذ من إخفاقه الخاص ـ بوصفه فردا ـ شاهدا على الإخفاق الإنساني بعامة . والشاعر يجادل أيضا شأنه في ذلك شأن الناثر ، ولكن الجدال في النثر يتم باسم نجاح أكبر ، في حين أنه في الشعر يتم باسم إخفاق مستور وراء كل نصر ) ” 2 ”
على أنني أيضا لا يمكنني الاطمئنان بشكل مطلق لتصور أن هذه التفرقة بين ( الشعر ) و ( النثر ) كما طرحها ( سارتر ) كان مرجعها الوحيد هي رؤيته أو مفهومه عن ( الحقيقة ) فحسب بل أرى أن هذه التفرقة كانت بمثابة صدى نقدي لمنجز إبداعي ينتمي تطبيقيا لطبيعة هذه الأفكار كما طرحها ( سارتر ) خاصة تلك النصوص الأدبية والأطروحات الجمالية التي اعتمدت على التفاعلات المباشرة والمتعددة مع المعطيات التاريخية والظواهر المختلفة التي أفرزها المناخ الثقافي المرتبط بهذه المعطيات والتي لم تكن مشروطة بمعاصرة ( سارتر ) لها .

* * *
هل يمكننا بطريقة ما التعامل مع معركة ( سارتر ) ومعارضيه هذه من خلال انتماءها لما يمكن أن نطلق عليه ( ذهنية التنظير ) ؟ .. ما الذي يمكن أن يعنيه ذلك ؟! …
لا تعتبر ( ذهنية التنظير ) ممارسة فكرية بقدر ما تعتبر سلوكا إنسانيا غريزيا يسعى طول مراحل التاريخ المتعاقبة إلى تنظيم العلاقة بين الفن وبين الوعي الجمعي باعتبارهما الطرفين التقليديين لعملية الإبداع ( الفنان والمتلقي ) وذلك كسعي بديهي للتوافق جماليا مع آليات الظرف الحضاري ولو عن طريق القطيعة .
تفترض المحاولات الأزلية والخالدة لتنظيم هذه العلاقة بين الفنان والمتلقي السعي المستمر والحتمي لتشكيل سمات ومباديء / خصائص وعناصر تحديدية تعمل طوال الوقت على طرح قرارات تأويلية وحلول إرشادية لرسم خريطة مسبقة للتلقي تنسجم مع المعرفي الجاهز للمكلف قدريا بتنظيم هذه العلاقة امتثالا لمؤثرات الموروث وللطبيعة الإنسانية الملزمة بتمرير الضرورة المطلقة لاكتشاف قواعد أصيلة تحافظ على شرعية العلاقة بين الفرد والعالم ولها من المرونة ما يجعلها متسقة مع جميع المتغيرات التي لابد أن تمتلك مبرراتها لدى أبناء التاريخ أنفسهم .

على أن ( القطيعة ) أيضا تنتمي لطبيعة هذا ( السلوك التنظيمي ) باعتبار أنها ـ أي القطيعة ـ قرار واضح ومعلن له من الحيثيات ما يجب جعله مبررا أي أنه كانت هناك من الأسباب ما يستوجب الحكم بهذه القطيعة التي تفترض غياب الحلول الممكنة بين ( الفنان والمتلقي ) أي بين الإبداع كحالة اغترابية عن السياق التاريخي وبين الوعي الجمعي المرتبط إنسانيا بهذا السياق .

إذن فـيمكنني التعامل مع الركام الهائل من المصطلحات التي تمت تربيتها بعناية وإتقان على مدار التاريخ الإبداعي مثل : ( الأجناس الأدبية ) و ( الخصائص النوعية ) و ( المدارس الفنية ) و ( المذاهب النقدية) … إلخ على أنها النتاج العادي لما هو أكثر عادية وهو السلوك الغريزي و الحتمي لإقامة علاقة ـ أي علاقة ـ بين الفن والتلقي تبعا للمتغيرات الحضارية التي تصدرها حركة التاريخ والتي يسعى طوال الوقت لتنظيمها كنوع من المصالحة مع الحياة والموت ـ حتى لو اتخذت الشكل ( التبشيري ) ـ يسعى لتنظيمها الأكاديميون والمفكرون والنقاد و الفلاسفة وعلماء النفس … إلخ حتى المبدعين أنفسهم : ( النثر ليس فقط نوعا من الخطاب المختلف عن الشعر ؛ بل هو أحد أبعاد حقيقة الواقع ، إنه بعدها اليومي ، المحسوس ، الآني ، وهو العنصر المقابل للأسطورة . هذا يرجع إلى القناعة الأكثر عمقا لدى كل روائي : ليس هناك أكثر تنكرا وتلبيسا من نثر الحياة ؛ كل إنسان يسعى بشكل دائمي لتحويل حياته إلى أسطورة ـ بصيغة أخرى يسعى لتحويل حياته إلى شعر ، للفها بالشعر ( حتى لو كان شعرا رديئا ) . إذا كانت الرواية فنا وليست فقط ” جنسا أدبيا ” ، فالسبب يعود إلى أن مهمتها الأنطولوجية تكمن في اكتشافها للنثر وهذه المهمة لا يمكن أن يؤديها أي فن آخر عدا الرواية بشكل كلي ) ” 3 ”
إذن فالانتصار إلى أية صيغة من ( الأشكال والمباديء ) في الفن والنقد هو سلوك بشري طبيعي في متناول أي شخص أن يمارسه بالاستجابة لما تمليه عليه خبرته وتجاربه المعرفية والشعورية وطبيعته المتشكلة بفعل موروثه الإدراكي وعلاقته بالآخر في ظل المعطيات المكونة لحالته كموجود في حيز ما من الزمن و ينبغي بأية طريقة التوصل لصفقة رابحة مع هذا الحيز الزمني عن طريق خطط ووسائل ضرورية متراكمة ومستمرة لاكتساب التحقق كإنسان فاعل بقدرته على استيعاب وتجاوز الطبيعة الناقصة للعالم .

من الطبيعي إذن في هذه الحالة أن نمتلك تفسيرا ما حول لماذا تبدو لنا النظريات الأدبية في كثير من الأحيان كخادمة لأيدولوجيات سياسية أو دينية أو فلسفية مثلا أو كفتاوى تتعلق بالتحليل النفسي أو كطرق استهلاكية لترويج أفكار أو رغبات شخصية باستخدام الإبداع كوسيلة يتم استغلالها لتمرير معتقدات تحاول فرض مشاريعها الذاتية كبصمات خالدة على الواقع الإنساني .

* * *
أشعر بضرورة المحاولة للتأمل في هذا الشيء الذي يتم السعي غريزيا وبمنتهى الاستماته لترويضه وتدجينه داخل قوالب وأنظمة وقوانين متعاقبة .. الشيء الذي يجب دائما تجاوزه واحتواءه وتفتيت جوهره داخل سلطات متوارثة ومعدلة من التقاليد والأشكال التي لا يعني حضورها مجرد أداء دور أدبي أو نقدي أو فلسفي أو .. أو .. فحسب .. بل يعني حضورها بشكل أساسي وكلي حضور العالم كوجود مستمر يمتلك بمثل هذه التقاليد والأشكال طريقته للتحقق كفاعل بحيث لا يمكن أن يكون للحياة والموت كما ينبغي أن يجربهما الإنسان وجود حقيقي إلا من خلال هذه القوة الكونية التي عليها دائما تحويل طبيعة الأشياء إلى نظام .. أي شكل من النظام الذي تتوفر فيه السلطة والمشيئة المقدرة والأداءات التي لابد أن تكون متوافقة مع هذه المشيئة .
أشعر بضرورة السعي لتأمل ( الكتابة ) فحسب .. السلوك الإنساني الغير مشروط بشيء .. أي شيء سوى الممارسة العادية للحياة فقط .. أدنى درجات الوعي الصادق بعدم الاكتمال وحضور الألم .. المحاولة التلقائية للمعرفة أو التأمل أو الفهم أو الخلاص أو مجرد التعبير عن السيء في الأمر .. أي قدر من الشر .. كما تشعر به بشكل عادي جدا وأنت تواصل التنفس .. القرار البسيط اللامحكوم بطبيعة الزمان والمكان للقيام بفعل ما يتوقف فيه الفرد عن أن يكون مجرد كائن حي ينتظر الموت بل يمكنه أن يحاول التعامل مع طبيعة العالم الناقصة بطريقة أخرى يمارس من خلالها تحرره الشخصي وربما تحرر الآخرين أيضا .

( سأدرس لأعلم كيف أخضع حقيقة وجودي لحكم الزمن . سأكشف عن حدود مقدرتي في تفهم الحياة من حولي . أنا لا أستطيع أن أتظاهر برؤية أكثر مما أرى ، لأنني في كل موضع تحدني حدود حساسيتي ، ونوع حيويتي ، وضيق ذكائي والرعب الذي وجدته في بيئتي الأولى ، وما ترشدني إليه تجاربي التالية . أنا لا أقبل شيئا على علاته ، ولكني أخلق كل شيء خلقا جديدا من مدركاتي . لست أقبل دون تساؤل أي نظام يقال عنه أنه عظيم أو خير ، إذا ما اختبرته ، وجدته عظيما أو خيرا حقا ، وإذا كانت لدي القدرة على فهمه وخلقه من جديد ، حينئذ تبعث الحياة ثانيا في ذلك النظام الإنساني ـ الذي أخذ على علاته وتوارثته الأجيال ـ في وهج الإنسانية التي كانت أول من خلقه ) ” 4 ”

لو كان الإنسان يعيش حياته تحت سطوة عادات متوارثة وأنساق أزلية فالكتابة هي المحاولة للانفلات من تبعية هذه السطوة للكف ولو للحظات قليلة عن مجرد الامتثال لأحكامها لتجربة الانفصال المؤقت الذي يتيح فرص التأمل ومحاولة الفهم والمعرفة وإمكانية الخلاص .
فالميلاد والطفولة والأسرة والعائلة والإيمان والزواج والصداقة والعمل والذكريات و التاريخ والمنازل والشوارع والجنس والطعام والنوم والجمال والقبح والموت ..إلخ هي الأشياء العادية التي لا يمكن حصرها المتوازية مع نقائضها والتي تعني أنك تمارس الشهيق والزفير بشكل بديهي وتدخّل الكتابة يعني تشكيل ظلال استثنائية للعالم الفعلي تنفي عن أشياءه صفاتها العادية لتصبح شهادة جمالية على الخصوصية والتفرد اللامتعمد بل لأنه صادق فحسب دون قصد امتلاك ما هو غريب أو مبتكر حيث سيصبح اليومي أو الواقعي العادي عن طريق الكتابة فضاء غريبا ومبتكرا بشكل تلقائي وبديهي لمجرد أن ما هو معاش وتقليدي تحول بالقرار الإنساني لممارسة فعل الكتابة من أداة سلطة إلى أداة بوح ورصد واكتشاف .

( مهما كانت مواهبي محدودة أو فهمي ضئيلا ، فإنني إذا كنت صادقا فلن أستطيع الفرار حتى ولو أردت من هبة واحدة : وهي أن لدي أشياء لا نهاية لها أود أن أقولها . لأنني أقف وحيدا في العالم وقد حبست في وجودي الذاتي . لا أرى أي شيء إلا من خلال عقلي وعيني عاكسا في وعيي المنعزل جميع الوجوه والمناظر والطبيعة والنجوم التي هي خارج وجودي ومكملة له . ولي نظرة فريدة في الأشياء ، نظرة تخصني وحدي وفي الوقت نفسه هي نظرة كل إنسان ، لأن كل إنسان معزول مثلي . قليل من الناس من تتوفر فيهم الشجاعة اللازمة للإقدام على عمل . وأقل منهم من تتوفر فيهم الشجاعة اللازمة لإدراك طبيعتهم أنفسهم ) ” 5 ”

لكن لماذا الألم ؟ .. لماذا يكون السيء في الأمر أو الوعي بحضور الشر .. أي شر هو الدافع لاتخاذ قرار الكتابة ؟ .. حسنا .. ولماذا يكتب الإنسان أصلا طالما لا يشعر بالأذى ؟! .. الكتابة فعل / سلوك في مظهره العادي الفردي الغير واقع تحت سلطة ملزمة أو فروض واجبة التنفيذ من قبِل الآخرين هو تعبير عن احتياج شخصي الذي يدل بالضرورة على نقص يتطلب السعي إلى الاشباع ومحاولة الاكتمال .. إذن فالمسألة أشبه بشكل المعادلة التي حينما تفترض أن العالم يصلح لتحقيق سعادة الإنسان الكاملة فإن ما ينتج عن ذلك هو الاكتفاء بمعطيات العالم ( الكامل ) حينئذ وممارسة الحياة والموت من خلالها ولكنها حينما تفترض أن العالم لا يصلح لتحقيق سعادة الإنسان الكاملة فإن ما ينتج عن ذلك هو الحاجة للخروج عن الأدوار التقليدية التي تفرضها معطيات هذا العالم ( الغير كامل ) .

إذن فالكتابة هي تحقق لأبسط مظاهر الشعور بالأذى وعدم الكمال والحد الأدنى من تفحص الهم بالطريقة التي لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق الكتابة فحسب .. الكتابة التي لا تستخدم كوسيلة نفعية لإدارة الشأن الحياتي ( الأنساق والأدوار والمعاملات والاحتياجات المباشرة العادية التي تمثل رغبات الإنسان كمجرد فرد يعيش في جماعة ) بل لممارسة التفكير في التجربة الحياتية كما يعيشها المرء بمختلف تفاصيلها بنفسه استنادا إلى الإدراك بوجود أزمة ما ينبغي الابتعاد عنها ( التوقف عن السعي لترويضها فعليا كمهمة تقليدية ) لمسافة ما لإتاحة إمكانية رصدها والتعامل معها بمنطق مختلف يعتمد على التأمل ومحاولة الفهم أو الاحتواء والتجاوز أو التخلص من التبعية المباشرة للألم الناجم عن هذه الأزمة .

كيف يمكن لفعل التلقي أن يكون فعل كتابة في ذات الوقت ؟ …
حينما نفترض أن التلقي هو التعرف على تجربة إنسانية أخرى من خلال خطاب مختلف فنحن مطالبون بالتفرقة بين انعدام المشاركة الوجدانية والمصادرة .. حيث أن التلقي يفترض بالضرورة الاعتراف وتقبل وجود الآخر في الحالة الوجودية التي تشملني أنا بكل السمات والتفاصيل والحيثيات التي أتيح لي أن أتعرف عليها عن تجربتي وتاريخي الشخصي وتاريخ العالم ومن هنا سيصبح هذا الآخر الذي يقوم بالكتابة هو أنا الذي أمارس معه هذا الجدل والتفاعل والاشتباك الذي يحتمل جميع النتائج الثابتة والمتغيرة بل والمتعارضة والمتناقضة المتعلقة بالتوافق وعدم الاقتناع والإيمان والتأمل والرصد والتوحد و … و … ولكن في جميع الأحوال فإن التلقي يصبح شيئا آخر لو تحول لفعل مصادرة حيث إلغاء فكرة الحياة بطريقة أخرى اعتمادا على أحكام ومعايير لها في المقابل لدى الآخر ما يساعده على إلغاء حياتك أنت نفسك .. وكأنما أثناء المصادرة للكتابة / الحياة رفض لوجود حاضر بالفعل لديه من المسببات الإنسانية والكونية لأن تتخذ تجربته / كتابته هذه الصورة أو الهيئة المطروحة للآخر الذي ـ انسجاما مع حالة التوقف عن ممارسة الحياة لتأملها في ذاتها ـ من المفترض أن يتقبل الحياة في كافة أشكال صورها الممكنة حتى لو لم تنشأ بينه وبينها علاقة إيجابية ولكنها موجودة .. مثله .. مثل تجربته الخاصة التي لن يقبل بأي حال أن يرفض وجودها أحد أو يرفض انتماءها للعالم مؤمنا بكونه صادقا ذلك الصدق الذي يجربه ويعرفه أكثر من غيره بصفته صاحبه وبالتالي يؤمن تماما أن هناك أشياء ما قد تبدو مجهولة ولكنها بالطبع لها من الفاعلية ما يؤهلها لأن تكون سببا لحضور هذه التجربة وبهذه الطريقة .

* * *
كثيرا ما فكرت في أن الإنجاز الحقيقي لـ ( قصيدة النثر ) يكمن في تحريرها مصطلحي ( قصيدة ) و ( نثر ) من التقاليد والقوانين والسمات والمفاهيم الشائعة التي التصقت بهما على مدار التاريخ وذلك سعيا وتركيزا باتجاه تحقيق وخلق فكرة ( الكتابة ) في حد ذاتها .. وعلى هذا ستتوقف ( قصيدة النثر ) عن أن تكون مصطلحا أدبيا بالمعنى التقليدي الذي ينتمي لمنظومة الأجناس النوعية التي تمت تربيتها ورعايتها بعناية فائقة بل وستتوقف أيضا عن أن تكون مظهرا من مظاهر التطور والتجديد للقوالب النثرية والشعرية القديمة أو نتاجا تجريبيا لتمازج الشعر بالقصة القصيرة مثلا .. ستتوقف عن كل ذلك لتصبح ( كتابة ) فحسب .. الكتابة التي ستعلن حينئذ عن حضورها في الموروث الشعري والقصصي والروائي والمسرحي و…إلخ .. ذلك لأن المسألة أصبحت محاولة جمالية ( تأمل ) لإدراك جوهر الفعل البسيط الضد .. الذي لا يشترط الاستذكار الجيد للمناهج والخصائص الملزمة التي تحدد لتجربتك الذاتية الطرق الواجب أن يتبعها قرارك بممارسة ( الكتابة ) .

* * *
أكتب الآن في عام 2007 بما لا يعني إمكانية تجاوز الظرف التاريخي وما وصل إليه الناتج الحضاري وعلاقته بما أتحدث عنه وهو الكتابة .. حسنا .. ربما أمكنني هنا أن أعتقد أن العالم وصل إلى المرحلة التي تصبح فيها عملية المصالحة بين الكتابة والوعي الجمعي أمرا مستحيل الحدوث من قِبل ( ذهنية التنظير ) بحيث أصبح من المعقد والمربك جدا لدى هذه الذهنية محاولة بناء أي درجة من الثقة بين الإنسان والعالم .. كأنما تم نوع ما من الاستسلام التدريجي والإقرار بالأمر الواقع بكوننا وصلنا إلى المرحلة التي لا نعرف فيها كيف نتحدث عن تلك المصالحة الحتمية والضرورية لخلق مناخ يتيح عقد صفقة رابحة بين الكتابة وبين الظرف الحضاري المتغير .. بين الإبداع والتاريخ كعدوين أزليين وخالدين .

إذا كان الحديث يتم هنا عن ( الكتابة ) فمن البديهي جدا أن نتوصل لكون المسألة لم تختلف في جوهرها تاريخيا لدى ( الكاتب ) وإنما كانت متغيرة ومتبدلة على الدوام لدى ( المنظّر ) فمنذ البداية وحتى النهاية ـ أي بداية ونهاية يمكن للمرء تحديدهما ـ ستظل هناك تجربة إنسانية غير ملزمة بشروط تريد تحقيق وجودها جماليا من خلال التوقف عن الممارسة العادية لها سعيا لتأملها في ذاتها .. حدث ذلك ويحدث وسيظل يحدث على الدوام مع جميع الاختلافات الممكن رصدها والتحدث عنها عبر المراحل المتعاقبة للتاريخ تظل الكتابة ممارسة إنسانية ليست حكرا على أحد دون الآخر وأنه لا أحد يمتلك المعيارية الأكيدة الجامعة المانعة الثابتة النهائية التي تحدد من الذي يمكنه أن يكتب ومن الذي لا يمكنه أن يكتب .. لا قانون أو وصفة سوى صدق المتخِذ لقرار ممارسة هذا الأداء نتيجة شيء ما في العالم يدرك بمنتهى اليقين الشخصي أنه يستدعي القيام بهذا الفعل / الكتابة .
اختلف الأمر بالنسبة للـ ( تنظير ) نتيجة المعطيات الحضارية التي كان أهم نتائجها الاستمرار العنيف لاتساع الهامش الملغز الذي خلفته التجارب التاريخية السابقة والتي عاشت على وهم الأيدولوجيا والقضايا الكبرى والتي كانت في مجملها تحققا لفكرة الصراع مع الآخر والسعي الحتمي لتفعيل أدوار القيم الاستهلاكية والنفعية .. تحقق الطموح العدائي للسيطرة بقوة الخديعة المتمثلة في المباديء المثالية للمعتقدات البراقة الزائفة .. تحقق الترويج المجاني للحلول الاستعمارية تحت عباءة التطور .
كان لابد أن يكون لذهنية التنظير / المصالحة أداء يتوافق مع كل هذه النتائج والمعطيات التي خلفتها طبيعة الموروث الإنساني بكافة أشكالها وتجاربها باعتبار أن التنظير كما سبق وأشرت سلوك إنساني غريزي أزلي وخالد فكان لابد له من أن يتجه أولا نحو تفحص الخراب الذي أفرزته الطبيعة اللاانسانية لآليات القهر التاريخي ومحاولة التعرف على الكابوس كما يحدث بالضبط بالتخلي عن القوانين الاستبدادية للخير والشر و تقبل فكرة أن المصالحة خرافة كبرى وأن الإخفاق كان النتيجة الطبيعية للحلول الفاسدة التي تمت تربيتها وتمريرها طوال المراحل المتآمرة التاريخ ولعل هذا كان له أهم التأثير في الممارسات التنظيرية للكتابة التي اتسمت مؤخرا بالتراجع عن تبني ( مفاهيم ) واتجهت لتبني ( تجارب ) بحيث أصبحت الكتابة هي خالقة اختبارها الفلسفي الجمالي الخاص وبمعنى آخر تراجعت الممارسات التنظيرية عن تبني ( قوانين ) واتجهت لتبني ( أفكار ) وهذا ما يجعلنا نفسر بطريقة ما لماذا تبدو الأطروحات الفلسفية والنقدية الحديثة تعتمد على تأويلات متغيرة ومختلفة ومتبدلة دون التورط في تحديد ( حلول يقنية أو إرشادية ) كأنما تتجه المصالحة البديهية المعتادة تاريخيا إلى اعتبار نفسها هي الأخرى قرارا انسانيا شخصيا يرفض استخدام الأدوات القديمة للمصالحة رغبة في التأمل الموضوعي فحسب ولو عن طريق القطيعة مع النظم التي تحكم العالم .. القطيعة التي لا تفترض بالقوة غياب الحلول الممكنة بين الفنان والمتلقي ولكنها القطيعة التي تسعى لحلول بديلة خارج هذه النظم عن طريق الكتابة .
* * *
يعتبر الكثيرون جدا أن قصة ( المعطف ) لـ ( جوجول ) هي التحقق الأول للقصة القصيرة في التاريخ … في ظل ما يمكن أن نكون قد قرأناه وتعرفنا عليه من قصيدة النثر : هل هناك من يمكنه أن يجزم بمنتهى الثقة والرسوخ والتأكد والاطمئنان والحسم إلى ما لانهاية أن قصة ( المعطف ) لا يمكن قرائتها كقصيدة نثر ؟!! .. لو أننا بالفعل أطلقنا على ( المعطف ) أنها ( كتابة ) فمن السهل جدا معرفة إجابة السؤال السابق .
أمر آخر .. ( تشيكوف ) وهو بالطبع لا يحتاج للتعريف به .. هل يمكن اعتبار أن حظه كان سيئا جدا لأنه مات منذ زمن طويل بما جعله لا يتعرف على المشاريع الحديثة لقصيدة النثر في العالم ؟! .. بمعنى أنه بعدم مواكبته للتطور الهائل الذي حدث بعد موته ولم يعاصره جعل كتابته أقل أهمية أو شأنا أو وعيا أو عمقا من الخطاب الإبداعي الآن ؟!!! … أعتقد أن أسئلة كهذه لا يجب أن تطرح من الأساس إلا فقط من أجل المزيد من التفكير والتأمل في أن ( تشيكوف ) كان ( كاتبا ) قبل أن يكون ( قاصا عظيما ) وأنه كتب نفسه / حياته / تجربته / العالم بطريقته الخاصة التي كان يدرك صدقها بالدرجة التي يعجز معها أن يدركها شخص آخر غيره ، وأن حظه لم يكن سيئا بالطبع لأن تجاوز الممارسة العادية للحياة كفرد تقليدي وتأملها ككل سعيا وراء المعرفة أو الفهم أو الاكتشاف أو الخلاص أو … أو … إلخ بالقرارالشخصي الصادق هو الانتصار الأول والأخير للذات التي تحمل هذا الهم أو الأرق تأكيدا لأن المسألة لا يمكن تناولها بمعيار ( جميل ـ قبيح أو صحيح ـ خاطيء ) فهي ليست سباق للحصول على أعلى جودة ممكنة بل يجب فهم واستيعاب أن الكتابة حق وأنه لايوجد شخص ما في الحياة يستطيع إنكار هذا الحق على الآخر طالما أنه ليس في متناول هذا الشخص أن ينقذ هذا الآخر من أي نوع من أنواع الجحيم أو بالضبط مثلما يمكننا التشكيك في فكرة ( التطور المرحلي ) للكتابة واستبدالها مثلا بفكرة ( الاستخدام المرحلي ) للكتابة ولعل أبرز وأهم تعبير عن هذا هي ( المدونات الإلكترونية ) مثلا حيث يتم استخدام الأدوات والوسائط التكنولوجية التي تتسم بها الحقبة التاريخية الحالية في الكتابة . (المدونات فقط ليست منابر إعلاميه أو وسائل دعاية سياسية، فيجب أن نتذكر أن المدونات في الأساس هي وسيلة لكتابة اليوميات ونشرها في الفضاء التخيلي لشبكة الانترنت، وعلى هذا فهناك عشرات المدونات العربية التي تمتلئ بالتفاصيل اليومية الصغيرة والبديعة لأصحابها لتنتج في النهاية شكل يعتبره البعض نوع أدبيا جديدا ) ” 6 ” .
وليست المدونات هي تعبير عن فكرة الاستخدام المرحلي للكتابة فحسب بل فهي تعتبر شهادة توثيقية جمالية رائعة وفي غاية الأهمية عن طبيعة الكتابة التي تربك دائما حسابات الذهنية التنظيرية التقليدية التي تسعى لتحويل الأشياء / الكتابة إلى قوانين وأنظمة (الدوافع التي دعت هؤلاء للتدوين تختلف من مدوّن الى آخر، لكنها في النهاية تأتي كاستجابة طبيعية لإرضاء شهوة الكتابة، على ما يقول أحد المدونين كريم إبراهيم: “الجميل في التدوين أنك حر تماما، لن يطالبك أحد بأن تعطي وصفا نوعيا لما تكتبه، ويمكنك أن تقرأ تدوينة ما وتتفاعل معها، ويصلك منها أفكار ومشاعر قبل أن تفكر هل ما قرأته قصة قصيرة أو قصيدة نثر أو مقال ) ” 7 ” .

* * *

الهوامش
1ـ جان بول سارتر .. ( ما الأدب ؟ ) ـ ترجمة : د. محمد غنيمي هلال / الهيئة المصرية العامة للكتاب 2000 ـ ص 22 ، 23
2ـ السابق : ص 69 ، 70
3ـ ميلان كونديرا .. ( خيانة الوصايا ) ـ ترجمة : لؤي عبد الإله / دار نينوي للدراسات والتوزيع والنشر 2000 ـ ص 90
4ـ ستيفن سبندر .. ( الحياة والشاعر ) ـ ترجمة : د. محمد مصطفى بدوي / الهيئة المصرية العامة للكتاب 2001 ـ ص 66 ، 67
5ـ السابق : ص 67 ، 68
6ـ جريدة ( أخبار الأدب ) / 24 يوليو 2005
7ـ جريدة ( النهار ) / الإثنين 21 تشرين الثاني 2005

* * *
http://mamdouhrizk.blogspot.com/



#ممدوح_رزق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مبررات ضعيفة لإساءة الظن بوظيفة الأشلاء
- … وصلاة على روحك لن تعترف بشيء
- نصوص
- Setup
- خلل بسيط في برمجة السعادة
- آدم وحواء
- المُدافع
- كأحلام غير مزعجة داخل رأس ترتدي الخوذة الواقية الوحيدة
- دروع بشرية لحراسة الغيب
- وقت قصير يمنعني من إخباركم بكل الخسائر
- السماء المرسومة في كتاب الحكايات
- قصص قصيرة جدا
- أيادي مرفوعة إلى سقف الحظيرة
- رسول العاطفة الإلهية
- نار هادئة
- أحسن تكوين
- تساؤلات الكمال الإنساني في مواجهة البلطجة الدينية
- الألم
- كوميديا لم يكن هناك وقت لمشاهدتها
- العائدون من الموت


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ممدوح رزق - الشعر قصيدة النثر الكتابة … ( لاشيء غريب .. لا شيء عادي )