ضاعت أو كادت أن تضيع قصة على الغاياتي وديوانه الصغير " وطنيتي " الذي أدي ظهوره عام 1910 إلي الحكم بالسجن على الزعيم الوطني محمد فريد ، والشيخ عبد العزيز جاويش ، ومؤلفه على الغاياتي ، هذا الديوان الذي أدى فيما بعد إلي هجرة اثنين عن الوطن هما محمد فريد وعلى الغاياتي هجرة طالت حتى توفي الزعيم الوطني في الخارج ، وعاد الغاياتي بعد سبعة وعشرين عاما قضاها في سويسرا ، ليعيش مغمورا ، ويموت مغمورا . وكان محمد فريد قد كتب مقدمة للديوان، وأضاف الشيخ عبد العزيز كلمة إليها ، فأصبحا متهمين مع المؤلف بذات التهمة : العداء للاحتلال والتحريض على الثورة . وقد ولد علي الغاياتي في دمياط عام 1885 ، وتلقى تعليمه في الأزهر ، ثم عمل في مجلة يصدرها الشاعر خليل مطران ، وخاض على صفحاتها أولى معاركه عام 1907 ضد علماء الدين الذين وصفهم بأنهم " من ذوى الأفكار العتيقة البالية الجهلة " . وعاقبت السلطات الغاياتي على جرأته بالتحقيق معه وسجنه اثني عشر يوما. وانضم الغاياتي إلي الحزب الوطني لأنه كان الأعلى صوتا في تلك الفترة ضد الاحتلال والقصر . وأخذ ينشر قصائده النارية هجوما على المحتلين وأبواقهم ، وهاجم أمير الشعراء أحمد شوقي ، وشيوخ الأزهر وغيرهم من رجال الإعلام الموالين للاحتلال . وأيد الغاياتي في مقالاته وشعره كل عمل ثائر في مصر وخارجها ، من أجل إجلاء الإنجليز ، والأخذ بالدستور ، وإصلاح الحكم، والضرب علي يد الفساد ، ونشر التعليم ، وامتدح بقصائده قادة الحركة الوطنية مثل مصطفى كامل ، ومحمد فريد ، والشيخ عبد العزيز جاويش الذي منحته الحركة الوطنية وسام الشعب بعد أن اكتتب المصريون بثمنه وقلدوه إياه عند خروجه من السجن . وشن الغاياتي حملة على أحمد شوقي أمير الشعراء لأنه صرح بلسان الخديوي أن إعلان الدستور غير ممكن إلا بإذن من الإنجليز ، وكتب قصيدة نارية وقف فيها مع إضراب طلبة الأزهر وتحقيق مطالبهم ، وحين صدر قانون المطبوعات المقيد للحريات كتب قصيدة يقول فيها : " لئن قيدوا مني اليراع وأوثقوا لساني .. فقلبي كيفما شئت ينطق " ، ولم يفلت الخديوي عباس من لسان الغاياتي حين ظهر ميله إلي الاحتلال ، وحينما قام الثوار الأتراك بعزل السلطان عبد الحميد توجه إليهم الغاياتي بأحر التحية ، ثم رحب في قصيدة أخرى بموقف الشاب الهندي الذي أطلق رصاصه على السير " ويللي " في أحد شوارع لندن فأرداه قتيلا وكتب إن الهند بذلك قد نالت المجد كله في نضالها من أجل الحرية . وكانت تلك كلها مواقف جريئة شجاعة لروح ثائرة ، ضاق بها صدر الحكومة ، بل وضاق بها صدر عباس العقاد الذي تساءل : " أيمكن أن تلام الحكومة إذا ضيقت من حرية الصحافة بعد أن استفاضت الدعوة لارتكاب الجرائم ؟ " وعام 1910 قام الرئيس الأمريكي السابق تيودور روزفلت بزيارة لمصر أشاد خلالها بالاحتلال البريطاني ، فهاجمه على الغاياتي بعنف . وقرر الغاياتي عام 1910 أن يجمع قصائده كلها في ديوان واحد سماه " وطنيتي " لم تزد صفحاته عن 135 صفحة من القطع الصغير ولم تزد قصائده عن مائة بعضها لا تتجاوز أبياته الأربعة . لكن صحيفة المؤيد وصاحبها الشيخ على يوسف شنت حملة على الديوان ، فلفتت إليه أنظار القصر والإنجليز . وأدركت الحكومة أنها أمام قذيفة مركزة من التحريض على الاحتلال والدعوة للثورة والاستقلال ، فراحت تبحث عن الديوان في كل مكان ، وأصدرت أمرا باعتقال محمد فريد ، والشيخ عبد العزيز جاويش ، وعلى الغاياتي الذي استمع إلي نصيحة بعض الأصدقاء بالفرار إلي تركيا . وبسبب ذلك الديوان الصغير قامت الحكومة لأول مرة بتعديل القانون ليصبح النظر في قضايا الصحافة والنشر من اختصاص محاكم الجنايات ، بعد أن كان ينظر إليه بصفته " جنحة " . وفي استانبول التقى علي الغاياتي بمحمد فريد الذي كان عائدا من رحلة في أوروبا ، وناقشا معا أمر المحاكمة التي ستعقد لهما في 20 يونيه عام 1911 . وظل الغاياتي في تركيا فترة يعمل في إحدى الصحف العربية ، ثم شد رحاله إلي سويسرا وهناك عاش على تدريس اللغة العربية بمعهد لتعليم اللغات ، وقام في الوقت ذاته بمراسلة صحيفة الحزب الوطني في القاهرة والعمل مترجما في الصحف سويسرية ، ثم كاتبا في أكبر الصحف هناك بمرتب شهري قدره ثلاثمائة فرنك . وبعد انقضاء عدة سنوات على الحكم عليه بالسجن حاول الغاياتي العودة إلي مصر ، فاعتقلوه ثانية بتهمة أنه وصل إلي البلاد لتدبير الدسائس ضد الخديوي ، وقاموا بترحيله إلي الخارج . وعندما قامت ثورة 1919 راح الغاياتي يدافع عنها في الخارج دفاعا حارا ، فقطعت الصحف السويسرية العمل عنه ، فأصدر جريدة على حسابه هي منبر الشرق كان يطبع ثلاث صفحات منها بالفرنسية وصفحة واحدة بالعربية . واستمرت الصحيفة منتظمة في الصدور منذ عام 1922 حتى عام 1937 في ظروف بالغة الصعوبة إلي أن رجع الغاياتي بعد ذلك إلي مصر عام 37 ، حين انضمت مصر لعصبة الأمم المتحدة وواصل من القاهرة إصدار صحيفته بالعربية .
وديوان " وطنيتي " كما يقول فتحي رضوان في كتابه " عصر ورجال " هو بلا شك : " ديوان الوطنية المصرية في الفترة ما بين سنة 1907 حتى سنة 1911 " إذا قرأته اكتملت لديك صورة كاملة للعهد الذي ظهر فيه . إذ لم تترك قصيدة منها حدثا سياسيا إلا وتعرضت له بروح ثائرة محبة للوطن . لكن علي الغاياتي عاش بعد عودته إلي مصر نحو عشرين عاما مغمورا ، ومات مغمورا ، وكادت ذاكرة التاريخ أن تهمل هذا الرجل العظيم لولا كتاب فتحي رضوان " رجال وعصر" الصادر عن قصور الثقافة . ومشكلة أو مأساة على الغاياتي أنه لم يحسب بين الشعراء ، لأنه لم يكن شاعرا عظيما ، ولا بين أعلام الصحافة ، أو النقد ، لكنه يحسب كروح عابرة ثائرة مرت على أحلام مصر وحلقت بها قليلا لأعلى . وفي أيامنا هذه يشتاق المرء كثيرا إلي روح حية من نوع على الغاياتي . أكاد أحيانا أفتش في دفتر التلفونات باحثا عن هاتفه ، أقول لنفسي : ربما تحدث معجزة فأجد الرجل الذي توفي عام 1956 ، وأهمله التاريخ لأن من يكتبون التاريخ بشر غارقون في انتزاع الخبز ، والحرب ، وشئون الحياة ، ولا وقت للضوء الذي يعبر لحظة ينير الأفق ويختفي . ما قيمة الضوء ؟ إنه ليس كتابا ولا اكتشافا علميا ولا ثورة ولا جسرا مبنيا ولا معبدا مقاما ولا وزارة يدون التاريخ موعد تشكيلها . الضوء مجرد روح عابرة فوق سطح الأرض ، لكن ما أعظم اللحظة التي تحلق فيها .
ـــــــــــــ
كاتب مصري