أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - الخوف من الكتابة














المزيد.....

الخوف من الكتابة


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 541 - 2003 / 7 / 12 - 08:06
المحور: الادب والفن
    


 

 للكاتب الإيطالي العظيم دينو بوتزاتي (1906-1972) قصة قصيرة بعنوان " الخبر" يتحدث فيها عن مايسترو شهير يقود بحرارة وإلهام  السيمفونية الثامنة  لبرامز في دار الأوبرا . المايسترو وعازفو الأوركسترا والنغم  والجمهور والضوء والمقاعد والأنفاس كل ذلك ينبض في قلب واحد . الاتصال الخفي السحري  بشفرته غير المعروفة يسري في الجو بين المايسترو والجمهور . لكن فجأة ، ينقل أحدهم إلي الصالة خبرا أن المعتدين يهاجمون روما . أي معتدين ؟ لا ندري . ويبدأ الجمهور بهدوء واحدا بعد الآخر في مغادرة القاعة . وحين يرهف المايسترو السمع يتناهى إليه من وراء كتفيه ومن حوله ومن أعلى صرير ضعيف ، وهمهمات ، وخطوات متلصصة ، وتنقلات لمقاعد ، وأبواب تفتح وتغلق . وينظر المايسترو بجانب عينه فيلاحظ ازدياد الأماكن الخالية . كان المايسترو مقبلا في تلك اللحظات على الحركة الأخيرة من السيمفونية ، الحركة التي تعزف بحماس وفرح ، وينبغي أن يصل بعد قليل إلي النقطة الحاسمة : إلي طرقة النجاح السعيد . لكن خيط الإلهام السحري ينقطع فجأة ويأخذ كل شيء في الانهيار داخل المايسترو وحوله . وأصبحت إشارات عصا القيادة الصغيرة ميكانيكية تماما ، لم تعد تنقل شيئا إلي الأوركسترا الذي أحس  بدوره الانهيار العام فيما حوله .  خيانة الجمهور كانت فجائية وصارمة ، وتركت المايسترو هامدا ، بلا معنى . إنه مازال واقفا على المنصة يعطي إشاراته ، لكن دون أن يعبر عن شيء. قال المايسترو لنفسه : "هذا الجمهور جبان " . قالها وهو يقدر أيضا حجم الهلع الخسيس الذي استولى عليه هو ذاته حين فكر : " إلي أين يذهب لو أن الحرب اندلعت فعلا ؟ وإلي أين يبعث بذويه ؟ وما العمل في الفيلا التي بناها لتوه ؟ هل يهرب إلي خارج البلاد ؟ " .         لقد سيطر الذعر على المايسترو والجمهور ، وانقطع خيط الإلهام والإبداع .

أحيانا كثيرة ينقطع خيط مثل هذا ، ليس بين المايسترو والمستمعين ، بل وبين الكاتب والقارئ ، والمثقفين والناس . فتتوالى الكلمات ميكانيكية تشير إلي الأحداث  والآراء ، والمواقف ، لكن دون إلهام ، ودون إيمان . تقرأ النص فتجده مفهوما واضحا ، لكن شيئا ما ينقصه . كان الناقد الروسي بيلينسكي يقول : " ليست الكلمة هي المهمة ، المهم النبرة " . هل الجمهور الجبان هو الذي يقود الكتاب إلي ذلك الهمود ؟ أم أنه هلع الكتاب ؟  ما الذي يجعل شعاع الإلهام والاتصال  السحري ينقطع بغتة فلا تبلغ الحقيقة ذروة النجاح والانتصار ؟ . إن الإلهام يحتاج إلي الحقيقة ، ولكي تقال الحقيقة لابد أن يتبدد الخوف ، ولابد أن يكون هناك إيمان قوي بها وبتأثيرها الاجتماعي والسياسي . وهو إيمان يحتاج إلي  تماسك إنساني وأخلاقي في مواجهة النفس ، والآخرين ، والمغريات ، وفي مواجهة الشكوك في جدوى الكتابة . يسأل الكاتب نفسه : لماذا أكتب ؟ وما الذي يريده الجمهور من كتابه وفنانيه ومؤلفيه ؟ المتعة ؟ أم معرفة جزء ولو كان صغيرا من الحقيقة ؟ لكن أية حقيقة ؟ تلك التي ليس لدي الجمهور استعداد للدفاع عنها ؟ . ألا تموت الثقافة والكتابة ما لم تستند إلي مد شعبي ؟  يكتب الكتاب ، ويرمون أوراقهم إلي الصحف  كمن يرمي عقله إلي الشارع ليسقط  في الليل دون صوت . هل أفاد أحدا ؟ هل ترك أثرا ؟ . الكاتب هنا يصبح مثل شخص يمسك بوق السماعة ويتكلم وقتا طويلا إلي الفراغ والصمت ، لأن الجمهور على الجانب الآخر قد غادر مقاعده، ولم تعد تسمع سوى همهمات . وينقطع الخيط . ويفكر من يكتبون :  ومن تلزمه الحقيقة ؟ . الجميع يعرفون الحقيقة . وأحيانا يعرفونها أفضل بكثير ممن يكتبون عنها . الحقيقة لا تلزم أحدا . هذه هي الحقيقة الوحيدة . والكلمات في نهاية الأمر حروف على الورق . هذه الشكوك تأكل كل شيء . والكاتب في النهاية شخص بمفرده ، معلق في فراغ من الهواجس ، والمخاوف ، والتردد . ومع ذلك تظل الحقيقة والرغبة في إشهار الحقيقة تقض مضاجع الجميع ، بهدوء ، ليلا ونهارا . ولهذا  أدرك المايسترو في قصة دينو بوتزاتي وهو واقف على منصة المسرح ، أن الخلاص  الوحيد أمامه أن يستمر في عمله حتى النهاية وأن يظل مكانه. في ذلك الاستمرار وحده نجاته هو والآخرين أيضا . وبذلك الإيمان انتفض ورفع العصا الصغيرة وهو يلقي على أعضاء الأوركسترا نظرة حية أعادت إلي القاعة سريان الحياة ، وإلي اللحن الخامد روحه . وعادت القاعة كلها : العازفون والجمهور والنغم والضوء والمقاعد إلي ذلك الشوق المؤرق لمعرفة الحقيقة ، وتقديرها ، والنظر من جديد للمايسترو باعتباره الفنان صاحب تلك الرسالة الجميلة المقدسة التي لا تنفصل عن الحقيقة . 

    

***

أحمد الخميسي . كاتب مصري



#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هــمـوم قــبـطــيـة في أحـزان بـلـدنـا
- بغداد التي في خاطري
- حكايات ألف ليلة وليلة للرئيس جـورج بـوش
- شموع على كف حوار متمدن
- 1948 الفرصة الضائعة
- الرئيس الأمريكي يعلمنا كيف نحيا
- الوطنية والديمقراطية في العراق


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - الخوف من الكتابة